الأدوات الفنية في شعر نزار قباني الجزء الأول ( اللغة الشعرية )
إعداد علاء البربري
شاعر مصري وناقد أكاديمي متخصص في النقد الأدبي
الشاعر السُّوري نزار قباني واحد من الشعراء الذين أثروا حياتنا الأدبية لأكثر من نصف قرن من الزمان ، وفي الحقيقة نزار يعدُّ مدرسة شعرية لها سماتها الفنيّة التي تميزها .
فعلى المستوي الموضوعي دار شعر نزار قباني حول عدة محاور أهمها : ( المرأة – الوطن – الحرية ) واشتبكت هذه المحاور في شعره بحيث تعد محاولة فصل هذه المحاور عن بعضها تشويه لشعر ه وبترا لأحد أعضاء قصائده وتشويه القصائد .أما على المستوى الفني- وهو موضوع دراستنا في هذا السلسلة – فقد تميز نزار بلغته الشعرية وصوره وموسيقى قصائده حتى أنك تقرأ قصيدة لأول مره ليس عليها توقيع نزار ولكنك بسهوله تستطيع أنْ تتعرف على صاحبها وهذا ببساطة شديدة يشير إلى تميز المعجم الشعري لنزار قباني ،،، ولنا أنْ نتساءل ما الأسباب التي تميزُ المعجم الشعري النزاري ؟؟
وهذا ما سيحاول البحث الكشف عنه فيما سيأتي ـ من خلال مناقشة بعض الظواهر الفنية في المعجم الشعري عند نزار :
أولاً : (التجديد) :
حاول نزار منذ البداية أن يكتب شعرًا متميزا لا يشبه فيه أحد ولا يرتدى فيه عباءة الشعراء الآخرين بل خرج من عباءة الشعراء ولبس زيه الخاص به ،، لأنه ببساطة كان يكره التقليد وكان لديه اعتزاز كبير بشخصه وفنه ومن هنا راح يطلب لنفسه التفرد وهذا ما جعله يبحث عن لغة متميزة ،، لا أقصد لغة غير العربية وإنما أقصد أن راح يفتش بعمق ٍ في مفردات اللغة بحثا عن مواطن الجمال في تلك المفردات وينفخ فيها من روحه و يغمسها بشاعريته فتخرج لنا لغة جديدة تدهشنا وكأننا نراها ونسمعها لأول مرَّة ،، وليس الجمال في المفردة بحد ذاتها فالكلمات كما قال الجاحظ: ملقاة في عرض الطريق ،، إنما المهم هو كيف يوظف هذه المفردة في تعبيراتها وكيف يوظفها في سياق القصيدة ،، والأهم هو المعنى الذي سيرتدى هذه المفردات ،ويتجسد من خلالها ،استمع إليه وهو يقول :
خذوا جميعَ الكتب
التي قرأتها في طفولتي
خذوا جميع كراريسي المدرسية
خذوا الطباشيرَ ..
والأقلامَ ..
والألواح السوداءْ ..
وعلموني كلمة جديدة
أعلقها كالحلقْ
في أذن حبيبتي
ريدُ أن أصنع لكِ أبجدية
غير آل الأبجدياتْ .
فيها شيء من إيقاع المطرْ
وشيء من غبار القمرْ
وشيء من حزن الغيوم الرمادية
وشيء من توجع أوراق الصفصاف
تحت عربات أيلول .
أريد أن أهديك كنوزاً من الكلمات
لم تُهْدَ لامرأة قبلك ..
ولن تهدى لامرأة بعدك .
يا امرأةً ..
ليس قبلها قبلْ
وليس بعدها بعدْ( [1])
كان َ نزار يبحث ُ عن الحرف التاسع ِ والعشرين من الأبجدية العربية ، كان يجلس ُ يغربل اللغة حرفا حرفا ومفردة مفردة ويختار المفردات الأنيقة وينفض عنها الغبار ويضعها في سلته ،، كان كالبستاني الحاذق يبحث في الحديقة عن الزهور المتميزة والنادرة ويجمعها في باقة فريدة يسميها قصيدة .
لقد كان يكره أن يقدِّم لجمهوره القصائد المعلبة كالطعام المعلب ، ورفض تفديم الوجبات الجاهزة لجمهور الشعر بل كان يطهو قصائده على طريقته وكان بارعا في تحديد المقادير اللازمة لكلِّ وجبة فكانت قصائده تأتي لنا بمذاق مميز ، ونكهة تختلف عن كل الوجبات التي نعرفها واعتدنا عليها استمع إليه حين يقول :
يا أمرأة ..
لا تحيط بكل تفاصيلها المفردات..
أحبك قبل الأنوثة,
بعد الأنوثة,
شرق الأنوثة,
غربَ الأنوثة,
يا امرأة لا أراها
ولكنها في جميع الجهاتْ
انظر كيف يجدد نزار على مستوى اللغة مَن - من الشعراء -قبل نزار مثل هذه التعبيرات؟ ( قبل الأنوثة – بعد الأنوثة – شرق الأنوثة – غرب الأنوثة ) إنها تعبيرات بكر يجيء بها نزار نتيجة شغل لغوي جبار وتفكيك العلاقات الطبيبعة والمنطقية بين مفردات الطبيعة الكونية ومن هنا يكون الإدهاش الذي يعدُّ واحدا من عوامل شعرية النص ،، نتيجة للتخلى عن العلاقات المنطقية للأشياء ، اسمعه حين يقول لحبيبته :
أنا قابَ نهدين منك ِ
إنه شاعر مقتدر يمسكُ اللغة بيديه ويتصرف فيها كنحات ٍ يرسمُ بها أشكالا جديدة ً واللغة في يديه خامة طيعة كالصلصال ،،، إنه يحرك مفردات اللغة بخيوط يمسك بها بيديه كصاحب مسرح العرائس ,, ويعرف عن نزار عشقه للغة وفتونه به وموهبته اللغوية الفذة وهذا ما جعل اللغة تتأبى عليه بل تأتيه طائعة وقتما يريد ليتصرف بها حسب مشيئته الشعرية .
ثانيا:( اللغة الثالثة ):
من ثاني العوامل المميزة للغة نزار الشعرية بعده عن الإغراب في اللغة فلن تجد القصيدة التي تحتاج مفرداتها إلى الرجوع للمعجم لمعرفة معانيها ،، وفي الوقت نفسه لا تجده يأتي بالمفردات الهابطة العامية لكنه استطاع في ذكاء لغوي شديد أنْ ينتقى مفرداته اللغوية بدون تحذلق ولا سقوط ،، بل اختار لغة ثالثة لاهي لغة المعاجم ولا هي لغة هابطة ،،، ولم يكن ذلك بالمصادفة بل كان وعيا شديدا من نزار إذْ اختار مفردات أنيقة وبسيطة وهو ما استقطب إلي مملكته الشعرية جمهورا عريضا من المحيط إلى الخليج ِ،، وهذا ما جعل شعره مادة صالحة للغناء ومناسبا للأجيال المختلفة بدءا من أم كلثوم التي غنت له قصيدة أصبح عندي الآن بندقية فإلى فلسطين خذوني معكم ومرورا بنجاة الصغيرة التي غنت له ( أيظن ) وعبدالحليم حافظ وفايزة أحمد وكاظم الساهر ا الذي أفاد كثيرا من قصائد نزار التي تغنى بها إذْ جذب إليه جمهور نزار وحقق لنفسه شهرة واسعة وكذلك غنت له لطيفة وانتهاء بالمطربة الشابة غادة ,,لقد عبر نزار عن نبض الشارع ومن هنا راح يختار لقضاياه لغة تناسب ذوق الشارع العربي دون إسفاف أو ابتذال بل يمكننا القول أنه ارتقى بذوق الشارع العربي ،، اسمعه حين يقول في قصيدة منشورات فدائية على جدران إسرائيل :
لن تجعلوا من شعبنا
شعبَ هنودٍ حُمرْ..
فنحنُ باقونَ هنا..
في هذه الأرضِ التي تلبسُ في معصمها
إسوارةً من زهرْ
فهذهِ بلادُنا..
فيها وُجدنا منذُ فجرِ العُمرْ
فيها لعبنا، وعشقنا، وكتبنا الشعرْ
مشرِّشونَ نحنُ في خُلجانها
مثلَ حشيشِ البحرْ..
مشرِّشونَ نحنُ في تاريخها
في خُبزها المرقوقِ، في زيتونِها
في قمحِها المُصفرّْ
مشرِّشونَ نحنُ في وجدانِها
باقونَ في آذارها
باقونَ في نيسانِها
باقونَ كالحفرِ على صُلبانِها
ياقونَ في نبيّها الكريمِ، في قُرآنها..
وفي الوصايا العشرْ..
لا تسكروا بالنصرْ…
إذا قتلتُم خالداً.. فسوفَ يأتي عمرْو
وإن سحقتُم وردةً..
فسوفَ يبقى العِطرْ
لأنَّ موسى قُطّعتْ يداهْ..
ولم يعُدْ يتقنُ فنَّ السحرْ..
لأنَّ موسى كُسرتْ عصاهْ
ولم يعُدْ بوسعهِ شقَّ مياهِ البحرْ
لأنكمْ لستمْ كأمريكا.. ولسنا كالهنودِ الحمرْ
فسوفَ تهلكونَ عن آخركمْ
فوقَ صحاري مصرْ…
المسجدُ الأقصى شهيدٌ جديدْ
نُضيفهُ إلى الحسابِ العتيقْ
وليستِ النارُ، وليسَ الحريقْ
سوى قناديلٍ تضيءُ الطريقْ
من قصبِ الغاباتْ
نخرجُ كالجنِّ لكمْ.. من قصبِ الغاباتْ
من رُزمِ البريدِ، من مقاعدِ الباصاتْ
من عُلبِ الدخانِ، من صفائحِ البنزينِ، من شواهدِ الأمواتْ
من الطباشيرِ، من الألواحِ، من ضفائرِ البناتْ
من خشبِ الصُّلبانِ، ومن أوعيةِ البخّورِ، من أغطيةِ الصلاةْ
من ورقِ المصحفِ نأتيكمْ
من السطورِ والآياتْ…
فنحنُ مبثوثونَ في الريحِ، وفي الماءِ، وفي النباتْ
ونحنُ معجونونَ بالألوانِ والأصواتْ..
لن تُفلتوا.. لن تُفلتوا..
فكلُّ بيتٍ فيهِ بندقيهْ
من ضفّةِ النيلِ إلى الفراتْ
لن تستريحوا معنا..
كلُّ قتيلٍ عندنا
يموتُ آلافاً من المراتْ…
انتبهوا.. انتبهوا…
أعمدةُ النورِ لها أظافرْ
وللشبابيكِ عيونٌ عشرْ
والموتُ في انتظاركم في كلِّ وجهٍ عابرٍ…
أو لفتةٍ.. أو خصرْ
الموتُ مخبوءٌ لكم.. في مشطِ كلِّ امرأةٍ..
وخصلةٍ من شعرْ..
يا آلَ إسرائيلَ.. لا يأخذْكم الغرورْ
عقاربُ الساعاتِ إن توقّفتْ، لا بدَّ أن تدورْ..
إنَّ اغتصابَ الأرضِ لا يُخيفنا
فالريشُ قد يسقطُ عن أجنحةِ النسورْ
والعطشُ الطويلُ لا يخيفنا
فالماءُ يبقى دائماً في باطنِ الصخورْ
هزمتمُ الجيوشَ.. إلا أنكم لم تهزموا الشعورْ
قطعتم الأشجارَ من رؤوسها.. وظلّتِ الجذورْ
ننصحُكم أن تقرأوا ما جاءَ في الزّبورْ
ننصحُكم أن تحملوا توراتَكم
وتتبعوا نبيَّكم للطورْ..
فما لكم خبزٌ هنا.. ولا لكم حضورْ
من بابِ كلِّ جامعٍ..
من خلفِ كلِّ منبرٍ مكسورْ
سيخرجُ الحجّاجُ ذاتَ ليلةٍ.. ويخرجُ المنصورْ
إنتظرونا دائماً..
في كلِّ ما لا يُنتظَرْ
فنحنُ في كلِّ المطاراتِ، وفي كلِّ بطاقاتِ السفرْ
نطلعُ في روما، وفي زوريخَ، من تحتِ الحجرْ
نطلعُ من خلفِ التماثيلِ وأحواضِ الزَّهرْ..
رجالُنا يأتونَ دونَ موعدٍ
في غضبِ الرعدِ، وزخاتِ المطرْ
يأتونَ في عباءةِ الرسولِ، أو سيفِ عُمرْ..
نساؤنا.. يرسمنَ أحزانَ فلسطينَ على دمعِ الشجرْ
يقبرنَ أطفالَ فلسطينَ، بوجدانِ البشرْ
يحملنَ أحجارَ فلسطينَ إلى أرضِ القمرْ..
لقد سرقتمْ وطناً..
فصفّقَ العالمُ للمغامرهْ
صادرتُمُ الألوفَ من بيوتنا
وبعتمُ الألوفَ من أطفالنا
فصفّقَ العالمُ للسماسرهْ..
سرقتُمُ الزيتَ من الكنائسِ
سرقتمُ المسيحَ من بيتهِ في الناصرهْ
فصفّقَ العالمُ للمغامرهْ
وتنصبونَ مأتماً..
إذا خطفنا طائرهْ
تذكروا.. تذكروا دائماً
بأنَّ أمريكا – على شأنها –
ليستْ هيَ اللهَ العزيزَ القديرْ
وأن أمريكا – على بأسها –
لن تمنعَ الطيورَ أن تطيرْ
قد تقتلُ الكبيرَ.. بارودةٌ
صغيرةٌ.. في يدِ طفلٍ صغيرْ
ما بيننا.. وبينكم.. لا ينتهي بعامْ
لا ينتهي بخمسةٍ.. أو عشرةٍ.. ولا بألفِ عامْ
طويلةٌ معاركُ التحريرِ كالصيامْ
ونحنُ باقونَ على صدوركمْ..
كالنقشِ في الرخامْ..
باقونَ في صوتِ المزاريبِ.. وفي أجنحةِ الحمامْ
باقونَ في ذاكرةِ الشمسِ، وفي دفاترِ الأيامْ
باقونَ في شيطنةِ الأولادِ.. في خربشةِ الأقلامْ
باقونَ في الخرائطِ الملوّنهْ
باقونَ في شعر امرئ القيس..
وفي شعر أبي تمّامْ..
باقونَ في شفاهِ من نحبّهمْ
باقونَ في مخارجِ الكلامْ..
موعدُنا حينَ يجيءُ المغيبْ
موعدُنا القادمُ في تل أبيبْ
"نصرٌ من اللهِ وفتحٌ قريبْ"
ليسَ حزيرانُ سوى يومٍ من الزمانْ
وأجملُ الورودِ ما ينبتُ في حديقةِ الأحزانْ..
للحزنِ أولادٌ سيكبرونْ..
للوجعِ الطويلِ أولادٌ سيكبرونْ
للأرضِ، للحاراتِ، للأبوابِ، أولادٌ سيكبرونْ
وهؤلاءِ كلّهمْ..
تجمّعوا منذُ ثلاثينَ سنهْ
في غُرفِ التحقيقِ، في مراكزِ البوليسِ، في السجونْ
تجمّعوا كالدمعِ في العيونْ
وهؤلاءِ كلّهم..
في أيِّ.. أيِّ لحظةٍ
من كلِّ أبوابِ فلسطينَ سيدخلونْ..
..وجاءَ في كتابهِ تعالى:
بأنكم من مصرَ تخرجونْ
وأنكمْ في تيهها، سوفَ تجوعونَ، وتعطشونْ
وأنكم ستعبدونَ العجلَ دونَ ربّكمْ
وأنكم بنعمةِ الله عليكم سوفَ تكفرونْ
وفي المناشير التي يحملُها رجالُنا
زِدنا على ما قالهُ تعالى:
سطرينِ آخرينْ:
ومن ذُرى الجولانِ تخرجونْ
وضفّةِ الأردنِّ تخرجونْ
بقوّةِ السلاحِ تخرجونْ..
سوفَ يموتُ الأعورُ الدجّالْ
سوفَ يموتُ الأعورُ الدجّالْ
ونحنُ باقونَ هنا، حدائقاً، وعطرَ برتقالْ
باقونَ فيما رسمَ اللهُ على دفاترِ الجبالْ
باقونَ في معاصرِ الزيتِ.. وفي الأنوالْ
في المدِّ.. في الجزرِ.. وفي الشروقِ والزوالْ
باقونَ في مراكبِ الصيدِ، وفي الأصدافِ، والرمالْ
باقونَ في قصائدِ الحبِّ، وفي قصائدِ النضالْ
باقونَ في الشعرِ، وفي الأزجالْ
باقونَ في عطرِ المناديلِ..
في (الدَّبكةِ) و (الموَّالْ)..
في القصصِ الشعبيِّ، والأمثالْ
باقونَ في الكوفيّةِ البيضاءِ، والعقالْ
باقونَ في مروءةِ الخيلِ، وفي مروءةِ الخيَّالْ
بالقونَ في (المهباجِ) والبُنِّ، وفي تحيةِ الرجالِ للرجالْ
باقونَ في معاطفِ الجنودِ، في الجراحِ، في السُّعالْ
باقونَ في سنابلِ القمحِ، وفي نسائمِ الشمالْ
باقونَ في الصليبْ..
باقونَ في الهلالْ..
في ثورةِ الطلابِ، باقونَ، وفي معاولِ العمّالْ
باقونَ في خواتمِ الخطبةِ، في أسِرَّةِ الأطفالْ
باقونَ في الدموعْ..
باقونَ في الآمالْ
تسعونَ مليوناً من الأعرابِ خلفَ الأفقِ غاضبونْ
با ويلكمْ من ثأرهمْ..
يومَ من القمقمِ يطلعونْ..
لأنَّ هارونَ الرشيدَ ماتَ من زمانْ
ولم يعدْ في القصرِ غلمانٌ، ولا خصيانْ
لأنّنا مَن قتلناهُ، وأطعمناهُ للحيتانْ
لأنَّ هارونَ الرشيدَ لم يعُدْ إنسانْ
لأنَّهُ في تحتهِ الوثيرِ لا يعرفُ ما القدسَ.. وما بيسانْ
فقد قطعنا رأسهُ، أمسُ، وعلّقناهُ في بيسانْ
لأنَّ هارونَ الرشيدَ أرنبٌ جبانْ
فقد جعلنا قصرهُ قيادةَ الأركانْ..
ظلَّ الفلسطينيُّ أعواماً على الأبوابْ..
يشحذُ خبزَ العدلِ من موائدِ الذئابْ
ويشتكي عذابهُ للخالقِ التوَّابْ
وعندما.. أخرجَ من إسطبلهِ حصاناً
وزيَّتَ البارودةَ الملقاةَ في السردابْ
أصبحَ في مقدورهِ أن يبدأَ الحسابْ..
نحنُ الذينَ نرسمُ الخريطهْ
ونرسمُ السفوحَ والهضابْ..
نحنُ الذينَ نبدأُ المحاكمهْ
ونفرضُ الثوابَ والعقابْ..
العربُ الذين كانوا عندكم مصدّري أحلامْ
تحوّلوا بعدَ حزيرانَ إلى حقلٍ من الألغامْ
وانتقلت (هانوي) من مكانها..
وانتقلتْ فيتنامْ..
حدائقُ التاريخِ دوماً تزهرُ..
ففي ذُرى الأوراسِ قد ماجَ الشقيقُ الأحمرُ..
وفي صحاري ليبيا.. أورقَ غصنٌ أخضرُ..
والعربُ الذين قلتُم عنهمُ: تحجّروا
تغيّروا..
تغيّروا
أنا الفلسطينيُّ بعد رحلةِ الضياعِ والسّرابْ
أطلعُ كالعشبِ من الخرابْ
أضيءُ كالبرقِ على وجوهكمْ
أهطلُ كالسحابْ
أطلعُ كلَّ ليلةٍ..
من فسحةِ الدارِ، ومن مقابضِ الأبوابْ
من ورقِ التوتِ، ومن شجيرةِ اللبلابْ
من بركةِ الدارِ، ومن ثرثرةِ المزرابْ
أطلعُ من صوتِ أبي..
من وجهِ أمي الطيبِ الجذّابْ
أطلعُ من كلِّ العيونِ السودِ والأهدابْ
ومن شبابيكِ الحبيباتِ، ومن رسائلِ الأحبابْ
أفتحُ بابَ منزلي.
أدخلهُ. من غيرِ أن أنتظرَ الجوابْ
لأنني أنا.. السؤالُ والجوابْ
محاصرونَ أنتمُ بالحقدِ والكراهيهْ
فمن هنا جيشُ أبي عبيدةٍ
ومن هنا معاويهْ
سلامُكم ممزَّقٌ..
وبيتُكم مطوَّقٌ
كبيتِ أيِّ زانيهْ..
نأتي بكوفيّاتنا البيضاءِ والسوداءْ
نرسمُ فوقَ جلدكمْ إشارةَ الفداءْ
من رحمِ الأيامِ نأتي كانبثاقِ الماءْ
من خيمةِ الذُّل التي يعلكُها الهواءْ
من وجعِ الحسينِ نأتي.. من أسى فاطمةَ الزهراءْ
من أُحدٍ نأتي.. ومن بدرٍ.. ومن أحزانِ كربلاءْ
نأتي لكي نصحّحَ التاريخَ والأشياءْ
ونطمسَ الحروفَ..
في الشوارعِ العبريّةِ الأسماء..
انظر إلى هذه القصيدة رغم طولها ،،فهى لا تشعرك بالملل ، بل تجعلك تعايشها من خلال اللغة البسيطة والمعبرة عن قضية من أهم قضايا الوطن العربي المعاصر ،، القضية التي تشغل كل العرب ،، وهنا يتجلى ذكاء نزار اللغوي حينما كان يختار لغته الشعرية المعبرة ،، وحافظ على المعادلة اللغوية الصعبة البعد عن التعقيد وعن الإسفاف والسقوط في الوقت نفسه وهي ما نستطيع أن نسميه تجاوزا اللغة الثالثة التي اختارها نزار .
ثالثاً : التفاصيل الحياتية :
القارئ لشعر نزار يكتشف ظاهرة جديدة ربما لم يسبق إليه أحد من الشعراء قبله وهي الاعتناء بتفاصيل الحياة الدقيقة ،، التي يهملها الشعراء لكن نزار أعطاها عنايته وصنع منها عالما ووهبها الحياة حينما تقرأ شعره تجده يسهب في تلك التفاصيل فتلقاه يصور : ( المقعد ، وفنجان القهوة ، والجريدة ، وقارورة العطر ، وعلبة الثقاب ، ومنفضة السجائر ، والفستان والشال ـ والعقد ، وقلم حمرة الشفاة , وطلاء الأظافر ، والجورب ، وزجاجة النبيذ ، وغيرها الكثير من هذه المفردات الحياتية التي تبدو مهملة ،، لكن نزار أعطاها عنايته ومنحها الحياة في شعره استمع إليه في قصيدة بلقيس قائلا :
بيروتُ .. تقتُلُ كلَّ يومٍ واحداً مِنَّا ..
وتبحثُ كلَّ يومٍ عن ضحيَّةْ
والموتُ .. في فِنْجَانِ قَهْوَتِنَا ..
وفي مفتاح شِقَّتِنَا ..
وفي أزهارِ شُرْفَتِنَا ..
وفي وَرَقِ الجرائدِ ..
والحروفِ الأبجديَّةْ ...
ويقول كذلك :
بلقيسُ ..
إنَّ زُرُوعَكِ الخضراءَ ..
ما زالتْ على الحيطانِ باكيةً ..
وَوَجْهَكِ لم يزلْ مُتَنَقِّلاً ..
بينَ المرايا والستائرْ
حتى سجارتُكِ التي أشعلتِها
لم تنطفئْ ..
ودخانُهَا
ما زالَ يرفضُ أن يسافرْ
ويتابع وصف تلك التفاصيل قائلا :
بلقيسُ ..
تذبحُني التفاصيلُ الصغيرةُ في علاقتِنَا ..
وتجلُدني الدقائقُ والثواني ..
فلكُلِّ دبّوسٍ صغيرٍ .. قصَّةٌ
ولكُلِّ عِقْدٍ من عُقُودِكِ قِصَّتانِ
حتى ملاقطُ شَعْرِكِ الذَّهَبِيِّ ..
تغمُرُني ،كعادتِها ، بأمطار الحنانِ
ويُعَرِّشُ الصوتُ العراقيُّ الجميلُ ..
على الستائرِ ..
والمقاعدِ ..
والأوَاني ..
ومن المَرَايَا تطْلَعِينَ ..
من الخواتم تطْلَعِينَ ..
من القصيدة تطْلَعِينَ ..
من الشُّمُوعِ ..
من الكُؤُوسِ ..
من النبيذ الأُرْجُواني ..
إنَّ هذه التفاصيل الدقيقة كانت إحدى الخصائص الفنية التي ميزتْ التجربة الشعرية لنزار قباني عن غيره من الشعراء ، ومن خلال العرض السريع للأسباب الثلاثة الماضية يمكننا وضع أيدينا على أسباب التميز للغة نزار الشعرية ، وأعتذر عن العرض السريع لهذه الدراسة ،، فهي دراسة تستحق مجدا بأكمله ولكن آثرت العرض السريع حتى لا نطيل على القارئ الكريم ،، وحتى يكون العرض مناسبا للمقام دون إسهاب وهذا ما جعلني أحرص على الإيجاز الشديد ومن يريد المزيد يمكنه الرجوع إلى دراستي للماجستير ( تشكيل صورة المرأة بين عمر بن أبي ربيعة ونزار قباني ).
[1] - مئة رسالة حب : نزار قباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق