أيهما ترك السبق للآخر:"الشعر أم الرواية"؟!
لها أون لاين فى 22 - جماد ثاني - 1424 هـ الموافق 21 - أغسطس - 2003 - بقلم محمد شلال الحناحنة :
أيهما سبق الآخر: "الشعر أم الرواية"؟ أم تُرى سيظل الشعر ديوان العرب على مرّ العصور؟! بل قد بالغ بعضهم فقال: "إن كل عربي يستطيع أن يكون شاعراً إذا أراد"!! أما ظل الشعراء لعدة أزمان في الصفوف الأولى من قبائلهم، فهم فرسان القلم والإعلام؛ تماماً كفرسان المعارك؟! أما كان المجتمع يتقي صولاتهم وجولاتهم في كثير من الأحيان؟! ولكن ألم تتبدل الأمور اليوم فغدت الرواية الفن العصري الأول، فهي الأقدر على تصوير معاناة المجتمعات الحديثة، والأصدق في التعبير عن آلامها وآمالها؟! ألا يرنو الكثيرون إلى أن يعيشوا مع رواية مسلسلة في فضائية أو تمثيلية إذاعية أو فيلم سينمائي بدل ضجيج الشعر وخطابيته الجهيرة؟! نهضت هذه التساؤلات في أذهاننا؟! ولذا تناولنا هذه القضية بأبعادها المتنوعة.
طَرَحْنا هذه التساؤلات على الأديب الإسلامي د. "عدنان النحويَّ" فأجاب قائلاً: من حيث المبدأ لا أعتقد أن الشعر تراجع أمام الرواية في عصرنا، ولكن أرى أن الشعر العربي الأصيل في خصائصه الفنية والشعر الإسلامي في خصائصه الإيمانية تراجع عن مستواه الذي شهدته بعض العصور السابقة، وذلك حين مسَّته لوثة الحداثة، فهبطت به معنى ومبنى، وشكلاً ومضموناً. والمؤسف أن اللوثة الحداثية مسَّت بعض صفوف المسلمين حتى أصبح منهم من هو داعية لها، ويعدّها تطوراً وتجديداً، وتراجع حين ضعفت اللغة العربية بين أبنائها، وحين هجر الكثيرون كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أفصح البشر وأبلغهم.
ومع هذا الهبوط والتراجع للشعر، فلا أرى أن الرواية في عصرنا الحديث أحدثت زخماً أكثر من زخم الشعر، فما زال الشعر مهما اختلف مستواه هو الرائد الأول في ميدان الأدب، فلا تخلو ندوة أدبية من الشعر، كأنه فاكهتها ولا يقوم احتفال إلا والقصائد تتزاحم، ولا تثور قضية تمس الأمة إلا والشعر له الدور الأول، والشعر أسرع إلى حاجات الناس، فهو باب الرثاء والمديح والجهاد، وهو سلاح من أسلحة الدعوة الإسلامية!
ولنأخذ مثلاً قضية فلسطين، ولننظر زخم المادة الشعرية فيها خلال قرن، ولننظر زخم الرواية، فالشعر زخمه كبير، ومادته كثيرة، فشغلت معظم الشعراء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ولعل قبول الشعر لعنصري التنغيم والإنشاد ساعد على انتشاره.
ومهما يكن فإن هناك من يرى أن هذه المكانة للشعر هي مكانة قديمة، وأن الرواية أصبح لها حضورها وتأثيرها في جوانب الحياة الثقافية والمعرفية، وإن لم تبلغ قيمة الشعر ودوره!!
وكان لقاؤنا الثاني بالروائي د. "عبدالله بن صالح العرينيّ" ـ الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الذي أثار أكثر من جانب في هذه القضية، فقال: في ماضي العرب استأثر الشعر وحده بالاهتمام، وغدا ديوان العرب الحافظ لآثارهم، المخلد لفضائلهم، ومآثرهم، وتعوّدت الذائقة العربية هذا الفن الجميل، فلم تر له نداً في الجمال، حتى إن أحدهم إذا أعجبه كلام قال: إنه شعر!! أو يوشك أن يكون شعراً، أما في العصر الحاضر فقد بدأت الرواية تشقُّ طريقها واضعة نفسها في صدارة الحياة الأدبية في الغرب، ولأنَّ الغرب أضحى هو المعلّم الأول للبلدان النامية بمختلف ألوانها وأجناسها إلا من رحم الله، فإن ذلك الذوق الغربي الذي يعلي من شأن الرواية ويجعلها الفن الأول، قد أصبح له حضوره وتأثيره في مختلف جوانب الثقافة والمعرفة، ومن الأسباب سهولة طباعة الكتب، ومنها الروايات، مقارنة بالماضي، ولأنها كذلك تمثّل نوعاً من أنواع القراءة المسلية والممتعة والشائقة، وغالب الناس لم تعد لهم سعة صدر للقراءة العميقة، ثم لإمكان تحويل النص الروائي إلى تمثيلية تلفازية أو إذاعية أو فيلم سينمائي، لذلك كان للرواية هذا الانتشار، وبدت الرواية العربية تسير في اتجاه منافس للشعر، ومع ذلك ففي تصوري أنَّ الشعر سيظل رغم كلّ شيء، هو الفن الأدبي الأول للعرب؛ لأنهم أمة الذوق الشعري المرهف!
وإذا كان ثمة صدود عنه فلضعف بعض الشعراء وعبثية كثير منهم وغموضهم وفساد ذوقهم، ومتى يأتِ الشاعر المبدع حقاً ستتجدد من خلاله روح الحياة والثقة بالشعر وقيمته، ويمكن تمثيل ذلك من خلال نموذجين متضادين في اتجاههما متفقين على علوِّ شاعريتهما: عبدالرحمن العشماوي، ونزار قباني.
ولنا هنا وقفة!: إذن يفرّق الروائي "العريني" بين الرواية في الغرب والرواية لدينا، ففي الغرب لها الصدارة في الحياة الأدبية وقد تأثر العرب بهذا الذوق، وساعد على ذلك سهولة تحويل النص الروائي إلى تمثيلية مرئية أو مسموعة بطريقة ممتعة سهلة مسلية، أما لدينا فرغم تقدم الرواية وانتشارها، إذا قيست بعصور سابقة، إلا أن للشعر مكانته الأولى في أمتنا العربية؛ لأن ذائقتها ذائقة شعرية مرهفة، ولعل بعض ما يواجهه الشعر من صدود يعود لضعف في الموهبة، وعبثية فكرية، وغموض وفساد ذوق عند بعض الشعراء!!
كان لابدَّ أن نصغي لرأي النقَّاد، فلديهم من الحس النقدي ونفاذ البصيرة ما يجعلنا نعيد حساباتنا، لذا جاء لقاؤنا بالناقد الأستاذ د. "محمد صالح الشنطي" ـ رئيس قسم اللغة العربية في كلية حائل ـ والذي له عدة كتب في نقد الشعر والرواية، فيقول:
من المعروف أن نشأة الأجناس الأدبية تخضع لضرورات اجتماعية، وربما تنقرض لأسباب مماثلة، كما حدث بالنسبة للملحمة التي تمثّل مرحلة في حياة البشرية، ولكن لم يعدْ لها وجود، إذ حلَّت الرواية مكانها كما يرى مؤرخو الأدب في غالبيتهم، من هنا كانت نشأة الرواية في القرن الثامن عشر الميلادي بعد أن انهار نظام الطوائف الحرفية، وتبدت ملامح الطبقة الوسطى بهمومها ومشكلاتها الاجتماعية في أعقاب الثورة الصناعية "ثورة جيمس واط البخارية" فكانت الرواية هي الفن الأقدر على مقاربة معاناتها، وتصوير طموحاتها وتطلعاتها، ولم يكن ذلك يعني بحال من الأحوال تهميش دور الشعر، بل ظل صوت المعاناة الذاتية يجسّد آلامها بعد أن خدعته الفلسفة الليبرالية، وبشرته بالحرية، وأعلت من شأنه، في الوقت الذي قذفت به في ضرام المنافسة الضروس التي جعلت منه وقوداً لذلك الوهم المستحيل!
وفي هذا العصر بدت الرواية وكأنها ديوان العرب، في الوقت الذي امتلأت فيه الرفوف بعشرات الروايات المسترخية على مكاتب النقاد، وكأنها لم تكتب إلا لهذه الطائفة المحدودة من القراء، يكتبون عنها ويملؤون الدنيا ضجيجاً حولها، في زمن ضاق فيه الوقت عن القراءة بشكل عام، فما بالك بمطالعة مئات الصفحات، بل ألوفها؟! لقد روَّجت ملخصات النقاد ومقارباتهم لهذا الفنّ، ولكن مساحة القراءة تقلصت، في حين اكتظت شاشات الفضائيات بالمسلسلات، التي أدمنت شريحة كبيرة على انتظارها.
من هنا أرى أن الشعر ظلَّ محافظاً على مكانته، على الرغم من وقوع العديد من شعرائه في شراك الإبهام والتعقيد، فما زالت طائفة من الشعراء تلبِّي الحاجات الوجدانية والنفسية لجمهور المتلقين!
وأما النماذج التي تراجع قراؤها فهي تلك التي انفصلت عن الحياة والأحياء، وغرقت في بحر من التيه الدلالي.
لقد ازدادت الطاقة الإبداعية للشعر والرواية والقصة القصيرة، ولكن المتلقين ملوا وانصرفوا إلى ما هو استهلاكي وسهل، بعد أن وجدوا من يقدم لهم هذا الزاد الثقافي دون عناء عبر وسائط ميسورة، لا تكلفهم مشقة الذهاب إلى الندوات أو المكتبات أو حتى باعة الصحف، لقد ضاقت الأرض بما رحبت وانحسرت في الشاشة الفضية التي تختزل العالم في دقائق معدودة، وانحسر شوق الإنسان المعاصر إلى منابع الفكر والوجدان بعد أن كبلته قيود السعي من أجل الرزق! غير أن ثمة زاوية أخرى يمكن النظر من خلالها إلى الرواية باعتبارها الأقدر على استيعاب مستجدات العصر، وبلورة همومه وإشكالاته.
وعلى الرغم من وجاهة بعض ما قيل بشأن الرواية، فإننا نرى أن الإنتاج الكمي ليس فيصلاً في الحكم على مكانة الفن الأدبي حتى مع الجودة النوعية، فلابد من متلقٍّ يقظ يستوعب هذا النتاج ويتمثله بحيث لا يظل دُولة بين النخبة المثقفة فحسب!!
تُرى لِمَ يُصرُّ الناقد د.الشنطيّ على أن يشعل أزهار الدهشة في نفوسنا؟! أليس الذي صنع الهالة حول بعض الروايات التي تغفو مسترخية على مكاتب النقاد هم النقاد أنفسهم؟! ألا يحمل ذلك في طياته مفارقة موجعة للنقد الموضوعي؟! أم أن خطاب د.الشنطي ينهضُ من رؤية نقد "النقد"؟ ومع هذا كله يودّعنا الناقد الشنطي وهو مع ريادة الشعر الأصيل القادر على شحننا بأشجان الأمة وأفراحها!!.. حين تخذلنا السياسة!!
ثمَّ نمضي إلى إيقاع الشعر وتوهجه، نمضي إلى الشاعر الإسلامي "فيصل الحجي" الذي حاورنا بإيجاز قبل أن نحاوره فقال: القضية ليست سبق الشعر أو الرواية، ولكنها سبق التقنيات الحديثة الطارئة من إنترنت وفضائيات، فتراجعت القراءة أو قُل تراجع الكتاب، بل تراجع الإنسان بوجدانه وأشواقه الروحية أمام صخب الآلة وقسوتها وغرورها! لكن ستظل رؤيتي أن شعرنا الإسلامي طاقة جهادية إبداعية رائدة في الأمة، لن يخفت صوته، فهو الذي يحرك الضمائر والشعوب والجيوش حين تخذلنا السياسة، بل تقمعنا في كثير من الأحيان!!
أما القاصّ "عبدالناصر محمد مغنم" فحين التقيناه تساءل بدوره: هل للرواية في العصر الحاضر زخمٌ وحضورٌ حقاً؟!
ثم قال: بتأمّل الساحة الأدبية المعاصرة نرى أن الرواية تراجعت كما تراجع الشعر، إذ يفتقر سوق الكتاب اليوم إلى الروايات الأدبية القوية المؤثرة، ويندر فيه وجود رواية يُشار إليها بالبنان، ونقصد من قبل القراء محبي الرواية، وربما دل على ذلك تلك المسابقة التي طرحتها إحدى المجلات لإكمال رواية: "ثمانون عاماً بحثاً عن مخرج" لمؤلفها صلاح حسن رحمه الله، إذ لم يتقدم أحد من الأدباء لخوض هذا المضمار. ولعل وفاة عدد من الشعراء والروائيين في السنوات الأخيرة، أدى إلى بروز التراجع الأدبي بشكل عام. ومهما يكن يظل الأدب العربي أشبه بشجرة باسقة لها فروع عديدة مثقلة بالثمار اليانعة ذات المذاقات المتباينة، والألوان الزاهية المختلفة، وكل ثمرة لها عشاقها ومريدوها، ربما تراجع الشعر في رصانته وقوته وأصالته لانتشار الشعر الحداثي الغامض البعيد عن هموم الجمهور، ولكن الطاقة الشعرية والأدبية كامنة في الأمة تحتاج إلى من يبعثها ويحفزها بالتشجيع وشحذ الهمم.
محطتنا الأخيرة كانت مع الباحث "أحمد المحمود" الذي يرى أن الرواية قد رجحت كفتها على حساب الشعر، والسبب أن شعرنا العربي الحديث يغرق في الغموض والذاتية والرمز، مما صنع فجوة بينه وبين المتلقي، كما أن تقليده للحداثة الغربية أفقده التواصل مع مجتمعه الذي لم يتخلَّ عن قميصه المشرقي! مما يجعل بعض المتلقين يبتعدون عن الشعر.. فقد يألفون شكلاً ومضموناً للشعر لا يستطيعون التآلف مع غيرهما، كما أن بعض الدراسات الأدبية والنظريات النقدية التي تلوي عنق النص الشعري، من شأنها أن تفسد الشعر من جهة، وذوق المتلقي من جهة أخرى! أما السر في نجاح الرواية فيرجع إلى طبيعة الفنّ الروائي التي تتسمُ بالانفتاح على الأجناس الأدبية الأخرى، فقد يشمّ المتلقي في الرواية رائحة الشعر، ويحس إيقاعه، ويشاهد المسرح من خلال حوار، ويقرأ مشاهد من قصص قصيرة، وكذلك الانسيابية في أسلوب الرواية مكّنها من التواصل مع متلقٍ لم يجدْ في الشعر ضالته!!
فإن كنا نقدّر وجاهة ما يطرحه الباحث "أحمد المحمود" إلا أننا نتساءَل:
هل يتسع وقت القارئ اليوم لاستيعاب مئات الصفحات لرواية ما؟! أليست الروايات المعبِّرة عن هموم الأمة وقضاياها المصيرية شبه غائبة أمام الكم الهائل من القصائد التي تخاطب وجداننا وذاكرتنا وتهزنا من الداخل؟! ألا يظلّ الشعر الأسرع والأقدر على استنهاض الهمم وحفزها لمقاومة أعداء الأمة ورد كيدهم؟! ولسنا ننكر هنا تطور الرواية في هذا العصر، وأن لدينا نماذج راقية في فكرها وفنيتها، لكنها لم تقارب زخم الشعر ودوره العظيم!!
ثم أليس شعرنا عبق الماضي وإشراقه الحاضر؟ ألا تنهل ريادته في الحاضر من قبس الماضي؟!
فهذا سيد البشرية صلى الله عليه وسلم يشهد للشعر فيقول: "إن من الشعر لحكمة"، وقيل عن عائشة رضي الله عنها أنها: "ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعراً".
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري: "مر من قبلك بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب"، ويرفع علي بن طالب رضي الله عنه من قدر الشعر فيقول: "الشعر ميزان القول"، ويكتب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه إلى زياد يسأله: لِمَ لَمْ يروّ ولده الشعر؟! ما منعك أن ترويه الشعر؟! "فوالله إن كان العاق ليرويه فيبر، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل".
ويُروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "الشعر علم العرب وديوانها، فتعلموه".
وهو سلاح عظيم من أسلحة الإسلام ومجاهدة المشركين، ففي الحديث: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".
وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من شعراء الإسلام معروف وبيّن، وأقوال الصحابة وبلغاء العرب كثيرة ومتعددة، وسيظل الشعر رائد الأدب العربي، والفطرة التي غذتها اللغة العربية مهما تباينت الآراء في دوره أو مكانته اليوم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق