الاثنين، 11 يوليو 2016

نساء صدقي - فاطمة غندور ...


نساء صدقي 

2/1

علي صدقي عبد القادر

مركز ليبيا المستقبل للإعلام والثقافة25‏/01‏/2015  - فاطمة غندور :

   علي صدقي عبد القادر التجربة الشعرية الليبية الاستثناء في إثارة الجدل حولها بين مُعترف بها وبين معارض لها (حد نفي الصفة الشعرية عنه)، وهو ما لم تحسمه بعد دراسات تتصدى لتجربته ولقاموسه الشعري -إن جاز التعبير- ولمغامرته المبكرة في كتابة الشعر الحر محليا وربما عربيا (1) كذا تاريخه الذي سطره في انحيازه لكل تأنيث، ذلك الانحياز الذي لم يكن شعارات وأقوال وقصائد يرددها فقط (2)، فكما نادى بالحرية والاستقلال والجلاء التام للمستعمر عن ليبيا سني شبابه، نحت في ظلال تاريخ نساء عائلته بتنوره وفكره المتحرر ما آمن به لوطنه، في مرحلة تجاذبتها أراء ونقاشات نُخبتين (ما نتلمسه في الدوريات المحلية أربعينيات القرن الماضي نموذجها طرابلس الغرب) بين من تعلن مناداتها بدورٍ للمرأة في تنمية البلاد بتمكينها من ولوج مجالات العلم والعمل بمحاذاة الرجل، وبين إلحاح مرده الديني والاجتماعي المحافظ الذي يرفع سيف حجبها وقصر حراكها بين أسرتها، ثم زوجها، فقبرها!، إلا أن الشاعر والقانوني من تمسك رغم إكراهات ومناوشات المحيط بدور المُساند والراعي والمدافع -إذا ما لزم الأمر- فشقيقتيه (زينوبه، وخديجة)، وابنتيه (أحلام وتماضر) دفع بهن كنماذج يُحتذي بهن في المشاركة الفاعلة المبكرة، فهن من عاصرن جيلين في مشروع النهضة النسوية بطرابلس، التي دأبت بعض نسائها على محو أمية فتيات مدينتهن، ثم السفر ومغادرة الإقليم لتأكيد حضور المرأة الليبية مع شقيقاتها العربيات، ثم المشاركة بالكتابة الصحفية وتحريض من تخلفن عن المسيرة النهضوية، كما شجعهن على الكتابة التوثيقية (أدب الرحلات) فخديجة أول ليبية أرخت لرحلتيها للدراسة في مصر(1954م) ولندن (1961م) وهي سيرة رائدة لا تفتأ تشير فيها لدور الشقيق الأكبر (علي)، ولعل الخطوة الأبرز صياغته للقانون التأسيسي لجمعية النهضة النسائية(1958م) التي كانت خديجة نائبة لرئيستها، أما إبنته تماضر من تحصلت على الترتيب الأول في كتابة الخاطرة ثمانينات القرن الماضي بمسابقة بطرابلس ومازالت تحتفظ بنصوصها بما اعتبره والدها بذرة لكاتبة متمكنة مشجعا لها على نشره.

   وسنقارب ذلك فيما تُصرح به هنا ولأول مرة إبنتيه: أحلام الابنة الكبرى لشاعر الشباب وخريجة الدفعة الأولى لكلية العلوم بطرابلس، وتماضر المعلمة أثناء لقائي معهما، تماضر كانت الأبنة والصديقة ومن رافقته في سنواته الأخيرة حين أصابه المرض واعتلال الصحة سنقرأ ما يمثل بعضا من سيرة حياته… بعيدا عما عرفهُ -مندهشين- محبوه، كتلك العبارات المؤكدة التي يشي فيها بسني حياته التي ستمتد الى مئات الأعوام… أو غرائبية نصوصه الأخيرة التي ثابر على نشرها كنص أسبوعي في ملحق ثقافي بجريدة محلية (الجماهيرية الثقافي). حدثتني أولا الجامعية أستاذة علوم الثانوية أحلام قائلة على لسان الشاعر الراحل:

أنا لو أولد من جديد ويخيروني وين تبي يكون وطنك نقول ليبيا

    لم يكن أبا عاديا كان صديقا، بابا هو اللي شجعني على دخول الجامعة في الوقت اللي كانوا فيه زميلاتي (يادوب) ثلاث سنين ابتدائي ويمنعها بوها من مواصلة دراستها في ذلك الوقت فما بالك بالجامعة، والدي شجعني وكان هو اللي ياخذني بسيارته، أنا درست بكلية العلوم مكانها سيدي المصري عام 1963م، لكن ليس نفس المبنى يومها كان مبنى صغير وقديم، كنا سبع طالبات: فاطمة الأسطى، فطومة الغدامسي، وداد العرادي، درست معها إعدادي وثانوي، ومزينة العرادي شقيقة د. وداد وأتذكر أنه كانت مديرتنا السيدة رباب أدهم في مدرسة طرابلس للبنات كانت الثانوية الوحيدة، لما رجعت عمتي خديجة من لندن عملت بها، المدرسة كان فيها ابتدائي وإعدادي وثانوي ومعهد، كان الوالد ياخذني بالسيارة صباحا، ويجيء الساعة الثانية ظهرا، يروح بيا نتغذى، وبعدين يردني للمحاضرات العملي مساء، الى أن توفر مطعم في الجامعة، فأصبح يوصلني صباحا والمساء يروح بي، كان يشجعني على المثابرة والتفوق، وفي العطلات كنا نسافر مع بعض خارج البلاد، ونمشوا للمحلات المختلفة والمقاهي، كان رفيقا ممتازا في الرحلات كنت أحكي له عن زملاء ودراستي وأساتذتي، نلاحظ في زميلاتي لما يحكوا عن أبائهم، البنت ما تتجرأ تحكي أو تطلب من بوها حاجة، كنا نتفق معاه في أي موضوع يناقشه معنا بتواضعه الشديد، معه نتحاور نتشاور نستفيد هو يسمعنا ونسمعوه وبعدين يقول هذا رأي وأنت حرة إختاري ما تشائين هذا شأنك وتحملي مسؤليتك، وكان يعجبني جدا لما يعطي نموذج لموضوع معين ويختار ما يحفظ من الشعر العربي مدللا لقوله من أمرؤ القيس… المتنبي… زهير… الفرزدق يستشهد بعظماء الأدب والشعر والتاريخ، وعنده لكل مقام مقال كان مُتحدثا بارعا مقنعا دون ادعاء . ذاكرته نشطة ولماحة ولاقطة وكنت أضحك وأقول له: ياليتني جئت في زمن الكلمة القوية والمعبرة، كان أبي أيضا كريم جدا معنا… ودود، شخصية نوعية في تعامله معنا (بنات العائلة)، تصوري بعد ما تزوجت أيضا كان هو مكمن أرائي وأسراري، بابا ليس معنا فقط يتعامل برحابة، شقيقاته هو من رباهن وعلمهن كان أكبرهم ولما توفي جدي كان أبي تجاوز العشرين بقليل، لكنه أحتضنهم وأهتم بهم احتواهم ورعاهم بقلبه الكبير وحنانه، وأعتقد أن أي زوجة كان أحساس طبيعي أن تحمل بذور غيرة تجاه العاطفة الكبيرة اللي منحها والدي لعائلته إخوته وأخواته، والدي حنون حتى مع أطفالي كان يأتي لزيارتي ويراني معهم هم يتقافزون ويلعبون فيطلب مني أن أحببهم في وطنهم ليبيا كان جدا حريص على هذه الفكرة، هو كان يحب وطنه جدا يقول لي شوفي ليبيا هذي موقعها الممتاز ويقول لي: أنا لو أولد من جديد ويخيروني وين تبي يكون وطنك نقول ليبيا، عنده وطنه ليبيا حاجه لا توصف كلنا قد نحب وطننا لكن حبه مختلف وطرابلس كانت أيضا حبه.

صدقي الشاعر والقانوني

  والدي في آخر أيامه قبل الدخول للمستشفى أخر مرة أي أحد عنده استشارة قانونية لا يتأخر عنه يتصلون به بالهاتف فيجيب على أسئلتهم، قضايا ومشاكل الناس ومازلت أذكر مرافعات والدي عن الناس الوطنيين اللي رافضين الأوضاع أيام المملكة الليبية بعضهم أخرجه من السجن، وتحمل الكثير من من عادوا مواقفه تجاه الحق والثورة، والدي أول ديواني أصدره كان أحلام وثورة في ذاك الوقت كلمة ثورة في العهد الملكي 1952م ومع بدايات الستينات في الملكية مسألة صعبة تخيلي ينادي بالثورة كان الواحد قليل لما يسمع بأحد ينادي بالثورة أو حتى يلفظ الكلمة، كلماته سببت له متاعب كثيرة، ويومها أيضا كتب في مقدمة أول الديوان أن أطلق أسم أحلام أسم أبنته، وأتذكر أن مرافعات والدي بها لمسة أدبية أكثر منها قانونية كما اعتدنا سماعها،والدي يكتب نثر وحتى من كان يطلب منه التوقيع على أوتوغراف، كان حريص في نثر عباراته في أي مقابلة صحفية ارتجاله النثري كان متميز وموزون لا أقول هذا لأنه والدي.

مواقفه من المرأة

   والدي كان مناصرا ومدافعا عن المرأة ليس في عائله فقط بل حتى صديقاتي أذكر أنه عندما يسمع مني أن أحد أولياء زميلاتي أوقف ابنته عن الدراسة يذهب إليه ويحثه ويلح عليه ليترك ابنته تواصل تعليمها (تبتسم) والدي كان حتى لما نزعل من صديقه وأجيء وأشكى من عيب فيها يخلق لها مبرر بأنها لم تقصد وربما عندها ظرف دفعها الى ذلك ويبعد عني أي أحقاد أو قطيعة قد أقررها نتيجة موقفي وكثيرا ما كنت أُغير رأي.

تُسمعني بصوتها ما كتبتهُ في تأبين والدها:

   كان والدي رحمه الله إنسانا رائعا، وصديقا وأبا وودودا وفيا محبا لأبنائه، كان يداعبنا ونحن أطفال ويحكي لنا طرائف وأساطير تأخذنا بعيدا في نوم هادئ وأحلام جميلة، كان حريصا على تعليمنا، ويشجعنا على الاطلاع والمعرفة، في سنوات الدراسة الأولى كان يجلس معنا واحدا تلوا الاخر، ليساعدنا في أداء واجباتنا المدرسية،فيبسطها لنا ويفك رموزها الغامضة، عشنا مع والدي رحمه الله طفولة سعيدة، مُنعمة بكرمه وصدقه وحنانه، كان عندما يعدنا بأي شيء يفي بوعده، ولا نذكر أبدا يوما قط انه تراجع عن هذا الوعد (تعلق وهذا صحيح مستحيل عنده)، كان يسعد معنا عند استقبالنا لأصدقائنا الأطفال ويقدم لهم الأشياء التي تدخل البهجة في نفوسهم وعند نهاية الموسم الدراسي يأخذنا جميعا الى دول عربية واروبية أحيانا، أبي العزيز نم قرير العين هاديء البال (تخنقها الدموع فأطلب منها أن تتوقف لكنها تواصل) لأنك عشت طوال حياتك إنسانا صادقا، أحببت وطنك فأحبك أبناء هذا الوطن الطيبين، كنت وفيا لهم فكانوا هم أيضا أوفياء لك حتى في مماتك ، إنك ذلك الإنسان الصادق الذي عاش حياته شامخا، لأنه كان رجلا شريفا صادقا لا يعرف النفاق والتملق، إن مدينة طرابلس الجميلة التي طالما تغنيت بها في أشعارك، تبكي لفراقك، وشوارعها وأزقتها تسألني عنك كلما مررت بها عندها أفقد القدرة على الكلام، والحركة وأشعر بأن فراغا موحشا ومظلما مخيف يحيط بي من كل جانب بسبب غيابك عنا وعن هذا البلد الخير وأبنائه الأبرار. (انتهت الورقة التي تُنشر لأول مرة)… وعدت لاسترجع معها صفحات من ذكريات الأب والشقيق.

_____________________

هوامش:

1- اثناء زيارتي الشاعر علي صدقي عبد القادر بالمصحة (مصحة طرابلس – طريق المطار) قبيل وفاته بأسابيع، رفقة الأستاذ يوسف الشريف والذي توجه بسؤال له عن بدايات نشره لقصائده، وهل واكبت ذات الفترة التي أعلنت فيها نازك وأيضا السياب نصوصهما الشعرية الحرة، فأجاب بأنه بدأ في نشرها أربعينيات القرن الماضي في الصحف ما يقارب ذات تاريخ ريادة الشاعرين العراقيين.

2- يعلن الباحث نجم الدين غالب الكيب (علي صدقي عبد القادر شاعر الشباب – المنشأة العامة للنشر والتوزيع والاعلان – ط1- 1975م) الى أن قصيدته (أ لأني امرأة) هي أقدم النماذج الشعرية في تاريخ القصائد الليبية التي وقفت موقفا واضحا الى جانب حق المرأة في الحرية الاجتماعية مطالبا برفع القيود عن كاهلها، يقول فيها:

أ لأني كنت امرأة
لا ترى عيني عناقيد الضياء
وأزاهير النهار
تتدلى من شعاع الشمس فوق الطلقاء
ألا أني كنت امراة
لا يرى النور بعيني المطفأة
ويظل الحلم المكبوت في المحجرين
وتموت الرغبات في الحياة
قبل ان تشهد أعراس الربيع


نساء صدقي

 2/2

علي صدقي عبد القادر
27‏/01‏/2015
خديجة عمتي

  عندما غادرتْ للمرة الأولى لمعهد سرس الليان بمصر كان في ذلك 1954م، وقتها كانت أنسة وعمرها لم يتجاوز 17 عاما، والبنت كانت ما تطلعش لفم الحوش في شارعنا، لكن والدي شجعها في السفرتين مصر ولندن، هو سعى لها عن طريق أعلان من المركز الثقافي البريطاني أول ليبية تتلقى دورة في علم المكتبات الذي حتى كتخصص دراسي تأخر في بلدنا.

   والدي سعى معها وشجعها في الدراسة بالداخل والخارج حتى ما كتبه كان يشجعها على الكتابة وباستمرار ولها مقالات وقصة قصيرة عن زلزال المرج بجريدة طرابلس الغرب، أذكر يومياتها ليبية في بلاد الانجليز بعد ما تكتبها يأخذها ويراجعها ويحملها إلى جريدة طرابلس الغرب حلقات حلوة تطلع كل أسبوع، كنت نجيبها ونقرا فيها ونتبع في حلقاتها، وبعدين أنا سافرت ورجعت وسمعت بوفاة الشاب الصحفي الناجح عبد السلام دنف، شاب صغير تقريبا في 1963م، عملوا معها عدة مقابلات منها الإذاعة المسموعة (طرابلس) كانت محطة واحدة يومها وشاركت في حوارات في برامج مسموعة، وكان أن تزوجت و توقفت عن الكتابة، عمتي الرائدة خديجة توفيت في حادث مروري شنيع صدمتهما سيارة نقل ركاب (إفيكو )، كانت متوجهة لمزرعتها رفقة زوجها في طريق عين زارة أصابتهما كانت بليغة لم تحتمل حتى التدخل الجراحي الله يرحمهما.

علي صدقي والأطفال

   بابا صديق لكل الأعمار لكل الأجيال، هو واعي متفتح ومُتحرر، يقيم علاقة بسهولة مع الناس حتى غضبه وزعله قليل جدا، أنا عندما أتضايق و يغلبني لساني وأقول مفردات نابية لأبنائي مثلا، رغم أن والدي لا يملك هذا القاموس، أوفي أحيان أعانده على فكرة أو رأي، ولا أتفق معه، بهدوء تام يجاريني ولا يتلفظ ضدي بأية عبارة، يطلب مني الصمت أوالتوقف عن إبداء رأي كونه عرفه، لم أسمع في حياتي منه لفظة نابية… لا لا أبدا عنده جملة دايما يرددها: سلم بنتي هدي شوية مش هكي تمشي الامور؟ وجملته الشهيرة يابنتي راهو الدنيا هواء الدنيا هواء، بابا متسامح جدا… أنا أشكو أحيانا من صديقه أو قريبه أزعجتني أعلن أني سأُقاطعها.. يجيب مبررات ويُحببني فيها ولأكون متسامحة، لم أسمع ولو مرة والدي يدخل البيت ويشتكي من شخص أذاه (تدخلتُ هنا: لا يشكو من أحد علق على كلماته أو شخصه أو شعره) أبدا لم أسمعه يذكر اسم لمن صده أو هاجمه، أو عبر عن إمتعاض منه كنت أحسده على تسامحه العالي.

   وبدون مجافة الحقيقة والدي أحب أطفال العائلة كما أحب الأطفال في حياته العامة واليومية وفي يوم من الأيام حكى لي عن طفلة صغيرة حاملة (قفة) وماشية بتشري حاجات لأمها، وجدها تبكي ووقف يسألها لماذا؟ قالت له: زوجة بوي أعطتني فلوس (نقود) ضاعوا مني، سألها ماذا كنت ترغبين أن تشتري ؟ ثم إشترى لها كل ماأوصتها بشرائه زوجة والدها وملأ القفة، لا يحصل موقف ويشاهده لطفل إلا ويتعاطف معه ويقف الى جانبه، وأؤكد لك مرة ثانية ليس أطفال العائلة فقط المشمولين بمحبته ورعايته.

   لما يحضر جنازة رجل أو إمرأة أو طفل يقف ويبكي، فيسأله القريبون منه في المكان، المتوفي قريبك؟ فيجيب بالنفي، والدي رقيق وحنون وروحه رهيفه وحساسه جدا، والى وقت قريب قبيل وفاته وهو في المستشفى يجيبوا قصة والدته (جدتي)، عندما يتذكر والدته يبكي ويبكي بحرقة الفقد، أنا لم أبك لى أمي ما بكاه والدي على أمه رغم محبتي لها، والدتي توفيت من سنتين، كان والدي الأبن المُدلل والمُفضل عند والدته، كان يحكيلي أول ماتزوج في حوشنا بزنقة الجمل، سكنت فيه والدته والعيلة كلها عاشوا مع بعض يقول لي :كانت تركبلي صفرة فطوري فيها أشهى الوجبات تعدها والدتي خصيصا لي رفقة زوجتي… لم ينافس أمه فاطمة كامرأة في ما كتب… إلا الوطن.. ليبيا.

علي صدقي وعاداته

   أسعد لحظات والدي لما يكتب خواطره في مذكرته، دائما مشغول بالقراءة والكتابة لذلك هو متحدث بارع، ليست له علاقة مداومة بالتلفزيون إلا فيما ندر لمشاهدة الاخبار ولفترة قصيرة . حتى في المستشفى أوراقه وموضوعه الصحفي يجهزه ويكتبه ويراجعه ويهتم ويلتزم بإرساله، مرضه كان عدا تنازليا فقد تطورت حالته فجأة وتدهورت حتى هو كان مصدوم بتراجع صحته بشكل سريع وبسرعة.

   والدي قبل دخوله للمستشفى كان يقود سيارته وكنت أطلب منه أن يتوقف وبإمكان تماضر ان تتنقل به لحضور اللقاءات الثقافية، في الفترة الاخيرة كان يشكي من قدميه، منذ عرفت أبي وهو مُهتم بغذائه ومن الناحية الصحية لم يكن يشكو من أمراض تتعب جسده وقلما كان المرض يزوره من الناحية الصحية ممتاز المرض كان في رجليه بعض الألم في الاول، هو محافظ جدا تصوري هو يحب الحلويات جدا لكن يمسك نفسه عنها ويتحكم في رغبته فيها وله قول دايما يحفظها ويرددها لنا في العائلة : إتقي الأبيضان الملح والسكر، أنا إبنته أحب الحلويات لكن هو يقول لي كلي الفواكه والخضروات أفضل لصحتك ولبشرتك.

   لما يتلاقوا في أمسيات أدبية عربية أدباء وأديبات، والدي كان يقدر النساء منهم جدا، عنده رسائل متبادلة من نازك الملائكة وغيرها، والدي أحب العراق وأحترم صدام وكره أمريكا! سافر قبل الحرب بأشهر قليلة على الاعتداء الامريكي 2003م، عنده مراسلات وتهاني بالعيد من شعراء وكتاب عرب وأجانب، أذكر وصلته رسالة من نزار وكنت أحبه قلت له ياريت نشوف نزار.

   والدي في مشاركته المحلية الأخيرة ذهب مدعوا الى مدينة زلة وهو يعاني مرض في رجله شكرهم كثيرا وقال أهالي زله منحونا بيوتهم ويومها كنت مشغولة جدا وخفت على صحته الحرجة.

  والدي يحب السفر عموما وداخل البلاد خصوصا ويشارك دائما في النشاطات التي يدعى إليها، لا يرد دعوة، والدي أحب كل مدينة كل قرية.

  كانت تماضر تتابع ما استرجعته ذاكرة أحلام، فسألتُها عن ذكرياتها معه فبادرت متأملة حزينة:

   أول يوم في المدرسة هو صحاني وأخذني علي كتفه، كنت أبكي وخائفة، وقد انزويت قبل ذلك الصباح في ركن ببيتنا، لكنه جاء وداعبني بكلماته، وأنه سيرافقني في أول يوم، كان يراجع معي دروسي حتى نظام يومي يتابعه… القيلولة نوم نرتاحوا ثم نباشر دروسنا، وليلا كان يقرأ لي كتاب الى أن يغفو بجانبي، يهتم بنا صحيا يذهب معنا يشتري هدايا لمدرساتي، لم يسمح لي بدفع مرتبي في أي شيء حتى هدايا عيد الأم، تتدخل أحلام: هو يشتريها كان كريم يُعطي ولا يبخل أبدا، بل أن عيدية أطفالي حتى وهم كبار اليوم لم يتوقف عنها.

  (تعود تماضر وتتابع) لما نسافروا معاه لا تقع عيننا على شيء، إلا ويلح علينا لنأخذه، ويلومنا إن لم نطلب ما نرغبه، وقبل السفر الى أي مكان يمدنا بمعلومات عن الأمكنة وتاريخ أبنيتها وشخصيات عاشت فيها حيث أنه سيحرص على أن نرى بعضها ما أمكنه ذلك.

  تتوقف تماضر وتغالبها دموعها وتبكي بحرقة أشعرتني بالحرج تجاهها، فأوقفت تسجيلي، وقمت بمواساتها… فيمن لا يمكننا نسيان حضوره بيننا بوداعته ولطفه بتحيته للجميع، بمفرداته وجملته الأثيرة: يحيا الحب.

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة