السبت، 23 مايو 2015

تحميل كتاب في طريق الأذى من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش - يسري فودة ...

في طريق الأذى

من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش 



يسري فودة


* رويترز - يرى الإعلامي المصري يسري فودة أن تنظيم القاعدة "حمامة سلام" بالنسبة لتنظيم الدولة الإسلامية المعروف إعلاميا باسم (داعش) وهو اختصار لاسم التنظيم سابقا.

  ويوثق فودة في كتاب صدر حديثا عن دار الشروق المصرية رحلته للقاء مع رئيس اللجنة العسكرية لتنظيم القاعدة خالد شيخ محمد ورمزي بن الشيبة المنسق العام لهجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 على الولايات المتحدة ورحلته إلى العراق الذي ذهب إليه متسللا من سورية العام 2006 لجمع مادة استقصائية عن الجيش الإسلامي في العراق.

    يقع الكتاب في 233 صفحة من القطع المتوسط ويحمل عنوان "في طريق الأذى: من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش" ويحمل الغلاف صورة للكاتب. وينقسم الكتاب إلى جزأين الأول يحمل عنوان "الطريق إلى القاعدة" والثاني تحت عنوان "الطريق إلى المجهول". والكتاب مزود في كل جزء منه بصور ومستندات ووثائق وخطابات.

   وعمل فودة الذي يحمل الجنسية البريطانية أيضا في هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) ووكالة الأسوشيتد برس. كما ساهم في تأسيس مكتب قناة الجزيرة القطرية في لندن حيث قدم برنامج (سري للغاية) كما عمل في قناة أون.تي.في المصرية حيث قدم برنامج (آخر كلام).

   ويوثق فودة بأسلوب سردي في الجزء الأول من الكتاب ما مر به خلال رحلته إلى مدينة كراتشي الباكستانية وما بعدها حيث أجرى حوارا مع شيخ محمد وبن الشيبة بمناسبة مرور الذكرى الأولى لهجمات سبتمبر.

   يصف الكاتب شيخ محمد بأنه رجل تخطيط عملي وأنه لم يكن رجل فكر ودين "ضحل المعرفة بأمور السياسة والدين وليس خطيبا مفوها" مثل بن الشيبة الذي يصفه بأنه عقائدي وهادئ مستريح القسمات واثق من نفسه بالإضافة إلى كونه رجل دين.

   ويرى فودة أنه لولا وجود المصري محمد عطا بين منفذي "أضخم عملية تحفظها ذاكرة التاريخ حتى الآن وأكثرها تعقيدا" والتي يطلق عليها تنظيم القاعدة "غزوتي واشنطن ونيويورك" لما تمت عملية الحادي عشر من أيلول (سبتمبر).

  وتحت عنوان "فتح الأدمغة المدبرة" يقول الكاتب إن الناس وفقا لفهم القاعدة "منقسمون إلى ثلاثة أقسام جامدة: مسلمون، وكفار، ومنافقون".

   ويستطرد فودة قائلا إن التصنيف لا يقتصر على هذه الأقسام الثلاثة فقط بل إن المسلمين أنفسهم "ينقسمون في قاموس بن لادن وأتباعه إلى قسمين: مهاجرون وأنصار. فالمهاجرون هم هؤلاء المستضعفون الذين أذن لهم بمغادرة بلاد الظلم والقهر والكفر إلى أن يتمكنوا من استجماع قواهم في بلاد أخرى قبل أن يعودوا إلى بلادهم للتعامل مع الأمر. والأنصار هم هؤلاء الكرماء الذين أذن لهم باستقبال المهاجرين وتأييدهم في جهاد واحد لنصرة إله واحد ودين واحد".

  وأسامة بن لادن هو مؤسس وزعيم تنظيم القاعدة الذي قتل العام 2011 في مدينة أبوت أباد الباكستانية على أيدي قوات أميركية خاصة وخلفه في زعامة التنظيم أيمن الظواهري.

    وعلى هذا الأساس، وفقا للكاتب، فإن "أتباع القاعدة البنلادنية وأعضاء الجهاد الإسلامي الظواهري والمتطوعين الآخرين خرجوا من بلادهم للجهاد في أفغانستان، فيما يعتبر أتباع الملا عمر الطالبيون وأعضاء الجماعات المحلية الأخرى في جنوب شرقي آسيا".

  والملا عمر زعيم حركة طالبان الأفغانية التي أطاحت بها قوات تقودها الولايات المتحدة وقوات أفغانية العام 2001.

    ويصف فودة القاعدة بأنها "شركة" رئيس مجلس إدارتها بن لادن والظواهري نائب رئيس مجلس الإدارة أما شيخ محمد فهو عضو مجلس الإدارة المنتدب/ المدير التنفيذي وبن الشيبة فهو "الموظف المخلص الذي يصل إلى مقر العمل قبل بقية الموظفين ويغادر بعدهم".

   وتحت عنوان "الإرهابي المثالي!" يروي الكاتب آخر حوار دار بينه وبين شيخ محمد قبل مغادرة فودة المنزل الآمن الذي أجرى فيه المقابلة وكيف عقدت المفاجأة لسانه عندما قال له شيخ محمد "تعرف يا أخ يسري أنك يمكن أن تكون الإرهابي المثالي؟!.. انظر إلى نفسك؛ إنك ولد مهذب، صغير السن، ذكي، مثقف، منظم، تتحدث الإنجليزية بطلاقة، غير متزوج، وتعيش في لندن". وكان رد الكاتب على هذا العرض "ابتسامة جوفاء مقتضبة لا معنى لها".

   ولم يكتف شيخ محمد بهذه المفاجأة بل فجر قنبلة أخرى إذ قال لفودة "إنك تذكرني بأخينا محمد عطا".

   وفي الجزء الثاني من الكتاب والذي جاء تحت عنوان "الطريق إلى المجهول" يصف فودة بالتفصيل الدقيق رحلة عبوره من سورية إلى العراق متسللا وتحديدا إلى المنطقة الحاضنة لداعش للحصول على مادة عن الجيش الإسلامي في العراق العام 2006 ورحلة عودته إلى سورية وسقوطه في أيدي المخابرات السورية وكيف تعاملت معه بلطف في حين وشدة في حين آخر.

   ويتساءل فودة "إذا كانت أفغانستان قد منحتنا، وإذا كان 11 سبتمبر قد منحنا، فما عسى يمنحنا العراق؟".

   ويسرد فودة أن "أحد أبرز منظري تنظيم القاعدة وأحد أذكى عقولها الاستراتيجية. اسمه مصطفى ست مريم نصر، الشهير باسم أبو مصعب السوري، وأحيانا عمر عبدالحكيم. وهو يقسم ما يصفه إلى مراحل استراتيجية، ويقول إن المرحلة الحالية منه موجودة بالفعل في بلاد الشام وإنها ستتطور إلى مرحلة تالية يقترب المجاهدون أثناءها من حصار إسرائيل".

   وتحت عنوان "حافة العبور" يقول فودة عن رحلته من سورية إلى العراق "بعد مغامرة صغيرة وجدنا أنفسنا في منزل آمن على بعد حوالي خمسة عشر كيلومترا من حدود سورية مع العراق. لحسن الحظ، هذا مثلث من أمة الإسلام يرفض ببساطة أن يعترف بالحدود. يتصادف أيضا أن هذه الذهنية تدخل في صميم معتقدات القاعدة والأصوليين بشكل عام".

   وتحت عنوان "الجيش الإسلامي في العراق" يروي الكاتب كلمات القائد العسكري للجماعة أبو مشتاق الزبيدي الذي يتحدث لأول مرة لوسيلة إعلام في إجابة مصورة عن أحد أسئلته فيقول "إنما نحن قد عبئنا قبل أن تأتي أميركا وقبل أن تأتي بريطانيا (إلى العراق)، وقد عبئ ذلك من خلال قراءتنا للقرآن، ومن خلال فهمنا لسنة النبي، عليه الصلاة والسلام، ومن خلال ما أردنا من هذه العبادة: أن ندخل الجنة. فنحن علمنا أن هذه الجيوش عندما تقاتل بعقيدة الأرض تختلف عن الجيش الذي يقاتل بعقيدة السماء".

  كما يورد الكاتب حوارا دار أثناء اجتماع لعدد من القادة الميدانيين للجيش الإسلامي في العراق في غرفة عمليات "وهم يخططون لعملية كبرى تم تصويره لصالح التحقيق الذي كنت أقوم به".

   ويقول فودة إن هذا الاجتماع حضره عدد من القادة جلسوا على مقاعد مريحة "حول طاولة طويلة أنيقة كأنها في قاعة اجتماعات لشركة حديثة، لا في كهف ناء. أمام كل منهم جهاز كمبيوتر متنقل. وأمامهم جميعا على الحائط شاشة بلازما عرضها 50 بوصة تنبعث منها خريطة حديثة لوسط بغداد".

   ويشير إلى أن "اللكنة البنلادنية" في هذا الاجتماع كانت مختلفة واحتوت على مفردات ومصطلحات مثل "الساعة زيرو مية" و"كتيبة" و"قطاعات العدو" وأن هذه المفردات من شأنها أن تؤكد "إيحاءات بأن عناصر من الجيش العراقي المسرّح ومن البعثيين ومن القوميين استطاعت أن تجمع شتات حركة مقاومة جادة داخل العراق".

   ويستطرد "ورغم أنها علمانية القلب والروح فقد استطاعت أن تفاجئ نفسها وتفاجئ المتابعين عندما اجتذبت حماسة الشارع المقاوم، لكن ذلك لم يكن ليحدث في نظر كثيريين إلا عندما علقت راية الإسلام على مدخل المكان".

الشروق : صدر حديثا عن دار الشروق كتاب الإعلامي يسري فودة تحت عنوان «في طريق الأذي.. من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش»، ويعد سري فودة رائد الصحافة الاستقصائية التليفزيونية في العالم العربي: فهو الصحفي الأول والأخير، الذي أتيحت له فرصة اللقاء بالعقول المدبرة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، ورغم مرور نحو ثلاثة عشر عاما على ذلك اللقاء فإن هذه هي المرة الأولى التي يجمع فيها قصته مع هذا السبق العالمي في كتاب باللغة العربية مع جانب من الحقائق والصور والمستندات، لكنه أيضا يضيف إلى هذه التجربة الفريدة تجربة أخرى أكثر خطورة عندما عبر الحدود من سوريا إلى العراق مع مهربين في أعقاب الغزو الأمريكي سوى ما تحمله هاتان التجربتان من قيم صحفية مهنية واضحة بأسلوب أدبي أخاذ فإنهما أيضا مجتمعتين تلقيان ضوءا ساطعا على طريق فهم تطور حركة الجهاد العالمي، التي وصلت بداعش إلى ما وصلت اليوم إليه في خضم ما يوصف بالربيع العربي».

   جدير بالذكر أن يسري فودة إعلامي مصري، أحد أبرز المتخصصين بتغطية مناطق النزاعات، وساهم بتغطية حرب البوسنة، وذاع صيته بعد برنامجه «سري للغاية»، الذي قدمه عبر قناة «الجزيرة» القطرية، وأجرى خلاله تحقيقات استقصائية خطرة منها ما كان مع حركة طالبان وتنظيم القاعدة، كما أنهى مؤخرا برنامجه «آخر كلام» على قناة «أون تي في»، وله كتابان: «العميل الهارب.. محاولة اغتيال القذافي وانفجار السفارة الإسرائيلية بلندن»، و«الطريق إلى عتليت» ويروي فيه أكاذيب الإعلام المصري خلال نكسة يونيو.

   وجاء في الغلاف الخلفي للكتاب كلمة لــ"هيو مايلز" :" «منذ بداية قناة الجزيرة، استطاع هذا المحقق الصحفي المصري وحده ودون مساعدة من أحد، أن يكون رائدًا للصحافة الاستقصائية في العالم العربي. 

  ألقت به تحقيقاته إلى أماكن مخيفة من العالم واعتُقل أكثر من مرة، لكنه دائمًا ما يعود».

    يسري فوده حصل على البكالوريوس في الإعلام من جامعة القاهرة، والماجستير في الصحافة التلفزيونية من الجامعة الأمريكية في القاهرة (١٩٩٢)، ودرَّس الإعلام التلفزيوني فيهما. التحق بالفريق المؤسس لتلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، عام ١٩٩٤، ثم بقسم الشرق الأوسط في تلفزيون وكالة أنباء أسوشيتدبرس، قبل أن يساهم في تأسيس مكتب قناة الجزيرة في لندن، عام ١٩٩٦. 

   فتح برنامجه «سري للغاية» آفاقًا جديدة لصحافة التحقيقات الاستقصائية في العالم العربي، ونال عنه العديد من الجوائز. عاد إلى مصر قبل ثورة 25 يناير وساهم من خلال برنامجه «آخر كلام» في صعود قناة «أون تي في»، وفي تطوير مفهوم مهني للبرامج الحوارية.


في طريق الأذى: يسري فودة وحديث الذكريات

المقدمة

   يُعد يسري فوده رائد الصحافة الاستقصائية التلفزيونية في العالم العربي؛ فهو الصحفي الأول - والأخير - الذي أتيحت له فرصة اللقاء بالعقول المدبرة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. ورغم مرور نحو ثلاثة عشر عامًا على ذلك اللقاء، فإن هذه هي المرة الأولى التي يجمع فيها قصته مع هذا السبق العالمي في كتاب باللغة العربية مع جانب من الحقائق والصور والمستندات.

   لكنه أيضًا يضيف إلى هذه التجربة الفريدة تجربة أخرى أكثر خطورة عندما عبر الحدود من سوريا إلى العراق مع مهربين في أعقاب الغزو الأمريكي.

   سوى ما تحمله هاتان التجربتان من قيم صحفية مهنية واضحة بأسلوب أدبي أخاذ، فإنهما أيضًا، مجتمعتين، تلقيان ضوءًا ساطعًا على طريق فهم تطور حركة الجهاد العالمي التي وصلت بداعش إلى ما وصلت اليوم إليـه في خضـم ما يوصف بالربيع العربي.

«منذ بداية قناة الجزيرة، استطاع هذا المحقق الصحفي المصري وحده ودون مساعدة من أحد، أن يكون رائدًا للصحافة الاستقصائية في العالم العربي. ألقت به تحقيقاته إلى أماكن مخيفة من العالم واعتُقل أكثر من مرة، لكنه دائمًا ما يعود». - هيو مايلز.


«لقد كانت بحوزة صحفي في قناة الجزيرة معلومات أثمن مما كان بحوزة قوى أعظم دولة في العالم مجتمعة وحلفائها».

- رون ساسكيند.


عرض وقراءة إسلام محمد

  في مقدمة كتابه الصادر عن دار الشروق المصرية، يذكر يسري فودة – صحفي التحقيقات الاستقصائية الأبرز في مصر والعالم العربي خلال العقد اﻷخير- أن الجزء اﻷول من عنوان كتابه مأخوذ عن أصل إنجليزي لكتاب مؤلفه هو مارتن بيل كبير مراسلي بي بي سي في أواسط التسعينيات، واﻹحالة إلى بيل تستدعي إلى ذهني صورة عراب المراسلين الحربيين في الشرق اﻷوسط، البوب كما يدعوه أصدقاؤه روبرت فيسك، وذكر فيسك يرتبط ولا شك ببن لادن، ذلك أن فيسك هو الصحفي الغربي الوحيد الذي التقى الشيخ أسامة ثلاث مرات، أسامة بن لادن من كان يومًا رأس تنظيم القاعدة موضوع كتاب فودة الذي نعود إليه اﻵن.

  من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش ذلك هو الجزء الثاني المتمم لعنوان الكتاب، والحقيقة أن كثيرين ممن أعرفهم من القراء أصابتهم خيبة أمل من محتوى الكتاب، فالعنوان يوحي بأن المؤلف تبعًا لما يمتلكه من خبرة كبيرة وتجربة مهنية متميزة، سيطرح رؤيته ﻷسباب نشوء مثل هذه التنظيمات ذات اﻹسناد اﻹسلامي (التعبير للراحل الكريم الدكتور محمد السيد سعيد).

  ويقدم إجابات مقنعة ﻷسئلة من نوع ما هي مصادر قوتها؟ ممن ومن أين يأتيها الدعم؟.

ما المسوغات الفكرية والعملية لبقائها وتمددها؟.

وأخيرًا ما مآلات مثل هذه التنظيمات في المدى القريب أو البعيد؟.

لكن السيد فودة عمد إلى تقسيم كتابه إلى قسمين:

اﻷول بعنوان، الطريق إلى القاعدة يعيد فيه رواية أحداث تناولها بشكل مفصل في برنامجه الرائد سري للغاية، كيف اتصل به مسئولو القاعدة، ورتبوا معه لقاءً في كراتشي بباكستان، حيث تعرف إلى خالد شيخ محمد رئيس اللجنة العسكرية للتنظيم، ورمزي بن الشيبة المنسق العام لعملية الحادي عشر من سبتمير”غزوة مانهاتن”، وأخبروه برغبتهم في الكشف عن تفاصيل العملية وحقيقة منفذيها كنوع من الدعاية للتنظيم وإثبات نسبة العملية إليه، ومن ثم حفظ لحقوق من ماتوا من الشهداء “الانتحاريين، الإرهابيين” صنفهم كما ترى، وتداعيات ذلك صحفيًّا وسياسيًّا… إلخ.

   ولا يبدو أن هناك جديدًا سوى ذكر فودة للقائه بأمير قطر شخصيًّا في مطعم صغير بلندن، حيث سأله اﻷخير عن شرائط الفيديو الخاصة باللقاء، أين هي؟ لمَ ليست معه؟ وكيف السبيل للحصول عليها؟… إلخ.
ما دون ذلك حكي معاد، رغم ما به من إيقاع لاهث وجذاب قد لا يفيد إلا من يطلع على اﻷمر برمته للمرة اﻷولى.


الجزء الثاني وعنوانه العبور للمجهول، يعيد فيه الصحفي القدير سرد تفاصيل رحلة عبوره بشكل غير شرعي هو وصديق له يدعى عُدي وآخرين للحدود الفاصلة بين سوريا والعراق، بناءً على دعوة تلقاها للقاء أمير الجيش اﻹسلامي في العراق، أحد أبرز فصائل المقاومة ضد المحتل اﻷمريكي، والقيام بتصوير اﻹجراءات التحضيرية لعملية ميدانية للجيش، ومن ثم المشاركة فيها كمتابع وهو ما اعترض عليه فودة منذ البداية.

   لا جديد هاهنا أيضًا فالقصة معروفة، وأحداثها رويت في البرنامج قبل ذلك، وربما تكون اﻹضافة ذكر تفاصيل احتجاز فودة ورفاقه في طريق العودة، حيث قرر فودة إلغاء المهمة وعدم مواصلة الرحلة الخطيرة إلى بغداد.

  ومحاولة المخابرات السورية الضغط عليهم بوسائل متعددة بغية الحصول على معلومات تتعلق بطبيعة مهمتهم، والهدف الرئيسي من ورائها، ثم… ثم ينتهي الكتاب.

   هل يجوز في هذه الحالة القول إن بعض القراء رأوا العنوان خادعًا لهم عن حقيقة المضمون، أم أن المؤلف كان دقيقًا حين اختار هذا العنوان.

وجهة النظرالأولى تدفع بأن إعادة إنتاج ذكريات المؤلف في قالب سردي وليس مرئيًّا كالمرة اﻷولى، وتزيين الكتاب بعنوان يحيل – في نظر أصحاب هذا الرأي- إلى تحليل شامل وعميق لظاهرة اﻹسلام الجهادي، أو لكيفية نشأة وتكوين وطبيعة توجهات جماعات السلفية الجهادية، ثم ينتهي بهم اﻷمر إلى قراءة ثرثرة سردية لا تقدم جديدًا، لهو أمر مؤسف وداعٍ للاستياء، فالمرجو من قلم فودة من قِبل محبيه وقرائه كان كبيرًا، ولكن رجاءً كهذا انتهى بهم تقريبًا إلى اللا شيء.

وجهة النظر الثانية تطرح فرضية أن معالجة المؤلف للموضوع، ترتكز على عرض للأحداث والتفاصيل، تاركة للقارئ تدبر ما بين السطور، وربط الحلقات المنفصلة ببعضها، واستقراء المنهج الحاكم لفكر الجماعات الجهادية على تنوعها، وتعدد دفوعها الفقهية والعملية التي تدعو أصحابها لاتخاذ العنف منهجًا، ومحاربة قوى الظلم والطغيان في ديارها، أو استدراجها لديار المسلمين كتوجه ثابت ودرب لا بديل عنه لنصرة الدين وإعلاء كلمة الحق.

وخلاصة اﻷمر ومؤدى الخلاف، أنك إن سلمت بصحة الرأي اﻷول، أو انحزت لوجه العملة الثاني ومنطقه المعاكس، فلن تنفي حقيقة أن اﻷستاذ يسري عرض في كتابه لمنعطفات حاسمة في مساره المهني، وأحداث تشكل جزءًا رئيسًا من مسيرته الصحفية المشرفة في نظر الكثيرين.

   وأن حديثه الشيق والممتع بين دفتي الكتاب، ورغم تركيزه ظاهريًّا على شخصيات التقاها وحوارات أجراها، لم يكن في جملته إلا استعادة لبعض مما تنوء به حقيبة صاحب برنامج “سري للغاية” من ذكريات.



أهم ماورد في الكتاب وفقا للشروق :: ليسري فوده

حمد يطلب دفع مليون دولار للحصول على «الشرائط».. ومدير «سى أى إيه»: أمير قطر أعطانا هدية مذهلة.

• بن خليفة يقطع إجازته للقاء فودة فى «مطعم متواضع» فى لندن للسؤال عن تسجيلات قادة القاعدة.

• مكالمة من مجهول تنتهى بلقاء مع خالد شيخ محمد ورمزى بن الشيبة فى «بيت آمن» فى ضواحى كراتشى.

• خالد شيخ محمد: نحن إرهابيون.. هكذا نكسب عيشنا.. ونحن من فعلها.

«صباح الرابع عشر من يونيو عام 2002، كانت قناة الجزيرة على موعد مع أكبر خبطة صحفية فى تاريخها عندما دخل فودة إلى مبناها فى الدوحة محملا بمفكرته وأسراره التى بدأ يكشف عنها. لم تكن شرائط لقائه بزعماء القاعدة قد وصلت بعد، لكنه كان قد بدأ يشعر بأن الوقت قد حان كى يُطلع رؤساءه فى العمل على الأمر».

   المقدمة السابقة للصحفى والكاتب الأمريكى الكبير، رون ساسكيند، المقرب من الدوائر السياسية والأمنية فى واشنطن، استهل بها الإعلامى يسرى فودة كتابه (فى طريق الأذى.. معاقل القاعدة إلى حواضن داعش)، الصادر عن دار الشروق، واصفا حالة الدهشة التى أتابته وهو يلتهم سطور كتاب، «مبدأ الواحد فى المائة»، مطلعا على معلومات استقاها ساسكيند ـــ كما يقول ــ من مصادر المخابرات الأمريكية، ليرسم صورة دقيقة مثيرة لمنظور مهم لمشهد يخص فودة، كان من وجهة نظره «مشهد من أهم المشاهد فى حياتى».

   والقصة التى يتحدث عنها الكاتب الأمريكى، هى تلك التى مر بها فودة فى أحد المنازل الآمنة وفى جعبته «اعترافات رئيس اللجنة العسكرية لتنظيم القاعدة، خالد شيخ محمد، والمنسق العام لعملية 11 سبتمبر، رمزى بن الشيبة». ليخرج علينا فودة بعد مضى نحو ثلاثة عشر عاما على تلك الأحداث بكتاب ــ صدر حديثا عن دار الشروق ــ يروى من خلاله تفاصيل اللقاء مع العقول المدبرة لهجمات سبتمبر، ويضيف إليه تجربة فريدة أخرى «اكثر خطورة»، عندما عبر الحدود من سوريا إلى العراق مع مهربين فى أعقاب الغزو الأمريكى.

50 مليون دولار

   وفى مستهل روايته لما يجرى يتساءل فودة: «ماذا تفعل لو كنت مكانى؟ خارجا للتو من أحد المنازل الآمنة لتنظيم القاعدة فى مدينة كراتشى الباكستانية وفى جعبتى اعترافات خالد شيخ محمد، ورمزى بن الشيبة.. الأمريكان فى كل مكان فى أفغانستان وفى باكستان. القاعدة مشردة كما لم تتشرد من قبل. أحد فى قناة الجزيرة ولا فى غيرها يعلم أين أنا ولا من قابلت. أسامة بن لادن وأيمن الظواهرى تحت الأرض، والعالم كله فى حالة مخاض. ثم فجأة.. فى جعبتى، أنا العبد الفقير إلى الله، معلومات تساوى 50 مليون دولار».

  وقبل أن يروى فودة تفاصيل رحلته ينقل عن ساسكيند جانبا ظل خفيا حتى العام 2006: «الأمر استغرق أكثر من أربع سنوات قبل أن تتاح لى معرفة ما حدث من ورائى.. دخل جورج تينيت، مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية (سى آى إيه) آنئذ، دخل فى ذلك اليوم، الرابع عشر من يونيو 2006، إلى اجتماع الخامسة مساء وهو يكاد ينفجر. أصر وهو يتخذ موضعه على طاولة الاجتماعات على تغيير جدول الأعمال وعلى أن يبدأ هو الحديث: «كما تعلمون، كانت لدينا خلافاتنا مع صديقى الأمير (يقصد أمير قطر آنئذ، الشيخ حمد بن خليفة آل ثانى).. ولكنه اليوم أعطانا هدية مذهلة.. ويعرض تينيت التفاصيل التى بلغته من الأمير فيما يخص لقائى بالمسئولين عن قناة الجزيرة، وهو مستمتع فخور بما لديه».

   ويضيف فودة: «نوقشت الشروط أثناء الاتصال الذى جمع تينيت بالأمير فيما يخص الكيفية التى ستتعامل بها وكالة الاستخبارات المركزية مع المعلومات.. لا أحد على الإطلاق  ــ ولا حتى داخل إدارة الجزيرة ــ كان على علم بأن الأمير أقام ذلك الاتصال الهاتفى».

لقاء غامض

   ولا يضيع الكاتب وقتا للإثارة، فيحكى تفاصيل ذلك اللقاء المثير قبل سرد تفاصيل رحلته فى كراتشى: «بينما كان يقضى عطلته الصيفية المعتادة فى لندن، اتصل بى رئيس مجلس إدارة قناة الجزيرة، الشيخ حمد بن ثامر آل ثانى، كى يدعونى إلى عشاء فى وسط العاصمة البريطانية، ولم يكن ذلك خارج المألوف مما جمعنا من علاقة مهنية إنسانية وديَّة».

   لكنّ الذى كان خارج المألوف أنه، لدى وصولى إلى ذلك المطعم الإيطالى المتواضع المتخصص فى وجبات البيتزا فى شارع جيمس (قرب شارع أو كسفورد)، لمحته قبل هبوطى من السيارة واقفا بنفسه فى انتظارى على باب المطعم. اصطحبنى مرحبا إلى ركن عميق منزوٍ من المطعم كى أفاجأ بطاولة يجلس إليها رجل ممتلئ البدن، كثيف الشعر، أملسه، أسوده إلى حد النصوع، يرتدى بدلة «اسبور» من الجينز الأزرق، وينهمك فى تناول حساء المينيسترونى الإيطالى المعروف. استغرقنى الأمر ثوانى عدة وسط ابتساماتهما قبل أن أدرك أننى أمام أمير قطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثانى (..) بعد ترحيب حار دعانى إلى الجلوس وقال إنه اضطر لقطع إجازته كى يرانى ويشد على يدى بعد ذلك السبق الصحفى. لم يضيّع وقتا كثيرا قبل الدخول إلى صلب الموضوع. «وين الشرايط يا ريّال؟»، شرحت له ملابسات ما حدث وأن وسطاء دخلوا على الخط ويحاولون الآن أن يساومونا للحصول على «تبرع» قبل توصيلها.

- «انزين.. أديش يعنى؟».

= عايزين مليون دولار.

- «ونت إيش رأيك؟».

= طبعا لأ يعنى، قولًا واحدا.

نظر الأمير إليّ فى تلك اللحظة كأنه ينظر إلى ساذج غر.

= «مش أفضل ندفعلهم وناخد شرايطنا؟».

     بدأ إحساس بعدم الارتياح يتسرب إليَّ (..) كان كل ما يهمه الوصول إلى الشرائط مهما كلف الأمر، وكان إلحاحه لافتا للنظر. بوصولنا إلى هذه الفجوة، نظرت أنا بدورى إلى رئيس مجلس الإدارة ممازحا: «أومال ليه بقى عمّالين تقولولى ما عندناش ميزانيات ما عندناش ميزانيات؟» لم أكن على علم وقتها بما أورده ساسكيند فى كتابه بعد ذلك بأربع سنوات، ومرة أخرى لا أدرى إن كان لما أورده أى علاقة بما دار فى ذلك المطعم الإيطالى. لكنّ موقفى حينها هو موقفى فى كل حين هو موقفى الآن».

   ويتساءل فودة فى موضع آخر من مقدمة كتابه: «ما الذى إذا يمكن أن يكون الأمير قد نقله إلى تينيت فانتشى به هذا إلى ذلك الحد؟ بل إلى حد أن يقول رون ساسكيند فى كتابه إنه «لدى تلك النقطة، كان لدى صحفى فى قناة الجزيرة معلومات أثمن مما كان لدى أعظم دولة فى العالم بكل قواها مجتمعة وبكل حلفائها».

فاعل خير

   فى الجزء الأول من كتابه، والذى يحمل عنوان «الطريق إلى القاعدة»، يروى فودة ملابسات تلك الدعوة الغامضة التى تلقاها «ذات صباح، فى الأسبوع الأول من شهر أبريل 2002»: «دق هاتفى المحمول بينما كنت أهم بالدخول إلى مكتبى الجديد (..) على الخط كان صوت لم أتعرف عليه. «السلام عليكم يا أخ يسرى. أنا فاعل خير». أتى صوت عطوف بلسان عربى فصيح عبر خط رديء: «نرجو أن يكون قد خطر ببالك أن تعد برنامجا خاصا للذكرى الأولى». لم يشرح أى ذكرى يقصد، لكنه مضى سريعا، «إن كان الأمر كذلك فإن فى استطاعتنا أن نمدك بشيء خاص، سرى للغاية». لم يمض أكثر من عشرين ثانية تقريبا قبل أن يطلب «فاعل الخير»، الذى قررت بعد ذلك، تسهيلا للأمور، أن أسميه «أبوبكر»، رقم جهاز الفاكس الخاص واستأذن فى قطع الاتصال.. اضطررت إلى الانتظار أربعة أيام قبل أن يلفظ جهاز الفاكس رسالة مطبوعة من ثلاث صفحات».

   وفى المساء يتلقى فودة مكالمة جديدة من «ابو بكر»: «ما رأيك فى الحضور إلى إسلام آباد (..) سنتأكد من الترتيبات ومن أنه لن يصيبك  ــ  إن شاء الله ــ مكروه ومن أنك ستعود بما تريد».. ويسافر فودة إلى باكستان بالفعل، وبعدما يستقر فى غرفة الفندق ومضى على وصوله نحو اثنتى عشرة ساعة.

: «دق الهاتف. اختطفته فإذا صوت أبو بكر واضحا جليّا هذه المرة. «حمد الله على السلامة». لم ينتظر ردّا، بل استطرد قائلا: «خذ طائرة المساء المتوجهة إلى كراتشى غدا». كان هذا كل ما فى الأمر، وعندها فقط بدأت أسمح لنفسى بتصديق احتمال أن «خبطة» صحفية قد تكون فعلا فى انتظارى. يعلمون إذا أننى الآن فى باكستان، وأننى قد التزمت بما يخصنى فى أول اتفاق، وأننى من الآن فصاعدا أضع نفسى راضيا بين أيديهم».

فى كراتشى

    وفى اليوم التالى، وبعدما يصل فودة إلى كراتشى، وقبل دقائق من وصوله إلى فندق ماريوت «دق الهاتف. كانت لدى أبو بكر تعليمات جديدة: «اطلب من السائق أن يغير مساره إلى فندق ريجينت بلازا «Regent Plaza». كان الماريوت أقرب مما ينبغى إلى القنصلية الأمريكية فى كراتشى وكان يرتاده كثير من الدبلوماسيين وأعضاء البعثات الأجنبية، مثلما شرح أبو بكر فيما بعد. بالمصادفة البحتة ــ أو بغيرها».
بعد حوالى نصف الساعة كانت الغرفة رقم 322 مسرحا لأول لقاء لى بأحد أعضاء تنظيم القاعدة (..) لم ينتظر الرجل دعوة وإنما اندفع مباشرة داخل الغرفة وهو يغلق الباب فى الوقت نفسه.

كلمة سر

  وفى اليوم التالى «لم أكن فى انتظار اتصال آخر من أبو بكر. لم يكن عليَّ الآن سوى الانتظار حتى الخامسة مساء قبل أن أبدأ فى تنفيذ التعليمات التى أخبرنى الرجل بها قبل مغادرته ليلة أمس».

   فى الوقت المحدد تماما خرجت بهدوء من الباب الخلفى للفندق إلى شارع جانبى وأشرت بيدى طالبا سيارة أجرة. كانت تعليمات أبو بكر أن أتجنب السيارات المنتظرة أمام الفندق أو بالقرب منه.. توقفت سيارة كانت مسرعة فطلبت من سائقها أن يأخذنى إلى عنوان بناية بعينها. عندما وصلت إليها صعدت إلى طابقها الثانى وانتظرت على السلم. مرت خمس دقائق ثقيلة قبل أن يصعد إليَّ رجل كثيف اللحية باكستانى الملامح.. قال لى بالإنجليزية: «لقد انتهيت لتوى من توصيل حماتى إلى منزلها، ونستطيع الآن الذهاب!» كانت هذه شفرة اتفق عليها معى أبو بكر.

   قادنى صاحب اللحية فى سيارته إلى ميدان مزدحم حيث توقف فجأة لشراء عصير مانجو. استغرب الصحفى داخلى وقد التزم الصمت تماما حتى تلك اللحظة قبل أن أسأل بلهجة متأدبة: «هل تعتقد أن لدينا وقتا لهذا؟» لكن الرجل رد هو الآخر بلهجة أكثر تأدبا: «لا يتعلق الأمر بما إذا كان لدينا وقت. هذه هى التعليمات وحسب يا أخى».
رحلة فى الـ«ريكشا»

   كانت التعليمات أن أبقى داخل السيارة التى غرقت فى حرارة كراتشى فى مثل ذلك الوقت من العام. بينما أخذت أرشف عصير المانجو غادرنى صاحب اللحية ثلاث مرات متجها كل مرة نحو صندوق مختلف للهواتف العامة(..) أخيرا، عاد صاحب اللحية من أحد صناديق الهواتف بتعليمات جديدة. المرحلة التالية مما لا بد أنه رحلة «تتويه» ستكون على متن ما يسميه الباكستانيون «ريكشا» (تشبه التوك توك) إلى مكان لا بد من أن يبقى سرّا.. قادنى السائق عبر شوارع وأزقة ملتوية خافتة الأضواء فى رحلة غير مريحة وصل فى أحد منحنياتها إلى طريق مسدود».

   وصلت الريكشا فنزلت منها سريعا دون حتى أن أودع صاحب اللحية. «لاهور؟!»، هتف به سائق سيارة صغيرة كانت تنتظر قرب المكان الذى توقفت لديه. كانت تلك كلمة السر التى همس بها فى أذنى صاحب اللحية عندما عاد من صندوق الهاتف العام. دلفت داخل السيارة فانطلق سائقها مسرعا. كان شابّا صغير السن ذا وجه عربى أليف وعينين يشع منهما الذكاء يرتدى قميصا وبنطالا عاديين. قدّم نفسه بلهجة فلسطينية: «أهلا بالأستاذ. أخوك حسن». مد يده مصافحا بحرارة وهو يقود سيارته بسرعة فائقة إلى خارج كراتشى.

  فى طريق مظلم منعزل، على بعد حوالى عشرة كيلومترات خارج كراتشى، توقف حسن بالسيارة فجأة إلى جانب سيارة بدت بغطاء محركها المفتوح كأنها معطوبة. خرج منها رجل آخر يرتدى زيّا باكستانيّا قام بعد قليل بمساعدة حسن فى وضع عصابة على عينى. كانت العصابة من نوع طريف: كرتان صغيرتان من القطن الكثيف لُصقت كل منهما على إحدى العينين ثم طُلب منى أن أضع فوقهما نظارة شمسية. كانت الفكرة بسيطة ذكية لولا أن أحدا كان يمكن أن يلاحظ التناقض فى ارتداء نظارة شمسية فى عز الليل. لكن الرحلة الحقيقية كانت على أى حال قد بدأت لدى تلك النقطة.

آخر المشوار

   بعد مسار طويل مليء بالمنحنيات والمطبات توقفت السيارة. فتح الرجل بابه من الداخل ثم فتح بابى من الخارج هامسا بلغة عربية بلهجة آسيوية: «هل يمكن أن تساعدنى فى حمل هذا الصندوق؟» أحسست، بينما هممت بالخروج من السيارة، بطرف صندوق ورقى متوسط الحجم يسقط بين يدى فاستجمعت قوتى فى ذراعى لاستقباله. لكن الدهشة عقدت لسانى عندما لم أشعر بأى وزن يُذكر. كان الصندوق الورقى فارغا. لم يكن ثمة شيء يستدعى المساعدة على الإطلاق، لكننى استجبت للطلب دون أسئلة. فجأة، بينما قاد الرجل الطريق ممسكا بالطرف الآخر للصندوق، أدركت عبقرية هؤلاء الناس: كانت تلك حيلة فى غاية الذكاء كى تقود رجلا معصوب العينين فى الاتجاه الذى تريده دون أن تلفت الأنظار.

   بعد حوالى خمس عشر خطوات بدأ سلم طويل فيما استنتجت من صدى الصوت ودرجة الحرارة أننى الآن داخل بناية مدنية. خزنت فى ذاكرتى إحساسا بصعود أربعة طوابق قبل أن ينجذب الصندوق من يدى وأسمع صوت جرس داخلى يدق بطريقة متقطعة. لا بد أن تلك هى اللحظة التى كنت أنتظرها من شهور.

وجها لوجه

    فُتح الباب وشعرت بيدين تجذباننى إلى الداخل بسرعة قبل أن ينغلق الباب ورائى وتمتد اليدان كى ترفع الغمامة عن عينى. «كل شيء على ما يرام الآن. يمكنك أن تفتح عينيك». تائها للوهلة الأولى وأنا أشعر بلمسات الطمأنة بدأت تدريجيّا أميز أمامى خيالا يميل إلى القصر ممتلئا ذا لحية متوسطة الطول تميل ملامحه إلى العربية. تسارعت اللحظات الأولى لحظة بعد لحظة تترك إحساسا قابضا لديَّ بأننى رأيت ذلك الوجه من قبل. ثم فجأة نزل إدراكى عليَّ كالصاعقة. إنه هو. إنه هو بشحمه ولحمه. إنه خالد شيخ محمد، المولود فى الكويت قبل ذلك بثمانية وثلاثين عاما، يقف أمامى مباشرة على بعد نصف متر. كيف يمكن أن أنسى ذلك الوجه الذى «درست» صورته على موقع مكتب التحقيقات الفيدرالى FBI؟ حتى قبل أحداث الحادى عشر من سبتمبر، كان الأمريكيون قد رصدوا خمسة ملايين دولار فى مقابل رأسه لتورطه المزعوم فى انفجار مركز التجارة العالمى عام 1993 الذى بسببه يقضى ابن أخته، رمزى يوسف، عقوبة بالسجن مدى الحياة فى أحد سجون أمريكا.

أنا الآن بين يديه، أم أنه هو الآن بين يديّ؟

   ابتلعت وقع المفاجأة بينما اقتادنى خالد شيخ محمد عبر شقة بدت خاوية على عروشها (..) كانت مفاجأة أخرى فى انتظارى. على إحدى المقعدين كان يجلس مطمئنّا، محاطا بثلاثة أجهزة كمبيوتر متنقلة وخمسة هواتف محمولة، رمزى بن الشيبة، المولود فى اليمن قبل ذلك بثلاثين عاما، الذى يتهمه الأمريكيون بالضلوع فى تفجير المدمرة (يو إس إس كول) USS Cole عام 2000، ويضعه الألمان على رأس قائمة المطلوبين بعد الحادى عشر من سبتمبر.

   «عرفتَنا الآن؟!» ألقى خالد بالسؤال مازحا فيما نهض رمزى ومد يمينه مصافحا إياى بحرارة. التفتتُ إلى خالد وفاجأت نفسى بجواب ظننت لأول وهلة أنه سابق لأوانه، بينما اتخذت مكانى على الأرض بين الرجلين: «يقولون إنكم إرهابيون!».

   هادئا، وديعا، مستريح القسمات، رد رمزى بابتسامة متواضعة مرحّبة، لكنّ خالد هو الذى فتح فمه: «طبعا، نحن إرهابيون. هكذا نكسب عيشنا». قطعتْ سعلة مصطنعة من رمزى لحظة صمت مبكرة. «لو كان الإرهاب أن تلقى الرعب فى قلوب أعدائك وأعداء الله، فإننا نحمده ــ عز وجل ــ على أن جعل منا إرهابيين»، تدخّل رمزى بهدوء وهو يهم بالتوجه إلى المطبخ لإعداد الشاى، «إنه أمر مذكور فى القرآن، يا أخ يسري».

   استغل خالد الفرصة كى يحدد لى قواعد المقابلة وشروطها.. «ليس لك أن تخوض فى طرق اتصالاتنا، ولا لك أن تذكر أسماءنا الحركية»، بدأ خالد حازما ثم استطرد أمامى وأنا أهز رأسى موافقا، «عندما (لا إذا) يسألونك كيف تبدو هيئتنا الآن ستقول لهم إننا نشبه تماما تلك الصور التى سيعرضونها أمامك». بعد ذلك طلب خالد منى أن أضع كفى اليمنى على مصحف وأن أقسم بالله العظيم أن ألتزم بهذه الشروط.

الصاعقة

     حاسما، حازما، جريئا، وسريع البديهة. هكذا كان خالد منذ اللحظة الأولى. عندما أخرجت هاتفى المحمول اختطفه خالد مسرعا وأغلقه ثم استخرج من باطنه البطاقة الذكية والبطارية وألقى بهذه المكونات جميعا منعزلة فى أحد أركان الحجرة.

   مرت ساعة كانت كافية لابتلاع صدمة المفاجأة، بدأت بعدها اكتسب إحساسا بالطمأنينة فيما بدأ الرجلان يكتسبان إحساسا بالثقة.. استجمعت كل ما أملك من خبرة ولياقة وثقة، ونظرت إلى خالد فى عينيه نظرة ثاقبة: «أنت الذى قام بتدبيرها!» لكنّ رمشا فى عينيه لم يتحرك. «لا تصوير اليوم»، رد حازما، «ولا تقلق بشأن الكاميرا والمصور. سنوفر لك كل ما تحتاجه غدا». ثم أضاف رمزى ما تبقى من ترتيبات: «بعد الانتهاء، ستخرج من هنا مباشرة إلى الطائرة».

    لكنّ خالد لم يكن ليأذن لى بالنوم قبل أن يفجر مفاجأة أخرى نزلت عليَّ نزول الصاعقة: «أنا رئيس اللجنة العسكرية لتنظيم القاعدة، ورمزى هو منسق عملية الثلاثاء المبارك، ونعم، نحن الذى فعلها».المكالمة«نوقشت الشروط أثناء الاتصال الذى جمع تينيت بالأمير فيما يخص الكيفية التى ستتعامل بها وكالة الاستخبارات المركزية مع المعلومات.. لا أحد على الإطلاق  ــ ولا حتى داخل إدارة الجزيرة ــ كان على علم بأن الأمير أجرى ذلك الاتصال الهاتفى».

من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش.. يسرى فودة فى طريق الأذى

- رمزى بن الشيبة وخالد شيخ محمد يشرحان لفودة تفاصيل الحادى عشر من سبتمبر.. ويعرضان محتويات «شنطة هامبورج».

- شيخ محمد يعترف: فكرنا أولا فى ضرب عدد من المفاعلات النووية الأمريكية وتخوفنا من خروج الأمور عن السيطرة.

- «تعرف يا أخ يسرى أنك يمكن أن تكون الإرهابى المثالى؟!» وتذكرنى بأخينا محمد عطا.

- لدينا فى القاعدة «قسم الاستشهاديين» ويضم عددا كبيرا ممن يتشوقون إلى دورهم.. ومحمد عطا كان هدية من السماء.

    أيقظه بن الشيبة لمشاركتهما صلاة الفجر، والتى انضم إلى ثلاثتهم فيها وافد جديد «كان يتبع خالدا أينما انتقل». والذى قال عنه رمزى «الأخ من الصحابة المقربين للشيخ أبو عبدالله (بن لادن) حفظه الله.. وبالمناسبة، من الأفضل أن تخترع له اسما لأنه لن يخبرك باسمه الحقيقى أو كنيته»، ليطلق عليه فودة «أبو أنس».

سورة التوبة

   ولا يفوت فودة فى هذا الصدد أن يتخذ من الآيات التى تلاها بن الشيبة فى صلاة الفجر «من سورة التوبة» مدخلا للحديث عن أفكار رجال القاعدة، مشيرا إلى ما تحتويه هذه السورة «العامرة بالعواطف حافزة للنخوة واعدة بالجوائز متوعدة بالأهوال، وقد كان إمامنا، رمزى بن الشيبة، أهلا لذلك. انعقد لسانه أكثر من مرة وهو يتلو علينا آياتها بصوت جميل. ارتفع وانخفض وتهدج وبكى فى نبرات مهيبة».. ويلفت كذلك إلى أن «هذه هى السورة نفسها كما علمنا فيما بعد التى كان على منفذى عمليات الحادى عشر من سبتمبر أن يرتلوها جهرا وسرّا وهم فى طريقهم إلى التنفيذ، إضافة إلى السورة رقم 8 (سورة الأنفال) من القرآن الكريم».

   ويخصص فودة مساحة كبيرة من صفحات الجزء الأول من كتابه (طريق الأذى) للحديث عما للأحلام والرؤى وتفسيراتها من موقع خاص فى المعتقدات الروحية لأصحاب هذا الفكر، ذكرا أنه «كان لرمزى بن الشيبة أن يقص عليّ لاحقا قصصا مؤثرة عن أحلام ورؤى كثيرة رآها «الأخوة» المنفذون فى الأيام القليلة التى سبقت الحادى عشر من سبتمبر (..) فى اتصال هاتفى قبيل ساعة الصفر ألح رمزى بن الشيبة على محمد عطا أن يدعو له أثناء عملية الهجوم هو وإخوانه الباقون: «فهم فى ساحة نزال وساحة قتال(..) كان يؤكد لى أننا سوف نلتقى فى الجنة إن شاء الله، وأن لقاءنا قريب بإذن الله، فطلبت منه إذا رأى النبى وبلغ المنازل العُلى فى الجنة أن يُبلغه منا السلام، ويبلغ أبا بكر وعمرا وبقية الصحابة والتابعين والمجاهدين».

   ويدلل مؤلف الكتاب بوسيلة أخرى على التصاق هذه الذهنية بأطياف يرونها مرتبطة بأيام الإسلام الأولى فى وجود «كُنْية لا تمت بصلة لاسمه الحقيقى. إنها استعارة مباشرة من الماضى، وهو أمر مقصود فى حد ذاته. فكل عضو يُمنح كنية هى فى الواقع اسم لأحد الصحابة أو التابعين أو المجاهدين (..) أحد هؤلاء هو رمزى بن الشيبة. كان من بين الشروط التى اضطررت لقبولها قبل إجراء الحوار مع ابن الشيبة وخالد شيخ محمد ألا أبوح لأحد بكنيتيهما. أما وأن رمزى بنفسه هو الذى اعترف للمحققين الأمريكيين بكنيته فقد صرت الآن فى حل من وعدى، وصرت من ثم فى موقف يسمح لى بتأكيد أن كنية رمزى بن الشيبة هى «أبو عبيدة»، تيمنا بالصحابى الجليل أبى عبيدة بن الجراح».

منفذي حادث 11 سبتمبر

هدية رمزى

   بعد أسابيع قليلة من ذلك اللقاء فى ذلك المنزل الآمن فى تلك الضاحية من كراتشى، بعث رمزى إليّ برسالة يجيب فيها عن مزيد من الأسئلة التى كانت قد واجهتنى أثناء التصوير فى دول مختلفة. كان أحدها يتعلق بكُنى «الأخوة» التسعة عشر الذين شاركوا فى تنفيذ الهجمات. فيما يلى إجابة رمزى كما وضعها:

الأخ الفاضل/ يسرى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

  هذه إجابة لجزء من أسئلتكم التى أرسلتموها والجزء الآخر تجدونه مرفقا لكم فى اللقاء الذى تم والمسجل صوتيّا حيث تعذر الحصول على النسخة الأصلية للأسباب التى تعلمونها.

  وإليكم تفصيل كنى الأخوة التسعة عشر أسأل الله أن يتقبل منهم وبعض التفاصيل الأخرى وهى كالتالى:

الطائرة الأولى:

محمد عطا أبو عبدالرحمن المصرى طيار الأمير العام

سطام السقامى عزمى

وليد الشهرى أبو مصعب، وشقيقه

وائل الشهرى أبو سلمان

عبدالعزيز العمرى أبو العباس الجنوبى

الطائرة الثانية:

مروان يوسف الشحى أبو القعقاع القطرى طيار

فايز راشد بنى حماد أبو أحمد الإماراتى

حمزة الغامدى جليبيب الغامدى

أحمد الغامدى عكرمة الغامدى

مهند الشهندى عمر الأزدى

الطائرة الثالثة:
هانى حنجور عروة الطائفى طيار

نواف الحازمى ربيعة المكى نائب الأمير العام، وشقيقه

سالم الحازمى بلال المكى

خالد المحضار سنان

ماجد مقعد الحربی الأحنف

الطائرة الرابعة:

زياد الجراح أبو طارق اللبنانى طيار

سعيد الغامدى معتز الغامدى

أحمد الحزنوى ابن الجراح الغامدى

أحمد النعمى أبو هاشم (سيد من آل البيت)

الرأسان الكبيران

   وينضم إلى مجموعة «شقة القاعدة الأمنة» أبو يوسف (كما دعاه خالد)، حاملا فى يده إلى أحد أركان الغرفة حقيبة بلاستيكية صغيرة كان بها كاميرا فى حجم الكف وميكروفون سلكى دقيق يمكن شبكه فى ياقة القميص وخمسة شرائط مدة كل منها 60 دقيقة، لتدور بعد برهة الكاميرا لتسجيل السبق الأهم فى حياة فودة.

   «ها هما، الرأسان الكبيران لأخطر عملية إرهابية فى التاريخ، مستريحان فى هدوء ووداعة، مستعدان للحديث. أخيرا قرر أبرز صناع الحادى عشر من سبتمبر أن يخرجا عن صمتيهما. أمامى جلسا فى تواضع متربعين على أرض الغرفة يتذكران المراحل المختلفة للتخطيط والتنفيذ التى انتهت بما يسميانه «عمليات الثلاثاء المبارك» أو«غزوتى واشنطن ونيويورك».

   «قبل نحو عامين ونصف العام من الغزوات المباركة فى واشنطن ونيويورك»، قاد خالد الحديث بلهجة كويتية متسارعة: «عقدت اللجنة العسكرية (لتنظيم القاعدة) اجتماعا تقرر خلاله أن نبدأ فى التخطيط لعملية استشهادية داخل أمريكا».

    نظر إلى أعلى ثم إلى أسفل ثم إليّ، ثم استطرد: «بينما كنا نناقش الأهداف، فكرنا أولا فى ضرب عدد من المفاعلات النووية، ولكننا عدلنا عن ذلك التفكير خوف أن تخرج الأمور عن السيطرة». ثبّت خالد نظره على ملامحى فقرأ بسهولة وقع المفاجأة. رمقنى بابتسامة العالم حين يتحدث إلى جاهل، ثم استطرد فى لهجة حاسمة: «لستَ مضطرّا إلى معرفة المزيد عن ذلك الموضوع لدى هذه المرحلة. وعلى أى حال قررنا فى النهاية استثناء الأهداف النووية حتى الآن على الأقل».

• ماذا تعنى بـ «حتى الآن»؟.

ــ «حتى الآن» يعنى «حتى الآن».

   رد خالد بحزم واضعا للموضوع نهاية، ثم التقط نفَسا طويلا قبل أن يستكمل قصته. «كان اختيار الأهداف مصمَّما بحيث يوقع أكبر عدد ممكن من القتلى ويتسبب فى أكبر قدر ممكن من الفوضى، وبحيث يكون فى النهاية صفعة كبرى لأمريكا على أرض أمريكية أمام العالم كله».

• ومن عساه يقوم بتنفيذ ذلك؟.

ــ «لم يكن أبدا ينقصنا الاستشهاديون، بل إن لدينا فى التنظيم قسما اسمه «قسم الاستشهاديين» يضم عددا كبيرا من الأخوة الذين يتشوقون إلى اليوم الذى يحين فيه دورهم».

• وهل لا يزال هذا القسم ناشطا؟.

ــ «نعم، بكل تأكيد، وسيبقى دائما ناشطا طالما كنا فى جهاد ضد الكفرة والصهاينة. لدينا ما لا يُحصى من المتطوعين، بل إن مشكلتنا الوحيدة فى ذلك الوقت كانت تتلخص فى أن نختار من بين هذا العدد الكبير من المتطوعين أخوة يناسبون ظروف العملية، بمعنى أن يكونوا على قدر من الإلمام باللغة الإنجليزية وأساليب الحياة الغربية».

   كان محمد عطا بهذا المعنى هدية السماء لخالد شيخ محمد، ولولاه فى رأيى لما تمت عملية الحادى عشر من سبتمبر.

  جاء الدور الآن على رمزى بن الشيبة كى يقطع تسلسل الحديث بين خالد شيخ محمد والصحفى الذى لم يكن فى حاجة إلى مزيد من المفاجآت بمفاجأة أخرى. كان رمزى قد غادرنا فى منتصف الحديث قبل أن يعود من الغرفة المغلقة رقم (3) حاملا حقيبة ملابس صغيرة رمادية يعلوها التراب وجروح الزمن. بينما همّ بفتحها على الأرض التقت عيناه بعينيّ، فبادر مبتسما: «نعم! هى ذكرياتى فى هامبورج، وأنت أول من نسمح له بالاطلاع عليها».

  كانت الحقيبة بحسب فودة «تحوى المواد نفسها التى استخدمها خالد ورمزى وعطا وجراح والشحى وغيرهم للهجوم على أعتى قوة على وجه الأرض فى عقر دارها، (..) كانت جميعا فى شقة هامبورج التى تقاسمها رمزى مع محمد عطا، مروان الشحى وسعيد بحاجى وسعيد الصابر فى الطابق الأول من المبنى رقم 54 فى شارع ماريانيشتراسا فى هامبورج».

   «انتظر! انتظر!» هتفت برمزى الذى كان لا يزال يرص مزيدا من «ذكرياته» على أرض الغرفة. فإلى جانب سلسلة معقدة من الرسومات البيانية التى تشرح «كيف تنفذ مناورة جوية مفاجئة» لمحت فقرات بعينها وضع أحدهم تحتها خطوطا وكتب إلى جانبها بعض الملاحظات بالقلم الرصاص. مدركا شغفى، التفت رمزى قائلا: «آه! هذا خط الأخ أبو عبدالرحمن، رحمه الله»، فى إشارة إلى محمد عطا. غير أن رمزى لاحظ أننى تسمّرت أمام الملاحظات التى كُتبت بخط رديء لم يماثل كثيرا ما قيل للعالم كله إنه خط محمد عطا فى تلك الوثيقة التى وجدها عمال مطار بوسطن لوجان فى حقيبته التى لم يُقدّر لها أن تلحقه على متن طائرة الموت. كانت تلك الوثيقة بمثابة تعليمات مباشرة للمشاركين فى التنفيذ تلفت انتباههم إلى ما ينبغى عليهم أن يفعلوا وأن يقولوا بدءا بالليلة السابقة للهجوم وانتهاء بالشهادة، ومن أبرز هذه التعليمات التى كُتبت بخط أنيق وإن كان على عجل.

    شرح رمزى ببساطة ذلك اللغط الذى أُثير حول الوثيقة؛ فلم يكن محمد عطا كاتبها، وإنما الذى كتبها كان عبدالعزيز العمرى، رفيق عطا فى اليومين الأخيرين من حياتيهما(..) ويدعم هذا الاكتشاف إصرار والد محمد عطا عندما ظهرت هذه الوثيقة على أن ابنه لم يكن ليكون كاتبها.

  بدأت الكاميرا فى الدوران، وعندما بدأت فى الدوران كان رئيس اللجنة العسكرية لتنظيم القاعدة قد تحول فجأة إلى شخص آخر. حاول أن يبدو زعيما دينيّا أو سياسيّا، فأدركته ضحالة معرفته بأمور الدين والسياسة. حاول أن يبدو خطيبا مفوّها، فلم يستطع بناء جملتين صحيحتين بالعربية الفصحى، وبعد ذلك كله خلط ما قاله الله بما قاله الرسول.

ثلاثة أسابيع

  أتى الدور على رمزى فى الركن المقابل من الغرفة نفسها، كان رمزى قد قام بتغطية الجدار الذى يستند الآن إليه وهو جالس على الأرض بسجادة بلاستيكية مزركشة الألوان، لكنه على عكس خالد لم يكن مهتمّا بارتداء عباءة تغطى تضاريس رقبته وكتفيه وصدره. «من الأفضل أن أكون طبيعيّا»، علّق رمزى مستطردا، «وعلى أى حال سنح

• «ثلاثة أسابيع؟!!!» انفجرت فى وجهه.

ــ «لا بد، يا أخ يسرى، من أن نقوم بإدخال تعديلات إلكترونية على أصواتنا، وبحذف ما نراه من مقاطع لا تصلح للنشر لأسباب مختلفة، وربما أيضا بتغطية وجوهنا».

   بينما انتهى مصور القاعدة، أبو يوسف، من ضبط الكاميرا استعدادا لبدء التسجيل، كان رمزى بن الشيبة الآن أمامى جالسا القرفصاء على الأرض، هادئا، وديعا، واثقا من نفسه. انطلقت مفتتحا الحوار. وبعد مقدمة طويلة «بدأ رمزى إجابته عن سؤالى عما يعنيه دوره كمنسق لعملية الحادى عشر من سبتمبر «وأما بالنسبة لسؤالك فى مسألة التنسيق، فاختصارا هى عملية ربط الخلايا بعضها ببعض، وتكوين حلقة اتصال بين هذه الخلايا وبين القيادة العامة فى أفغانستان، وتحديد أولويات عمل هذه الخلايا ومتابعتها حتى تنتهى من مراحل العمل إلى وقت ساعة التنفيذ، وحل المشكلات التى قد تواجه الأخوة فى هذه الخلايا، وإيجاد الغطاء الأمنى المناسب الذى سوف يتحرك الأخ من خلاله».

الإرهابى المثالى

   بعد نحو 48 ساعة، كانت اللحظات الأخيرة فى ذلك «المنزل الآمن» فى كراتشى مليئة بالمشاعر الغريبة. احتضننى رمزى كأنه يحتضن أخا يعرفه منذ وعت عيناه على الدنيا، وصافحنى أبو أنس بحرارة نادرة، (..) وبينما حرص رمزى وأبو أنس على عدم الاقتراب من مدخل الشقة، خرج خالد في صحبتى».

محمد عطا وزياد جراح فى أفغانستان فبيل تسجيل وصية كل منهما على الكاميرا في يناير 2000

  «لا داعى لنزولك على السلم إلى أسفل»، قلتها فرد خالد بتعليق لا علاقة له بالموضوع. «تعرف يا أخ يسرى أنك يمكن أن تكون الإرهابى المثالي؟!» عقدت المفاجأة لسانى وأنا أستمع فى الوقت نفسه إلى أصابع رئيس اللجنة العسكرية لتنظيم القاعدة ترسل نصّا مكتوبا عبر الهاتف المحمول وهو يهبط الدرج ملتصقا بكتفى. مضى خالد فى لهجة نصف مازحة: «انظر إلى نفسك؛ إنك ولد مهذب، صغير السن، ذكى، مثقف، منظم، تتحدث الإنجليزية بطلاقة، غير متزوج، وتعيش فى لندن». كانت تلك لحظة تمنىت لديها أن أحدق فى عينى خالد وأتفرس فى ملامحه كى أقرأ بنفسى مدى جدية هذا التعليق الغريب، لولا تلك العُصابة على عينى. أى رد يمكن لى أن آتى به فى مقابل تعليق كهذا؟ لم يكن إذا سوى أن أبتسم ابتسامة جوفاء مقتضبة لا معنى لها. لكنّ ذلك لم يعجب خالد.

  «إنك تذكّرنى بأخينا محمد عطا». قنبلة أخرى! حين يصدر هذا الانطباع عن واحد من أعتى العقول المدبرة فلا بد أن يتم استقباله من باب الإشادة والإطراء والتكريم، ولا بد أن يمر الرد عليه من أوسع أبواب الحرص والدبلوماسية. فماذا أقول؟.

رسالة المافيا

    يغادر فودة المنزل الآمن للقاعدة، ويغادر كراتشى، وبعد رحلة مكوكية بدأت بإطلاع «قادة الجزيرة» على ما جرى، وشملت رحلات لألمانيا ومصر والولايات المتحدة الأمريكية، يعود من جديد إلى باكستان فى انتظار أن تصله شرائط التسجيلات، وبعد لقاء مع «أبو بكر»، وموعد للقاء أخر يتسلم خلاله الشرائط، يحضر الوسيط ويسلمه ما يصفه فودة فى كتابه بـ«المافياوية» تشبيها بعصابات المافيا، وكان نص الرسالة المكتوبة على «ورقة متسخة.. واللغة ركيكة والخط سيئ»، يطلب لقاء الشرائط «التبرع بمبلغ مليون دولار لمساعدة الأخوة على الاستمرار فى الجهاد فى سبيل الله»، متضمنة طريقة تسليم المبلغ، منتهية بعبارات تهديد «ونود هنا أن نؤكد على أننا نحن المجاهدين لن نتسامح مع أى تلاعب وأننا قادرون على التعامل مع أى خيانة».

   ويجزم فودة أن خالد ورمزى لم يكونا على علم بتلك المحاولة «للصيد فى الماء العكر»، وتتأكد شكوكه بعدما علم أن مدير مكتب الجزيزة فى باكستان تلقى اتصالا يفيد تخفيض المبلغ المطلوب إلى 17 الف دولار «فقد كان التخفيض عملا من أعمال الهواة الذين دخلوا مرحلة من اليأس».

   ويتلقى فودة «مظروف بنى اللون بين مظاريف كثيرة لا يلفت النظر، لكن أحدا لم يلتفت إلى حقيقة أن طريقة كتابة العنوان من الخارج كانت مختلفة قليلا عن طريقة كتابة العنوان على بقية المظاريف؛ فبدلا من «الطابق السابع» ها هو الرمز الذى اتفقت عليه مع رمزى إذا أراد هذا أن يرسل إليّ شيئا فى البريد: «الطابق رقم 7».
داخل المظروف، الذى من الواضح أنه أُعيد إرساله من بلد أوروبى، كانت توجد أسطوانة كمبيوتر ممغنطة CD-ROM تحتوى على نسخة صوتية من حديث رمزى بن الشيبة إليّ فى كراتشى مع رسالة مطبوعة من رمزى يجيب عن الأسئلة الإضافية التى كنت قد وجهتها إليه من خلال أبو بكر فى رحلة لاحقة.

   رئيس قناة الجزيرة أصر على اختطافى من «أجواء لندن» بعد وصول الشريط الثانى من القاعدة.

- بعد السقوط المدوى لرمزى بن الشيبة اتهمنى الجميع بالوقوف وراء القبض عليه.. والصحافة الأمريكية قالت إننى أخفيت المعلومات.

- صحيفة سعودية كبرى قالت إن المخابرات الأمريكية اتصلت بقناة الجزيرة لإقناعى بالتعاون معهم لكشف مكان بن الشيبة.

- خالد شيخ محمد أدرك أننى فى موقف لا أحسد عليه.. وحينما تحدث علمت أن الرسالة وصلت إلى الرجال الحقيقيين وكانوا على مستوى المسئولية.

- الشريط الجديد للقاعدة حمل صوت استمع إليه العالم للمرة الأولى دون أن يعرف أنه رمزى بن الشيبة.

    يواصل يسرى فودة فى هذا الجزء من كتابه الجديد «طريق الأذى.. من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش» الصادر عن دار الشروق ــــ شرح الملابسات التى واكبت الإعلان عن سبقه الصحفى الكبير، وأصداء الكشف عن رحلته إلى بيشاور، وكذلك يشرح «اللغط» الذى نشب فى وسائل الإعلام فى كل مكان، والاتهامات التى كيلت له، بعد سقوط مدوٍّ لرمزى بن شيبة فى أيدى الأمريكان، حتى خرجت القاعدة بـ«صك البراءة»، فإلى رواية فودة:

   «وفى محاولة يائسة لتجنب اهتمام عالمى غامر غادرت لندن إلى الدوحة مضطرّا إلى وضع اللمسات الأخيرة على الجزء الثانى فى المقر الرئيس للجزيرة. عندما وصلت إلى هناك اكتشفت سببا آخر وراء إلحاح رئيس مجلس الإدارة، الشيخ حمد بن ثامر آل ثانى، على اختطافى من أجواء «الاهتمام الغربى» فى لندن مع ضيف آخر هو عبدالبارى عطوان، رئيس تحرير «القدس العربى»: لقد وصل لتوه شريط آخر من القاعدة إلى الجزيرة.

ذكريات هامبورج

    حمل الشريط صور المنفذين التسعة عشر مصحوبة بصوت أسامة بن لادن يتلو أسماء بعضهم ــ بمن فيهم الطيارون ــ ويمتدح الرجال «الذين غيروا مجرى التاريخ وطهروا الأمة من قذارة الحكام الخانعين». لم يكن من الواضح رغم ذلك متى قام بن لادن بتسجيل هذا الشريط الصوتى الذى أُضيف إلى شريط الصور.
ثم فجأة، أدركت أن هذا لا بد أن يكون الشريط الذى قال لى رمزى إن شركة «السحاب» ستعمل على إنتاجه احتفالا بالذكرى الأولى. تضمن الشريط أيضا وصية عبدالعزيز العمرى، وكنيته أبو العباس، رفيق محمد عطا فى الليلة الأخيرة، مؤلف ذلك المخطوط الذى يشرح للخاطفين ما ينبغى عليهم عمله وقوله قبيل عملية الاختطاف وأثناءها.

   تضمن الشريط أيضا مجموعة من اللقطات لعدد من «العضلات» قبل سفرهم إلى أمريكا جالسين على الأرض، فى مكان ما فى قندهار، منكبين على كتب للطيران وخرائط للساحل الشرقى للولايات المتحدة وغيرها من مواد. دخلت مع صديقى إبراهيم هلال، رئيس تحرير الجزيرة وقتها، إلى إحدى غرف المونتاج وأغلقنا الباب وراءنا. توقفت لدى أكثر من نقطة على الشريط. أعدتها ثم شاهدتها، ثم أعدتها ثم أمعنت. كان ثمة شيء مألوف فى تلك المواد التى انكب عليها المنفذون، كما كان ثمة شيء أكثر ألفة فى صوت المعلق. فجأة استدرت إلى إبراهيم وهمست فى أذنه: «هذا جانب من «ذكريات هامبورج» التى قمت بتصويرها بنفسى فى شقة كراتشى، وهذا الصوت ليس سوى صوت رمزى بن الشيبة». لم يكن إبراهيم يريد أن يصدق، لكن ثقته فى صديقه كانت أكبر من المفاجأة.

   اقتطع إبراهيم جانبا من الشريط وأذاعه مساء ذلك اليوم، الاثنين 9 سبتمبر  2002، دون الإشارة إلى تلك المفاجأة. كان هو وحده الذى علم باكتشافى فى غرفة المونتاج، لكن الجميع كان يعلم أننى تعمدت ألا أضع صوت رمزى بن الشيبة فى الإعلان الترويجى للجزء الثانى من تحقيقى. كنت أريد أن أحتفظ بهذه المعلومة ذات الدلالة حتى اللحظة الأخيرة، وقد حلت تلك اللحظة الأخيرة صباح الأربعاء 11 سبتمبر 2002، قبل يوم واحد من بث الجزء الثانى. فى تلك اللحظة فقط أتيح للعالم لأول مرة أن يستمع إلى صوت رمزى بن الشيبة من خلال هذا المقتطف الذى اخترته له وهو يصف رد فعل «الأخوة» وهم يتابعون جنى أيديهم على الهواء مباشرة يوم الحادى عشر من سبتمبر 2001:

   «... فكان الجميع يرون العملية ويبكون... ولما بدأت الأخبار وفجأة سمعنا خبر اصطدام الطائرة الأولى... صاح الأخوة: «تكبير»، وكبّروا وسجدوا لله، وبكوا... وظن الأخوة أن هذه هى العملية فقط، فقلنا لهم: «اصبروا». وفجأة دك أخونا مروان البرج الجنوبى لمركز التجارة دكا عنيفا جدّا، يعنى بشكل لا يُتصور. نحن نرى على الهواء مباشرة ونقول: «اللهم سدد، سدد، سدد».

  وأخيرا، أذيع الجزء الثانى من «الطريق إلى 11 سبتمبر» فى اليوم التالى، يوم الخميس 12 سبتمبر 2002، مصحوبا أيضا بترجمة إنجليزية. حتى قبل موعد البث بخمس دقائق، كنت لا أزال مشغولا بوضع اللمسات الأخيرة فى غرفة المونتاج قبل عودتى إلى الفندق ممنيا نفسى بقليل من الراحة. فى الثانية صباحا وقع الزلزال.

سقوط رمزى

   كان الوقت قد حان، بعد خمسة أشهر من العمل المتواصل والسفر شرقا وغربا والمغامرات المحسوبة وغير المحسوبة، كى أعود إلى الفندق ملقيا بنفسى إلى فراغ مفاجئ يشبه كتلة من ثلج أطبقت فجأة على شعلة من نار، ممنّيا نفسى باستراحة طويلة كسول على شاطئ الدوحة صباح اليوم التالى والأيام القليلة التالية قبل عودتى إلى لندن. لكنّ ذلك لم يكن سوى أمنية من سحابات الصيف سرعان ما تبخرت.
ففى عز الليل، فى الثانية وخمس وثلاثين دقيقة صباحا أيقظنى اتصال هاتفى من رئيس التحرير المناوب، عرار الشرع، يعتذر عن إيقاظى فى تلك الساعة ويسألنى إن كنت أود أن آخذ حماما سريعا قبل أن ألتحق به فى غرفة الأخبار: «لقد قبضوا على رمزى بن الشيبة، وكثير من الناس يتصلون بنا كى يقولوا: «متى ستسلّمون بن لادن أيضا؟».

   تملّكنى الذهول وأنا جالس فى سريرى فأعدت سماعة الهاتف متمتما بكلمات لا معنى لها فإذا به يدق مرة ثانية. كان إبراهيم هلال نصف نائم وهو يحاول تهدئتي: «لم تتضح الصورة بعد. رأيى أن تحاول الحصول على قسط من الراحة ولا داعى للذهاب إلى المحطة. لقد اتصلت بأبو عبدالله (رئيس مجلس الإدارة) ونصيحته لنا أن نستريح جميعا إلى أن نلتقى فى الصباح».

اتهامات من الجميع

   دون مقدمات، صار يسرى فوده فجأة جزءا لا يتجزأ من سبقه الصحفى. وجهت صحيفة «نيويورك تايمز» اللوم إليه لأنه «احتفظ بما كان لديه من معلومات سرّا لأكثر من شهرين»، (فى الواقع، لأكثر من أربعة أشهر)، ولأنه «لم يتصل بأى جهة أمنية أو وكالة استخبارات سواء قبل اللقاء بـ (خالد ورمزي) أو بعده». أما صحيفة «واشنطن بوست» فقد نزعت كلماتى من سياقها وزعمت أن «فوده خائف، بصورة حقيقية، من أن يكون قد فقد شعبيته بين أتباع بن الشيبة إلى حد أنه، لدى هذه النقطة، يخشى العودة إلى مسرح اللقاء».

   فى اليوم نفسه، كان «السيناريو كله» قد هبط من ثنايا الغيب على صفحات جريدة «اليوم» السعودية. تحت عنوان «دور ما راقب هاتف مقدم (سرى للغاية) بعد رفضه التعاون مع سى آى إيه»، تزعم الجريدة فى تقرير «خاص» أن مصادر دبلوماسية عربية فى لندن كشفت عما وصف بـ «دور ما» فى اختراق تنظيم القاعدة، خاصة فى الإيقاع برمزى بن الشيبة، «وأضافت أن المخابرات الأمريكية اتصلت على مستوى عال بقناة الجزيرة فور بث برنامج «سرى للغاية» الذى يقدمه الإعلامى المصرى يسرى فودة وطلبت منه ضرورة إقناعه بالتعاون مع الأجهزة الأمريكية لمعرفة مكان بن الشيبة والوسيط الذى رتب اللقاء مع بن الشيبة، وذلك بعد فشل محاولات سابقة لإقناعه بالكلام حيث أكد أنه أقسم على عدم الإدلاء بأى معلومات عن ذلك. وقالت المصادر إن الشخصية الكبيرة اتصلت مباشرة بفوده وطلبت منه التعاون وإلا سيتم فورا فصله وإبعاده عن القناة مع الوعد بمنصب أكبر ومزايا فى حال تعاونه، إلا أن الأخير رفض الإبلاغ عن مصادره وفاء لقسمه مؤكدا أن الأمانة الصحفية تفرض عليه عدم الكشف عن مصادره».

   وتمضى الجريدة السعودية فى تطوير السيناريو: «وقامت المخابرات الأمريكية بمراقبة تليفون فودة الشخصى وتوصلت عن طريقه للوسيط الباكستانى حيث حددت مكانه عن طريق تتبع تليفونه، وبالفعل تم اعتقال الوسيط الذى اعترف بمكان بن الشيبة وعدد من معاونيه حيث تم إلقاء القبض عليهم بعد معركة حامية بالرصاص».

حافة الجنون

   اقتربت الأمور خلال ذلك الأسبوع من حافة الجنون. وبينما امتلأت الصحف شرقا وغربا بمثل هذه السيناريوهات الهزلية المأساوية فى آنٍ معا، دخل الأمريكيون والباكستانيون فى معركة كلامية حول من يستحق أن يزعم شرف «اصطياد» رمزى بن الشيبة. أما القاعدة نفسها فقد أصابها تخبط مؤقت غير معتاد؛ ففى البداية أنكر موقع «الجهاد» الإلكترونى ــ الذى يُعتقد على نطاق واسع أنه ينطق بلسانها ــ وقوع رمزى بن الشيبة فى الأسر.

   ويواصل فودة: «امتطى بعضهم موجة الفوضى التى أحاطت بملابسات القبض على منسق عملية الحادى عشر من سبتمبر، رمزى بن الشيبة، ولم تشفع لى حقيقة أن نحو خمسة أشهر كانت تفصل بين لقائى به فى أبريل عام 2002 وسقوطه فى سبتمبر من العام نفسه. غير أننى من التواضع بحيث أدركت أننى لم أكن المقصود الأول، بل قناة الجزيرة ودولة قطر. وجدت عزائى وسط ذلك فى حقيقة أننى كنت متأكدا من أن أعضاء القاعدة الحقيقيين الذين قابلتهم، والفئة القليلة من إخوانهم الذين كانوا على علم بالموضوع، لم يتحدثوا بعد. كان من الواضح للجميع أن أطرافا مختلفة تحاول الاصطياد فى الماء العكر، كل منها لأغراضها الخاصة، مثلما كان من الواضح لى أن أصحاب الشأن فى ذلك الأسبوع العصيب كانوا مثلى يتبينون طريقهم وسط بحر من الفسق خوف أن يصيبوا قوما بجهالة.

   كان الاحتفاظ برأس بارد خلال ذلك الأسبوع الثالث من شهر سبتمبر  2002 أشق من التعامل مع مخاطر رحلتى إلى كراتشى نفسها قبل ذلك بخمسة أشهر. لكننى كنت أعلم فى الوقت نفسه أن عليّ أن أتحدث إلى العالم إن عاجلا أو آجلا، وأن حديثى هذا، الذى لم يكن يصح إلا أن يمر على الهواء مباشرة من خلال قناة الجزيرة نفسها، ربما يكلفنى حياتى.

رسالة بالشفرة

   فى مساء الجمعة، 20 سبتمبر 2002، قام الزميل محمد كريشان بتقديم حلقة استثنائية من برنامج «أكثر من رأي»، الذى يقدمه عادة سامى حداد، عن العلاقة بين وسائل الإعلام وتنظيم القاعدة وما يكتنفها من مخاطر للطرفين. كان ضيوف الحلقة شيلا ماكفيكر، كبيرة مراسلى شبكة «سى إن إن»، فى لندن؛ ومحمد صلاح، مدير مكتب جريدة «الحياة» فى القاهرة؛ بينما كان إلى جوار كريشان فى استوديو الدوحة كل من تيسير علونى، مراسل الجزيرة سابقا فى أفغانستان؛ وأنا.

   كان موضوعا شيقا اختير لإدارته الصحفى المناسب، ولمناقشته الضيوف المناسبون، فى الوقت المناسب، فى المكان المناسب، وأتيح فيه المجال لمداخلات من الجمهور على الهواء مباشرة. عبر ساعتين من النقاش والمداخلات تشكّل رأى عام جارف غمرنى تواضعا وأعاد إليّ كثيرا من ثقتى فى أنه لن يصح فى نهاية المطاف إلا الصحيح، وفى أن احتفاظ الإنسان بمبدأ لن يضيره أبدا مهما كانت قسوة الظروف.

   أثناء البرنامج كان لديّ إحساس بأن خالد شيخ محمد ربما يكون من بين المشاهدين فبعثت إليه برسالة مبطنة. والأهم من ذلك أننى بعثت للآخرين بفخ آخر. كنت أريد أن أستأصلهم من المعادلة تماما، فألقيت إليهم بطعم كنت أتوقع أن بعضهم سيلتقطه، مثلما كنت أعلم أن الطرف الوحيد المحصن ضد هذا الطعم هو خالد شيخ محمد والذين معه. فى خضم بحر متواتر من البيانات والتقارير والتخمينات لم أعد قادرا على تمييز الغث من الثمين، لم أعد قادرا على الحكم على مدى مصداقية ما يوضع أمامى، لم أعد قادرا على التأكد مما إذا كان بيان ما صادرا عن القاعدة الحقيقية أم عن هؤلاء ــ وقد كانوا كثرا ــ الذين انتهزوا الفرصة للاصطياد فى الماء العكر.

     كانت الطريقة الوحيدة المتاحة أمامى، دون أن أضطر إلى الحنث بأى من وعودى، هى أن أقوم بتغيير أحد عناصر قصتى مع خالد ورمزى، على أن يكون هذا العنصر معروفا فقط لهما وللفئة القليلة من إخوانهم التى كانت على علم بالموضوع، وعلى أن يكون هذا العنصر من العناصر الأساسية فى رواية أى قصة دون أن يؤثر تغييره فى مصداقيتها، وعلى أن يكون خالد وإخوانه فى موقف يسمح لهما بتعديل التغيير. عندئذٍ فقط أستطيع أن أتأكد مما إذا كان البيان التالى قد أتى فعلا من القاعدة الحقيقية أم من طرف آخر. وقد انطبقت هذه الشروط كلها على عنصر بعينه هو تاريخ اللقاء فى كراتشى الذى قلت أثناء البرنامج إنه حدث فى يونيو 2002 رغم أنه حدث قبل ذلك بشهرين.

   صباح اليوم التالى، حمل موقع «الجهاد» بيانا جديدا ورد فيه التاريخ الصحيح للقائى فى كراتشى بكل من خالد ورمزى. وصلت الرسالة إلى الرجال الحقيقيين، فكانوا على مستوى المسئولية:

شيخ محمد يتكلم

   هكذا تحدث أخيرا خالد شيخ محمد الذى لا بد أنه كان يتابع ما يحدث ما أسعفته الظروف. لقد أدرك أن قناة الجزيرة ويسرى فودة فى موقف لا يُحسدان عليه، وأن دليل براءتهما كان فى أيديهما ولم يستخدماه، وأن عليه من ثم أن يفعل شيئا. ولكن، لماذا ينبغى عليه أن يفعل شيئا؟!

   كان يمكن للذين كانوا يتابعون ما يحدث أن يتأملوا فى هذا البيان كى يكتشفوا جملة من الرسائل، منها ما هو ظاهر ومنها ما هو باطن. فرغم أن الموضوع الظاهرى للبيان هو الموقف بالنسبة للجزيرة وشخصى أنا، فإن الموضوع الحقيقى فى واقع الأمر هو تنظيم القاعدة نفسه.

   جاءت الإشارة غير المباشرة إلى مسألة القبض على رمزى بن الشيبة ــ بوصفها بـ «الأحداث التى حدثت فى كراتشى فى الأيام الماضية» ــ تمهلا فى الحكم على الأمور، ودليلا على إيمان التنظيم بأنه لم يكن ليتأثر بفقد أحد أعضائه مهما كانت أهميته، وإدانة لا لبس فيها للحكومة الباكستانية التى تقوم بـ «دور إجرامي». وفى هذا إسقاط للتكهنات بأن الأمريكيين هم الذين استطاعوا ــ بواسطة ما لديهم من تقنيات المراقبة ــ أن يصلوا إلى رمزى بن الشيبة وإخوانه من خلالى. إن الأمر أبسط من ذلك بكثير؛ ففى إشارة إلى حكومات وأطراف عربية أخرى يوحى البيان بأنها حاولت أن تصطاد فى الماء العكر، تنصف القاعدة قناة الجزيرة مؤكدة أنها «إنما كانت تعرض الرأى والرأى الآخر فى وقت كان الجميع لا يعرضون إلا رأيا واحدا وهو الرأى الأمريكى المفروض».

   وتأسيسا على تاريخ القبض عليه الذى أعلنه الباكستانيون، من المفترض أن رمزى بن الشيبة لم يتمكن من مشاهدة الجزء الثانى من «الطريق إلى 11 سبتمبر»، بل إنه لا يوجد دليل على أنه شاهد الجزء الأول من التحقيق الذى أذيع قبل ذلك بأسبوع. كنت أتمنى أن أتعرف على رأيه فى هذا الفيلم التسجيلى الذى يعود إليه هو نفسه الفضل فى اقتراح فكرته. أما خالد شيخ محمد فمن الواضح، كما جاء فى البيان، أن لديه تحفظات «على بعض الفقرات التى وردت فى برنامجي!!» رغم أنه أبدى إعجابه بالتزام فوده «بجميع العهود والمواثيق التى قطعت عليه، كما أنه كان أمينا فى نقل الأحداث والوقائع التى حصل عليها من جانبنا». كان له هو نفسه أن يسقط فى أيدى الأمريكيين بعد ذلك بستة أشهر، لكن تلك قصة أخرى ــ طويلة.

أبوثائر يدعو فودة لإجراء حوار خاص مع «أمير الجماعة» وحضور وتصوير المقاتلين أثناء المعارك.

• سألته لماذا لا يستطيع «الأمير» أن يقابلنى فى منتصف الطريق؟ فكانت إجابته: نريد أن نثبت للعالم أننا استطعنا تهريبك إلى وسط بغداد.

• بيانات «الجيش الإسلامى فى العراق» أكدت مقتل 1593 جنديًا أمريكيًا و11 ضابطًا وتدمير نحو 300 سيارة «هامر»، و46  مدرعة و15 دبابة حتى نهاية 2005.

• دليلنا الخبير أبو نور نجح فى أن يضلل نفسه فوجدنا أنفسنا معه فجأة فى متاهة عظيمة.

• ونحن نعدو عبر الحدود سقط زميلى وصارحنى بأنه مريض بالربو فأضطررت لحمله.

   قصة أخرى يدلف فودة إلى صلبها دون إهدار وقت فى المقدمات، إنها تلك الرحلة التى «يفخر بها قليلا» ووعد والدته ــ رحمها الله ــ ألا يكررها مرة ثانية ــ بحسب ما قال فى مقدمة كتابه «طريق الأذى ــ من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش»، والصادر حديثا عن «دار الشروق». ويصف فودة فى الجزء الثانى من كتابه ــ الذى يحمل عنوان العبور إلى المجهول «كيف تشعر حين يقودك مهربون عبر حدود دولية فى رحلة غامضة بدأت بدعوة أكثر غموضًا، ممن يُعتقد أنها أقوى جماعات المقاومة فى العراق وأكثرها فتكًا فى أعقاب الغزو الأمريكي» محاولا من خلال ذلك أن يختبر «ما هو أهم من ذلك: تأثير ما وقع فى العراق على جوار العراق، وبصفة خاصة على بلاد الشام».

   تبدأ رحلة فودة فى طريق عبوره إلى المجهول من بار البهو الداخلى لفندق شيراتون دمشق، حيث جلس يتابع وحيدا مباراة لفريقه فريقى المفضل، تشيلسى، فى كأس الاتحاد الانجليزى، فى ليلة من ليالى إبريل من العام 2006، حين كان فى انتظار صديقه عُدى، والذى وصل أخيرًا حاملًا «البضاعة» من سوق الحميدية: «حقيبتا كتف إحداهما طبق الأصل من الأخرى، شالان عراقيان، معجون أسنان، شامبو، بكرتا ورق تواليت، خرطوشة سجائر مارلبورو أحمر (تحولت بعدها بشهر إلى الأبيض عسى أن أقلع عنها)، وصندوق سنيكرز صغير (قوالب شيكولاتة بالفول السودانى يسد واحد منها رمقك حتى موعد الوجبة التالية، وهى التى أنقذت حياتى لأسبوع كامل أيام حرب البوسنة).

   همس عُدى بينما كان يتخذ مقعده إلى جوارى، «من الأفضل أن تقصّر لحيتك كثيرًا».

   كنت قد اضطررت إلى إطلاق لحيتى بناءً على نصيحة «أبو ثائر»، وهو ضابط اتصال فى إحدى كبريات فصائل المقاومة العراقية، عندما التقيته سرًّا فى دولة مجاورة لا أستطيع الكشف عنها الآن.

  ويذكر فودة الوعد الذى تلقاه من أبوثائر «بإجراء حوار خاص مع «أمير الجماعة» الذى سيسمح لى أيضًا بحضور وتصوير عدد من «المشاهد الملتهبة» مع مجموعة من المقاتلين».

    وحينها يسأل: «ولكن، لماذا لا يستطيع «الأمير» أن يقابلنى فى منتصف الطريق؟.. «يستطيع، بكل تأكيد»، رد أبو ثائر مفعمًا بالثقة مستاءً من سؤال يوحى ظاهره بأن «أميره» قد يكون عاجزًا عن فعل شيء ما، «لكننا نريد أن نثبت للعالم أننا استطعنا تهريب يسرى فودة إلى وسط بغداد!». انطلقت من بين أسنانى فجأة كلمة إنجليزية شهيرة مكونة من أربعة أحرف، أولها F وآخرها K. «وماذا عن هذه المشاهد الملتهبة؟ مضغوطًا نحو إجابة واضحة، خلع أبوثائر نظارته لدقيقة وطرح الأمر عاريًا وهو يهمس: «لأول مرة فى تاريخ أى تنظيم سنفتح لك الباب لحضور وتصوير جلسة يقوم بعض الإخوة أثناءها بالتخطيط لإحدى العمليات العسكرية ثم نصطحبك معنا أثناء التنفيذ». فى أقل من ثانية صدمته إجابتي: «شكرًا جدًّا، ماعطّلكش!».

   أمام ضريح خالد بن الوليد فى حمص أثناء الرحلة من دمشق إلى الحدود العراقية
بداية الرحلة فى السابعة والنصف صباح يوم الأحد 23 أبريل من عام 2006 يغادر فودة الفندق متوجها إلى «جامع صلاح الدين»، حيث كان ينتظر فى زاوية هادئة قرب المدخل الرئيس للجامع، ليمر بهما رجل فى أواسط العمر «ألقى فى اتجاهنا بأمر التحرك: «خذا تاكسى إلى ميدان... وسأراكما هناك».

  لم نكد نهبط من التاكسى فى إحدى زوايا ذلك الميدان فى دمشق حتى تلقفتنا سيارة من نوع GMC (يسميها العراقيون «جيمس»). من موقعه فى المقعد الخلفى مد أبوليث ــ وهذا اسم رجلنا، الذى أنا متأكد أنه اسم حركى ــ يديه فجذب أمتعتنا قبل أن يساعدنا على الدخول بسرعة إلى المقاعد الخلفية.

   «أعطونى كل ما معكم ــ بدءًا بالهواتف المحمولة»! أتى صوت آمر من المقعد المجاور لمقعد السائق أمامنا. لم يكن ليقدم نفسه، ولو حتى باسم حركى، فقررت أن أسميه «بابا». بينما انطلق السائق بنا مسرعًا.. هز عُدى رأسه مطمئنًا فبدأت فى إخراج ما فى جيوبي(..) بينما بدأ الرجل الغامض فى فك هواتفنا وتفريغها من بطارياتها (..) فيما بدا خطة مرسومة، توقفت السيارة فى مكان ما فى وسط دمشق. (..) هبط (بابا) من السيارة فى خفة.. أخذ متعلقاتنا عدا حقيبتى الكتف ونقلها جميعًا إلى سيارة أخرى انحدرت فجأة إلى جوارنا من خلف أحد الأبنية. «ليس لديكما مانع فى أن نفتش متعلقاتكما، أليس كذلك؟». هكذا صرخ همسًا بينما تحركت بنا السيارة وكأن لدينا خيارًا.

  «هذا هو أبو هادى»، قالها أبوليث الذى اتخذ الآن المقعد الذى كان يشغله بابا وهو يشير إلى السائق، «سيقودنا إلى منطقة الحدود لكنه لن يعبر معنا».

  عدى وأنا نستمع إلى الخطوة التالية بعد دقائق من عبور الحدود مع المهربين إلى حمص.

   تطوف السيارة بفودة عدة بلدان، تبدأ بمدينة حمص بعدما كان على مرمى 190 كيلومترًا شمال شرقى دمشق، ما يعنى أنه سيتجه إلى الشمال الغربى فى الاتجاه العكسى لمسافة 150 كيلومترًا، فى حين أننا كان سيوفر 215 كيلومترًا لو كان توجه مباشرةً من دمشق شمالًا إلى حمص.

  وفى مدينة حمص يستوقفه مثوى الصحابى الجليل، القائد العسكرى الأسطورة، خالد بن الوليد، الذى أسبغ عليه الرسول (ص)، لقب «سيف الله المسلول».

  يستغرق فى التفكير حتى يفيق على صوت عُدى وهو يشير بيديه من نافذة السيارة: «انظر! حماه!».. «اثنين كيلو كباب واثنين كفتة»، هكذا صاح أبو ليث غاضبًا على الهاتف فى شخص ناداه باسم أبو راشد، «ومن الأفضل لك أن تُسرع فسوف نعبر فى اتجاهك بعد عشرين دقيقة». وبعد عشرين دقيقة كانت سيارتنا تقطع قلب مدينة حلب التى بدت فى تألقها كعروس ليلة الزفاف. هذا العام، عام 2006، اختيرت حلب عاصمة للثقافة الإسلامية.

   وبعدها يصل إلى «القامشلى»، أبعد بلدة فى أقصى الشمال الشرقى لبلاد الشام. إلى أين من هنا إذًا؟ إلى تركيا؟ أم مباشرةً إلى العراق. وهنا يقول: «بعد مغامرة صغيرة وجدنا أنفسنا فى منزل آمن على بعد حوالى خمسة عشر كيلومترًا من حدود سوريا مع العراق. لحسن الحظ.. بتنا ليلتنا على حدود ثلاث دول مسلمة بعدما وصلت الرسالة من شبكة المهربين على الجانب الآخر: ساعة الصفر غدًا قبيل غروب الشمس.

    ويرتدى فودة دشداشة (جلباب) من نوع تلك التى يستعملها العراقيون فى المناطق التى المتوقع أن يمر بها، لتنقله سيارة نصف نقل صغيرة من نوع إلى حافة الحدود. «يسترنا الآن كوخ صغير يملكه مهرب آخر اسمه أبو زيد. همس لنا أننا سنبقى هنا قليلًا انتظارًا لتلك البقعة العمياء من الزمن بين غروب الشمس وحلول الظلام، وهى فترة لا هى بالليل ولا هى بالنهار، وعندها فقط، سيكون علينا أن نهرول هرولة الخبب شبه منبطحين لمسافة أربعمائة متر تقريبًا فى اتجاه هذا الساتر الترابى الذى يقع فى منتصف المنطقة الفاصلة والذى نستطيع الآن تمييزه من بعيد. بعدها سيكون علينا أن نتسلق الساتر كى نهبط منه ونستكمل المسيرة بالطريقة نفسها على الناحية الأخرى.

    «يلاّ! يلاّ!» همس أبو زيد بنبرة حاسمة متعجلة وقد اتخذ طريقه أمامنا فى بداية رحلة العبور.. «أسرع! أسرع!» التفتُّ ورائى وأنا أحث عُدى بلهجة حازمة بعد أن لاحظت اتساع المسافة بيننا. وعندما أبطأت من خطوى كى يلحق بى اكتشفت أنه، وقد بدا متعبًا، كان يستند فى مشيته إلى كتف أبو ليث.

   اقتربت من عُدى للتأكد من حالته.. لدى تلك النقطة كان عُدى قد هوى إلى الأرض وهو يقول لى بصوت منكسر: «لقد خذلتُك!». اقتربت منه وأنا أتحسسه منبطحًا فارتطمت أصابعى بما شعرت أنه دمعة انحدرت على جانب من وجهه. «إيه شغل العيال ده؟!».. لكنه سرعان ما أجبرنى على الشعور بالقسوة وانعدام الإحساس عندما استطرد معترفًا: «كان ينبغى عليّ أن أخبرك من البداية أننى أعانى من مرض الربو». المهرب المحترف انفجر فى وجهي: « إذا تأخرنا كل هذا الوقت ستفشل الخطة كلها»! لكنه حتى قبل أن يكمل اعتراضه كان قد قرأ فى عينيّ أننى لم أكن لأترك صديقى خلفنا مهما كلفنا الأمر.
قضّيت الدقائق الثمينة التالية فى تدليك عُدى من صدره إلى ساقيه وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة.. حمل أبوزيد حقيبة عُدى بينما حملت أنا عُدى نفسه بمساعدة من أبوليث ونحن نمضى فى طريقنا متوقفين كل عشر خطوات لمزيد من التدليك.

    وما لم نكن نعلمه حتى تلك اللحظة أن مجموعة صغيرة من السعوديين كانت من المفترض، وفقًا لتخطيط المهربين، أن تلتحق بنا عند تلك النقطة كى تعبر معنا فى صحبة المهربين. انفتح صوتى رغمًا عنى: «نعععممم!؟ ألم تحصلوا منا على ما يكفى من المال كى يدفعكم الجشع إلى...»..«وعندها تعمدت أنا أن أبالغ فى رد فعلى، بينما كانت تدور فى ذهنى فكرة مثيرة: يا لها من فرصة إذا استطعت أن ألتقى بهؤلاء المجاهدين كى أسألهم سؤالًا أو اثنين!».

    بعد قليل وصلنا منهكين إلى قمة الساتر الترابى.. ارتطمت أقدامنا بالأرض أسفل التل وقد ملأتها الحشائش وأنفاس رجلين يرتدى كل منهما ثوبًا أبيض عليه إزار من الجلد البنى يمتد من الكتف اليسرى قطريًّا إلى أسفل كى يلتف حول الخصر. بدا كل منهما فى هذا اللباس النمطى كأنه حارس بدوى أو جندى هجانة.. استنهضنا أحدهما قائلًا: «ستذهبون مع زميلى بينما سأتولى أنا أمر المجاهدين». كان هؤلاء قد اختبئوا بين الحشائش أمامنا بمسافة قصيرة. لم أكن متأكدًا من رد فعله لكننى جربت حظى على أى حال: «هل لديك مانع فى أن أصطحبك إلى حيث المجاهدون؟» ولحسن حظى لم يكن لديه مانع.

  ويرفض المجاهدون الخمسة الحديث إلى فودة: «نحتاج أولًا إلى تصريح من أميرنا». لكن أميرهم فى داخل العراق. من وأين ومتى؟ لا يفصحون. حتى متى سيبقون فى العراق؟ حتى «إحدى الحسنيين». هل يتوقعون أن يلحق بهم مزيد من الأخوة؟ نعم، كثير منهم.

لحظ الوصول إلى الجانب الآخر من الحدود السورية العراقية

المتاهة

   يعود فودة مع مرافقه إلى احد الأكواخ، حيث ينتظره عُدى وأبوليث وأبوزيد جالسين على الأرض وإلى جوارهم وجه جديد.. «بعدها قدمنى أبوليث للوجه الجديد باسطًا فى الوقت نفسه جانبًا من تفاصيل الخطوة القادمة». «سنبيت ليلتنا هنا، وسيأخذنا أبونور فى الصباح الباكر إلى نقطتنا التالية».

   أبونور فخور بما يقوم به.. وفخور بكل تأكيد بإنجازات «الجيش الإسلامى فى العراق» على مدى السنوات الثلاث الماضية. وفقًا لإحصاءات هذا التنظيم، التى لا نستطيع تأكيدها من مصادر أخرى: استطاع أعضاؤه أن يقتلوا 1593 جنديًّا أمريكيًّا و11 ضابطًا. كما استطاعوا تدمير نحو 300 سيارة من نوع «هامر»، و46 سيارة مدرعة و15 دبابة. هذه الأرقام، وفقًا لهم، فقط حتى نهاية عام 2005. ولو صح هذا، فإن الأمر لا يحتمل إلا واحدًا من اثنين: فإما أن وسائل الإعلام تغط فى سبات عميق أو تواطؤ أعمق، أو أن البيت الأبيض يقوم بمهمة «رائعة» فى التضليل. وأيًّا ما كان أيهما أو مزيجًا منهما، فإن من شأن أمر كهذا أن يزعج أبومشتاق الزبيدى.

   «باعتبارى رجلًا فى الميدان، أرى بأم عينى أعداد القتلى وكم الخسائر (الأمريكية). أرفع جثة بيدى هاتين، جثتين، ثلاث جثث، بيدى هاتين، وأعرضها على العيان وأنتظر. هل يجد هذا طريقه إلى وسائل الإعلام؟ هل يعلق الجيش الأمريكي؟ وأقسم بالله لا يتحدثون عن شيء. إنها بالمئات ولكن الجيش الأمريكى لا يعلن عنها».
بعد صلاة الفجر بقليل، دلفنا فى هدوء إلى سيارة أبونور الصغيرة التى كانت مختفية وراء الكوخ. أبوليث فى مقعد القيادة وصديقه إلى جواره يتولى شئون الملاحة، بينما استترت مع عُدى فى المقعد الخلفى».

    الخبير المحلى، أبونور، فى أجواء قابضة كهذه، بينما كان يحاول جاهدًا أن يقودنا بعيدًا عن الطرق والمناطق المشتبهة، نجح فى أن يضلل نفسه فوجدنا أنفسنا معه فجأة فى متاهة عظيمة. كنت قبلها قد بدأت لا أستريح له لاعتماده على التخمين أكثر من المعرفة.. لكنه فصلنى عنه عندما وجد فى نفسه من اللا مبالاة فى تقدير خطورة الموقف حدًّا دعاه إلى أن يقترح فجأة أن نتوقف لدى أقرب منزل بحثًا عن طعام.

   «إيه؟ أكل؟ دلوقتي؟! إحنا عارفين إحنا فين أصلًا؟».. بدأت أعصابى تنفلت وأنا أمطره بأسئلة أدركت بعد قليل أن قدرتها على الإحباط وإثارة الذعر أكثر من قدرتها على احتواء موقف سخيف فى تجربة خطيرة. هدأت نفسى قليلًا قبل أن تنطلق مشتعلة مرة أخرى، هذه المرة عندما طلب عُدى وهو يهز كتف أبو نور بيده حثيثًا ويمسك بطنه بيده الأخرى أن يأخذنا هذا إلى أى مكان بسرعة كى يقضى حاجته. «نعععععم يا بابا؟! اعملها هنا فى العربية ومش عايز أسمع صوتك تاني»، انفجرت فيه، «واحد عايز يا كل وواحد عايز.... ونتا (ناظرًا لأبوليث) مش عايز شيشة؟». انفجروا ضحكًا بينما لم أجد أنا ما يثير الضحك.

   عينة من ترسانة منير المقدح (مؤسس كتائب شهداء الأقصى) فى مخيم عين الحذوة بلبنان تُهنا، هكذا تُهنا. ظل أبوليث يقود بنا على غير هدى، ثم بعد قليل ظل يقود بنا على غير هدى على الإطلاق. لمعت فى وسط ذلك فكرة فى ذهن أبونور فأمر أبوليث باتخاذ طريق بعينه وهو يكاد يفقأ عينه بيده التى كانت تشير إليه وهو يردد له مكررًا أن له صديقًا فى قرية سنية على مقربة من هنا. ذلك الطريق الذى أشار إليه كان يعنى، مثلما سنكتشف بعد قليل، صعود جبل سنجار. ناضلت السيارة الصغيرة القديمة المتهالكة وهى تنحر قلبها صعودًا بينما لا أتوقف أنا عن ترديد آيات من القرآن كى أكتشف أننى مازلت أحفظ منه الكثير.

  الحمد لله، استمرت السيارة فى الصعود، وكلما صعدت زادت كثافة الضباب حولنا إلى أن بلغنا نقطة من الجبل لم نكن نستطيع لديها أن نرى أمامنا بأبعد من مترين. ليت الطريق كله كان كذلك. عندئذ طلبت من أبو ليث أن يركن جانبًا ودفعت عُدى إلى خارج السيارة: «اتحرك، روح... وارجع بسرعة»، بينما أسرعت أنا والباقون فى اتجاهات مختلفة نفعل الشيء نفسه.

  ينطلق قائد سيارتنا أبوليث، وقد استراح كثيرًا بعد أن قضى حاجته، فى ترديد نشيد بالعامية مفعم بالعاطفة. هكذا غنّاه على مسامعنا:

«أميرِنا المُلا / عن دينُه ما تْخلّى

كل الجنود بايْعوه / أرواحِنا لله».

ولم يلبث أبونور عندئذ أن انضم إليه فى الإنشاد:

«قائدْنا بن لادن / يا مُرهب أمريكا

الشيخ أبو مصعب / أخدنا للجنة».

    اختلف الطريق الآن بعد أن وصل بنا أبو نور إلى منزل صديقه المهرّب المحلى. دس بين يديه ورقة بنكنوت خضراء، مقدارها مائة دولار أمريكى، كانت كافية كى يقفز هذا مسرعًا إلى سيارة ربع نقل من نوع تويوتا ويقودها أمامنا مرشدًا. بالنسبة لنا لم تكن تلك صفقة سيئة رغم أن كل ما فعله كان أن قاد سيارته فى اتجاه الصحراء لمسافة لا تزيد على عشرة كيلومترات، لوّح لنا بعدها إلى الأمام بينما عاد هو أدراجه من حيث أتى.

  الخريطة التى رسمتها بعد ذلك لتوضيح مسار الرحلة التى بدأت من دمشق وانتهت قرب بيجي أومأ لنا أبو نور الآن مطمئنًا بأنه يتذكر الطريق من هنا. لكن الطريق من هنا كان سلسلة أخرى من العذاب لمدة ساعتين من القيادة على «اللا طريق» معجونين فى عاصفة لا نهاية لها من التراب والرمال.. إلى أن وصلنا أخيرًا إلى قرية صغيرة يقال لها «الخضر»، وهى قرية عشائرية تقع على الضفة الغربية لنهر الفرات، هنا ترجل أبو نور مصطحبًا إيانا إلى غرفة منفصلة قائمة بذاتها إلى جوار ما اكتشف الآن أنه منزله. كانت إشارة الهاتف الخلوى شبه منعدمة، لكن أبوليث استطاع بعد محاولات حثيثة أن يلتقط إشارة نحو رقم فى بغداد مستخدمًا واحدًا من البطاقات الرقمية الكثيرة التى يحتفظ بها أبو نور. أحدهم إذًا، كما نفهم من ذلك المصدر فى بغداد، سيكون فى انتظارنا غدًا صباحًا على قارعة الطريق كى يصطحبنا من منزل أبو نور إلى بلدة «بيجي» على الطريق من الموصل إلى بغداد.

  أنّى لى فى تلك اللحظات أن أتخيل نفسى محتضَنًا فى منطقة من العراق صارت بعد أقل من عشر سنوات حاضنة طبيعية لمن صار تنظيم القاعدة بالنسبة لهم حمامة سلام.. داعش؟.




يسرى فودة :

   من مواليد منشية جنزور، طنطا بمصر درس يسرى فودة الاعلام فى جامعة القاهرة، وقام بالتدريس فيها بعدما عين معيدا بالجامعة عام 1986, ومنها انتقل الى الجامعة الاميركية فى القاهره وحصل منها على درجة الماجستير فى الصحافة التليفزيونية عام 1992, واثناء ذلك حصل على دبلوم الانتاج التليفزيوني من معهد التدريب التابع للتليفزيون الهولندي.

  وفى عام 1993 حصل على منحة لدراسة الدكتوراة من جامعتي جلاسكو وواستراتكلايد فى استكلندا وكان موضوع الرسالة "الفيلم التسجيلىي المقارن".

   ثم انضم فودة إلى التليفزيون البريطاني ال BBC, لدى انشائه فى عام 1994 واختير كأول مراسل يتحول للشؤون الدولية قام أثناءها بتغطية حرب البوسنة ومسألة الشرق الأوسط. كما عمل أيضاً أثناء هذه الفترة التي امتدت حتى عام 1996م مذيعاً ومنتجاً في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية في برامج الأحداث الجارية، وانتقل بعد ذلك إلى تلفزيون وكالة أنباء أسوشييتد برس حيث شارك في إنشاء قسم الشرق الأوسط. والسي ان ان.

  ثم التحق بالعمل فى قناة الجزيره فى عام 1996 وبدأ منذ شهر فبراير 1998م في إنتاج برنامجه الشهري سري للغاية الذي استقطب بموضوعاته وبطريقة معالجته كماً هائلاً من المشاهدين على اختلاف مستوياتهم وقد حصلت أولى حلقات هذا البرنامج على الجائزة الفضية لمهرجان القاهرة للإنتاج الإذاعي والتلفزيون للعام نفسه، وحصل مجمل حلقاته على جائزة الإبداع المتميز من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 2000م.

ثم استقال من القناة عام 2009م اكتسب شهرة كبيرة في برنامجه "سري للغاية" ومن أبرز القضايا التي غطاها كانت قصة طائرة مصر للطيران التي تحطمت في رحلتها بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية بالإضافة لقضية الموساد وقضية وفاة عبد الحكيم عامر الرجل الثاني في عهد جمال عبدالناصر وأحداث 11 سبتمبر 2001 وقضايا أخرى.

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة