الأربعاء، 25 نوفمبر 2015

الحداثة في الشعر العربي المعاصر - محمد سليمان حسن ...


الحداثة في الشعر العربي المعاصر

محمد سليمان حسن

   صدر في دمشق للدكتور "خليل الموسى" أستاذ الأدب العربي الحديث في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق، كتاب تحت عنوان "الحداثة في الشعر العربي المعاصر". حاول فيه قراءة بعض الشعر العربي المعاصر قراءة جديدة في بنيته، مؤكداً على أهمية العامل البيئي الذي أنتج هذا الشعر، والتطورات الحاصلة في المصطلح والموضوع والعناصر الجمالية. سنحاول في هذه الدراسة تقديم عرض وافٍ له، مع تباينات نقدية لبعض ما ورد فيه.‏

ـ مقدمة:‏

  قبل أن يدخل الباحث الدكتور خليل الموسى ماهيات بحثه وموضوعاتها بما هي إشكالية أصلاً في حركة النقد الأدبي العربي والعالمي. يرى من الضرورة تحديد مصطلحات بحثه، والكشف عن منهجيته المستورة بعض الشيء.. وإن كان يرى أن هذا التحديد المصطلحي والمنهجي ليس هدفاً منجزاً بالقدر الذي يشكل انفتاحاً على النص بأدواته، وفي كافة الاتجاهات.‏

   فمصطلح الحداثة Modernite لديه ينطلق من تحديدات مدرسية على رأسها المدرسة الفرنسية. إذ ينطلق من تحديد (جان بوديارد j. BAUDIUARD) للحداثة بتشعباتها، في أنها "ليست مفهوماً اجتماعياً أو مفهوماً سياسياً أو مفهوماً تاريخياً بدقة". ثم بخصائصها، قائلاً: "إنما هي صيغة متميزة عن الصيغة الأخرى. وهذا يعني أنها تناقض جميع الثقافات السابقة أو التقليدية، وتفرض الحداثة نفسها ـ أمام التنوع الجغرافي والرمزي لها ـ وكأنها وحدة متجانسة مشعة عالمياً من الغرب".‏

   لينتهي إلى نتيجة عامة هي: "ومع ذلك تظل الحداثة مفهوماً غامضاً يتضمن في دلالاته إجمالاً الإشارة إلى التطور التاريخي وإلى التبدل في الذهنية".‏

  ثم ينتقل الدكتور خليل الموسى إلى مقاربات معرفية في وجهات النظر ينطلق فيها من افتراض بعضهم، أن الحداثة بدأت مع قصيدة (الكوليرا) لنازك الملائكة... وآخر يسبق التطور التاريخي فينادي بـ(مابعد الحداثة)، وثالث يقول: إن الحداثة بدأت مع السياب وأدونيس، ومن وجهة نظر المؤلف: إن الحداثة حركة تاريخية شاملة غير محصورة في شخصٍ محدد. وهي في النص لا في الشاعر. لذلك يستحسن أن نصل إلى النتيجة التي انتهى إليها (بارت): "لذة النص هي تلك اللحظة التي يتعقب فيها جسدي أفكاره الخاصة، لأنه ليس لجسدي أفكاري نفسها".‏

الأمر الآخر: أن الحداثة ليست مذهباً أدبياً كالرومانسية والرمزية والسوريالية. فللمذهب الأدبي بعض السمات المتفق عليها. بينما الحداثة مختلفة من بلد إلى بلد، ومن أديب إلى آخر. ويعكف الباحث للتأكيد على قول "جان بوديارد": "بما أن الحداثة ليست مفهوماً للتحليل، فليس هناك قوانين للحداثة، وليس هناك سوى ملامح الحداثة، وليس هناك نظرية، وإنما هناك منطق للحداثة وأيديولوجيا.".‏

النقطة الثالثة: أن الحداثة حداثات، بدأت في البلدان المتقدمة وعمت. وهي نتيجة من نتائج هذا العصر وتبدل العلاقات الإنسانية.‏

النقطة الرابعة: علاقة الحداثة بالتراث والأصالة علاقة انبثاقية. ويفيد التراث إفادة كبيرة من وسائل الحداثة، فهما يسيران في خط ذي اتجاه واحد لا عكسي.‏

  ثم ينطلق المؤلف في المقدمة ليشير إلى أن المنهج الذي اعتمده في هذه الدراسة، هو الاستفادة قدر المستطاع، من تحليل النصوص، وفق بعض المناهج الجديدة للوصول إلى قناعة بالنتائج التي تتضمنها الدراسة.‏

ـ الفصل الأول: الحداثة في الحياة والأدب:‏

  مصطلح "الحداثة Modernite" من المصطلحات التي كثر فيها القول والجدل، وإن الحداثة‏ والحداثوية مولدتان من كلمة "حديث"، وهما مترادفتان أحياناً، وتتناقضان مع القدم والكلاسيكية التقليدية، وهما متعددتا المعاني والدلالات حسب آراء عدد من المبدعين.‏

  وجاءت الحداثة في المجتمع الأوروبي نتيجة للتحول الاجتماعي والاقتصادي مع اختلاف في تحديد بداياتها.‏

  والتبدل السريع سمة عصر الحداثة، ولذلك يكون نظام الحداثة هو نظام الممكن لا نظام الواقع.‏

  ويستدعي تغير أنظمة الحياة تغيراً في أنظمة الأدب، فِإن "تقنية القصيدة" تقابل تقنية الحياة، ولذلك اتسمت القصيدة بالاختزال والجسدية والشهوية والصنعة والثقافة والتقنية والقراءة، فابتعدت عن الخطابة والثرثرة والعفوية والإنشاد.‏

  وإذا وصلت "تقنية القصيدة" إلى ماوصلت إليه فإن ذلك لا يعني التنكر للحركات والجهود والمدارس التي مهدت لها ولاسيما المدرسة الرومانسية. فقد بدأت الحداثة مع بدايات المدرسة الرمزية في الشعر الفرنسي حوالي /1860/مع "بودلير"، وتتميز الحداثة عنده، بارتباطها بالأبدي وبالفن. فقد اندفع بودلير ليغير العالم بواسطة الفن فولدت "الحداثوية". وبما أن اللغة هي أداة الشعر والأدب، كان لابد في الحداثة من أن تتغير الأداة أولاً لتصبح قادرة على التوحيد. بشر "بودلير" بالحداثة الشعرية، ودعم أركانها "رامبو" و"مالارميه" وسار بها "بروتون" و"بيرس" وغيرهما إلى مسافة بعيدة. فقد سعى الرمزيون إلى ماهو مثالي وممكن، وكانت وساطتهم إلى ذلك اللغة، فحاولوا تغييرها بوسائل مختلفة، أهمها تجديد بنية اللغة في أن تكون سراً أو غابة من الرموز تستطيع جمع المتناقضات، ومنها بعث منطق شعري، بإقامة علاقات جديدة بين الأشياء واختراع صور غزيرة معقدة وغريبة.‏

   ولم تكن الحداثة في العالم، وفي العالم العربي خصوصاً نتيجة طبيعية لتحول المجتمع من خلال إنتاجية محددة، وإنما هي نتيجة لتحول المجتمع الأوروبي، ولقرب الوطن العربي من المركز. ولابد لذلك من أن يترك بصماته في سمات الأدب المعاصر، وبخاصة الشعر، ولذلك ذهب "يوسف الخال" إلى أن الحداثة ليست مذهباً من المذاهب الأدبية، وإنما هي حركة إبداع تماشي الحياة في تغيرها الدائم، وهي ليست زياً أو شكلاً خارجياً مستورداً، وإنما نتاج عقلية حديثة تبدلت نظرتها إلى الأشياء تبدلاً جذرياً وحقيقياً انعكس في تعبير جديد. ويذهب أدونيس، مذاهب في تعريف الحداثة الشعرية، في، عنده، رؤيا جديدة، رؤيا تساؤل واحتجاج، وهي التغاير: الخروج من النمطية والرغبة الدائمة في خلق المعايير، وهي مناخ عالمي، مناخ أفكار وأشكال كونية، وليست مجرد حالة خاصة بشعب معين أن الحداثة الشعرية في المجتمع العربي تكاد أن تضارع، في بعض وجوهها، الحداثة الشعرية الغربية، أن حداثة العلم في الغرب متقدمة على حداثة الشعر، بينما في العالم العربي، حداثة الشعر متقدمة على الحداثة العلمية. إن استيراد الحداثة في الحياة والأدب أمر مشروع، لكنها ستبقى حداثة، ومختلفة عن الحداثة الأوروبية. ولما كان مصطلح الحداثة إشكالياً يختلط بمصطلحات عدة كالمعاصرة والتجديد ويتقارب أو يتباعد بعلاقاته بالتراث والأصالة، فإنه ينبغي لنا أن نميز بين هذه المصطلحات ونبين علاقاتها بالحداثة.‏

ـ الفصل الثاني : الموضوعات في حركة الحداثة الشعرية:‏

  إذا كانت الحداثة العربية، تعني الارتباط بالبيئة من جهة، والارتباط بالحداثة في العالم من جهة‏

   أخرى، فإن موضوعات: المدن والحب والزمن والموت، من الموضوعات التي تميزت بها حركة الحداثة العربية من غيرها.‏

1 ـ المدينة:‏

  إن العلاقات بين الشاعر والمدينة قديمة، ذهب فيها الشعراء مذاهب شتى، خصوصاً في المقابلة بين البداوة والحضارة، كقضية (أنكيدو) والبغي التي قادته إلى (أوروك). وتنبه النقد الأدبي الشعري إلى أن اختلاف البيئة يؤدي إلى اختلاف الشعر. وقسموا الشعراء حسب بيئاتهم، كما فعل ابن سلام الجمحي في (طبقات فحول الشعراء).‏

   وفي حركة الشعر العربي المعاصر وحداثته، احتلت المدينة، الدور الأكبر الذي ربط فيه بين الإنسان والمدينة، وأعيد الأمر إلى جملة من الأسباب ثقافية وحياتية.‏

   أما الأسباب الثقافية، فقد بدأت مع بدايات الحركة الرومانسية، التي اهتمت بوصف الطبيعة، وكان شعراء هذه المدرسة، يؤمنون بالوحي والإلهام والألم والعذاب.‏

   وغدت العلاقة بين الشاعر والمدينة، علاقة تنافر وتضاد. أما السبب الثاني فهو، غنى التجارب في المدن وتنوعها. فقد أخذت المدن العربية بعد منتصف القرن الفائت، تنحو منحى الاستهلاك النهم،ورافق ذلك سريان المد القومي، والهجرة من الريف. وزاد الطين بله، أن معظم شعراء الحداثة من أصل ريفي (السياب، حاوي، عبد الصبور، حجازي، دنقل...الخ)، فاصطدموا بالمدينة، وصدمت أمانيهم، فوصفوا المدينة وبالغوا في إبراز عيوبها، واختلفت رؤاهم باختلاف تجاربهم وثقافتهم، وباختلاف هذه المدينة عن تلك، وباختلاف الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.‏

2 ـ الحب:‏

   حاول الشعراء في معظم موضوعاتهم، الخروج من الجزئي إلى النسبي المتغير إلى الكلي المطلق الثابت، ليهربوا من عالم الفناء إلى عالم البقاء. فخلفوا مدناً مثالية، لا جوع فيها، ولا ظلم، ونساء بلا شهوات لا يعرفن سوى الوفاء، وطرقوا عوالم الخلود، وأوهموا أنفسهم بأن الإنسان لا ينتهي بالموت، ولكن الزمان كان لهؤلاء الحالمين بالمرصاد، فبددت المدن أحلامهم، وضيعت المرأة صورهم، ثم كان النصر للموت في نهاية الأمر.‏

   وإن الصراع الذي يعيش فيه الحالمون بين المثال والواقع، جعلهم يرسمون العالم الذي يصبون إليه أسطورياً، لا يعرف التغير، ولا يطاله الزمان، فكان الثور المجنح وإرم ذات العماد وغيرهم. ثم خلق الخيال الشعبي تجاوزاً بين الإنسان وحوريات البحر اللواتي يحتفظن بجمالهن، وزواجاً بين إنسان وامرأة من نساء الجن، وهذا مستحيل، للخروج من عالم التحول إلى عالم الثبات.‏

   وتعد الحركة الرومانسية رؤيوية الطابع، وخصوصاً في القضايا التي تتناول موضوعات المرأة والحب. فهي تختلف عن الكلاسيكية أسلوباً ورؤية. انتقلت من عالمها المادي إلى المثالي ومن الجزئي إلى الكلي، ومن النسبي إلى المطلق ومن التحول إلى الثبات، ولم تبق جسداً معرضاً للذبول فالموات، وإنما غدت روحاً وعلاقات دائمة، وامتزجت صورتها بعناصر الطبيعة وحلت فيها حلولاً كلياً.‏

3 ـ الزمن:‏

   شغل موضوع الزمن الإنسان منذ أن بدأ يعي وجوده، وقد أخذ الإنسان الأول يراقب الأحياء من حولـه، فلكل منهم عمر محدد، ولادة فنمو فشيخوخة فموات، ثم أخذ يراقب دورات الفصول وتعاقب الليل والنهار وأمثالها، فكانت مشكلته الكبرى في مواجهة مصيره. ولما ابتدأ الإنسان يتأمل الطبيعة تأملاً أفضل مما كان عليه سابقاً، وجد أن الحياة تختلف من كائن لآخر، فدائرة الحركة متغيرة، وهناك دائرة الحركة الثابتة أو المغلقة. وفي عصر الفلسفة تم الاتفاق على وجود عالمين: عالم الثبات وهو خارج على الزمان (لازمني) وعالم التغير وهو عالم زمني. ثم حل العصر الحديث عصر الأنتربولوجيا ودراسة الأساطير والتحليل النفسي، ورأوا أن هناك زمناً ذاتياً وزمناً موضوعياً متفقاً عليه. واستخدم الأدباء الزمن الذاتي، عالم الحلم، خارج نطاق الزمان والمكان ويربط الزمن بالحركة وهو قوة فاعلة ليست سلبية، وثمة زمنان ذاتيان في الأدب: زمن ذاتي إيجابي وزمن ذاتي سلبي. أما الإيجابي فهو نتيجة التطور الخلاق، زمن ينتج الأفضل والجديد، وهو عنصر منتج، وهو شرط لتحويل الصيرورة إلى كينونة والنقص إلى كمال. ويبدو هذا المفهوم، في أن المبدع يدع للزمان شيئاً خالداً بعد رحيله.‏

4 ـ الموت والحياة:‏

   إذا أخذنا بمقولة (هيرقليطس) في التحول أدركنا أن الموت في الحياة، وأن لابد لكل منا أن يموت لوحده. وإن كل حياة يكمن الموت في جوفها. وإذا أخذنا بالجدلية، أدركنا أن الموت في الحياة والحياة في الموت، وليست المشكلة في كليهما، ولكنها، في أن الإنسان هو وحده الذي يعي أنه كائن يموت، ولذلك فإن القلق يساوره إذا تذكر الموت أو إذا أحل الموت بقريب له أو بصديق. والإنسان ذو طموحات وأحلام تعيش معه منذ أن يعي ذاته ويؤرقه أن تنهد تلك الطموحات دفعة واحدة. وإذا كانت بنية القصيدة الكلاسيكية متمثلة في (عمود الشعر) و(منهج القصيدة)، وأهميتها في محاكاة العمل الفني أو مشاكلة اللفظ للمعنى، فإن موضوع الموت يتجلى في النواح على الفقيد وتعدد مآثره، بذلك يكون الموت في المذهب الكلاسيكي موضوعاً مستقلاً بذاته. وإذا كانت الحداثة تعني الموت المؤلف وقيام سلطة النص بديلاً من سلطة المبدع، فإن موضوع الموت يوجد عند الرومانسيين والحداثيين.‏

ـ الفصل الثالث: العناصر الجمالية في حركة الحداثة الشعرية:‏

  النص الشعري، خطاب بين مرسل ومتلق قوامه اللغة الشعرية المختلفة حسب نبرة المتكلم وسياق كلامه، تغلبت فيه الوظيفة الشعرية للكلام. ومكونات النص الشعري عديدة متحولة، منها ما يدخل ضمن الموسيقا أو اللغة أو الصورة أو الأسطورة، ومنها ما يدخل ضمن العلاقات في بنية النص، ومنها ما يدخل ضمن الموضوع الشعري.‏

ـ 1 ـ‏  إن الإيقاع الشعري ذو وترين متلازمين، يعزفان ويؤثران معاً في نفس المتلقي وفي أذنيه، وهما وتر خارجي يتجلى من خلال النغم الصوتي المتمثل في الوزن والقافية، ووتر داخلي يتجلى من خلال النغم النفسي العميق.‏

‏  وإذا كانت الموسيقا إحدى مكونات الشاعرية، وقد أجمع الشعراء والنقاد على ذلك، فإن الوزن يشبه الخميرة التي لا تساوي شيئاً في ذاتها، ولكنها تمنح الحيوية والروح للسائل، والشعر بلا وزن ناقص، والإيقاع في الرمزية هو الشعر، والكلمات لباس الإيقاع، ووظيفتها الأولى إيقاعية، وهو اهتزاز ينبثق من الأعماق ويمنح القصيدة الشفافية والغموض والرقة والإيحاء. ووظيفة الإيقاع، حمل مكونات الشاعرية الذي يتم بوساطته التأثر والتأثير، والتلاقح بين الدال والمدلول، وهو الرباط الذي يصل الحروف بالكلمات والصوت بالمعنى، وهذا ما يخلق المناخ الشعري.‏

  وفي نطاق مقولة التطور والجدلية، لا يعني ذلك تخلي الشعر عن مقولاته وأوزانه وأنغامه الموسيقية ليقبع في زاوية الأخذ من الآخر بمفاهيمه السابقة. بل لابد من التعلق بجذوره، إضافة إلى الاستفادة من تجارب الأمم في تطور العلاقة بين الإيقاع والصور والمعاني والتوتر. ولا يتناقض هذا الحكم وحركة الحداثة الشعرية إذا كانت حداثات لا حداثة واحدة.‏

ـ 2 ـ‏ إذا كان الشعر فاعلية لغوية، فهذا يعني، أن جوهر الشاعرية وسرها في اللغة. وهذا يعني القول، في أن اللغة ذات استعمالين، نثري وشاعري.‏

  وليست لغة النثر غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة إلى غاية. أما لغة الشعر فهي نقيض لغة النثر، ولذلك هي غاية في ذاتها، في صلاتها بالزمان والمكان.‏

  وقد قدمت الحركة الرومانسية للغة الشعرية الكثير إذا نظرنا إلى هذه الحركة ضمن مجالاتها الزمانية والمكانية. فالكلمة في الرومانسية رمز وغاية في ذاتها، وهي تسمو بمقدار ما تعبر عن الذات التي صدرت منها، والكلمة لا تحقق دلالاتها إلا في نطاق النص. ولم تقف الرومانسية أي موقف سابق من الكلمات، بل تُرك الأمر إلى قدرتها على استخدامها في السياق العام. كما تم التأكيد في الرومانسية على المزية النفسية للكلمة، والعلاقات الإحساسية الداخلية. وبذلك تصبح الكلمة مجالاً للتحديد الذاتي والإبداع المركب.‏

  ثم كانت القفزة الثانية على أيدي الرمزيين، الذين قدسوا اللغة الشعرية، فميزوا لغة الشعر من لغة التفكير، ودعوا إلى أن تستعمل الكلمات بمعانٍ جديدة، بعد أن تآكلت واستُهلكت من فرط الاستعمال، وحاولوا إيجاد حل لمشكلاتها.‏

  وهكذا بدأ الاهتمام بلغة الشعر يتزايد يوماً بعد يوم في النقد الحداثي، بدءاً من (بيرس) الذي ذهب إلى أن الشعر تمرد أو نضال ضد اللغة، وهو ما لا تستطيع التعبير عنه إلى علماء الألسنيات والأسلوبيين والبنيويين.‏

  وانتقلت هذه الأفكار والنظريات النقدية إلى دورياتنا وكتبنا، وانتشرت انتشار النار في الهشيم، وكان بعضها صدى لما قاله الإعلام في الغرب. فكان أدونيس مثلاً، أميناً للغة الشعرية المعاصرة من جهة ولأفكار الدارسين الفرنسيين، ولنظرياتهم من جهة أخرى.‏

فالشعر لديه هو: جعل اللغة تقول مالم تتعلم أن تقوله، أو هو ثورة مستمرة على اللغة. أو "اللغة الشعرية الجديدة هي ـ إذاً ـ اللغة المغسولة من صدأ الاستخدام الشائع الجاري.إنها نوع من العودة إلى البراءة الأولى في الكلمات. وفي العودة إلى براءة الكلمة عودة إلى إيقاعها البدائي، أعني إلى شكل تعبيري مشحون بهذه البراءة".‏

   وإذا كان النص الشعري في الحداثة يمثل تشكلاً لغوياً، وهو ينم عن غير ما يقوله، وهو يخفي أكثر مما يظهر، فإن فاعلية النص فاعلية لغوية، وفاعلية في قراءته قراءة جديدة.‏

ـ 3 ـ‏ والصورة في حركة الحداثة الشعرية أهم عناصر القصيدة. ويمكننا أن نختصر مجالات استخدام الصورة في مجالين: مجال الصورة الآلية ومجال الصورة العضوية.‏

  وتنشأ الصورة الآلية عن التوهم، وهي صنيعة الفعل مجرداً من العاطفة، وهي صور صناعية نجدها في كثير من الشعر التقليدي. وخصائص الصورة الآلية ثلاث: التراكم والتفكك والتناقض. هكذا تكون الصورة الآلية عالماً قائماً بذاته متناثراً في أرجاء القصيدة وفي خصائصها، من دون رابط سوى الرابط المفتعل. فإذا التصقت بغيرها من الصور فهو التصاق عقلاني زخرفي ولا وظيفي.‏

   وأما الصورة في الشكل العضوي فهي قوام الحداثة الشعرية وجوهرها، والبناء الحداثي بناء متنام، وهذا يعني أن الصورة تعبير. إن الفكرة في الحداثة الشعرية هي التي تتبع الصورة وهي توحي وتومئ. كما تتبدل وظيفة الصورة وتتناقض، كما توحي والإيحاء انتشار والانتشار احتمالي لا تحديدي. وأهم خصائص الصورة في الشكل العضوي، أنها صورة داخلية إحساسية تختلف عن صور الواقع، ولذلك تعتمد الخلق اللا مألوف. ثم هي تنشئ علاقات بين عناصر على درجة من التباعد في الواقع، ماكان للعقل وحده أن يقارب بينهما.‏

ـ 4 ـ‏ ومثلما تغيرت رؤية الشاعر الحداثي لموضوعاته تغيرت رؤيته في استخدام أدواته. وحاول أن يجدد في عناصر القصيدة: اللغة والإيقاع والصورة والأسطورة.‏

  فقد اتجه بعض الأدباء المعاصرين إلى خلق أساطير معاصرة تتناسب والتجربة الشعرية، فعادوا إلى ذواتهم، ملتجئين إلى ممالك الرغبة والأحلام، يستقون منها أساطير جديدة، ربما استقوها من الواقع. كما وظف الشاعر رموز الأسطورة في بنية القصيدة، باعتبارها ـ الرموز ـ لغة تقوم بإيصال الفكرة والمتعة الشعريتين، وإن استلهامها يثير العمل الفني. وقد وظفها الشعر العربي باتجاهين: خارجي آلي، وداخلي بنائي عضوي.‏

ـ 5 ـ‏ وإذا كان قانون التفاعل العضوي أهم خصائص الحداثة في السياق الشعري، فهذا يعني، أن الشاعر قادر على أن يستفيد من مخزون الذاكرة، وهي مصدر ثقافي يعمل في تركيب السياق الشعري المعاصر. ويتكون مخزون الذاكرة من نصوص قديمة ومعاصرة، من أساطير ودين وتاريخ وتراث شعري وشعبي، يستفيد منها الشاعر بمقدار حاجته لها.‏

   وقد يكون السياق الشعري مركباً، يتم التعبير فيه من خلال مرسلة ذات مستويات وأصوات وأبعاد وعلاقات متفاعلة متشابكة، وبمستويات زمنية متعددة ومتضادة في مستوى واحد.‏

الخاتمة:‏

  إن قراءة أولية للكتاب، تضعنا أمام الجهد المميز للمؤلف. الذي أراد أن يثبت، أن الفكر الإنساني بعمومه، يدخل ضمن إطار العلاقة الجدلية بين المنتج والمتلقي كمصدر معرفي، وبين المتلقي والمنتج كإعادة بناء معرفي. وهو ما حاول البرهنة عليه من خلال ربط مفهوم الحداثة وتطبيقاته في المصدر الأوربي بمفهومه عند المتلقي العربي. مع العلم أن هذا الربط لم يقف عند حد التلقي الميكانيكي، بل التلقي القائم على إيجاد الخصوصية العربية كمضمون في جدلية العلاقة الحداثية. وهو أمر في غاية الأهمية. لأننا نعتبر أن الأمة تجدد في الإبداع الإنساني عندما تتمثل هذا الإبداع، وتضفي عليه ذاتيتها. مما يجعلنا ندخل بقوة في ماهية العولمة الثقافية، كمشارك وفاعل، وليس كمتفرج‏ .

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة