الجمعة، 29 سبتمبر 2023

من شتات الذاكرة - حسين نصيب المالكي

  


من شتات الذاكرة

     

 

حسين نصيب المالكي

 

 

دار الشرق - طبرق

 

 

الطبعة الثانية

 

 

2023م

 



 

مرحلة الطفولة والنشأة 

الحطَيّة

عندما ترجع بك الذاكرة إلى الوراء عشرات السنين، وتتذكر ما حكاه لك والدك عن حي الحطَيّة، وكيف ضربت مطارق السلف أوتادها في الصخر عند قدم الجبل، وحول مقبرة الجدارية خارج سور المدينة، وكيف كانت في تلك الفترة مجرد نجع صغير، من الخيام وبيوت الشعر، وكيف كان الأهالي يساعدون المجاهدين بالمؤن والسلاح ، للدفاع عن أرضهم ضد الغزو الإيطالي، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ،بين الحلفاء والمحور على الأراضي الليبية، أخذت تختفي خيام الصوف والوبر، والقماش الزاهي من فوق رؤوس أهلها رويدا رويدا ، وحل محلها  أكواخ من الصفيح، وبيوت من صناديق الذخيرة الفارغة، وبضعة بيوت من الحجارة لبعض الأهالي الأغنياء ، وكيف زحفت البيوت حتى سوق العجاج ، مع مرور السنوات انتشرت الأكواخ فوق الرَّبوة، من الشرق كانت تحدها سَبخة مالحة، ثم الطريق الرئيسي، فالبحر كان يحيط بالمدينة من ثلاث جهات، فهي شبه جزيرة، تمدّدت الأكواخ حتى اختلطت بحي سوق العجاج في الغرب، السكان كانوا خليطاً من مختلف القبائل والمدن الليبية حتى من الزاوية وزوارة .

تبدو أكواخ الصفيح بالحطَيّة متلاصقة، ذات نوافذ صغيرة واطية، تفصل بينها أزقّة ترابية ضيقة، ومسارب من المجاري، وجدت نفسك تعيش في مدخل الحي في كوخ صغير، وجنوبه أكواخ متلاصقة، وفي غربه كذلك الأكواخ ،  ثم الشارع الصغير الذي يشق منتصف الحي.

وجدت نفسك وسط أسرة صغيرة فقيرة ، مكونة من أب طيب نحيل العود متوسط القامة، يصحو من الصباح الباكر كل يوم، يتوضأ ويصلي الصبح، ويتناول إفطاره، يرتدي معطفه الباهت، ثم يغدو إلى عمله، مشيا على قدميه في الحامية البريطانية ، يشتغل عاملاً هناك ، قبل مغيب الشمس يعود إلينا بالبسكويت، وخبز الإنجليز الرطب، وأم ودودة طيبة قصيرة القامة، ترعى شئوننا أنا وأخي الصغير ، أشعر أن لي مكانة خاصة عندهما، فأنا أولُ العنقود والطفل المدلَل لديهما، قبلي أنجبت أمي عدداً من الأبناء والبنات، لكن لم تكتب لهم الحياة.

تقول البطاقة: إنني فلان.

ابن فلان.

وعشت في هذا المكان.

في كوخ.

به  ثلاث حجرات

في واحدة  يقطن الوالدان.

وهما فقيران.

من كل شيء.

عدا طيبة النفس والحنان.

ما أن وصلت سن الثامنة من عمري، حتى كنت أهرول في فصل الصيف ، كل صباح مع إشراقة الشمس، إلى مكبات القمامة والوديان القريبة ، ومعي الفخّ والنشَابة ،بثوبي القصير وسروالي الأبيض، حيث ألتقي رفاقي هناك،  كنا نبحث عن الدود الأصفر في الأماكن الرطبة.. أنصب فخي المعدني في وادي الجدارية، وبه الدودة الصفراء السريعة الحركة وهي تتلوى ، أدفنه تحت التراب كاللغم ، أراقب بعيني كل الطيور التي تحط.

ما أن لمحت الطائر بوحمرة يقف على الناطور، حتى أخذت أطارده، أقفز خلفه، أجثو على الأرض، أحبس أنفاسي خوفًا من أن يطير، أخاطبه في خُبثٍ ودهاء بصوت عال:

-    يا بوحمرة عدي غادي.. غادي أشوي أشوي شور الناطور.. تلقي دودة.. دودة جاعور صفراء وادور.

وكأن الطائر كان يفهم لغتك، وتنطلي عليه حيلتك، يظل يقفز ويتطاير، حتى يقترب من الفخ المخفي في التراب، والذي لا يبدو منه شيئا ظاهرا، سوى تلك الدودة الصفراء، يقفز نحوها ،يقترب منها، يهجم عليها، ينقر الدودة عدة نقرات، وفجأة يطبق عليه الفخ، يظل الطائر ينتفض ويتخبط ، مثيراً زوبعة من التراب، محاولاً الفكاك من الفخ، لكن لا فائدة من كل ذلك، سرعان ما أهرول نحوه وأقبض عليه، في زهو وانتصار، أخلصه من الفخ وأذبحه بشفرة في يدي، ثم أبحث بعد ذلك عن طائر آخر غيره، وقبل غروب الشمس بقليل أعود إلى الكوخ، بثوبي وسروالي اللذين تحولا إلى اللون الرمادي، ومعي بضعة طيورأخرى صغيرة، تعترضني أمي عند الباب، وهي تُحَمْلِقُ في سروالي المغبر، وتهتف بي غاضبة:

-    وسَخت ثوبك وسروالك  في الكناسة طوال النهار.

كنت لا أبالي بغضبها، أبحث عن علبة الكبريت، أقوم برمي عصافيري التي اصطدتها على جمر الكانون أمام الكوخ، بعد دقائق ألتهم لحمها أنا وأخي الصغير.

        وعند انتهاء موسم صيد الطيور، في وديان بوحبلة والجدارية، كنت ألعب مع رفاقي بالبطش الزغد، أو بتصاوير الفنانين والمشاهير، أو بتلك العربات الصغيرة، التي كنا نصنع عجلاتها من علب الحليب الفارغة، أو مغاطي القازوزة، أو نلعب بكرة الجورب في ملعب الحطية ، أو نطارد الجرابيع في سبخة الحطيّة.. وعندما تختفي في سراديبها وممرَاتها، كنا نمد أيدينا داخل تلك الحفر، دون خوف من أن تلدغنا عقرب أو يلسعنا ثعبان، ونخرجها ونذبحها بشفرة الزجاج، ونشويها على نار حطب الرِمْث الهادئة، ونلتهمها في لذة ونشوة.

        كان والدي ينام مع أمي في غرفة، وأنام أنا مع أخي الصغير في الغرفة الثانية، كما أنجبت أمي بعدي بسنوات طفلة صغيرة، كتبت لها الحياة هي الأخرى، ثم أنجبت طفلاً آخر حيث أصبحنا ثلاثة أولاد وبنتاً واحدة، في تلك الكوخ الصغير، وعندما يأتي فصل الشتاء، وتهطل الأمطار بغزارة، تمتلئ ساحة الحوش الغير مسقوف بمياه المطر، نضع الأواني تحت قاطر المطر .

        عندما كبرت تعرفتُ على المحلات التي كانت ترسلني إليها أمي، لشراء الكَيْروُسين، والفحم، والحليب، والزيت، والسكر والشاي، والطماطم والملح، والجبن وغيرها، والتي من بينها محل العجيلي، ومحل ابعيو، ومحل القري ،ومجزرة سي بلقاسم المالكي الوحيدة في الحي، ومحل بن طاهر، ومحل بن عيسى، ومحل عقيلة الشاعري، ومحل الدايخ، ومحل الفقيه سالم، ومحل الصادق، ومقهى النعيري، ومقهى لبيدي.

        كانت الحطيّة في تلك الفترة عائلاتها معروفة، أكواخها مشرعة الأبواب دائماً، شيوخها يفترشون الأرض، بالقرب من مسجدها الوحيد يتجاذبون أطراف الحديث، أو يلعبون الشَيْزَة بعد صلاة العصر، وحتى آذان المغرب، ينهضون يتجهون نحو المسجد، يؤدون صلاة المغرب جماعة، ثم ينصرفون إلى بيوتهم، حيث ينام أهالي الحي بعد العشاء، على أضواء فنارات القاز الخافتة.

        في الحي كانت هناك عدة حنفيات المياه العذبة ، واحدة في الوسط أمام كوخ صالح بو امهدي، والثانية في الجنوب الشرقي أمام كوخ خليل الشاعري، والثالثة في الغرب أمام كوخ فرج بو واجده، كانت تلك الحنفيات كانت ملتقى للشباب والشابات، الذين يقبلون عليها من أجل جلب  المياه لعائلاتهم ، سواء في براميل صغيرة أو كبيرة، وكان من واجباتي عندما كبرت جلب مياه الشرب، من الحنفية القريبة إلى أهلي ، على حمارنا الأَشْهَب في جالونين .

        ومع ضحى كل يوم جمعة في الحطية، كنت ألمح العربات العائدة من المدينة، محملة بالأهالي، أو الحطب تشق طريقها وسط الحي، مثل: عربة بوحرق، وعربة بوالشقرا، وعربة سي رحّومة، الذي كان يقوم بنقل أكياس الدقيق للمخبز الوحيد في الحي، وعربة قاز سي المقرحي الطويل القامة، القمحي البشرة، الذي يبدأ مسيرته من الصباح بالحي، وهو ينادي بصوته الجهوري: - قاز. قاز للبيع.

        عربة سي المقرحي، التي كان يُجَرْجِرُها حصانُه البني اللون، صهريجها مطلي باللون الأحمر، قد كتبت عليه كلمة قَاز للبيع، وببطنه عجلتي لاندروفر، والصنبور النحاسي في الخلف.

 يبيع سي المقرحي القاز لأهالي هذا الحي، والأحياء المجاورة، التي لم تكن قد دخلتها الكهرباء بعد، كان الكيروسين من الأشياء الضرورية للطَّهو، وكذلك الإضاءة بالفنارات، وحرق النفايات، ومطاردة الصراصير والبَقّ، وتستعمله نساء الحطية في كدّ الشعر وتسريحه.

سي المقرحي يملك منزلاً واسعاً، بجوار منزل عائلة ارحيمة، و عائلة لبيدي وغيرهما.

كان له العديد من الأبناء والبنات، كانت تربطني بهم علاقة وطيدة، وصداقة متينة ، خاصة مع ابنهم محمود، الذي كان في مثل سني، كانت عمتي مبروكة تنهض باكراً، خاصة يوم الجمعة من كل أسبوع، تقدم لنا عند الضحى العَصِيدَة بالرب، في قصعة من الخشب، ما ألذَّ طعمها!.

وقبل الظهيرة كان يفك محمود قيد حصانهم البني اللون، حيث نتجه به معاً إلى شاطئ طبرق، حيث نقوم بالسباحة، كما يقوم محمود بغسل الحصان بمياه البحر، أوقات جميلة كنا نقضيها على شاطئ بحر طبرق في الصيف، ننعم بالسباحة في مياهه الدافئة، ورماله الناعمة البيضاء، التي لم تكن تسربت إليه مياه المجاري في ذلك الزمن الجميل ، تظل سنوات الطفولة بالنسبة لي مرجعاً للحنين، وتربة خصبة للذكريات الجميلة، على الرغم من الفاقة والفقر المُدقِع الذي كنا  نعيش فيه .

سالم الأسطى

أطلق عليه اهل الحطية لقب الأسطى سالم ، فهو حرفي ونجار متمكن ، وصنايعي من الطراز الأول، يقوم بأنتاج الدولايب، والنوفذ والأبواب الخشبية ، وصناديق بورنة ، عرفناه ماهرا في صناعة الاثاث المنزلي،  وتطويع الأخشاب ، الأسطى سالم العمامي ، قدم من الغرب من زليطن ،واستقر في الحطية ، وبنى رشته داخل منزله، حيث يمتلك غرفة واسعة، وحمام ، ومطبخ ، وللكوخ بابين ، يطل احداها على منزل الذيب الشاعري شمالا، ومنزل مساعد المالكي شرقا، ومنزل عائلة عبدالكريم الشلوي غربا ، وشرقا منزل عبدالقادر بوكراع، ومنزل خليل الشاعري، وجنوبا منازل عيت بواشعفه .

كان يتقن حرفته النجارة، ولايستعين بأحد، فهو معلم من معالم الحطية ، الأسطى سالم كل سكان الحطية كانوا يعرفونه جيدا، أحلى اكلة لديه كانت هي المكرونة السباقيتي ، يضعها كما هي في الطنجرة على النار، ويأكلها بالشوكة ،وعليها الصلصة الحارة، أيام أن كان أعزبا .

وكان في كل عام من شهر رمضان، تحضر الي داره فتاة من فتيات الحطية ، تواظب كل عصر بالحضور الي كوخه  ، وتطهو له وجبة الأفطار ، في مطبخه الصغير طيلة شهر رمضان، وتعود إلى بيتها قبل الافطار .

وقبل عيد الفطر بيوم واحد، كان يذهب إلي محل بن طاهر، ومحل بن عيسى في الحطية،  ليشتري لها ملابس العيد حينذاك ، هدية لها ، وهي عبارة عن ثوب نسائي،  ورداء حرير ، ووشاح اومحرمة، وحذاء وجوارب .

وفي فصل الشتاء كانت تهطل الامطار بغزارة ، على الحطية فتغرق بعض الاكواخ ، ماعدا غرفته الواسعة ، وورشه النجارة ،لاهتمامه بسطحهما وفرشهما بالبلاستيك النايلون ، وردمها بالتراب قبل حلول فصل الشتاء .

(جدتي مكاسب كانت دائما تذكره لنا، كانت تقول لنا عندما كنتم صغارا في فصل الشتاء، وكان كوخنا بجواره وعندما يغرق من المطر، قالت حملني ابنائي للأسطى سالم قائلين له :- هذه العجوز خليها تبات عندك الليلة حتى الصباح .يكرمني الأسطى سالم ببطانية جديدة من عنده ، ويترك لي سريره الضخم ، وينام هناك في زاوية الغرفة ، ولم يشعل سيجارة واحدة تلك الليلة، احتراما لي .  ومع الصباح وقبل مغادرتي كوخه ، يطل علي بالشاي الساخن والحليب والخبزة .

كان يردد دائما عندما يحاسبه اي مواطن عن عمله، ويحاول أن يخفض من سعره بضعة قروش، كان يقول له الأسطى سالم قائلا :- القرش قبل الجنيه وهو أهم عندي يخرب الجنيه عندما لايدفع القرش .

كان لديه أبناؤه، يزورونه  في طرابلس ، من زوجته الأولى ، التي تركها  هناك يزورونه في السنة بين الحين والآخر، عند ذهابهم لمصر في شاحنات كبيرة، أو عند رجوعهم منها .

من طرائقه إنه سافر ليتزوج من مصر، أقبل عليه رجل يرتدي بدلة ، ورباط عنق، وخاطبه قائلا:- عايز حاجة حلوة ياحاج ؟.

نظر إليه في غضب قائلا :- لا عايز حاجة مرة .

وتزوج الأسطى سالم من هناك بامرأة، أنجبت له ولدين أحدهما الأكبر اسمه محمد، و كانت تناديه أمه يا حمو، فارق الحياة بعد أن كبر، والثاني عبدالسيد، وهو على قيد الحياة متعه الله بالصحة ، يسكن في الحطية .

 

  تحميل


 mediafire



t.me


https://t.me/Torbruk_Library/25







ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة