تشكيلات الصورة في الشعر العربي الحديث
علاء الدين رمضان - مجلة الرافد - دائرة الثقافة والإعلام - حكومة الشارقة - 9-2010 :
الشاعر لا يحشد في نصه اللغة الدالة القريبة الحاضرة في ذهنه، بل يتوقف طويلاً عند الألفاظ، يتأملها وينتقيها، ثم يعيد تشكيلها وصوغها بما يتناسب مع الدلالة الوجدانية لا الاتصالية، وقد يغير من أبعاد صياغتها فنياً، وقد يحطم من أنسقتها ليخلق لنفسه نمطاً جديداً تتحقق رغبته ورغبة جمهوره في المتعة الفنية المتوقعة من إبداعه؛ فمن أهم خصائص التعبير الشعري أنه تعبير بالصورة، يتميز بدقة تحديده للتجارب ومفرداتها، وييسر له ذلك قدرته على التحدث بلغة مرئية مشخصة، تكاد تعادل حدوس الأشياء والتجارب ذاتها، بما يحقق له القدرة على استيعاب الحياة من حوله.
القصيدة نفسها«سلسلة من الصور الجزئية المتعاقبة أو المتداخلة، فالقصيدة الجيدة بدورها صورة»، والصورة هي التي تكسب الشعر قدرته على التأثير والتجاوز، كما تمنحه ميزة «تجاوز محاولات شرحه وتحليله، فضلاً عن إعادة تركيبه بعبارات نثرية وإن حاولت الحفاظ على المعنى»(1)؛ فيقبض الشاعر بوساطتها على المعاني الكثيرة، والأسئلة الكبرى، والمساحات التي لا حدَّ لاتساعها في وجدان المتلقي، ويحشدها في بضعة أسطر، فيمتاز الشعر الحديث بأنه يتشكل من أسراب من الصور المتراكبة التي يصعب علينا أن نحكم بنهاية إحداها وبداية الأخرى؛ ويبرر كولردج لذلك بقوله: «إن الشاعر يرى أن هدفه الرئيس وأعظم خاصية لفنه هو الصورة الجديدة المؤثرة»، وهو رأي صدق على الشعر في عصر كولردج ويصدق على الشعر حتى اليوم، لكن للصورة اليوم دوراً أبرز وأهم مما كانت عليه بالأمس، فشاعر العصر الحديث قد «وجد نفسه ووعى ذاته، واعتز بكرامة عقله، وفكره ولسانه، فلم يساوم عليها في سوق النفعية والنفاق، فبلغ الذاتية الاجتماعية حين نطق بلسان الجماعة، وتمرد نيابة عنها على الطغيان والنفاق والرق المادي والمعنوي، وضرب لنا مثلاً فذاً رائعاً للالتزام في الأدب، ورسالة الأديب الذي لا يفقد وعيه في دوامة الأبصار، ولا يخطئ طريقه في داجي الظلمات، ولا تغفل عينه والناس نيام»(2).
هذه الصحوة بدأت بالهجوم على المحسنات اللفظية والبلاغة الواضحة المباشرة، والعبارة العاطفية الهدارة، وقد دفع هذا الهجوم المتمرد بالشعراء الجدد إلى محاولة «التعويض عن هذه العناصر المثيرة في الشعر بالإكثار من الصور الشعرية، وكانوا يعانون فوق ذلك من تعقيدات عاطفية وفكرية وروحية، تلزمهم بها اللحظة الحضارية التي بدت كأنها تخترق بوابة الزمن نحو تقرير أنبل لوضعية الإنسان في هذا الجزء من العالم، ولم يكن بإمكانهم أن يعبروا عن هذه الحالات المعقدة عن طريق الشعر المباشر، فلجأوا إلى الصور والأساليب الموارية من أسطورة وفولكلور وإشارة ورمز، وقد ساعدهم تأثرهم بالشعر الغربي المعاصر الغني بالصورة في اجتياز العقبة من الأساليب القديمة نحو أسلوب جديد حي يتنفس بروح العصر الحديث»(3)، إضافة إلى ما وجدوه من نماذج مهمة للصورة في الشعر العربي القديم؛ وقد علَّق الدكتور محمد حسن عبد الله التجديد في الشعر على الصورة فرأى أن البداية الحقيقية للشعر الحديث لم تكن هي الثورة على عروض الخليل وإنما كان الشعر الحديث هو ذلك الشعر الذي نهج منهج الصورة، وبذلك يجعل من مطران الأب الحقيقي لحركة التجديد في الشعر الحديث، لأنه من أوائل الشعراء الذين اكتشفوا أماكن جديدة ووظائف مغايرة للصورة بوصفها عنصراً من عناصر البناء الشعري، ثم الصورة القصيدة في شكلها العام.
دراسة ذلك الدور وتلك الوظيفة اللذين تضطلع بهما الصورة الفنية في الشعر بمقدورهما أن يلقيا من الضوء على الشعر ما لا تلقيه دراسة أي جانب آخر من عناصره؛ فالصورة كما يراها لويس Cecil Day Lewis في كتابه «الصورة الشعرية» هي العنصر الثابت في الشعر كله، وكل قصيدة إنما هي في ذاتها صورة.
ويفسر ذلك بقوله: إن الاتجاهات تجيء وتذهب، والأسلوب يتغير، وأنماط الأوزان تتبدل، ولكن التعبير بالصورة هو الخاصية الأساسية منذ تكلم الإنسان البدائي شعراً، ولعل هذا الرأي يستند إلى أن المجاز هو اللغة الإنسانية الأولى، وهو الرأي الذي ألحت عليه الدراسات النقدية منذ قرر أرسطو أن الاستعارة أعظم أسلوب، لأنها وحدها هي «آية الموهبة»(4)، وفي الثقافة العربية منذ أن رأى الجاحظ أن الشعر «صياغة (أو صناعة) وضرب من النسج وجنس من التصوير»(5).
فالتصوير كما يرى أرسطو صورة متسامية عن الحقيقة، وإذا لم يطابق التصوير الحقيقة، فذلك أن الشاعر إنما مثل الأشياء كما ينبغي أن تكون، كما كان سوفوكليس يقول:«إنه يصور الناس كما ينبغي أن يكونوا، في حين أن أوريبيدس يصورهم كما هم»(6).
ولعل من الأهمية بمكان «تحديد موقع الصور الفنية في البلاغة العربية والنقد القديم، ومدى ما آلت إليه من مفاهيم، رسخت في أذهان القدماء، فراحوا ينظرون من خلالها إلى الأعمال الشعرية»(7).
فقد كانت الصورة جزءاً أصيلاً، بل إنها نقطة انطلاق مهمة في حركات التجديد الشعري، على مدى العصور، إلى جانب عناية النقاد بها عناية مخصوصة، ونضرب مثلين لذلك الاهتمام النقدي أحدهما من النقد القديم والآخر من العصر الحديث ؛ فمن النقاد العرب برز اسم الإمام عبد القاهر الجرجاني بوصفه أهم من درس الصورة، بل إنه يكاد يكون قد أفرد لها كتابه أسرار البلاغة، كما أفرد للنظم دلائل الإعجاز، إن لم يكن يعني ضمناً في نظرية النظم موطن الصورة من النص؛ لقد عالج الإمام عبد القاهر الجرجاني «التصويرات» في كتابه «أسرار البلاغة»، من حيث هي فنية مشتركة بين الشعر والفنون التشكيلية، وأثر تلك الصور في إثارة النفس وتجسيد الدلالة، فيقول: «الصنعة في التصويرات التي تروق السامعين وتروعهم، والتخييلات التي تهزُّ الممدوحين وتُحرّكهم، وتفعل فعلاً شبيهاً بما يقع في نفس النَّاظر إلى التصاوير التي يشكِّلها الحُذَّاق بالتَّخطيط والنقش، أو بالنَّحت والنقر، فكما أن تلك تُعجب وتَخْلب، وتَروقُ وتُؤْنِق، وتَدْخُل النفسَ من مشاهدتها حالةٌ غريبة لم تكن قَبْلِ رؤيتها، ويغشاها ضربٌ من الفتنة لا يُنكَر مكانه ولا يخفى شأنه...، كذلك حكم الشعر فيما يصنعه من الصُوَر، ويُشكّله من البِدَع، ويوقعه في النفوس من المعاني التي يُتوَّهم بها الجماد الصامتُ في صورة الحيّ الناطق، والمواتُ الأَخرس في قضية الفصيح المعرب والمبيّن المميِّز، والمعدومُ المفقود في حكم الموجود المشاهَد...، حتى يكسب الدنيُّ رفعةً، والغامضُ القدرِ نباهةً، وعلى العكس يغضُّ من شرف الشريف، ويطأُ من قَدْرِ ذي العِزَّة المنيف، ويظلم الفضل ويَتَهضَّمُه، ويَخْدِش وجه الجمال ويَتَخَوَّنُه، ويُعطي الشبهةَ سُلطانَ الحجّة، ويردُّ الحجَّة إلى صيغة الشبهة، ويصنع من المادة الخسيسة بِدَعاً تغلو في القيمة وتعْلو، ويفعل من قلب الجواهر وتبديل الطبائع ما ترى به الكيمياء وقد صَحَّت، ودعوى الإكْسِير وقد وَضَحت، إلاّ أنها روحانية تتلبّس بالأوهام والأفهام، دون الأجسام والأجرام»(8).
ثم يوسع الإمام عبد القاهر الدائرة ويعمق رؤيته للتصوير الفني في كتابه دلائل الإعجاز الأرقى فكراً والأعمق نظراً والأهم والأغنى رؤية واستقصاءً وبحثاً ؛ وقد بدا لي أن الجرجاني كان في «أسرار البلاغة» يصنع ما هو أشبه بدراسة لوحة النظم من خلال نظريته في الصورة، فبعد أن أحاط علماً وإدراكاً بفكرة «التصوير» في أسرار البلاغة طور تلك الفكرة إلى فكرة أكبر وأشد اتساعاً يجوز لنا أن نسميها «نظرية»، هي نظريته في النظم التي أفادت من أفكار نظريته في التصوير وتحليلاتها وجزئياتها وتطلعاتها النظرية عنده، ثم أدمجت الفكرة الأولية حول التصوير في الفكرة الأكبر والأهم حول النظم؛ يقول الإمام عبدالقاهر: «إنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش، فكما أنك ترى الرجل قد تهدى في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ، وفي مواقعها، ومقاديرها، وكيفية مزجه لها، وترتيبه إياها، إلى ما لم يهتد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب؛ كذلك حال الشاعر والشاعر في توخيهما معاني النحو، ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم»؛ وبها تظهر «المزية في نظمه والحسن، كالأجزاء من الصبغ تتلاحق، وينضم بعضها إلى بعض، حتى تكثر في العين»(9).
وبهذا نفطن إلى أن الجرجاني قدر أنه لا قيمة للتصوير إذا لم يكن منسجماً مع سياق النص، بل إن الجرجاني تطرق إلى الجذور النفسية للصورة في نفس قائلها والآثار المتوقعة في نفس سامعها، مع اهتمام الإمام عبد القاهر الدائم بالأثر الجمالي الذي تتركه الصورة على النص سعياً وراء ما يتركه النص بوساطتها من أثر في وجدان المتلقي، لذا ألح عبد القاهر على المقارنة بين الصور المتماثلة والمتقابلة.
أما من العصر الحديث، فالواقع أنني تخيرت النقد لا الناقد، ففي كتاب الديوان، نجد العقاد وقد تخير الصورة منطلقاً للنيل من شوقي، فقال في حملته عليه:«إن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها، (...) فليست مزية الشاعر أن يقول عن الشيء ماذا يشبه وإنما مزيته أن يقول ما هو، ويكشف عن لبابه وصلة الحياة به (...)، فالتشبيه هو أن تطبع في وجدان سامعك وفكره صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك؛ وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان؛ فإن الناس جميعاً يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس. وبقوة الشعور وتيقظه وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه، ولهذا لا لغيره كان كلامه مطرباً مؤثراً وكانت النفوس تواقة إلى سماعه واستيعابه لأنه يزيد الحياة حياة كما تزيد المرآة النور نوراً. فالمرآة تعكس على البصر ما يضيء عليها من الشعاع فتضاعف سطوعه والشعر يعكس على الوجدان ما يصفه فيزيد الموصوف وجوداً، إن صح هذا التعبير، ويزيد الوجدان إحساساً بوجوده، وصفوة القول: إن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره: فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء وإن كنت تلمح وراء الحواس شعوراً حياً ووجداناً تعود إليه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم ونفحات الزهر إلى عنصر العطر فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية (10).
لغة الصورة الفنية ليست لغة عادية، وأن الكلمات فيها ليست مجرد كلمات؛ أي أن تلك الكلمات لم تعد تستجيب للمعنى العرفي المتفق عليه في معاجم البشـر، بل غدت في السياق الجديد أشكالاً مفتوحة على الدلالات السيميولوجية التي قد يقصدها الشـاعر
نلمس من ذينك المثالين أن النقاد والبلاغيين العرب ربطوا بين الصنعة الشعرية والصورة، وجعلوا من التخيل والإلهام عماداً للصورة، من خلال إدراكهم الشامل للارتباط القائم بين مادة الشعر والتصوير؛ كما نلمس أيضاً أن النقاد وعلماء البيان فرقوا ـــ أول ما فرقوا ـــ بين الحقيقة والمجاز، ذلك أن الحقيقة عندهم ترتهن بالكلمة المستعملة فيما وضعت له، في اصطلاح التخاطب والتفاهم، والمجاز ما استعمل فيما لم يكن موضوعاً له، على سبيل الاتساع والعدول باللفظ عن الظاهر، وكذلك كانت الكناية بين أساليب التعبير غير المباشرة، وهي لفظ أريد به لازم معناه معه(11)؛ كما أنه من المستحيل الحديث عن الاستعارة والتمثيل دون تصوّر أن هذه تحدث عن تأليف العبارة، وما يكون لهما من حُسْن إنما يكون «بالمسلك الذي سُلِكَ في النظم والتأليف»(12).
وقد قسم الجرجاني الكلام إلى ضربين «ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده؛ وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل»(13).
فارتباط المجازات بالنظم والسياق هو ما يحدِّد نسبية فضل كلام على كلام، من جهة، واستحالة تكرار المعنى نفسه في صور مختلفة لما تنطوي عليه كلُّ بينة لغوية من خصوصية؛ فلو أخذنا، مثلاً، صيغتي التشبيه: (زيد كالأسد). و(وكأن زيداً الأسدُ) نجدهما تشتركان في أصل المعنى وهو تشبيه الرجل بالأسد، إلاّ أن الصيغة الثانية أقوى في الدلالة لأنها حوَّلت علاقة الشبه إلى علاقة تطابقٍ وأوهمتنا بأن الرجل أسدٌ في صورة آدمي؛ ولعل من أبرز الدراسات العربية للصورة، دراسة عبد القاهر الجرجاني الذي استعمل مصطلح الصورة بمفهوم يختلف عن استعمالات عصره وبمعنى فني رائد؛ فبدا جلياً أن الجرجاني لا يستعمله بالمعنى الفني الضيق الشائع في مؤلفات نقد الأدب والذي تندرج فيه وجوه المجاز كالاستعارة والكناية والتمثيل، وإنما يستعمله في معنى أعم قريب من استعمال المناطقة عندما يقابلون بين الصورة والمادة، وهي عنده درجة من التجريد العقلي يستخلصها الناظر من الأشكال اللغوية الماثلة في النص بعد أن سبرها بالنظر والفكر، هي صورة العقل في الكلام، إن صحت العبارة. بمعنى أنها غير موجودة في ظاهر النص، وإنما يتوصل إليها بالتفكير في العلاقات الخفيَّة التي تشدُّ بناءه (14).
ويحاول أن يحدد حقيقة الصورة في مفهومه لها بقوله: «واعلم أن قولنا الصورة إنما هو تمثيلٌ وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا، فلما رأينا البَيْنُونَة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة فكان بَيْنُ إنسانٍ من إنسان، وفرس من فرس، بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك»؛ ويقول: «كذلك كان الأمرُ في المصنوعات فكان تَبَيُّنُ خاتمٍ من خاتم وسوارٍ من سوار بذلك»(15).
وكذلك يكون في الشعر؛ فالشاعر يأخذ لغته من مفردات الوجود، ليجعل منها بنية لغوية جديدة، كأنها تظهر إلى الوجود للمرة الأولى. لأن قدرة اللغة في الشعر وصوره على الإدهاش، قدرة فذة لا يمتلكها كثيرون من غير الشعراء، فهم يجلونها ويزيلون عنها صدأ الاستعمال، بل يعيدون خلقها، فلغة الشعر هي اختراق للغة، وائتلاف المتناقضات، لغة تكشف لنا عن اللامرئي وتجعله مرئياً؛ وهذا يعني من جهة أخرى، أن الشاعر يجب أن يعود باللغة إلى بكارتها: اللغة المجسدة لجسديّة العالم والأشياء، تلك التي تجمع اللَّذَّةِ والألم معاً (16).
إن اللغة الشعرية التي تجعل من الصورة أساساً لها، تصبح وسيلة تواصلية مسعفة في التعبير عن أية حالة أو رؤية تعبر وجدان الشاعر وذهنه؛ بل تمكنه من طريقة سحرية في الإيحاء بالشيء الذي يجعل المتلقي قادراً على التقاط الإشارات وتحويلها إلى دلالات قد تضيق أو تتسع حسب طبيعة مرجعية المتلقي، وقدراته على التأويل.
ونستنتج من هذا أن لغة الصورة الفنية ليست لغة عادية، وأن الكلمات فيها ليست مجرد كلمات؛ أي أن تلك الكلمات لم تعد تستجيب للمعنى العرفي المتفق عليه في معاجم البشر، بل غدت في السياق الجديد أشكالاً مفتوحة على الدلالات السيميولوجية التي قد يقصدها الشاعر أو يسمو بها القارئ إلى آفاق واسعة، وهو يعيد خلقها من جديد. وربما كان هذا هو المقصد الذي يريده محمد لطفي اليوسفي حين يقول:«الكلمة ليست مجرد لفظ محدد للمعنى، بل هي عبارة عن مستقر تلتقي فيه كثيرة من الدلالات. إنها، بتعبير آخر، عبارة عن حيز يتواجد فيه أكثر من احتمال، غير أن الاستعمال المتعارف أي طريقة توظيف الكلمة في سياقات معتادة، هو الذي يجعل دلالة ما تطغى على كل الاحتمالات. وعندما يعيد الشاعر تركيب الكلام يكون قد أدخل الكلمة في شبكة من العلاقات تجبر ذلك الحشد الدلالي على البروز. هنا بالضبط يتنزل الشعر. إنه يحرر الكلمة من المواضعة الاصطلاحية، ويصبح نوعاً من الكلام يكسر القواعد ويتجاوز السنن، ليؤسس تبعاً لذلك، آفاقاً جديدة مليئة بالرؤى والاحتمالات»(17).
التعبير بالصورة، فهي خاصية شعرية ؛ لكنها ليست خاصة بالشعر، وقد اعتمد عليها المثل، كما فضلتها الحكمة، بل إن من التصوير القرآني ما فتح السبيل أمام الأسلوب العربي لطرائق قدد من الصور، ويفسر ذلك بدوره عناية التعبير القرآني بالتصوير الفني إذ يؤثر التعبير القرآني والحديث النبوي التعبير بالصورة وضرب المثل، وهو ما لاحظه الشعراء، ونسجوا على منواله، فقد أقر أبو تمام أنه صاغ (ماء الملام) قياساً على (جناح الذل).
وعليه القياس في الصور الكبرى مثل النبات الذي يهيج، وسراب بقيعة، وأضرابهما، فالتصوير الفني، عبارة عن مجموعة من الألفاظ مرتبطة ومنسقة على نحو معين، على شكل مجموعة من العلاقات اللغوية التي تعبر عن انفعال خاص بوساطة اللغة، التي تعد في الأصل أداة مشاعاً يستخدمها أهل اللغة بعامتهم؛ ولذا يجد الشاعر نفسه مضطراً في كثير من الحالات إلى «أن يغير من قيمة هذه العملة، وكل هذه التغييرات، لا لأنها لها في ذاتها هذه الخاصة، ولكن لأنها خضعت للتجربة الشعرية في نفس الشاعر، ومقتضيات التعبير عن هذه التجربة»(18)، ويتم هذا التغيير باستخدام الارتباطات غير المألوفة والمقارنات غير المعهودة في اللغة العادية المبنية على التعميم والتجريد، فتكتسب لغته آنذاك منطقاً انفعالياً مؤثراً، قادراً على حكم أدائها وضبط اتجاهه، وتصبح وظيفتها نقل لازم المعنى بعد أن كانت أداة لنقل المعاني المجردة، فتنقل إلى المتلقي العواطف والآثار الوجدانية والمواقف والتجارب الفنية في شكل جديد، «وهكذا تسهم الكلمات، بما فيها من طاقات يستطيع الشاعر أن يفجرها في كشف أبعاد التعقيد النفسي في الصورة، وذلك لأن الصورة الشعرية التي يخلقها الشاعر، تنير معالم نفسيته من الداخل»، بوساطة اللغة؛ هذا الاستخدام الخاص للدلالات اللغوية الجديدة، هو الذي «يساعد الشاعر على التحلل من قيود المعاني المباشرة، منطلقاً منها إلى المعاني الإيحائية الرمزية، من خلال رسم الصورة الشعرية التي تساعد على تفاعل ذات الشاعر مع طبائع الأشياء، وبالتالي يغوص وراء المعاني البعيدة»(19).
فالتعبير الشعري تعبير يتميز بأنه تعبير تصويري لا تقريري، وأن التصوير في حاجة إلى التشبيهات والاستعارات والصور، ويعتبر عموداً يقوم عليه ركن أساس من أركان الشعر، وهو ركن التعبير الذي يكون ديباجته(20).
هذه اللغة المخصوصة ترتبط بعمق التجربة التي يعيشها الشاعر، فقد تأتي صريحة يرسم من خلالها الصور، وقد تتفاوت في مواقع البلاغة، فتختلف بين الإيجاز والإطناب مما يجلب للقارئ اللذة أحياناً، والسآمة أحياناً أخرى، وعلى هذا تتميز العبارة الخيالية من العبارة الصريحة، إذ إن الصور في العبارات الصريحة لا تهيج في نفس السمع هزة الطرب التي تثيرها العبارات الخيالية، فالعبارات الخيالية تشارك العبارات الصريحة في جودة نسبها واشتمالها على المعاني التي ترتقي بها في مدارج البلاغة، وتزيد عليها بإظهار المعنى في صورة تطرب لها النفس، وإذا كانت العبارة تقسم إلى أصلية وخيالية، فهل يفسر هذا إلا أن يكون ثقة بقدرة الخيال ودوره في الإبداع الفني؟، وهل يخرج هذا عن كونه دليلاً على ازدواجية مصدر الخيال بين ما هو عائد إلى الفطرة، وبين ما هو مضاف إليها من مادة الحضارة، أو القوة النفسية التي تجعل الشاعر أقدر على استخدام الخيال؟(21).
إن الصورة الشعرية تركيبة غريبة معقدة، هي بلا شك أكثر تعقيداً من أي صورة فنية، ولذا يبدو تحديد طبيعتها أمراً محفوفاً بكثير من الصعوبات، وربما كان هذا هو السر في تعدد ما قيل حولها من تعريفات، وكذلك تعدد مناهج دراستها، لكنها تحتفظ بحقيقتها حية في ظلال كل تعريف، لأنها وقبل كل شيء «تركيبة لغوية، تقوم أساساً على تنسيق فني حي لوسائل التصوير وأدواته»(22)، تلك الأدوات المرتبطة بأداة الشاعر الرئيسة ارتباطاً وثيقاً، كارتباط فكره بعاطفته، فاللفظ يعانق الفكرة، والعاطفة تلتقي مع الخيال، فيتحقق تركيب الصورة الشعرية من اللغة بدلالاتها المعنوية والموسيقية، في مشهد قوامه الرسم بالكلمات.
لقد تجاوز مفهوم الصورة الشعرية حد الصورة البيانية أو المجازية، ليشمل الصورة التي تتحقق أو تتجسد بغير طريق الاستخدام المجازي إذ ترسم الصور بالكلمات غير المجازية، مثل قول الشاعر المصري محمـد أبو سعـيد:
هذي الغابة تسكنها كل صنوف الحيوان
فيا ويل الإنسان من العزلة..
فيا ويل الإنسان من العزلة..
فالشاعر في هذا النص يشير إلى مقارنة عقلية بين الغابة التي تكتظ بصنوف منوعة من سكانها وبين عزلة الإنسان على الرغم من حضارته؛ فيسلك الشاعر طريق الرمز بدلاً من المجاز لتحقيق شعرية الصورة، ويدعم ذلك الرمز بعدد من المقومات الفنية من قبيل المفارقة، والمقارنة العقلية، والإيحاء؛ فالصورة الشعرية تستمد أهميتها مما تتمثله من قيم إبداعية وذوقية، وتعبير متوحد مع التجربة ومجسد لها؛ وهذا يعني أن الشعر في جوهر بنائه ليس محاولة لتشكيل صورة لفظية مجردة، لا تتغلغل في روحها عاطفة صاحبها، فهي في جانب كبير منها سعي لإحداث حالة من الاستجابة المشروطة بفنية البناء الشعري. ولأجل ذلك عرفها سي داي لويس بأنها «رسم قوامه الكلمات المشحونة بالإحساس والعاطفة، قد تحدث من وصف واستعارة وتشبيه، أو تقدم إلينا في تعبير أو فقرة هي حسب الظواهر وصفية خالصة للوصف، ولكنها توصل إلى خيالنا شيئاً هو أكثر من مجرد الانعكاس الدقيق للواقع الخارجي، ومن ثم نمضي إلى القول بأن كل صورة شعرية هي إذن بدرجة ما استعارية، وهي تبدو لنا من مرآة لا ترى الحياة فيها وجهها، بل ترى بعض الحقائق عن وجهها»(23).
تشكيل الصورة في الشعر:
هناك وسائل منوعة يتم بوساطتها تشكيل الصورة في الشعر من حيث الموضوع: بأن يتم تشكيل الصورة بوساطة المكونات النفسية أو الاجتماعية أو الحضارية؛ أو يتم تشكيلها بوساطة أساليب الصوغ، وقد تتداخل تلك الأشكال مع بعضها بعضاً، لكنها في النهاية تسهم بفعالية في بناء الصورة الشعرية في الشعر الحديث، ومن تلك الأشكال التي تعتمد على أساليب الصوغ: التشخيص والتجسيم، وتداخل معطيات الحواس؛ أو تعتمد على البعدين الزمني والمكاني؛ ومنها ما يعتمد على إيجابية أو سالبية الاتجاه؛ وهناك أشكال أخرى قد يبدو الحديث عنها مكروراً لاستدعاء نسقها في مواطن أخرى من البحث، مثل استدعاء كثافة الصورة وتركيب بعضها من بعض في الصور الكلية والجزئية، واستدعاء ميلها للعمق في الصور المجازية، وإضفاء عنصر الحركة عليها في الصور الساكنة والمتحركة؛ وهناك تشكيل من حيث المضمون أو الموضوع، يتمثل في استمداد الشاعر وسطاء فنيين من خارج القصيدة للمساهمة في بنائها المعرفي، فيستمد من فن القصة، والأسطورة، والرمز، والتراث، والقناع، حتى يجد بوساطتها معيناً فاعلاً في نقل الأثر الوجداني إلى المتلقي، وسوف أتناول هنا نماذج لهذه التشكيلات:
أولاً: التشكيل بالقصة
المقصود بتشكيل الصورة الشعرية بوساطة القصة، أن تتخذ الصورة الشعرية من القصة وسيطاً لها دون أن تهدف من وراء ذلك إلى الرمز أو الإحالة، فالرمز يحيل النص إلى نمط آخر من التشكيل هو التشكيل بالرمز الأدبي أو الرمز الأسطوري، أما الإحالة فيقصد بها التشكيل بوساطة الإحالة إلى الموروث أو استمداد قناع منه تعمق التجربة وأسلوب صوغها ومن ثم تلقيها، وفي التشكيل بوساطة القصة يهدف الشاعر إلى نقل وجدانه ومشاعره إلى المتلقي عن طريق الحكاية، سواء أكانت أولية أم مركبة، وهي في الغالب تصف حالة من الحالات الوجدانية للشاعر، ومن ذلك النوع قصيدة (أغنية للأسى) للشاعر حسن توفيق(24)، التي اختزلها الشاعر في صورة يسيرة حيث يصور ما يسيطر عليه من حالة الأسى والحزن، بقوله: «قلبي يسير مع السنين على شواطئ من ضجر»؛ بهذه الجملة التي تتخلق في طياتها صورة شعرية أولية، اختصر الشاعر عدداً من الأفكار والمشاعر، التي بدأ يحللها ويضيف إليها ويشرح جزئياتها ويبرر آثارها في تضاعيف القصيدة، التي ترجع كل أجزائها إلى الصورة الرئيسة، بوصفها أجزاء داخل النسق الرئيس للصورة، فبينما القلب ينتظر القمر، يصطحب السنين في جولة على شواطئ الضجر، نجد هذا القلب نفسه يطوي في داخله أحزاناً ضجرة بدورها، ويرى التعاسة في سهره وذكرياته:
قلبي يسير مع السنين على شواطئ من ضجر
تتثاءب الأحزان فيه..، ولا تنام
فيرى التعاسة حين يوغل في السهر
في ذكريات أو طيوف لم تزل تئد السلام
ويظل يبحث عن خيال قد عبر
متلهفاً للنور من خوف الظلام
ويصيح في ملل وضيق:
طال انتظاري للقمر
ويدخل الشاعر إلى هذه الدلالات المتعلقة بالقلب، الذي يعد بدوره محوراً للدلالة، نمطاً آخر من أنماط التكثيف هو المنولوج الداخلي، إذ يخاطب القلب نفسه، فيأسى على غياب القمر الذي طال انتظاره له في الليالي الظالمة، التي استفاق الصمت فيها نهماً فسرى كالحريق:
طال انتظاري للقمرْ
عبر الليالي الظالمةْ
والصمت في نهم يفيقْ
يئد الوتر
الصمت يسري كالحريق
بعد التفتح بالأغاني الحالمة
وهنا يستخدم الشاعر عدداً من الإزاحات الدلالية، أو النقل الدلالي، تصير معها الليالي ظالمة لا مظلمة، والصمت يفيق نهماً، فيوهم بالقدرة على الفعل لكل من الليالي والصمت، بل تتعمق رؤيته وقدرته على صوغ تجربته الجزئية في حديثه عن الصمت الذي يزكو كلما ركد، بينما هو يحوله إلى حركة كثيفة يصفها بالنهم، ويسند إليه عدداً من الأفعال مثل وأد الوتر والسريان في الأغاني الحالمة كالحريق، يحرقها ويدفعها إلى الصمت، وكأن كل أسباب التعلق بالدنيا فقدها هذا القلب المترقب، فعاد ليسير مع السنين على شواطئ الضجر، أحزانه تتثاءب ولا تنام، وهناؤه انتحر:
قلبي يسير مع السنين على شواطئ من ضجر
تتثاءب الأحزان فيه..، ولا تنام
وهناؤه العبق انتحر
ليعود وهماً في يديَّ مفتتاً مثل الحطام
فلا يجد هذا القلب سوى التشظي والتفتت بين يدي صاحبه، ويستمد الشاعر من قدرته على الإزاحة وملاحظة علاقات الألفاظ، لفظ (وهم)، ويسند إليه تحول القلب، فالقلب يعود وهماً، ليوحي بأنه سبق له دخول تلك الحالة، فما كان فيه طوال التجربة الشعورية للقصيدة لم يكن سوى صحوة ألم، مر بها القلب، وعاد إلى ما كان فيه، معنى تتعاوره الأحزان، وبلا أحلام مفتتاً مثل الحطام.
ثانياً: التشكيل بالموروث
يتخذ التشكيل بالموروث اتجاهين غير متعارضين، هما التشكيل بالموروث الرسمي أو ما يسمى بالإرث الثقافي، والتشكيل بالموروث الشعبي، وهو ما يسمى بالإرث الوجداني، وهو الفولكلور وما يشبهه، وهذان الاتجاهان يتطابقان في تاريخنا الثقافي العربي، فيصدران عن منبع واحد بصورتين، رسمية وشعبية، أو رأسية وأفقية، وقد عالج الشعراء النسقين في أعمالهم، وبعضهم عالجهما معاً في نطاق عمل واحد، مثلما فعل الدكتور محمد أبو دومة في قصيدته «قَرِّبَا مَرْبِطَ النَّعَامَة»، فقد يتبادر إلى الذهن القصد الأولي المباشر المستمد من تناص الشاعر مع جملة من قصيدة الحارث بن عباد الشهيرة، وهو استمداد الشاعر رمز النعامة لبث الحماسة في النفوس ومخاطبة النخوة العربية والكرامة العربية والحض على النفرة والذود عن هذا الكيان الجريح، وأرضه السليبة وكرامته المهدرة وعزته المغتصبة، لكن الشاعر مع تأكيده على هذه المعاني في المقدَّمة النثرية التي تصدرت القصيدة، غير منحى التشكيل المفرد إلى التشكيل المزدوج عند إشارته إلى أن الحارث بن عباد من فوق متن النعامة كسر ظهر الزير سالم أبو ليلى المهلهل وجز ناصيته، وهنا يتداخل الوعي الرسمي مع الوعي الشعبي بالقصة ذاتها، ويمتزج التاريخان، فالزير سالم ملحمة شعبية مهمة لا تقل في أهميتها عن السيرة الهلالية، وإن قصر الباحثون الشعبيون في درسها، وإذا كان الوعي الشعبي الكلي قد امتزج بالتأريخ الرسمي لحرب البسوس فإن هناك تداخلات تعبيرية جزئية استمدها الشاعر من الوجدان والثقافة الشعبيين، للتأكيد على فاعلية ووجود هذا البعد في القصيدة، يقول الشاعر محمد أبو دومة (1944):
باعها صاحباك.. النعامة..!!
................
رثتها القصائد..
والنادبات ارتدين جلابيبَ طين لها..!!
وحدون حداءً كئيباً..!!
فأرح ظنك المستفزْ..!!
تعتمد القصيدة على الأسلوب العربي في مخاطبة المثنى، حيث يبدؤها الشاعر بقوله (لا تقعدا أخويَّ)، وجرياً على تناسق الأسلوب بين القصيدة وتناص العنوان الذي يخاطب المثنى (قربا)؛ فالشاعر يستنفر القوم ويستحثهما ويطلب إليهما عدم الركون والخنوع والتخاذل، فيجيبه صوت بأن النعامة باعها صاحباه ورثتها القصائد، ليرمز إلى الخيانة المستترة والخداع ؛ ثم يبدأ الشاعر في تجسيد صورة شعبية تتداخل مع الصورة التراثية الأولى التي هي الأصل فبينما يتمثل الحزن العربي الرسمي في الرثاء نجد أن الحزن الشعبي يتمثل في عمليات شكلية ونصية، مشيراً إلى أن القدماء الذين باعوا النعامة بكوها مداهنة وخداعاً وهم ظالمون، بينما العربي اليوم ممثلاً في المستوى الشعبي، بكاها وحدا حداء كئيباً وهو المقابل للرثاء عند العرب القدماء، فالصورة تجسد بعدين تاريخيين وتقدم من خلالهما صورة من مستويين تصويريين مستوى تظهر فيه صورة المخادع العربي يرثى للنعامة وهو بائعها، والآخر مستوى يجسد الحزن الشعبي بشمولية أكبر وتجسيد حسي وذهني معاً، فالنادبات ارتدين جلابيب طين حزناً على النعامة، وهو أسلوب شعبي للحزن، تتخذ فيه النادبة أو الثكلى قبضات من الطين وتضعها فوق رأسها وعلى وجهها وثيابها هذا هو جانب التجسيد الحسي، ثم يليه جانب المشاركة الذهنية بوساطة الحداء الكئيب، وهو يسمى (العديد)، أو (فن التحزين).
والنمطان الرسمي والشعبي هما بالنسبة إلى المتلقي المعاصر من قبيل الموروث، وإن كان أحدهما يمثل الموروث الرسمي، والآخر يمثل الموروث الشعبي.
ثالثاً: التشكيل بالأسطورة
يعد استخدام الأسطورة في الشعر، من القضايا النقدية المهمة التي طرحها النقد الحديث، وتعد تجربة صلاح عبد الصبور في توظيف الأسطورة واحدة من أبرز تجارب توظيف الأسطورة في الشعر العربي الحديث، وربما يرجع ذلك إلى أنه كان ينفر من السطوة المادية لشخصيات الأسطورة على النص، فيرى أن ذلك يثقل كاهل القصيدة وتصرفها عن التلقي، فيقول: «لا أحب قط أن أعلق في قصيدتي بدبوس أسماء أعلام الأساطير والقصص الشعبي كلون من الحلية الزائفة»؛ فالدافع الحقيقي وراء استخدام الأسطورة في الشعر ليس مجرد معرفتها، ولكنه محاولة إعطاء القصيدة عمقاً أكبر من عمقها الظاهر، ونقل التجربة من مستواها الشخصي الذاتي إلى مستوى إنساني جوهري، وبذلك يتخطى الشاعر التعبير عن الأسطورة ليصل إلى التعبير بالأسطورة.
ومن أبرز الأساطير التي صورها في شعره حتى عاود استخدام صداها في أكثر من قصيدة، بل في أكثر من ديوان، أسطورة (إيزيس وأوزوريس) الفرعونية، ومن القصائد التي استمد لها ذلك التماس مع تلك الأسطورة قصيدته في رثاء جمال عبد الناصر؛ لقد استغل الشاعر طاقات الأسطورة في التقائها بالوجدان الجماعي ليضفي على تجربته الشعرية الثراء والعمق.
يستمد صلاح عبد الصبور من أسطورة (إيزيس وأوزوريس) محوراً رئيساً لتجربته، هو محور البعث والحياة المتجددة، وقد اجتمع لهذه الأسطورة عوامل كثيرة لتحقق القبول لدى المتلقين، أولها أن الأسطورة مصرية، فهي قريبة من الوجدان العام لأهل مصر بالأصالة، وللوجدان العربي كله، ثانياً لأن المرحلة كانت بحاجة إلى الحث على الصبر على ما يضيع، والأمل في استرجاع ما ضاع، والتطلع إلى انبعاث الكيان الكلي من جديد، بعد أن تمزق، ثم إنه جعل من مصر إيزيس التي تنطلق في إثر أوزوريس لتحثه على العودة للحياة، فيتوحد جمال عبد الناصر معها، فيصبح منوطاً بها أن تجمع ما تناثر من هذه الأشلاء والمزق(25):
نلقاك شاباً في رداء الحرب تنفخ في النفير
كي توقظ الأشلاء، تجمع شمل مصر المسترقةْ.
كانت على مجرى الزمان تمزقت قطعاً
فطفت على ماء النيل تجمع مزقة إثر مزقةْ
حتى نهضت، نهضتما، ألقيتما التابوت في لهب السعير
وعدتما في خير رفقة.
رابعاً: التشكيل بالرمز الأدبي
ومن أبرز أنواع التشكيل الموضوعي للصورة الشعرية، ذلك النوع الذي لا يستعين بالموروث من ناحية، ولا يقتصر على سرد المضمون القصصي المباشر للتجربة من ناحية أخرى، وإنما يسلك سبيل الرمز والإيماء والإشارة والإيحاء، مستعيناً بأسلوب الرمز الأدبي للتوصل إلى مبتغاه، ومن ذلك قول الشاعر درويش الأسيوطي في قصيدته (خُشُب):
في الغرب نجار تمرس بالنجارة والخشب..
ولديه آلات تشق قلوبنا شقاً..، تسويها على حسب الطلب
ما كان معتدلاً..، بنوا منه الكنائس، والمساكن،
صنعوا منه الأسرة والنوافذ، خلقوا من لبه ورق الجرائد والخطب
ما كان ملتوياً عصيَّ الرأس
خُصص للمدافئ في الشتاء الثلجِ..، يزهر باللهب.
ومن البقايا يصنعون دمى لأطفال المدارس عندهم..، وقت اللعب..
فإذا أحاطوها بأضواء الدعايةِ، والبغايا..، والكذب..
صارت ـــ بعون الله ـــ حكاماً على أرض العرب (26).
بوساطة صورته الكبرى التي تجسد صورة متكاملة لنشاط من الأنشطة الإنسانية هو النجارة ودوره في الحياة الإنسانية بعامة واختلاف هذا الدور باختلاف المكان والزمان، والأصل ينطلق من مادة واحدة هي الخشب بين يدي نجار متمرس، والشاعر يستخدم عدة وسائل فنية للوصول إلى الهدف الموضوعي أو الناتج الدلالي للقصيدة، وهو التأكيد على مبلغ هوان الحكام العرب، دون أن يسقط في المباشرة والتقرير الدلاليين، كما يستمد المفارقة والتعريض لدعم فكرته الرئيسة، فالشاعر يقول في صورته الشعرية إن أصل الحكام العرب بقايا أخشاب الصناعة، يصنع منها دمى لأطفال المدارس في الغرب، وبعد أن تُحاط بالبغايا والأكاذيب تبلغ عندهم مرتبة الحكام على أرض العرب، وهو أمر يرسخ فكرة التبعية السياسية والمهانة، وسيطرة الغرب على مقدرات الحكم العربي.
خامساً: التشكيل بالقناع
قد يتخذ الشاعر من بعض الشخصيات أو الوقائع التاريخية، التي يستدعيها في شعره، أقنعة، يتوارى خلفها بوصفه إنساناً معاصراً، فيحكي الشاعر عن الحاضر بوساطة الاستحضار المكثف للماضي، وهو ما سمي بالقناع، وذلك بأن يبتكر الشاعر شخصية رمزية أو يستدعيها في شعره، فيتحدث باسمها وبلسانها عن شواغله وأفكاره ورؤاه، وهذا النمط لم يعالجه الشعر العربي القديم، على الرغم من وجود ذلك المنحى والاتجاه الفكري والفني في التراث النثري العربي بكثافة، كما هو الحال مثلاً في: كليلة ودمنة لابن المقفع، وفي جل المقامات، وهي فن كان يقوم على نحو رئيس على فكرة القناع.
وقد اهتم الشعر الغربي بذلك الأسلوب الصياغي اهتماماً كبيراً، وتأثر به الشعر الحديث في جملة ما تأثر به من أساليب في الصوغ والفنيات، وقد أعلن الشعراء عن تأثرهم بالشعراء الغربيين، فيقول الشاعر أدونيس: «لا شك في أن وراء ابتكاري لشخصية «مهيار الدمشقي»، تأثر بنماذج غربية: زرادشت نيتشه، فاوست غوته، مالدورور لوتر يامون».
إن الصورة الشعرية تركيبة غريبة معقدة، هي بلا شك أكثر تعقيداً من أي صورة فنية، ولذا يبدو تحديد طبيعتها أمراً محفوفاً بكثير من الصعوبات، وربما كان هذا هو السـر في تعدد ما قيل حولها من تعريفات، وكذلك تعدد مناهج دراستها، لكنها تحتفظ بحقيقتها حية في ظلال كل تعريف
لقد احتشد ديوان الشعر العربي بالأقنعة التي يستمد منها الكاتب ساتراً يتوارى خلفه فيسقط على الحاضر ما يوازيه من صور الماضي، فصلاح عبد الصبور استمد في شعره قناع «الملك عجيب بن الخصيب»، وهو من ملوك ألف ليلة وليلة، كما يقول صلاح عبد الصبور نفسه، فيفتح الباب أمام ضرورة واقعية التاريخية للقناع، وهو الأمر الذي يفتح أمامي السبيل لأرى أن هناك فارقاً واجباً بين القناع والنماذج العليا، فأقترح أن نفرق بين النماذج القناعية وبين استدعاء النماذج العليا، فاستدعاء النموذج الأعلى يجب أن يكون قدوة موضوعية، وهو ما يجعل أمر واقعيته التاريخية حتمياً، بينما القناع يمكن أن يقدم هو من نفسه لنفسه بنية ظنية، تقدم واقعاً بديلاً يلمح إلى واقع مرفوض ينبذه الشاعر، ومن ثم جاز للشعراء استمداد نماذج لأقنعتهم من التراث الشعبي الفولكلوري كما فعل الشاعر صلاح عبد الصبور مع عجيب بن الخصيب، قاصداً به ابن الملك إيمار صاحب جزائر الأبنوس، بينما إبراهيم بن الخصيب صاحب مصر لم يكن هو ما قصده الشاعر في قصيدته فإبراهيم خرج من مصر إلى بغداد ومنها إلى البصرة بحثاً عن صاحبة الصورة التي هي جميلة الزاهدة بنت أبي الليث العميد صاحب البصرة، أما صعلوك قصة الحمال والبنات، فهو ابن الملك إيمار؛ وهو من قصده الشاعر ليعرض من وراء قناعه بعضاً من شواغله وهمومه الفكرية، في صورة هذا الصعلوك، إذ يجعل من هذا الإنسان الذي نشأ في الغي والتخبط والسفسطة صورة للجور والضلال، ومن بلاطه صورة للكون، ومن الملك الأب الميت صورة لسيادة القوى العليا على المجتمع، ثم تسلم تلك القوى الإنسان للكون منفرداً، باحثاً عن الحقيقة، زاده قدر من السفسطة وقليل من الخبرة، فيبحث وراء الزيف عن الحقيقة في رحلة باطنية:
أبحث في كل الحنايا عنك يا حبيبتي المقنعة
يا حفنة من الصفاء ضائعة
فالحقيقة الوحيدة القاسية التي يجدها الملك هي أن الإنسان قد سقط كما يسقط البهلوان في الشبكة؛ ثم بعد قناع عجيب بن الخصيب، يستمد صلاح عبد الصبور قناع «بشر الحافي»؛ الذي استدعاه من سطر وحيد قرأه في أحد كتب الطبقات، ليصوغ منه صورة رمزية مهمة تدعو للقيمة وتنبذ التكالب على الحياة.
ومن أقنعته كذلك قناع السندباد، الذي استخدمه في قصيدته «عندما أوغل السندباد» التي حكت عن تجربته في الهند، إذ انعكست في صورتها قناعاته وأفكاره ورؤاه التي استمدها من تلك الرحلة التي عمل خلالها مستشاراً ثقافياً في السفارة المصرية هناك، وقد احتشدت القصيدة بالصور المهمة المحملة بالأفكار والدلالات:
كل شيء تجلى له وانكشف
كان انحدار المياه إلى منبع النهر حتماً
وصار الرحيل مللاً يستطيل
ثبت السندباد مجاديفه وأدار الشراع على الريح
واستعد ليوم المعاد.
من خلال الصور الكلية والجزئية أسبغ الشاعر على قصيدته عدداً من الأفكار التي تتداعى في وجدان التاجر الرابح في رحلة عودته، محملاً بجديد بضائعه وأرباح سفرته، تتعانق في صوره الرؤية البصرية، وتمتزج بها الرؤى النفسية والوجدانية، تتجاذبه فرحتان فرحة الظفر وفرحة السلامة والعود الحميد.
ومن الشعراء الذين استمدوا الأقنعة في صورهم الشعرية الشاعر أدونيس الذي استدعى عدداً من الأقنعة في شعره من بينها قناع «مهيار الدمشقي»، وهناك من النقاد العرب من يخلط بين شخصية مهيار الدمشقي، والشاعر مهيار الديلمي، وليس ما يجمع بينهما غير الاسم «مهيار»، ما عدا ذلك، لا صلة بينهما إطلاقاً، على أي مستوى، فقد أراد أدونيس من ابتكار هذه الشخصية أن يخرج من الخطاب الذاتي الشعري المباشر، وأن يتحدث عن عالمه بلغة غير ذاتية، لغة رمزية تاريخية، موضوعية، ينطق بها شخص، رمز وأسطورة في آن واحد، وهو بذلك أكثر من قناع، إنه بؤرة تتلاقى فيها أبعاد الثقافة العربية، في شاغل رئيس محوري: هو تجاوز العالم العربي القديم، إلى عالم عربي جديد.
اللجوء إلى المثل العليا والأقنعة فنية تشكيلية استطاعت أن تمد الشعر العربي بسياق رمزي يتيح إسقاط الماضي عبر الحاضر واستمداده لمعالجة القضايا الشائكة وبوصف القناع صورة من صور المعالجة له أهمية مقدرة في عمليات الصياغة، فهو فنية أسلوبية مهمة في الكتابة الشعرية العربية الحديثة، تكاثر لاحقاً، إلى الرموز والأقنعة التاريخية.
ولتلقي الصورة هناك عدة أوجه يمكن تلقي الصورة من ناحيتها ـــ كل على حدة ـــ بناء الصورة ووحدتها الجزئية ودورها الدلالي وعلاقتها بالصورة الكلية للنص والصورة الجزئية المضمنة فيها أو المصاحبة لها أو المشتملة عليها.
هذه الفكرة لا تقف على حقيقة معاناة الكشف عن الصورة أو اكتشافها عند الشاعر، وكذلك لا تأخذ في حسبانها المعاناة الأخرى المقابلة لدى المتلقي عند استقبال الصورة وإدراكه لأبعادها داخل القصيدة، حيث يتخذها سبيلاً للتأثر بتجربة الشاعر ومعايشتها بنفسه، وبالتالي يتمتع بالإدراك الجمالي للأشياء المبعثرة، تلك التي أعيد تشكيلها في تصوير فني جميل ساهم فيه خيال الشاعر وانعكست من خلاله عواطفه وانفعالاته وقدراته الفنية؛ لكن من الأفضل ـــ إذا كان الأمر كذلك ـــ ألا تتحكم فينا فرضية واحدة، بل يمكن أن نسمح لفرضيتين في آن واحد بالتحكم في حكمنا الأدبي، أولاهما: أي الصور البلاغية تكون أكثر عمقاً من حيث هي صورة منذ البداية، وثانيتهما: ما هي إمكانية الحكم من خلال نجاح الشاعر في إعادة تشكيلها، أو في خلقها ابتداءً، أو في وضعها ضمن النسق العام محددة بمجموعة من العلاقات الفنية داخل السياق التصويري في العمل ككل(27).
فليس من المطلوب أن «نستدعي إلى أذهاننا صور الأشياء التي يعبر عنها الشاعر، وإنما نمارس، وحسب، طائفة من الأفكار والمشاعر المصاحبة لها، فضلاً عن أن الصور الذهنية قد تكون غامضة مجملة غير متناسقة، في حين تكون الأفكار المصاحبة لها دقيقة متناسقة»(28)؛ فليس الوضوح الحسي بعامة البصري بخاصة من غايات الصورة، والشاعر عندما يعتمد على النواحي الحسية، إنما يريد أن يعبر من خلال الحسي إلى الخيالي والفكري، وليست وظيفة اللغة ذات الألفاظ أن تقدم إلينا نسخاً من الإدراك والأحاسيس المباشرة، قائمة للإدراك الحسي كما هي، لأن الكلمات لا تصلح لهذه الغاية، وعملها الحقيقي أن تعيد بناء الحياة نفسها، وأن تبعث في الإدراك معنى النسق والنظام؛ فالشاعر عندما يستعين ببعض العناصر الحسية في الصورة إنما يطمح إلى تجاوزها لخلق نسق بديل أسمى وأعمق تأثيراً.
هذه الفكرة لا تقف على حقيقة معاناة الكشف عن الصورة أو اكتشافها عند الشاعر، وكذلك لا تأخذ في حسبانها المعاناة الأخرى المقابلة لدى المتلقي عند استقبال الصورة وإدراكه لأبعادها داخل القصيدة، حيث يتخذها سبيلاً للتأثر بتجربة الشاعر ومعايشتها بنفسه، وبالتالي يتمتع بالإدراك الجمالي للأشياء المبعثرة، تلك التي أعيد تشكيلها في تصوير فني جميل ساهم فيه خيال الشاعر وانعكست من خلاله عواطفه وانفعالاته وقدراته الفنية؛ لكن من الأفضل ـــ إذا كان الأمر كذلك ـــ ألا تتحكم فينا فرضية واحدة، بل يمكن أن نسمح لفرضيتين في آن واحد بالتحكم في حكمنا الأدبي، أولاهما: أي الصور البلاغية تكون أكثر عمقاً من حيث هي صورة منذ البداية، وثانيتهما: ما هي إمكانية الحكم من خلال نجاح الشاعر في إعادة تشكيلها، أو في خلقها ابتداءً، أو في وضعها ضمن النسق العام محددة بمجموعة من العلاقات الفنية داخل السياق التصويري في العمل ككل(27).
فليس من المطلوب أن «نستدعي إلى أذهاننا صور الأشياء التي يعبر عنها الشاعر، وإنما نمارس، وحسب، طائفة من الأفكار والمشاعر المصاحبة لها، فضلاً عن أن الصور الذهنية قد تكون غامضة مجملة غير متناسقة، في حين تكون الأفكار المصاحبة لها دقيقة متناسقة»(28)؛ فليس الوضوح الحسي بعامة البصري بخاصة من غايات الصورة، والشاعر عندما يعتمد على النواحي الحسية، إنما يريد أن يعبر من خلال الحسي إلى الخيالي والفكري، وليست وظيفة اللغة ذات الألفاظ أن تقدم إلينا نسخاً من الإدراك والأحاسيس المباشرة، قائمة للإدراك الحسي كما هي، لأن الكلمات لا تصلح لهذه الغاية، وعملها الحقيقي أن تعيد بناء الحياة نفسها، وأن تبعث في الإدراك معنى النسق والنظام؛ فالشاعر عندما يستعين ببعض العناصر الحسية في الصورة إنما يطمح إلى تجاوزها لخلق نسق بديل أسمى وأعمق تأثيراً.
لذا كان للتجربة الخاصة دور مهم في تلقي الصورة الشعرية، ربما يتعاظم هذا الدور حتى يصل إلى درجة الحكم على الصورة ومهارة الشاعر في صوغها من عدمه، فإن كثيراً من النجاح الذي يحرزه الشاعر يتوقف على مهارته في إثارة الروابط بين التجارب الذاتية المختزنة واستدعائها في أذهان المتلقين، فعلى سبيل المثال شعر أمل دنقل يثير الحماسة والنفرة ويحبب إلى النفس كشف حيل الحكام والسدنة، فهو لا يستدعي كثيراً من الذكريات أو التجارب المشابهة، وإنما يعتمد بقوة على التأثير النفسي للصور وإيقاعاتها الموسيقية، رغبة في إثارة الشعور والانفعال؛ بينما أحمد عبد المعطي حجازي يكثر من الصور الأليفة والتجارب الإنسانية التي عايشها ويعايشها المتلقي مع نصه، وهناك نوع ثالث من الصور الشعرية يرتبط نجاح تلقيه على العاطفة أو الأثر الوجداني، بوساطة الاتحاد أو التقمص الوجداني، من خلال فناء شخصية المتأمل في موضوع التأمل، ولعل قصائد حسن توفيق من أبرز نماذج هذا النوع من التلقي.
وقد تتوقف درجة التلقي على نوع الصورة من حيث اعتمادها على الحس أو الفكر، كما يجب الأخذ في الحسبان، نوع وأسلوب معالجة الصورة، فلهذه الأنماط دورها في نجاح العمل، وقبول المتلقي له وإقباله عليه، ولعل ضرورة بروز الحسية في الصورة الشعرية، هو ما حفز بعض النقاد إلى تقسيم عناصر هذا الحس التصويري إلى: حس بصري، وسمعي، وشمي، وذوقي، ولمسي، وحراري، وحركي، ونفسي، وعقلي؛ إذ يبدو الشاعر العربي وقد عاش هذا الحس بكل معالمه، يؤكد ذلك ما أشار إليه الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي إلى مدرسة الحس والصنعة التي تزعمها أوس بن حجر وعرفت امتدادها حتى نهاية العصر الأموي.
فالشاعر ـــ حين يستخدم الكلمات الحسية بشتى أنواعها ـــ لا يقصد أن يمثل بها صورة لحشد معين من المحسوسات، بل الحقيقة أنه يقصد بها تمثيل تصور ذهني معين له دلالته وقيمته الشعورية، وكل ما للألفاظ الحسية في ذاتها من قيمة هنا هو أنها وسيلة إلى تنشيط الحواس وإلهابها، مثل قول السياب في مطلع قصيدته أنشودة المطر:«عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحر»؛ فالشعر إذا كان تقريرياً أو عقلياً صرفاً كان مدعاة للملل وانصراف المتلقي عنه؛ وقد أدرك الشعراء ذلك بإدراك أهمية الصورة الحسية، ويسر تلقيها، وعلوقها في وجدان المتلقي، مقارنة بالصور الفكرية المجردة.
على أن أكثر ما يهمنا في تلقينا للصورة الشعرية الحسية أن نستجيب لها انفعالياً وفكرياً، وليس من المهم مطلقاً أن نتلقاها تلقياً حسياً، لكي نستجيب لها هذه الاستجابة الانفعالية الفكرية، وهذا ما حدا بالنقاد إلى تفصيل القول في أنماط تلك الصورة الحسية، يقول رينيه ويليك عن الصورة الحسية البصرية مثلاً «الصورة البصرية إحساس أو إدراك حس، لكنها أيضاً تنوب عن، أو تشير إلى شيء غير مرئي، شيء داخلي، ويمكن أن يكون تقديماً وتمثيلاً في وقت واحد».
المستندات البحثية والإحالات:
1 ـــ انظر؛ ميخائيل أوفيسيا نيكوف: الصورة الفنية؛ ضمن كتاب: مشكلات علم الجمال الحديث.. قضايا وآفاق، ترجمة فريق من دار الثقافة الجديدة، دار الثقافة الجديدة، القاهرة 1979، ص 164 ؛ ود. محمد حسن عبد الله: الصورة والبناء الشعري، دار المعارف، ص7 ـــ 8.
2 ـــ د. عائشة عبد الرحمن، قيم جديدة في الأدب العربي، ص 64، دار المعارف بمصر.
3 ـــ د. سلمى الخضراء الجيوسي، الشعر العربي المعاصر: تطوره ومستقبله، ص 48 ـــ 49، بحث بمجلة عالم الفكر الكويتية، مج 4 ـــ ع 2، يوليو ـــ سبتمبر 1973م.
4 ـــ د. شكري محمد عياد، كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص128، هيئة الكتاب،القاهرة 1993.
5 ـــ الجاحظ: الحيوان؛ 1323، تحقيق: عبد السلام هارون، ط الذخائر 76، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2002 ؛ وانظر: محمد حسن عبد الله، الصورة والبناء الشعري، ص 12.
6 ـــ د. شكري محمد عياد، كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 144.
7 ـــ د. عبد الله التطاوي، الصورة الفنية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ص 15.
8 ـــ الجرجاني، أسرار البلاغة، ص 275 ـــ 276، ط 6، محمد علي صبيح 1959م.
9 ـــ دلائل الإعجاز، طبعة دار المعرفة، ص 69 ـــ 70.
01 ـــ العقاد، الديوان في الأدب والنقد، ط مكتبة الأسرة، هيئة الكتاب، القاهرة، ج1 45 ـــ 46.
11 ـــ انظر؛ التطاوي: الصورة الفنية، ص 51، و ص 82؛ ودلائل الإعجاز 382 ـــ 383
12 ـــ دلائل الإعجاز، ص83.
13 ـــ دلائل الإعجاز، ص 202.
14 ـــ حمادي الصمود: التفكير البلاغي عند العرب: أسسه وتطوره إلى القرن السادس، ص 525 ـــ 527، منشورات الجامعة التونسية.
15 ـــ دلائل الإعجاز، ص 389.
16 ـــ الكبيسي، الائتلاف والاختلاف، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص 88.
17 ـــ محمد لطفي اليوسفي: في بنية الشعر العربي، دار سراس للنشر، تونس 1985، ص 27.
18 ـــ عز الدين إسماعيل، الأدب وفنونه، 112، ط5، دار الفكر العربي، بيروت، 1973م.
19 ـــ التطاوي، الصورة الفنية، ص 60.
20 ـــ محمد مندور، النقد والنقاد المعاصرون، مكتبة مصر، ص 66.
21 ـــ التطاوي، الصورة الفنية، ص 24.
22 ـــ التطاوي، الصورة الفنية، ص 26.
23 ـــ سي دي لويس، الصورة الشعرية، ترجمة أحمد نصيف الجنابي، وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشيد، بغداد، 1982، ص23؛ وانظر: محمد حسن عبدالله، الصورة، ص 29.
24 ـــ حسن توفيق، الأعمال الكاملة، أغنية للأسى، ط هيئة الكتاب، القاهرة، ص 669 ـــ 670.
25 ـــ صلاح عبد الصبور: تأملات في زمن جريح، ص 68. وانظر؛ د. أحمد عبد الحي: شعر صلاح عبد الصبور الغنائي..، الموقف والأداة، ص 294 ـــ 297.
26 ـــ درويش الأسيوطي؛ بدلاً من الصمت، هيئة الكتاب، القاهرة، ص 16 ـــ 17.
27 ـــ التطاوي، الصورة الفنية، ص 16 ـــ 17.
28 ـــ مصطفى ناصف، الصورة الأدبية، مكتبة مصر، القاهرة 1958، ص 139؛ نقلها عن ريتشاردز I. A. Richards، من كتابه النقد التطبيقي Practical Criticism، ص 393.
2 ـــ د. عائشة عبد الرحمن، قيم جديدة في الأدب العربي، ص 64، دار المعارف بمصر.
3 ـــ د. سلمى الخضراء الجيوسي، الشعر العربي المعاصر: تطوره ومستقبله، ص 48 ـــ 49، بحث بمجلة عالم الفكر الكويتية، مج 4 ـــ ع 2، يوليو ـــ سبتمبر 1973م.
4 ـــ د. شكري محمد عياد، كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص128، هيئة الكتاب،القاهرة 1993.
5 ـــ الجاحظ: الحيوان؛ 1323، تحقيق: عبد السلام هارون، ط الذخائر 76، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2002 ؛ وانظر: محمد حسن عبد الله، الصورة والبناء الشعري، ص 12.
6 ـــ د. شكري محمد عياد، كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 144.
7 ـــ د. عبد الله التطاوي، الصورة الفنية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ص 15.
8 ـــ الجرجاني، أسرار البلاغة، ص 275 ـــ 276، ط 6، محمد علي صبيح 1959م.
9 ـــ دلائل الإعجاز، طبعة دار المعرفة، ص 69 ـــ 70.
01 ـــ العقاد، الديوان في الأدب والنقد، ط مكتبة الأسرة، هيئة الكتاب، القاهرة، ج1 45 ـــ 46.
11 ـــ انظر؛ التطاوي: الصورة الفنية، ص 51، و ص 82؛ ودلائل الإعجاز 382 ـــ 383
12 ـــ دلائل الإعجاز، ص83.
13 ـــ دلائل الإعجاز، ص 202.
14 ـــ حمادي الصمود: التفكير البلاغي عند العرب: أسسه وتطوره إلى القرن السادس، ص 525 ـــ 527، منشورات الجامعة التونسية.
15 ـــ دلائل الإعجاز، ص 389.
16 ـــ الكبيسي، الائتلاف والاختلاف، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص 88.
17 ـــ محمد لطفي اليوسفي: في بنية الشعر العربي، دار سراس للنشر، تونس 1985، ص 27.
18 ـــ عز الدين إسماعيل، الأدب وفنونه، 112، ط5، دار الفكر العربي، بيروت، 1973م.
19 ـــ التطاوي، الصورة الفنية، ص 60.
20 ـــ محمد مندور، النقد والنقاد المعاصرون، مكتبة مصر، ص 66.
21 ـــ التطاوي، الصورة الفنية، ص 24.
22 ـــ التطاوي، الصورة الفنية، ص 26.
23 ـــ سي دي لويس، الصورة الشعرية، ترجمة أحمد نصيف الجنابي، وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشيد، بغداد، 1982، ص23؛ وانظر: محمد حسن عبدالله، الصورة، ص 29.
24 ـــ حسن توفيق، الأعمال الكاملة، أغنية للأسى، ط هيئة الكتاب، القاهرة، ص 669 ـــ 670.
25 ـــ صلاح عبد الصبور: تأملات في زمن جريح، ص 68. وانظر؛ د. أحمد عبد الحي: شعر صلاح عبد الصبور الغنائي..، الموقف والأداة، ص 294 ـــ 297.
26 ـــ درويش الأسيوطي؛ بدلاً من الصمت، هيئة الكتاب، القاهرة، ص 16 ـــ 17.
27 ـــ التطاوي، الصورة الفنية، ص 16 ـــ 17.
28 ـــ مصطفى ناصف، الصورة الأدبية، مكتبة مصر، القاهرة 1958، ص 139؛ نقلها عن ريتشاردز I. A. Richards، من كتابه النقد التطبيقي Practical Criticism، ص 393.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق