ابن عبد ربه حياته وأبرز خصائص شعره
أحمد بن عبد ربّه المكنى (أبو عمر) ولد في قرطبة عاصمة الأندلس سنة(246هـ) وتلقى العلوم على يد شيوخ عصره فدرس الفقه والتاريخ ثم عني بممارسة النظم والكتابة وأدام النظر في كتب المشارقة .
ويعتقد بعض الباحثين أن ابن عبد ربه رحل إلى المشرق وأنه أفاد من ذلك في توسيع دراسته وتعميق العلم وتقوية الاتصال بثقافة المشرق كما يذكر ذلك الدكتور أحمد هيكل في كتابه (الأدب الأندلسي) ويبدو من أخبار ابن عبد ربه وأشعاره في مرحلة فتوتة وشبابه أنه ميال إلى اللهو ولكنة لم يكن ماجنا،اتصل ابن عبد ربه بأمراء بني أمية في أواخر القرن الثالث ومدحهم ونال عطاءهم كما أنه أدرك حكم عبد الرحمن الناصر وفي هذه المرحلة تحول الحكم من نظام الإمارة إلى نظام الخلافة .
وكان ابن عبد ربه أديباً،بارعاً،متعدد الجوانب،فهو شاعر، وكاتب، ومؤلف بارز،ويعد كتابه (العقد الفريد) معرضاً لأدبه وذوقه فقد انطوى على مقاطع نثرية أسماها (الفرش) وكان يدلي بالأشعار التي يذكرها للآخرين كما أنه نظم كتابه على أبواب وكل باب من هذه الأبواب عرف باسم (جوهرة من الجواهر على عادة الأندلسيين في حب الزينة وإيثار الترف وقد جنح الشاعر إلى العزلة والعبادة بعد أن شاخ على غرار ما جنح إليه من قبل يحيى الغزال في الأندلس وأبو نؤاس في المشرق توفي ابن عبد ربه عام (328 هـ) ويعد في نظر مؤرخي الأدب أول شاعر كبير في الأندلس وقد اتسم أسلوبه الشعري بالعذوبة والرقة وقرب المأخذ .
ولعل مفتاح شخصية ابن عبد ربه في شعره أنه لايوغل في المجاز ولايغوص على المعنى وهو ينظم برشاقة وخفة ومن هنا كانت عبارته ترق في الاسماع من دون أن يكون وراءها معنى عميق ومن هذا القبيل قوله:
يالؤلؤ يســـبي العـــقـول أنـيقــا
ورشاً بتقطـــيع القـلـوب رفيقــا
ما إن رأيــت ولا سمــعت بمثله
درأ يعــــود من الحـياء عقيــقـا
وإذا نــظرت إلى محاسن وجهه
أبصرت وجهـك في سناه غريقا
يامن تقــطع خــصره من رقـــة
ما بــال قلــبك لا يكـون رقـــيقا
ففي هذه الأبيات يذكر الشاعر ألفاظ الزينة التي تنم عن ميل الأندلسيين إلى التجمل بالزينة والحلي ولعل ما يلاحظ فضلاً عن ذلك تلك الفتاة الأندلسية المولدة ببشرتها البيضاء التي شبهت باللؤلؤ ولم تلبث من الحياء أن تغدو متوردة كالعقيق أما أثر الصنعة فيبدو واضحاً من خلال حرص الشاعر على التصريع حتى في المقطعات وذلك بيّن في قافية المطلع والمجانسة بينهما وكذلك المطابقة بين الدر والعقيق ثم إيراده لهذا الطباق الذي يقوم على التضاد بين رقة خصر الحبيب وعدم رقة قلبه .
وهنالك شاهد أخر تتجلى فيه السهولة واليسر في اللفظ والقافية كما في قوله :
حكمــته لو عدلا أعطيـــته ما سألا
أدري به ما فعلا وهبته روحي فما
لا ملّ ذاك الشُغلا قلبي به في شغل
وهذه الظاهرة التي نلمحها في شعر ابن عبد ربه لم تكن سائدة في الشعر الأندلسي على هذا النحو قبل عصر ابن ربه ولعلنا واجهناها أول الامر في شعر يحيى الغزال على حين كانت سمات الغرابة في اللفظ والجزالة في الأشعار السابقة من قصائد ابن عبد ربه الغزلية لاميته التي عارض فيها قصيدة صريح الغواني(مسلم ابن الوليد) التي يقول فيها :-
ولاتطلبا مــن عند قاتلتي ذخلي
أديرا علي الراح لا تشربا قبلي
فقال ابن عبد ربه معارضاً القصيدة التي بتمامها :-
اتقــتلني ظلــماً وتجــحدني فضلي
وقد قام من عينيك لي شاهدا عدل
أطلاب ذحلي ليـس بي غير شادن
بعينــية سحر فاطلبوا عنده ذحلي
أغــار على قلـــبي فلــما أتيــــته
أطالــبه فــيـه أغــار على عـقلي
بنفسي التي ضـــنت بردّ سلامها
ولو سألت قتلي وهبت لها قتلـي
إذا جئــتها صدت حـــياء بوجها
فتهـجرني هجـراً ألذ من الوصل
أقول لقلبي كلما ضأأأامه الأسى
أذا ماأتيت العز فاصبر على الذل
برأيـك لا رأيي تعــرضت للهوى
وأمـرك لا أمري وفعـلك لا فعلي
وجدت الهوى نصلاً من الموت مغمداً
فجردتــه ثم أتــكات على النصل
فان كنت مقتولاً على غير ريبة
فأنت الذي عرضت نفسك للقتل
على هذا النحو يمضي الشاعر في تصوير العلاقة بينه وبين من يحب وكأنها حرب بينه وبين كائن شديد اليأس ولهذا أضحى قتيلاً ولم يكن قاتله غير ذلك الحبيب وثمة حبيب قاتل ومحب صريع ولا بد أن يتبع ذلك أخذ الثأر وما ذلك القاتل سوى شادن جميل العينين ومن هنا يبدو لنا جليا كيف عمد الشاعر إلى استمداد صوره ومعانيه الجزئية من حياة العرب ويجنح الشاعر في الأبيات الأربعة الأخيرة إلى مناجاة قلبه على هذا النحو الشجي وكأنه مجرد منه كائن ثان انساق وراء نزوته فحق عليه أن يعاني مرارة الحب ومثل هذا الأسلوب ينطوي على جدلية تجعل التعبير متسما بصراع وحركة تتجاذب مستوى العاطفة التي يبثها الشاعر في نصه وقد يعمد أحيانا على إبراز التضاد من خلال الاعتماد على الطباق في أسلوبه إذ يذكر الظلم والعدل والهجر والوصل وعلى العموم يكشف النص السمات التقليدية وعناصر المحافظة ولم يكن هذا النزوع عارضاً وإنما قصد إليه قصداً لأن النص كان عبارة عن معارضة لنص مسلم بن الوليد ونزعة المعارضة هذه لا تتجلى في هذه القصيدة فحسب بل تكاد أن تكون شاملة في مذهبه الأدبي بالرغم من جنوحه إلى التجديد ولكن هذا التجديد كان ضمن إطار الماضي ويدور داخل فلكه وهذا الأثر جلي من خلال ما يصدر من أحكام وأقوال في كتابه العقد الفريد بل أن كتابه هذا لم يكن إلا رغبة ملحة في مناقشة المشارقة وبلوغ شأوهم .
المرحلة الثانية من حياة ابن عبد ربة الأندلسي هي المرحلة التي تؤذن فيها شمس شباب الشاعر بالمغيب وتثقل عليه وطأة السنين لينكفي على نفسه فلا يلبث أن يجنح للحكمة وينعطف إلى الزهد شأنه في ذلك الشأن اي انسان ينفتح عن الحياة في ريعان شبابه ثم لا يلبث عندما يدركه الهرم أن يتوارى عن مسرح المباهج هذا ما كان من أمر ابن عبد ربه وهذا ما كان من شأن سلفه الشاعر الغزال بعد حياة من المباهج والمسرات بل ما كان أخيراً من شأن ابي نواس في المشرق وهكذا راح ابن عبد ربة يقول في نغم شجي:
ألا إنـما الدنــيا غـــضارة أيــــكة
إذا إخضر منها جانب جف جانب
هي الـــدار ما الآمـال إلاَّ فــجائع
عليــها ولا اللــذات إلا المصائب
وكم سخنت بالأمس عـين قريرة
وقرت عيون دمعها اليوم ساكب
فـــلا تكتـحل عيناك فيها بعــبرة
على ذاهـب منــها فأنــك ذاهـب
ويبدو من الأبيات أن الشاعر في تأملاته هذه كأنما يرثي نفسه قبل حين الرثاء وعلى الرغم من مسحة التشاؤم التي تسربلت بها هذه الأبيات فأنها لطيفة الوقع على الأذن محببة إلى النفس وذلك راجع إلى عوامل خفية يوحي بها إلى مثل هذا الشعر ولعل من عناصر جمال النص هذا مطلعه الذي يشبه به الشاعر الدنيا بشجرة وهذا التشبيه مفعم بالحياة على الرغم من بساطته وقرب مأخذه وهوة من جهة أخرى مستمد من طبيعة البيئة الأندلسية وربما كان أيضاً من أسباب جمالية هذه الأبيات أن الشاعر قد إستطاع تصوير الدنيا غير المستقرة على حال والحياة المتقلبة والموصوفة بالتحول تصويراً حياً باختياره لمجموعة من الأفعال مما يوحي بعنصر الحركة الذي إبتغاه . وجنح أيضاً بالإضافة إلى ذلك إلى هذه المطابقات التي إقتضتها طبيعة المقارنة بين وجهي الحياة القاتم والمشرق ويؤلف شعر الأداب والأخلاق الإسلامية حيزاً مهماً في ديوان ابن عبد ربه ويأتي بهذه القصائد في باب الأمثال أيضاً في كتابه (العقد الفريد) كما في قوله :
حتى يروم التي من دونها العطب والحر لايكتفي من نيل مكرمة أن كفة رهب يستدعه رغب سعى به أمل من دونه أجل أنظر اليك" وفي تسآله عجب لذاك ماسأل موسى ربه" أرني وهو النجي لديه الوصل والطلب يبقى التزيد فيما نال من كرم.
الشاعر هنا أراد أن يذكر حرص الإنسان على الاستزادة من الحياة وأن يبلغ أعلى المراتب لأنه يحدوه عند سعيه الأمل وقد يحول الأجل في كف طموح الشاعر ولكن في أحيان كثيرة يبقى متمادياً لا يرعوي حتى يقع في المصيبة. الموضوع الآخر الذي تناوله في شعره والذي يتصل في شعر الآداب الاسلامية ويأخذ حجماً واسعاً من الديوان هوة الشعر الزهدي الذي وصلت إلينا منه قصائد كثيرة ذهب فيها ابن عبد ربه مذهباً جديداً أطلق عليه (الممحصات) وهي قصائد يعارض فيها قصائده التي قالها في حياته الأولى يلتزم فيها الوزن والقافية نفسهما ولكنه يناقض نزعته المتساهلة في باب الغزل وجل ما وصل إلينا من هذه القصائد لاتزيد أبياتها على الخمسين بيتا كما في قوله:
ياعاجزاً ليس يعـفو حين يقـتدر
ولايقـضّى له مـن عيشــه وطـر
عاين بقلـبك إن العـــين غافلــة
عن الحقيقة وأعلم أنهــا سـقـر
سوداء تزفر من غيظ إذا سعرت
للظالمـــين فلا تبـــــقــي ولاتـذر
إن الذين اشتروا دنيا بآخـــرة
وشقــوة بنعيــم ساء ماتجروا
أنت المقول لـه ما قلت مبـتدئا
هلا ابتكرت لبين ما كنت مبتكر
لقد أشاد النقاد بشاعرية ابن عبد ربه التي اتسمت بالغزارة في النتاج والتنوع في الموضوعات حتى رأى الباحثون أنه كان نقطة تحول في الشعر العربي في الاندلس وقد تأثر فيه شعراء أندلسيون كثر ويمكن أبرز سمات شعره على النحو الآتي:
1- امتاز شعر ابن عبد ربه بالبديهة في مرحلة شبابه والمقصود بالبديهة السهولة وطابع الخفة والإرتجال وربما كان من أثر الإرتجال كما يقول(د.إحسان عباس) وفرة التيار العاطفي في شعره حتى في أشد الحالات التي يمكن أن تثور فيها العاطفة اما في مرحلة الشيخوخة فقد اقترن شعره بالكد والصنعة وظهر ذلك جليا في مظهره الفني الذي إبتدعه حين عارض أشعاره التي قالها في المرحلة الأولى في مرحلته الثانية وخص الأدب الأندلسي بفن طريف سماه (الممحصات) ومن ابياته المشهورة بهذا الاتجاه قوله :
يامن يضــــن بـــصوت الطــائر الغـــرد
ما كــنت أحـــسب هذا الضـــن من أحـد
لو أن أســــماع أهــــل الأرض قاطـــبة
أصغت الى الصوت لم ينقص ولم يـــزد
لولا اتــــقائي شـــــهابا مــــنك يحرقني
بنـــاره لأســـترقـت الســـمـع من بـــعد
2 -عدم إلتزامه اتجاهاً واحداً فهو محافظ حينا مجدداً حيناً آخر كما يراه (د.أحمد هيكل ) مع إمتياز شعره بالبساطة والغنائية حيث غلب الجانب الموسيقي والعنصر العاطفي .
3- ما يتصل بلغة الشاعر: شيوع الألفاظ ذات الدلالات الموحية بالجمال في مراحله المبكرة ثم كثرت الألفاظ القرآنية والمصطلحات الفقهية ويبدو أثر الاقتباس القرآني واضحاً في شعره كما في قوله:-
قد ضعف المطلوب والطالب ما أنتم شيء ولا علمكم
تغالبون الله في حــكمه والله لايغلبــــه غالب
ففيه اقتباس من قوله تعالى (ضعف الطالب والمطلوب) وقوله( والله غالب على امره)يوسف/21 .
والملاحظ أن ابن عبد ربه يجري في الاتجاه العام الذي جرى عليه الشعراء الأندلسيون في مجال الاقتباس إذ تأتي اقتباساتهم غير مباشرة على وفق رأي المالكيه في كراهة الاقتباس من القرآن الكريم في الشعر وهذا الكلام لا يبدو دقيقاً لما صادفنا من اقتباسات تبدو مباشرة كما في قوله:
لذاك ما سأل موسى ربه أرني أنظر إليك وفي تساله عجب
وهناك سمة لا بد من التنويه بها وهو ما يتصل بثقافته تبدو هذه السمة في تعلقه في الثقافة المشرقية وموروثها الضخم فهو تارة يورد أشعار القدماء في كتابه(العقد الفريد) وفي صورة أخرى يكون معارضاً لشعره كما رأينا في معارضته للامية (صريح الغواني) وليست(ممحصاته) إلا استمرارا لروح المعارضة التي سيطرت عليه فعلى رأي أحد الدارسين يقول(فهو حين شبع من معارضة المشارقة عارض نفسه) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق