السبت، 5 ديسمبر 2015

حول الأصول الطبقيّة والتاريخيّة لظاهرة الشعر الحديث1 - دراسة : جلال فاروق الشريف


حول الأصول الطبقيّة والتاريخيّة لظاهرة الشعر الحديث1 ـــ 

دراسة: جلال فاروق الشريف

  يحتل الشعر الحديث مكاناً بارزاً في الإنتاج الأدبي الراهن يكاد يطغى على فنون الأدب الأخرى كالقصة القصيرة والرواية والمسرحية. فبعد أن كانت القصة القصيرة الفن الأكثر انتشاراً في مطلع الخمسينيات وحققت تقدماً كبيراً على أيدي كتاب موهوبين اعترف بتمكنهم من هذا الفن وغدوا رواداً حقيقيين، وعلى الرغم من أن القصة القصيرة ما تزال تحتل مكاناً في الصدارة في الإنتاج الأدبي وما تزال ترفدها أجيال جديدة من الكتاب، إلا أن ظاهرة جديدة بدأت تتقدم لتحتل مكاناً بارزاً إلى جانب القصة القصيرة، هي ظاهرة الشعر الحديث. ولا تخلو اليوم مجلة أدبية أو غير أدبية وصحيفة يومية من إنتاج يوصف بأنه شعر حديث، تقدمه أسماء معروفة وغير معروفة.‏

   ولقد تطور هذه الظاهرة في السنوات العشر الأخيرة وأخذت أبعاداً واسعة وأصبح لها ممثلوها وبدأت تطرح نفسها على أنها البديل للشعر التقليدي. وفي الوقت الذي يتراجع فيه هذا الشعر على الرغم من أن وراءه تراثاً يرجع إلى أكثر من أربعة عشر قرناً، تحاول ظاهرة الشعر الحديث أن تثبت نفسها لا كظاهرة أصيلة فحسب وإنما أيضاً على أساس أنها هي الشعر العربي في صيغته المعاصرة.‏

   ولئن كان معظم النقَّاد يجمعون على أن المعركة بين الشعر العربي التقليدي وبين الشعر الحديث دخلت مرحلة التصفية لصالح هذا الأخير، إلا أن التساؤلات حول هذا الشعر ما زالت قائمة.‏

  ففي الوقت الذي يقول فيه حسين مروة: "لم تبق المسألة أن يكون هذا الشعر العربي الحديث أو لا يكون.. فقد أصبح كائناً حقيقياً واقعياً ولا مرد لذلك. لقد أصبح حقيقة حاضرة في حياتنا الأدبية، حتى يكاد حضوره يملأ كل الحيّز الكياني الوجداني الذي تخصصه الطبيعة للشعر في كياننا الروحي"2. يقول رئيف خوري: "ما الشعر الحديث؟تسمية ما زالت غامضة. هل يقصد بها الشعر الذي عزف عن الموضوعات التقليدية (عن المحتوى القديم) لينطلق في أجواء جديدة تفرضها تجارب العصر الحديث؟ أم هل يقصد بهذه التسمية الشعر الذي هجر المناحي القديمة في التخيل وأساليب التعبير ليعتمد مناحي جديدة؟ أم ترى يقصد بهذه التسمية الشعر الذي انعتق من القوالب العروضية الموروثة ليحدث له قوالب جديدة أو ليتحرر من كل قالب؟"3.‏

    إن حسين مروة ورئيف خوري يلتقيان ولا يتعارضان. فالأول يعتبر هزيمة الشعر التقليدي غدت نهائية. في حين يتساءل رئيف خوري عن ماهية الشعر الحديث. وأعتقد أن الرأيين مصيبان إلى حد كبير، في المرحلة الراهنة على الأقل. إذ ما يزال ثمة من يقول أن الشعر العربي الكلاسيكي بما وراءه من تراث ضخم لا يمكن أن يصفى بمثل هذه السهولة وإنه ما يزال ينتظر شعراءه الكبار الذين يستطيعون أن يعيدوا دفقة الحياة إلى جسده الهامد وأن يحققوا ربطاً أصيلاً بين التراث وبين الحداثة. وثمة من يعترف بأن الشعر الحديث رغم انتصاره لم يرس أفضل القيم الشعرية وأن ما أرساه من قيم ليس نهائياً وأن طموح الجيل الجديد هو أن يطور الشعر الحديث ليصبح نهائياً الشعر العربي في صيغته المعاصرة. وهذا يعني أن انتصار الشعر إذا كان قد حسم الصراع بينه وبين الشعر الكلاسيكي بمختلف أشكاله، فإنه (أي الشعر الحديث) لم يحسم قضيته هو بالذات.‏

إن هذا كله يقود إلى طرح تساؤل أساسي يمكن تحديده على النحو التالي:‏

ما هو موقع الشعر العربي المعاصر؟ وما هو مستقبله؟

   إن الإجابة عن هذا التساؤل تقتضي جهداً ضخماً وعملاً "أكاديمياً" يتفرغ له عدد من كبار الباحثين والمختصين والنقاد، معتمدين مناهج علمية وفكرية وأدبية ومتحلين بروح موضوعية وأخلاقية عالية في منتهى المجد والرصانة والتقدير لأهمية المرحلة التي يمر بها الشعر العربي ولمستقبله.‏

  وهذه الصفحات على الرغم من أنها لا تدعي القدرة على الاضطلاع بهذه المهمة، إلا أنها محاولة لتسليط أضواء على جانب من هذه الفعالية الأدبية ألا وهي ظاهرة الشعر الحديث. إنها ليست دراسة سوسيولوجية بكل معنى الكلمة. إذ أن هذا النوع من الدراسة يقتضي منهجية لا تزعم هذه الصفحات أنها تمتلكها. وهي ليست نقداً أدبياً، لأن النقد الأدبي يفترض على الأقل نظرية في الأدب ينطلق منها. إنها في المقام الأول محاولة لوضع الشعر العربي الحديث في إطاره التاريخي ولفت النظر إلى العوامل التي أدت إلى نشوئه وما يحتله من مكانة في المرحلة الراهنة. إنها محاولة لتوضيح لماذا كان لا بد من ظهوره. وأعتقد أن محاولة تقرير بعض الملامح الأساسية التي ينسم بها هذا الشعر، وربط نشوئه بمجمل الشروط الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المرافقة لهذا النشوء، تساعد إلى حد كبير على فهم مجرى تطوره، هذا الفهم الذي يساعد بدوره على دفع حركة الشعر الحديث إلى أمام وترسيخها لتصبح بالفعل الشعر العربي في صيغته المعاصرة.‏

    مما لا ريب فيه أن الدراسة الأدبية وكذلك النقد الأدبي قد قطعا عندنا شوطاً كبيراً، غير أنهما ما يزالان مقصرين عن مواكبة الحركة الأدبية الحديثة وبخاصة الشعر الحديث رغم هذا الفيض الكبير من الدراسات والكتابات النقدية. ويرجع ذلك بالأساس إلى أننا ما نزال نفتقر إلى مناهج متكاملة جادة في الدراسة والنقد.. وإذا كانت الدراسة محاولة لوضع النتاج الأدبي في إطار جميع الشروط التي نشأ ضمنها، فإن النقد محاولة لتقويم هذا النتاج. ولقد تطورت مناهج الدراسة والنقد في الثقافة العالمية تطوراً كبيراً وهي تشهد في هذه المرحلة منعطفات هامة.‏

    "لقد أصبح النقد الحديث يشتمل على عناصر دقيقة نسبياً تمكن إلى حد ما من تحديد قيمة العمل الأدبي. وسواء اعتمدنا على المنهج الفينومينولوجي أو على التقنيات البنيوية أو على النظرية الماركسية، فإنه لم يعد ممكناً الاكتفاء بدراسة المضمون، بل إن الكتابة أضحت أكثر من أي وقت مضى، العنصر المجهول الذي يتطلب المواجهة والكشف. وإذن فالأمر يتعلق بأن "نستقر" داخل العمل الأدبي وأن نستخلص البنية التي ترسم هيكل الكتابة الأدبية. إننا ننطلق من الفكرة التي ترى أن الكتابة وطرائقها تشكل بنائها "مجموعة مواقف" قابلة للتحليل على مستويات مختلفة: تجاه الكائنات والأشياء، ومواقف تجاه الكتابة نفسها. وانطلاقاً من هذا المفهوم يصبح ممكناً البحث عن الترابط بين العمل الفني وبين المجتمع، وبينه وبين السياسة. وبالإضافة إلى تحليل المضمون بالطريقة الاتباعية فإن النقد يتوفر الآن على عدة طرائق جد دقيقة (درجات المواقف، المنهج اللغوي البنيوي، نظرية اللعب، نظرية الاستخبار، السبرنطيقا...) حتى إن استعمالها يعود بفائدة كبرى على النقد الأدبي وعلى منهجية العلوم الاجتماعية كذلك..."4.‏

   وهذه الصفحات لا تطمح إلى تحقيق هذه الغاية عن النقد الأدبي أو اعتماد هذه المناهج والطرائق الحديثة. فكاتبها ليس بناقد محترف. كما لا تدعي أنها تحقق كشفاً بتأكيدها على الدور الحاسم للظروف الخارجية في نشوء هذا النمط من الشعر وفي الوظيفة التي يؤديها إذ "أن للقضية التي تتعلق بوظيفة الأدب تاريخاً طويلاً-تمتد في العالم الغربي من أفلاطون إلى أيامنا هذه. وهي ليست بالمسألة التي يثيرها شاعر بشكل عفوي أو يثيرها أولئك الذين يحبون الشعر"5. فتلك الوظيفة مسألة لا تحتاج إلى تأكيد كبير رغم كل ما يمكن أن يطرح حولها من تساؤلات.‏

   إن ما تحاول هذه الصفحات لفت النظر إليه هو أن هذا الشعر العربي الحديث يقدم أنموذجاً صارخاً لتطابق مذهل بينه وبين الشروط الخارجية التي تتمثل بخاصة في صعود طبقة اجتماعية معينة وسيادة إيديولوجيتها. بل إن هذا التطابق يتجلى في صور أخرى لا تقل أهمية مثل سيكولوجية هؤلاء الشعراء وكذلك مجمل مواقفهم السياسية وسلوكهم الاجتماعي.‏

   وعلى الرغم من أن البنية الثقافية ومنها الأدب جزء من البينة الاجتماعية العامة متلاحم معها، فإن أية أضواء جدية على العلاقة بين البنيتين، الثقافية والاجتماعية لم تسلط بعد. وأهمية الكشف عن هذه العلاقة في هذه المرحلة من تطور المجتمعات العربية تبدو حاسمة، لأن هذه المجتمعات تمر بتحولات في بنيتها الاقتصادية الاجتماعية، ولا بد من ملاحظة آثار هذه التحولات على البنية الثقافية. فإذا كانت الثقافة لا تصنع التاريخ فإنها تعكسه وهي إحدى وسائل تطوره. لهذا لا بد من دراسة ثقافتنا وفي طليعتها الأدب وتحليلها وتنظيرها لكي تكون أداة من أدوات التغيير. وأعتقد أننا ما نزال مقصرين تقصيراً بالغاً في هذا المجال. وإذا كان الشعر أبرز نماذج إنتاجنا الأدبي فنحن بحاجة حقيقية إلى تقييمه تقييماً موضوعياً إلى أبعد حد ممكن. ذلك أن ادعاءاته كثيرة.‏

  إن محاولة الإجابة عن هذا السؤال هو هدف هذه الصفحات بغير ادعاء. والإجابة عن هذا السؤال لا بد لها من مدخل. وهذا المدخل هو تحديد العلاقة بين هذه الظاهرة، ظاهرة الشعر الحديث والتحولات الأساسية التي تطرأ على بنى المجتمعات العربية. وليس هذا بالأمر اليسير. إنه لا يتطلب اطلاعاً شاملاً على الشعر المعاصر فحسب وإنما على سوسيولوجية الشعراء وتأثيرهم الاجتماعي الواسع في المجتمعات العربية. إذ ما يزال الشعر عندنا النمط الأدبي الأكثر رواجاً وتأثيراً. وإذا كانت العلاقة بين الأدب عامة والبنية الاجتماعية الاقتصادية ليست علاقة بسيطة وميكانيكية، فإنها بدون ريب بالنسبة إلى الشعر أكثر تعقيداً بسبب من طبيعة الشعر ذاتها.‏

   إن الإجابة عن هذه التساؤلات حول ظاهرة الشعر "الحديث" والجيل الجديد من الشعراء المعاصرين، يقود إلى نتائج بالغة الأهمية. إنه لا يفسر لنا فحسب هذه الظاهرة ويلقي عليها أضواء كاشفة وإنما يزيل الكثير مما يراود عقول القراء من الحيرة في أمرها. الحيرة في معرفة هل ما يعبر عنه هؤلاء الشعراء أهو الضياع أم التمرد أم الامتثال للواقع الراهن. إن مجمل هذه التناقضات التي لا تجد الكثرة المكاثرة من القرَّاء بل ومن المثقفين المختصين تفسيراً ظاهراً لها قد نجد كل تفسيرها أو معظمه في ضوء تقرير هذه الواقعة، واقعة الانتماء الطبقي لهذا الجيل من الشعراء.‏

   إن أهمية الكشف عن هذه الواقعة والتحقق منها، كامنة أيضاً في أنها تتيح لنا الحكم على مدى "أصالة" هذا الشعر على مدى ما يحمله من رؤية للواقع وباستشفاف للمستقبل، وكذلك الحكم على الدور الذي يؤديه أو الذي يمكن أن يؤديه لا في تطوير الشعر العربي فحسب وإنما في دفع حركة التغيير الاجتماعي إلى الأمام.‏


   إذا كان الشعر العربي الحديث قد ظهر مع بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة في العراق في نهاية الأربعينيات. وإذا كان الجيل الراهن من الشعر الذي يمكن أن يسموا شعراء "الجيل الجديد" يمثلون واقع الشعر العربي المعاصر، فثمة تساؤل يطرح هو: إلى أي مدى يمكن ربط هذا الشعر الحديث بالمرحلة الراهنة التي تبدأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبما تتسم به هذه المرحلة من تطورات اجتماعية –اقتصادية طرأت على المجتمعات العربية بخاصة منها تلك التي تمثل مرحلة أكثر تقدماً من سواها. وبعبارة أخرى هل يمكن الربط بين ظاهرة الشعر الحديث خاصة والظاهرة الثقافية والإيديولوجية السائدة في هذه المرحلة عامة وبين هذه التحولات الاجتماعية-الاقتصادية؟‏

ولنتساءل بادئ ذي بدء ما هي هذه التحولات؟‏

تتميز المرحلة الراهنة من تطور البلدان العربية بصعود البورجوازية الصغيرة بشريحتيها الأساسيتين الريفية والمدنية. والبورجوازية الصغيرة في دول العالم الثالث تتألف من الحرفيين وصغار التجار والباعة وأصحاب المهن الحرة والفلاحين من أصحاب الملكيات الصغيرة والمتوسطة. وتتمثل قياداتها بالمتعلمين والمثقفين. وقد "لعبت ظاهرة الاستعمار في البلدان المتخلفة دوراً أساسياً في تشكيل الخريطة الطبقية والاقتصادية لهذه البلدان وكذلك في مواقف مختلف الطبقات فيها من مسائل التحرر الوطني. فقد ربطت ظاهرة الاستعمار والإمبريالية اقتصاد البلدان المتخلفة بالسوق الرأسمالية العالمية وأخضعت حركة هذا الاقتصاد لمصالح هذه السوق. ومن هنا فالطبقة البورجوازية التي نشأت في البلدان المتخلفة لم تمثل أصلاً طبقة ثورية كما هي حالة الطبقة البورجوازية الكبيرة التقليدية في البلدان الأوربية والتي أنجزت مهمات الثورة الوطنية الديموقراطية، إذ أن الطبقة البورجوازية الكبيرة في البلدان المتخلفة من طبيعة طفيلية كمبرادورية. ومن هنا بقيت منذ البدء عاجزة عن ممارسة دورها الوطني والثوري في حل مشكلات التحرر الوطني وإنجاز مهام الثورة الوطنية الديموقراطية..‏

    كما حكمت العلاقة بين اقتصاد البلاد المتخلفة والسوق الرأسمالية العالمية، تطور الطبقة البورجوازية الصغيرة والطبقات الأخرى. فالطبقة البورجوازية الصغيرة التي ترى في نفسها طاقات وطنية وثقافية وسياسية أكثر عصرية من البورجوازية الكمبرادورية تجد أن الإقطاع والبورجوازية الكمبرادورية والاستعمار قد وقفوا في وجهها وحاولوا بينها وبين حصولها على الامتيازات التي ترضيها طبقياً وثقافياً وسياسياً. ومن هنا احتلت هذه الطبقة موقفاً ثورياً بالمقارنة مع موقع الطبقة البورجوازية الصغيرة في البلدان الأوروبية التي تحددت وضعيتها دوماً كعربة إضافية وخلفية في قطار الطبقة البورجوازية.."6.‏

    ويمكن تأريخ بدء الصعود السياسي للبورجوازية الصغيرة في الشرق العربي إلى هزيمة فلسطين عام 1948. أن تحالف البورجوازية مع الإقطاع والاستعمار الذي استولى على السلطة خلال الحرب العالمية الثانية وأدى إلى ظهور الاستقلالات السياسية لم يفشل فحسب في إقامة أنظمة ديموقراطية برلمانية، وإنما كاد يفشل في المحافظة على هذه الاستقلالات التي حصل عليها، وفي إنجاز هذه الاستقلالات في الأقطار التي لم نستطع أن ندعم استقلالاتها السياسية بجلاء القوات الأجنبية عن أراضيها. وجاءت هزيمة جيوش هذه الحكومات في عام 1948 لتعري تحالف البورجوازية مع الإقطاع ولتكشف تحالفها مع الاستعمار، ولتثبت أنها أعجز عن مواجهة التحديات الكبيرة التي تواجه بها الإمبريالية وحليفتها الصهيونية المنطقة العربية كلها.‏

في هذه المرحلة الممتدة من مطلع الأربعينيات حتى نهايتها كانت البورجوازية الصغيرة تتوسع وتحتل مواقع جديدة باطراد اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. وقد لعب ظهور الدول العربية المستقلة في تلك المرحلة دوراً رئيسياً في نمو البورجوازية الصغيرة واتساع قاعدتها من المتعلمين والمثقفين لا سيما المنحدرين من أصول ريفية فقيرة. إن ارتباط مصالح البورجوازية العربية بالسوق الرأسمالية العالمية وتحالفها مع الإقطاع واستسلامها للاستعمار قد حال دون تطور المجتمعات العربية الزراعية المتخلفة التي تتألف من أكثرية ساحقة من الفلاحين الأميين. وفي الوقت الذي كانت فيه البورجوازية الصغيرة في المدن تلعب دور النضال الوطني وتقف في وجه تحالف البورجوازية مع الإقطاع كانت البورجوازية الصغيرة المدنية ببعض الاحتياطي من المتعلمين والمثقفين من أبنائها. وكان لا بد من انتظار مرحلة الاستقلال الوحشي وظهور الدول المستقلة واشتداد ساعد البورجوازية الصغيرة المدنية كي تصبح البورجوازية الصغيرة الريفية قادرة على التحرك.‏

   لقد فرض ظهور الدول العربية المستقلة بعد الحرب العالمية الثانية الحاجة إلى وجود ملاكات لأجهزة هذه الدول، وكان لا بد لإيجاد هذه الملاكات من التوسع في التعليم. وظاهرة التوسع في التعليم وإقبال الجماهير عليها تنبثق بالإضافة إلى ذلك من واقعة اقتصادية هي أن توفر الحد الأدنى أو المتوسط من التعليم يتيح حداً أدنى أو متوسطاً من الدخل يتجاوز متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي الذي كان منخفضاً إلى حد كبير بسبب اعتماد الاقتصاد الوطني على الزراعة وحدها وبسبب تخلف هذه الزراعة وسيطرة العلاقات الإقطاعية في الإنتاج والتخلف الاجتماعي العام وبؤس الفلاحين. وترتب على هذا أن أصبح التعليم يمنح المتعلمين إمكانية الخروج من دائرة الأمية والفقر معاً، هذه الدائرة التي ظلت منذ قرون طويلة مغلقة على الجماهير الواسعة ولا سيما الفلاحين وصغار المالكين. والانخراط في ملاكات الدولة وأجهزتها البيروقراطية يعطي الفرصة الجاهزة السريعة للعمل وللحصول على دخل يوفر الحد الأدنى اللازم للمعيشة. ولما كان ارتفاع درجة التعليم يتيح في الأجهزة البيروقراطية زيادة في الدخل، ازداد الإقبال على التعليم الجامعي، وبذلك أصبح الوسيلة المتاحة للقفز من طبقة الفقراء الكادحين إلى طبقة البورجوازية الصغيرة والوسطى.‏

  فشهادة التعليم الإعدادي (المتوسط) أصبحت تتيح دخلاً ثابتاً أعلى من متوسط الدخل القومي للفرد، وشهادة التعليم الثانوي تتيح دخلاً ثابتاً أعلى من متوسط دخل الحرفي والبورجوازي الصغير، أما شهادة التعليم الجامعي الاختصاصية كالطب والهندسة والمحاماة فإنها تتيح لحاملها أن يحقق في بضع سنوات دخلاً يتجاوز دخل البورجوازي الصغير أي الشريحة السفلى من البورجوازية الوسطى كالمقاولين وصغار التجار. وعلى الرغم من تباين متوسط الدخل القومي للفرد الواحد بين البلدان العربية واختلاف هذا الدخل في كل بلد منها باختلاف المراحل الاقتصادية التي يمر بها، فإن هذا يظل صحيحاً في خطوطه العامة.‏

هكذا أخذت فئات المتعلمين والمثقفين في التكاثر بسرعة لتتحول بالسرعة نفسها إلى جزء من الأجهزة البيروقراطية للدولة. وأدى توسع قاعدة البيروقراطية إلى توسع البورجوازية الصغيرة التي أخذت تتشكل بالأساس من المتعلمين، في حين ظلت الجماهير الواسعة ورازحة تحت وطأة البؤس والأمية، لا سيما الفلاحون الفقراء وصغار المالكين في الأرياف. وفي الوقت الذي كانت فيه البورجوازية الصغيرة تتسع على هذا النحو لم يكن بالمقابل ثمة توسع في الطبقة العاملة. ذلك لأن ضعف البورجوازية الكبيرة وتحدرها من أصول إقطاعية وارتباطها بالسوق الرأسمالية وكونها بالأساس بورجوازية تجارية، كل هذا جعلها عاجزة عن إنجاز ثورة صناعية قادرة على استيعاب فائض اليد العاملة في الريف وعلى تشكيل طبقة عاملة صناعية.‏

   إن اتساع قواعد البورجوازية الصغيرة من الحرفيين وصغار التجار والباعة وأصحاب المهن الحرة والموظفين والمثقفين في مطلع مرحلة الاستقلالات السياسية المحكومة بتحالف البورجوازية والإقطاع أدى إلى قيام تناقض رئيسي بين مصالح هذا التحالف وبين مصالح البورجوازية الصغيرة المدنية المدعمة باحتياطي من البورجوازية الصغيرة الريفية. وأمام عجز تحالف البورجوازية والإقطاع عن الحفاظ على الاستقلالات الوطنية واستسلامه للاستعمار والإمبريالية أصبحت البورجوازية الصغيرة بشريحتيها الأساسيتين هي القوى الصاعدة المرشحة لتصفية هذا التحالف وإسقاط مصالحه وإحلال مصالح هذه القوى الصاعدة محلها. وفي غياب الجماهير المنظمة ووسط مناخ من العطف الجماهيري بدأت البورجوازية الصغيرة تلعب دور الحامل لأهداف الجماهير القائد لحركتها واستطاعت بدون استراتيجية محددة وبدون إيديولوجية واضحة أن تسقط تحالف البورجوازية مع الإقطاع، ورشحت قيادتها لا لتحقيق ما عجز هذا التحالف عن تحقيقه فحسب وإنما لإعطاء هذه القيادة دوراً تاريخياً مؤهلاً لإنجاز تحولات جذرية في البيئة الاجتماعية الاقتصادية.‏


   وسط هذا المناخ الاقتصادي الاجتماعي السياسي الثقافي من التطور الذي بدا في الأربعينيات وتابع خطه البياني الصاعد في الخمسينيات بدأت ظاهرة الشعر الحديث خطواتها الأولى ممثلة في بدر شاكر السياب ونازك الملائكة. وبمقدار ما كان هذا الخط البياني يتصاعد، أي بمقدار ما كان تحالف البورجوازية والإقطاع يتراجع إلى الخلف، كان الشعر الكلاسيكي يتراجع ليحل محله الشعر الحديث، وإذا كان حقاً أن الإيديولوجية السائدة هي إيديولوجية الطبقة المسيطرة فيمكن القول بدون أدنى تردد إن الشعر الحديث ظاهرة من ظواهر الثقافة البورجوازية الصغيرة وبخاصة شريحتها الريفية، وإنه يحمل كل سمات هذه الطبقة وملامحها المعروفة. وإذا ما أكدنا على ظاهرة الشعر الحديث فليس لأنها الظاهرة الوحيدة في الثقافة والأدب والفن وإنما لأن الحداثة برزت في الشعر بأقوى أشكالها. إن دراسة إحصائية للأصول الطبقية لأبرز ممثلي الشعر الحديث يؤكد هذه الواقعة بجلاء لا مزيد عليه. كما أن تتبع الملامح الإيديولوجية والسيكولوجية لهؤلاء الشعراء ومواقفهم العامة يقدم أدلة جديدة على صحة هذه الواقعة ولئن كان صحيحاً أن ارتباط الثقافة عامة والأدب والفن خاصة بوضع طبقي معين ليس ارتباطاً بسيطاً ومباشراً وميكانيكياً، لأن الظاهرة الثقافية أكثر تعقيداً وامتداداً وأبطأ تحولاً من الظواهر الاجتماعية الاقتصادية الأخرى، فإنه صحيح أيضاً وبالمقدار نفسه، إن ارتباط الشعر الحديث بالبورجوازيات الصغيرة العربية هو ارتباط صريح وواضح ومكشوف، حتى ليمكن أن يتخذ مثالاً نموذجياً على ارتباط ظاهرة الثقافة بأيديولوجية الطبقة المسيطرة.‏

   على أننا حتى لو تجاهلنا هذا القانون، فإن الاستقراء السريع وحده للسمات الأساسية للشعر الحديث يكفي ليكشف عن هذا القانون وليبين إلى أي مدى يرتبط هذا الشعر بإيديولوجية هذه الطبقة وسيكولوجيتها الطبقية وبمختلف العوامل الأخرى المكونة لها ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.‏

   يعتبر محمود سامي البارودي (1838-1904) الرائد الأول للشعر العربي المعاصر. كان الشعر العربي منذ عصر العباسيين قد تردى في هوة سحيقة. فلم يكن يقصد به غير الوزن والاستكثار من محسنات الصنعة، وامتلأ بالثورية والكتابة والجناس وغير ذلك والتباري في اللعب بالألفاظ وجمعها كما يقول عباس محمود العقاد في كتابه الفصول. "هذه كانت درجة الشعر العربي من الانحطاط عندما ظهر البارودي الذي عاد إلى منابع الشعر العربي السليم فاستطاع أن يخلص الشعر من هذه الآفات القاتلة وأن يعيد إليه ديباجته الناصعة... وقد صاغ بعضاً من تجاربه الخاصة وتجارب عمره صياغة شعرية قوية لا تقل روعة عن صياغة كبار العباسيين"7.‏

ثم جاء أحمد شوقي الذي سار على الدرب نفسه حتى بلغ القمة بالشعر التقليدي، فرد إلى الشعر العربي جماله القديم. وسار حافظ إبراهيم أيضاً على الدرب نفسه وإن يكن نحا في شعره منحى اجتماعياً قومياً8. ثم جاء خليل مطران بنزعته الموضوعية ليدخل في الشعر العربي اتجاهات جديدة فتكرست حركة تطور الشعر العربي وبعثت تقاليده الكلاسيكية.‏

   وعلى الرغم من الموقف الوطني الذي اتخذه البارودي بإسهامه في الثورة العرابية واتخذه حافظ إبراهيم بتأييد النضال الوطني، فإن الشعر العربي الكلاسيكي الذي أحياه هؤلاء الشعراء وضع بمجمله وعلى أيدي أبرز ممثليه وهو أحمد شوقي في خدمة الطبقة الإقطاعية المتحالفة مع الاستعمار (الملكية-الاحتلال) واستخدام هذا الشكل الكلاسيكي ليكون إطاراً لمضمون إيديولوجية الإقطاع حتى ليمكن القول أنها استولت على هذا الشكل وأدخلته في جملة مكاسبها وأدواتها الثقافية.‏

وإذا ما لاحظنا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى أن بدء تشكل البورجوازية التجارية والبورجوازية الصغيرة في مصر قد اقترن بفشل ثورة 1919 التي قادتها هاتان البورجوازيتان الناشئتان وكذلك بفشل الثورة العربية التي قادها حسين الأول وابنه فيصل، وباستمرار تحالف الإقطاع والاستعمار أمكن أن نفسر الحركة الكلاسيكية الجديدة في الشعر التي دعت إليها جماعة "الديوان" بزعامة عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني. لقد كانت هذه الكلاسيكية الجديدة دعوة إلى تجديد في الشكل والمضمون معاً ذات أهداف فنية وسياسية في آن واحد. كانت من الناحية الفنية إشارة إلى بدء التأثر بالثقافة الغربية، أما من الناحية السياسية فكانت تمرداً على المضمون الإيديولوجي الإقطاعي الذي كرسه أحمد شوقي. ويمكن القول أن هذه الكلاسيكية الجديدة تشكل البنية الثقافية الفوقية للتحالف الجديد الناشئ، أي تحالف البورجوازية التجارية مع البورجوازية الصغيرة انطلاقاً من ثورة 1919. لقد كانت دعوة العقاد والمازني وجماعة "الديوان" إلى تخليص الشعر الكلاسيكي من التفاهة والتقليد والزخارف اللفظية والمضمون الإيديولوجي الإقطاعي الغيبي والولاء لتحالف الإقطاع والاستعمار، كانت هذه الدعوة بمثابة دعوة إلى صيغة فنية أكثر تطوراً وصيغة سياسية معادية لتحالف الإقطاع والاستعمار. وقد طرحت هاتان الصيغتان تحت شعار المطالبة بسيادة العقل والوجدان وهو ما عبر عنه بالفعل شعر العقاد والمازني، على الرغم من تحولهما إلى الشر؛ وكذلك زميلهما الثالث عبد الرحمن شكري.‏

   وبمقدار ما كانت البورجوازية الصغيرة ممثلة في المتعلمين والمثقفين تنمو في إطار تحالفها مع البورجوازية التجارية، كان الشعر الكلاسيكي يتجه نحو التجديد لا سيَّما بعد أن فقد هذا الشعر ممثليه الرئيسيين شوقي وحافظ، وعلى الرغم من محاولة علي الجارم الإصرار على اتجاههما التقليدي. وتؤكد هذه الواقعة واقعة أخرى هي انتماء العقاد والمازني وشكري إلى البورجوازية الصغيرة.‏

وتجلى هذا النزوع الحاد إلى تحديد كلاسيكية البارودي وشوقي وحافظ بمعارك أدبية وسياسية معاً حتى بدت ساحة الشعر وكأنها ميدان الصراع السياسية التي نزل إليها المثقفون. وقد أدى تحول العقاد والمازني إلى النثر واعتزال شكري الشعر، إلى تقوض جماعة "الديوان" الداعية إلى الكلاسيكية الجديدة. ولم تنجز هذه المهمة فعلاً إلا بظهور جماعة "أبولو".‏

   وتتألف هذه "الجماعة" التي أعطت الشعر العربي المعاصر في فترة ما بين الحربين العالميتين أكبر دفعة إلى الأمام في طريق التجديد من أحمد زكي أبو شادي وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه والشابي بصورة رئيسية وجميعهم من مثقفي البورجوازية الصغيرة. فالأول والثاني طبيبان موظفان والثالث مهندس موظف وكذلك حسن كامل الصيرفي الموظف البسيط في وزارة الزراعة. وعلى الرغم من أن الانتماء الطبقي البورجوازي الصغير لا يحدد في التحليل الأخير الموقف الإيديولوجي لأبناء هذه الطبقة تحديداً نهائياً بسبب تذبذب مصالحها، لا سيما المثقفون منهم، إلا أن صعود البورجوازية الصغيرة شكل مرحلة متقدمة على الكلاسيكية التقليدية في الشعر العربي في تلك المرحلة، سواء من ناحية الشكل أم من ناحية المضمون، فعلى صعيد الشكل مثل ظهور الكلاسيكية الجديدة (فرع أبولو) بداية الشعر الحر أو الشعر الحديث إذا صحت التسمية وذلك بالتحلل من الوحدات الثلاث في الشعر الكلاسيكي وهي وحدة البحر في القصيدة الواحدة، ووحدة القافية، ووحدة التنظيم في التفاعيل.‏

  أما على صعيد المضمون فقد ظهرت نزعات جديدة، منها الغنائية والرومانسية والرمزية. وتعبر هذه النزعات مجتمعة عن موقف جديد بدأ يتخذ الشاعر من واقعه ومن عصره، إنه موقف يتسم بصورة رئيسية بالشعور بالضياع وهو سمة أساسية من السمات التي يتصف بها الموقف البورجوازي الصغير بصورة عامة.‏

  يقول الدكتور محمد مندور محدداً هذه النزعة الكلاسيكية الجديدة التي يسميها مدرسة شعر الوجدان ما يلي:‏

   "فمدرسة شعر الوجدان... من خلال جماعة (الديوان) وجماعة (الغربال) ثم جماعة (أبو لو) لم تخرج على عروض الشعر العربي التقليدي إلا بمقدار، وإذا كان بعض أفرادها قد قالوا الشعر المرسل والشعر الحر بل والشعر المنثور أحياناً، فإن غالبيتهم العظمى قد التزمت بالعروض التقليدي"9.‏

   لقد أردنا من هذا الاستطراد لفت النظر إلى ظاهرة أساسية هي ذلك الارتباط بين تطور حركة الشعر العربي الحديث وبين التطور الاجتماعي الاقتصادي الذي بدأته المجتمعات العربية منذ مطلع هذا القرن، وكذلك إلى ظاهرة ارتباط حركة التجديد في الشعر العربي المعاصر بظهور البورجوازية الصغيرة وتوسعها واطراد تأثيرها على حركة الثقافة وكذلك على حركة النضال السياسي بصورة عامة. وهذا التأثير كان بمجمله إيجابياً دفع حركة الشعر العربي إلى الأمام نحو التجديد والحداثة في النصف الأول من القرن العشرين، إلا أنه ما لبث منذ مطلع النصف الثاني أن حقق قفزة نوعية بظهور ما نسميه اليوم بالشعر الحديث.‏

   ولئن خصصنا الشعر العربي في مصر بهذا الاستعراض الموجز الذي يتسم بالتعميم الشديد، فليس ذلك تجاهلاً لحركة تطور الشعر العربي في الأقطار العربية الأخرى كلبنان والعراق وسورية وكذلك في المهجر، وإنما لأن هذا التطور بدأ بصورة رئيسية في مصر، وتطوره هذا فيها يقدم صورة واضحة إلى حد كبير عما أشرنا إليه آنفاً عن الترابط بين تطور الشعر وبين تطور البنية الاجتماعية والاقتصادية. وكذلك أيضاً عن ارتباط ظهور الشعر العربي الحديث بنمو البورجوازية الصغيرة واتساعها وتعاظم دورها على الصعيدين الثقافي والسياسي.‏

  إن هذه الصورة عن تطور حركة الشعر العربي تفسح المجال لتسجيل الملاحظات التالية:‏

1- إن الشعر الكلاسيكي بعث في نهاية القرن الماضي وفي مطلع القرن الحالي في أحضان السيطرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لتحالف الإقطاع والاستعمار. وقد عبر هذا الشعر عن مضامين تؤلف امتثالاً شبه تام لإيديولوجية هذا التحالف وكذلك لخطه السياسي.‏

2- نشأت الكلاسيكية الجديدة كرد فعل على الكلاسيكية التقليدية، ورافقت في نشوئها ظهور تحالف البورجوازية التجارية مع البورجوازية الصغيرة ممثلة لخط وطني معاد لتحالف الإقطاع والاستعمار.‏

3- تطورت الكلاسيكية الجديدة باتجاه الرومانسية والغنائية والرمزية كمضمون، متأثرة بالثقافة الغربية ومعبرة عن تجارب حية لشعرائها تميزت بنمو الفردية ونزوع إلى التمرد وإحساس بالضياع. ورافقت في تطورها هذا اتساع البورجوازية الصغيرة ونموها وتزايد تأثيرها الثقافي والسياسي. وقد عبر هذا التطور عن مجمل معاناة الفرد البورجوازي الصغير المثقف والفنان. كل ذلك في إطار مرحلة تحالف البورجوازية التجارية والبورجوازية الصغيرة، ودخول هذا التحالف في صراع مع تحالف الإقطاع والاستعمار.‏

4- بدأت مصالح البورجوازية الصغيرة بالانفصال عن مصالح البورجوازية التجارية في مرحلة الحرب العالمية الثانية، ولا سيما بعد أن فرضت مصلحة الاستعمار خلال هذه الحرب التسليم بالاستقلالات السياسية للبلدان العربية وإنهاء الصراع الوطني الذي قادته البورجوازية التجارية ضد الإقطاع والاستعمار من أجل الاستقلال. فنشأ بذلك تحالف الإقطاع مع البورجوازية التجارية. وكان من نتيجة هذا الانقلاب الاستراتيجي في التحالفات الطبقية أن أخذت فئات واسعة من البورجوازية الصغيرة تلعب دور قيادة النضال الوطني التي أصبحت شاغرة وبدأت تتوجه في تحالفها نحو الجماهير الواسعة.‏

   وقد رافق هذا الانقلاب الاستراتيجي في التحالفات الطبقية على صعيد الشعر انفجار الكلاسيكية الجديدة وتمزقها إلى تيارات مختلفة حقق من خلالها الشعر العربي قفزة نوعية تمثلت في الشعر الحديث الذي ترجع الأصول الطبقية لمعظم ممثليه إلى البورجوازية الصغيرة الريفية.‏

*‏

إن هذا الاستعراض الذي ذكرناه وأوردنا الملاحظات السابقة عليه بشكل الخلفية الطبقية والتاريخية لظاهرة الشعر الحديث المعاصرة. إنه يشير بوضوح إلى أن هذا الشعر ليس ثورة بقدر ما هو قفزة نوعية حققها الشعر العربي المعاصر خلال مرحلة من التطور تبلغ خمسين عاماً هي النصف الأول من القرن العشرين. وهذه القفزة لم تتحقق إلا عندما دخل تطور البيئة الاجتماعية الاقتصادية لبعض الأقطار العربية مرحلة معينة هي نشوء تحالف البورجوازية مع الإقطاع وارتداد البورجوازية الصغيرة وحيدة إلى مواقع النضال الوطني ضد هذا التحالف وما يمثله من مصالح معادية للاستقلال السياسي وللتقدم. وقد هيأ هذا التطور المناخ للبورجوازية الصغيرة وبخاصة لقياداتها من المثقفين لتلعب دوراً تقدمياً في تطور النضال الوطني وقيادة الجماهير الفقيرة في المدن والأرياف ولإعطاء هذا النضال آفاقاً اشتراكية..‏

  في بداية هذه المرحلة بالذات ظهر بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وأدونيس ومحمد الماغوط ويوسف الخال وخليل حاوي وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم من ممثلي الشعر الحديث البارزين.‏

   ولكن هل يؤلف الشعر الحديث مدرسة محددة واضحة المعالم؟ وإذا كان الشعر الحديث بالأساس ثورة على الكلاسيكية فما هي السمات المشتركة بين ممثلي هذا الشعر؟ أين يقف نزار قباني مثلاً؟ وآخرون غيره؟ هل الثورة في الأداء كافية وحدها لتصنيف الشاعر في صف الشعر الحديث؟ ألا نستطيع أن نميز في الشعر الحديث مضامين تقدمية وأخرى رجعية؟ إلى أي حد يمكن تقبل النزعة المغرقة في فرديتها حتى النرجسية عند البعض أو التأثر الشديد بالشعر العالمي المعاصر الذي يكاد يصل إلى حد الاقتباس إن لم نقل أكثر من ذلك؟ بل إلى أي حد يمكن أن نبرز الغموض والنزوع "الميتافيزيقي" والاستغراق في الجنس والثرثرة الثورية ورفض التراث وغير ذلك من السلبيات التي يمكن أن تلحظ بسهولة عند بعض الشعراء المحدثين؟‏

إننا نجد أنفسنا مضطرين في كثير من الأحوال إلى أن نرجع إلى التساؤل الأساسي الذي طرحه رئيف خوري والذي سبق أن ذكرناه في مقدمة هذا البحث وهو:‏

"ما الشعر الحديث؟ تسمية ما زالت غامضة".‏

   ومهما يكن من أمر فبوسعنا أن نقرر منذ الآن أن حركة الشعر الحديث ما تزال في بداياتها. إن عمرها لم يكد يبلغ ربع قرن. وهذه المدة لا تتيح إرساء أية قيم نهائية. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار المرحلة الراهنة من تطور البنية الاقتصادية الاجتماعية وما تعكسه من آثار حاسمة على بنية الثقافة ومن بينها الشعر، تأكدنا أن الطريق ما يزال طويلاً. إن انتصار الشعر الحديث وإن يكن خطوة متقدمة على طريق تطور حركة الشعر العربي المعاصر، بل قفزة نوعية، إلا أن هذا الانتصار لم يصبح بعد نهائياً لأن الشعر الحديث-كما سبق أن قلنا- لم يحسم هو نفسه قضيته حتى الآن.‏

   إن أخطر ما يواجهه الشعر الحديث هو أن يجعل موقعه الراهن وأن لا يحاول تجاوزه إلى مواقع متقدمة مفتوحة على المستقبل تضعه على مستوى الإنسانية والعالمية. ونقطة البداية تظل دوماً أن يظل الشعر تعبيراً عن الإنسان. لا الإنسان الميتافيزيقي أو الكوزموبوليتي وإنما الإنسان الراهن، المرتبط بجذور واقع محدد ومرحلة معينة والمتطلع دوماً إلى أفق إنساني أعلى.‏

   وسنحاول في مناسبة أخرى أن نستعرض بعض الملامح الأساسية للشعر الحديث.‏

1- خلاصة من دراسة موسعة حول "موقع الشعر العربي المعاصر ومستقبله".‏

2- ظاهرة جديدة وخطيرة في "الشعر العربي الحديث". حسين مروة. الآداب. آذار 1966/ص66/.‏

3- بعض الأصالة العربية يا أصحاب الشعر الحديث. رئيف خوري. الآداب. آذار 1966/ص34/.‏

4- الرواية المغربية. عبد الكريم الخطيبي. ترجمة محمد برادة. /ص 16-17/.‏

5- نظرية الأدب. أوستن وارين. رينيه ويليك /ص 42/.‏

6- البورجوازية الصغيرة في البلدان المتخلفة. قدراتها وآفاقها محمد عبد المنعم مرتضى. الطليعة. العدد (9) أيلول. 1972. (ص79).‏

7- الشعر المصري بعد شوقي. الحلقة الأولى. الدكتور محمد مندور. /ص 131/.‏

8- المصدر نفسه.‏

9- الشعر المصري بعد شوقي. الحلقة الثالثة. /ص 108/.

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة