الخميس، 5 نوفمبر 2015

قراءة مذكرات على عزت بيجوفيتش ...



مذكرات على عزت بيجوفيتش

الرئيس السابق لجمهورية البوسنة والهرسك

ترجمة وإعداد : محمد يوسف عدس

مستشار سابق بهيئة اليونسكو


الفهرس

سيرته الذاتية : 

مقدمة 

رأي علي عزت في مذكراته 

الدراسة والحرب في يوغسلافيا الملكية 

نسمات من السعادة في سراييفو 

الهيمنة الصربية 

التشكيل المبكر لوجدان علي عزت 

المراهقة وغواية الفكر الشيوعي 

العمل الإسلامي وتجربة السجن : 

ملامح أخرى لدعوة الشبان المسلمين 

بداية الصدام مع النظام الشيوعي 

تجربة السجن الأولى 

رُبَّ ضارة نافعة 

الزواج ومعاودة النشاط

سراييفو تحت النظام الشيوعي 

انطلاق العنصرية الصربية بعد موت (( تيتو )) 

سجناء الرأي ومحنتهم الثانية 

محاكمة سراييفو وتجربة السجن الثانية : 

الاتهام بالتآمر لقلب نظام الحكم 

عبثية المحاكمة 

شهادة حجة باشا 

دفاع علي عزت 

الحياة في السجن 

تأملات سجين 

الكلام كجريمة 

الانتقام غير وارد 

من السجن إلى قيادة الشعب : 

إنشاء حزب العمل الديمقراطي 

استقبال الجماهير للقيادة الجديدة 

التسامح الإسلامي في فوتشا 

دولة مدنية 

مؤامرة من داخل الحزب 

شخصيات في حياة علي عزت 

فرانيو توجمان 

فكرت عبدتيش 

على طريق المصالحة إلى أقصى المدى 

في جحر الثعابين 

نماذج من البشر : 

عن سلوبودان ميلوسيفيتش يقول 

فرانيو توجمان 

الفيدرالية عند ترجمان 

نماذج متحيزة من بريطانيا 

المثقفون المحايدون 

السياسيون ومكانهم 

سلام ظالم 

لقاءاته الصحفية وتصريحاته : 

تجربته مع الأجنبي 

مع عبد الله سيدران 

قراءاته 

البشناق والبوسنة 

مستقبل البوسنة رؤية وواقع 

الإسلام والأصولية 

مسلم وأوروبي 

ما أنا إلا رئيس انتخبه الشعب 

بين لحرية والتطرف

التحوُّل المذهل

الإسلام والحضارة الغربية 

فكرتان جديدتان في أوروبا 

مسلم وأوربي 

بسم الله الرحمن الرحيم

سيرته الذاتية

مقدمة

  ظَهَرَ في هذا العام 2003 م كتاب (( علي عزت بيجوفيتش )) الذي يحمل عنوان : (( أسئلة لا مفرَّ منها – مذكرات من سيرة حياة )) . 

  كنت أتوقع صدور مثل هذا الكتاب خصوصًا بعد أن اعتزل الرجلُ منصَبه السياسي مختارًا – كرئيس لجمهورية البوسنة والهرسك بعد أن انتخبه الشعبُ بالأغلبيةِ الساحقة لفترتين رئاسيتين ، هذا الاعتزال الاختياري في حدِّ ذاته ظاهرة سياسية فريدة في بلاد المسلمين تستحقُّ منا كثيرًا من التأمُّل .

  المهم أن الرجلَ اعتزلَ المنصبَ وأخلد إلى شيء من الهدوء والتأمُّل في خبرات حياته ومسيرته السياسية ويالها من حياة حافلة بالأحداث الجسام ! .. 

   قرأْتُ كثيرًا من لسِّيرِ الذاتية بأقلام كبار الشخصيات العالمية فأعجبْتُ بجوانب منها وأنكرْتُ جوانب أخرى .. وأكثر ما أنكرْتُه هو محاولةُ تجميل تاريخ حياتهم بما ليس فيهم وتبرير قُبْحِ أعمالهم بمنطقٍ معوَّج وبغمطٍ للحقائق لا ينهض أمام البحث والاستقصاء . 

  وما أريد أن أُثْبِتَه هنا هو أنَّ السيرة الذاتية – على أي حال – تشفُّ عن شخصية صاحبها الحقيقية سواء أراد هو ذلك أو لم يرد . مثلاً أراد لورد (( أوين )) في مذاكراته ( أوديسا البلقان ) أن يُبَرِّرَ أخطاءَه الفاحشة في محاولته تسوية الصراع اليوغسلافي في البوسنة ، فبدا غاضبًا كاذبًا مزيفًا للحقيقة بل ومتناقضًا مع نفسِه في كتابات له سابقة عن حَرْب البوسنة وقد أوضحت ذلك في مقال سابق في مجلة المختار الإسلامي ردًّا على ما كَتَبَه الأستاذ محمد حسنين هيكل في هذا الموضوع وفي مذكرات (( هنرى كسينجر )) رأيته متعاليًا خبيثًا كارهًا وليس ( صديقنا العزيز ) كما كان يُطْلِقُ عليه بعض قادتنا العرب سذاجةً أو سياسةً ! ..

  ورأيت (( تشرشل )) في مذكراته موضوعيًّا متواضعًا مخلصًا لبلاده وتقاليدها الإمبريالية بلا مواربة ، ورأيت (( هلموت شميت )) موضوعيًّا وعلى شيء كثير من التواضع ، وتمنيت أن لو كان قادتنا السياسيون يقرءون مثلَ هذه المذكرات ليعرفوا ما يقال عنهم بعيدًا عن الضجيج والتزييف الإعلامي ومقتضيات الدبلوماسية ...

  ولا شكَّ أنني خرجْتُ من قراءة كلِّ سيرة ذاتية – مهما تفاوت نصيبها من الصدق والحقيقة – بشيء من الفائدة ، فكرية كانت أو عملية ، ولكنني لم أستمتع بقراءة سيرة ذاتية كما استمتعت بقراءة كتاب غاندي ( البحث عن الحقيقة ) ساتيا جراها ، قرأته في أعقاب الهزيمة المروعة سنة 1967 فانتشلني من قاع أزمة نفسيّة أصابتني بسبب هذه الهزيمة التي لم أَفْهَمْ لها مُبَرِّرًا ورأيت فيها مُؤَشِّرًا على مستقبل مأساوي بتربص بهذه الأمة ...

  جذبني إلى السيرة الذاتية للمهاتاما غاندي أنها كانت تتضح بالصدق والتواضع الإنساني والزهد وعُمْقِ التجربة الروحية والتسامح الأخَّاذ ، وها أنذا – بعد ستة وثلاثين عامًا وفي ظروف مأساوية أخرى تحلُّ بالأمة – أقرأ سيرة ذاتية أخرى تنبثق من نفس الينبوع الإنساني الخالد للمفكِّر الإسلامي المبدع والقائد السياسي والروحي الملهم ( علي عزت بيجوفيتش ) الرئيس السابق لجمهورية البوسنة والهرسك ، الذي قاد شعبه في أَحْلَكِ فترة من فترات تاريخه الحديث ، فأخرجه من الكارثة التي حَلَّت به بعد نضال شاق مرير ، فلما شعرَ أنه قد أدَّى أمانته وأبلغ شعبه إلى مأمنه لم يبقَ في منصبه ليستمتعَ بثمرات جهاده ويركنَ إلى حياة الرفاهية والمتعة وإنما زَهَدَ في ذلك كلِّه واستقال من منصبه ، وهو القائدُ الذي أنتخبه شعبُه بأغلبية ساحقة ، شَهدَ بها المجتمع الدولي .. هذا الموقف في حدِّ ذاته يستحقُّ منا أن نتوقَّف عنده طويلاً لنتأمل فيه ونستخلص منه العِبَرَ ، هذا الزهد في السلطان هو الذي يصنع العظماء وليس التشبث به حتى الموت ، يرفع الزهد أصحابه إلى ذُرَى رفيعة ويهبط التكالب بأصحابه إلى أعماق الجحيم . 

محمد يوسف عدس -مستشار سابق بهيئة اليونسكو

رأي علي عزت في مذكراته

  يقول : (( إنها شذرات لا تُمَثِّلُ حياتي كلّها .. ذلك لأن أجزاء كاملة من حياتي إما أني نسيت تفاصيلها وإما أنها تخصني وحدي ولا تهمُّ غيري ، وما بقي من حياتي إنما هو سرد زمني للأحداث أكثر من أن يُشَكِّلَ سيرة ذاتية ... أو قل إنها قصة الأحداث كما وقعت في مجرى حياتي )) . 

  هكذا يُقدِّم لنا (( علي عزت )) سيرته الذاتية ببساطة شديدة وتواضع يتجلَّى في قوله : (( لم آلفْ كتابة مذكرات من هذا النوع ولكني عندما قرأت مذكرات (( تشرشل )) الشهيرة فهمْتُ من كلام (( تشرشل )) نفسه أن الكاتب في هذا المجال إنما يقصدُ إلى رَبْطِ الأحداث كما وَقَعَتْ في تربيتها الزمني بخيوط من خبرته الخاصة ، ومن ثَمَّ فالمذكرات تَصَوُّرٌ ذاتي للأحداث وليست تاريخًا )) ، ثم يضيف فكرة أخرى مهمَّة فيقول : 

  (( لا يصح أن يكتبَ التاريخَ أولئك الأشخاص الذين صَنَعُوه أو كانوا جزءًا منه )) . 

   تشكلِّلُ رسائل (( على عزت )) وأحاديثه ومحاضراته ولقاءاته الصحفية خلال حرب البوسنة جزءًا كبيرًا من الكتاب والدافع إلى ذلك كما يقول : (( تصورت أن نَشْرَ هذا كله أو بعض منه ربما يكون ضروريًّا لأنه يُعَبِّرُ عن انطباعاتي المباشرة عن الأحداث وتعليقاتي الفورية عليها .. واعتقدت أنَّ هذا أكبر شهادة وأكثرها دلالة على هذه الأحداث كما أنها طريقة ناجحة لتجنب ذلك النوع من الإدراك المؤجّل لطبيعة الأحداث ومغزاها ، فالإدراك المؤجِّل هو بالضرورة إدراك مُعدّل . 

   هنا يتسق (( علي عزت )) تمامًا مع نفسه ومنهجه .. فهو يتحدَّثُ عن انطباعاته الخاصة بإزاء الأحداث ولا يتحدَّثُ عن الحدث باردًا مجردًا ، فهو لا يكتب تاريخًا ولا يصح في منهجه أن يكتب التاريخَ أولئك الذين صَنَعُوه ، ولذلك فإنه يصفُ مجملَ مذكراته بقوله : (( إنها الحقيقة كما رأيتها في فترة بالغة الصعوبة من تاريخنا )) . 

   يقع الكتاب في خمسمائة وخمسين صفحة تحتوي على ثمانية فصول وملحقات ، وقد صَدَّرَ الكتاب بعشر صفحات لَخَّصَ فيها تاريخ البوسنة كما ورد في كتاب المؤرخ والكاتب البريطاني ( نويل مالكوم ) بعنوان ( تاريخ موجز للبوسنة والهرسك ) ، وفي هذا تقدير عظيم لهذا المؤرِّخ الذي تميزت كتاباته بعمق النظرة والإنصاف . 

الدراسة والحرب في يوغسلافيا الملكية

   لا ينسب (( علي عزت )) إلى نفسه بطولات أو إنجازات فذَّة أو عبقرية نادرة ظَهَرَتْ ملامحها عليه مبكرًا كما يزعم عادة أكثر كُتَّاب السِّيَر الذاتية ، وإنما يُصَرِّحُ ببساطة شديدة أنه كان تلميذًا متوسط الإنجاز في المدرسة الابتدائية حتى أنه كان يحصل على درجات ضعيفة في مادة التاريخ بالذات ... وكان يعنقد حينذاك أن السبب في ذلك يرجع إلى مُدَرِّسِ التاريخ الصِّربي الذي كان يتحدَّثُ بلهجة عامية غريبة عن اللهجة البوسنوية ولأن هذا المدرس كثيرًا ما كان يُعَرِّضُ بالتلاميذ المسلمين ويُطْلِقُ عليهم نِكَات ساخرة ، يقول (( علي عزت )) : (( اعتقدْتُ آنذاك أن هذا كان كافيًا لكي ألومَ هذا المدرِّس الصِّربي على درجاتي الضعيفة في التاريخ )) . 

   التحق (( علي عزت )) بالمدرسة الثانوية ( جمنازيوم ) بسراييفو ، وكانت تتبع منهج المدارس الصارم في عَهْدِ يوغسلافيا الملكية وكان معظم مُدَرِّسِيها من الصِّرب كالحال في المدرسة الابتدائية ذاك لأن صَرْبَنَةَ البوسنويين المسلمين كانت هدفًا تقليديًا راسخًا لتأكيد الهيمنة الصربية على جميع الشعوب والأعراق الأخرى في يوغسلافيا . 

  ربما كان هذا هو سرُّ انصرافِه الجزئي عن متابعة المناهج المقررة بنشاط أكبر ، واتجاهه إلى تعويض ذلك بقراءة الفلسفة التي كان يعشقها ، حتى أنه استطاع أن يستوعبَ الأعمال الفلسفية الأساسية في الفلسفة الأوربية قبل أن يبلغ سنَّ التاسعة عشرة ، يقول في هذا : (( لم أكن في ذلك الوقت استعذب فِكْرَ الفيلسوف الألماني (( هيجل )) وإن كنت قد غَيَّرْتُ رأيي فيه فيما بعد ، أما الفلسفات التي تأثرْتُ بها كثيرًا فهي فلسفة (( هنرى برجسون )) في ( التطور الحي ) وكتاب الفيلسوف الألماني (( كانت )) ( نقد العقل الخالص ) وكتاب من مجلدين للفيلسوف (( شبنجلر )) بعنوان ( تدهور الغرب )) . 

  رغم انشغال (( علي عزت )) بالفلسفة إلا أنه لم يقطع صلته بالمدرسة في أي وقت من الأوقات حتى تمكَّن من التخرُّجِ سنة 1943 ، في ذلك الوقت كانت الحرب العالمية على أشدِّها مخلفةً وراءها معارك (( ستالنجراد )) و (( العلمين )) ، وكان الحلفاء يستعدون لإنزال قواتهم في سيسلي )) و (( إيطاليا )) . وهو يذكِّرنا هنا بنقطتين هامتين في مجرى هذه الحرب الطاحنة : النقطة الأولى تتعلَّق بالمجاعة الكبرى التي اجتاحت سنة 1941 م ويُعَلِّق على هذه الواقعة بقوله : (( كنا في المنزل نشعرُ بالجوع معظم الوقت لنقص السلع الغذائية في الأسواق )) . 

   أما النقطة الثانية فتتصل بالحرب في يوغسلافيا حيث يقول : (( لقد اكتوت يوغسلافيا بنيران حربين لا حرب واحدة ... الحرب العالمية الثانية ، والحرب الأهلية التي نشبت بين ( الشتنك ) الصربييين الذين كانوا يدافعون عن الملكية اليوغسلافية وبين ( الأوستاشا ) الكرواتيين الذين انحازوا إلى الاحتلال النازي .. وفي نفس الوقت كان البارتيزان بقيادة ( جوزيب بروز تيتو ) يحاربون القوات الألمانية وفقَ أجندة أخرى هي الشيوعية .. كان المسلمون كالعادة هم الضحايا في كل صراع ينشب بين الصرب والكروات ، فاضطروا في النهاية أن يلتحقوا بالقتال دفاعًا عن وجودهم بعد أن كَثُرَ فيهم القتل والتدمير من كلا الجانبين )) . 

   كانت الاستاشا الكروتية قد استولت على السلطة في يوغسلافيا تحت حماية القوات الألمانية الغازية .. وعلم (( علي عزت )) أنهم يبحثون عنه لتجنيده في الأستاشا الكرواتية فقد كان الكروات شأنهم في ذلك شأن الصرب يَعْتَبِرُون المسلمين البوشناق جزءًا منهم ، ولا يعترفون باستقلالية المسلمين عن الصرب أو الكروات .

   ولأن (( علي عزت )) كان كَارِهًا للعنصرية الصربية وللفاشية الكرواتية معًا لم يكن يتصور نفسه مقاتلاً تحت راية النازية أو الشيوعية ، لذلك هَجَرَ منزله في سراييفو ولجأ إلى أقاربه في مسقط رأسه الريفي ليختفي عندهم . 

نسمات من السعادة في سراييفو

  نادرة هي تلك الأيام التي شعر فيها (( علي عزت )) بحياة آمنة هادئة فلم تكد حياته التي بلغت الثامنة والسبعين هذا العام ( 2003 ) تخلو من الحروب والصراعات والاستبداد والاعتقادات ... ولكنه يتذكَّرُ فترةً وجيزة تقع بين عامي 1932 و 1941 م استمتع فيها بطفولة هانئة سعيدة ... وهنا يحكي لنا عن انطباعاته الأولى مع جيران لهم من الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك الذين تعايشوا معًا في سلام ومَودَّة ... ومن كلامه ندركُ أن مقولةَ العداء التقليدي والصراع العرقي بين البشناق والكروات والصرب أو بين المسلمين والأرثوذكس والكاثوليك إنما هي خرافة محضة ، وعندما انطلق هذا الصراع كان دائمًا بفعل قُوى خارجية لخدمة أهداف سياسية توسعية رَوَّجَ لها قادة عنصريون متطرفون أمثال (( سلوبودان ميلوسفيتش )) ، وتبعهم في ذلك فئة من الكُتَّاب والصحفيين الجُهَّال أو المرتزقة ، وقد ابتلينا ببعضهم في الإعلام العربي . 

يقول (( علي عزت )) : 

  (( ورثنا عن جدي لأمي مزرعة في قرية تُسَمَّى ( أزيتش ) غير بعيدة من سراييفو .. وقد استملت المزرعة على منزل ريفي جميل تحفُّ به أشجار كبيرة عتيقة ... وبئر للماء من الطراز الروماني ... كنا نقضي العطلة الصيفية هناك مع أبي وأمي قبل أن تتدهور صحة أبي .. وحيث تولَّت خالتي وأمي قبل أن تتدهور صحة أبي .. حيث تولَّت خالتي اصطحابي مع إخوتي إلى المزرعة .. وهناك قضيت أسعد أيام حياتي )) . 

  يتابع (( علي عزت )) ذكرياته وانطباعاته عن هذه الفترة السعيدة فيقول : 

   (( أزيتاشي قرية صغيرة اختلط فيها المسلمون والأرثوذكس والكاثوليك فتعايشوا في سلام .. وكان للكاثوليك في القرية كنيسة قديمة تقام في ساحتها الخارجية احتفالات يحضرها جميع السكان في ليالي الصيف الجميلة وقد سادت بين الجميع مشاعر وُدٍّ واحترام متبادلة .. كانت هذه الصورة تَرِدُ على خاطري دائمًا وأنا أتأمل في أحداث الحرب الدامية التي اجتاحت البوسنة في التسعينات )) . 

  من الطبيعي أن يتحسَّر (( علي عزت )) على هذه الأيام الخوالي وهو يرى شعبه يتعرَّضُ لأبشع عمليات تطهير عرقي شهدتها أوربا في العصر الحديث .. ولا تزال فِرَقُ البحث عن الضحايا حتى اليوم تكشف عن مزيد من المقابر الجماعية وتستخرج أشلاء الضحايا مُمَزَّقةً مبعثرةً لأطفال ونساء أبرياء ، وجثث لرجال مقيدين في الأغلال دفنوا أحياء تحت وابل من الأنقاض .. قارن بين هذه الصورة وبين الصورة التي عَرَضَها لنا (( علي عزت )) في ذكريات طفولته يقول : 

  (( كان لنا جار صربي يُسَمَّى (( ريستو بيريان ) .. اعتاد أن يُحَيي كلَّ امرأة مسلمة وهي تجلس في حديقة منزلها الأمامية فكان يشيح بوجهه إلى الناحية الأخرى غضًّا للبصر واحترامًا للتقاليد الإسلامية .. كان هذا ما يجري بين عامة البوسنيين في كل مكن أمَّا ما يحدث في الأوساط الحكومية فشيء آخر )) . 

التشكيل المبكر لوجدان علي عزت

   كان جدُّ (( علي عزت )) ضابطًا في الجيش العثماني تزوَّجَ وهو يعمل في اسطنبول من فتاة تركيَّة تُسَمَّى (( صِدِّيقة )) ، كما كان أبوه محاربًا في الجبهة الإيطالية في الحرب العالمية الأولى حيث أصيب بجرح بالغ تحوَّل مع الوقت إلى شِبْه شلل جَعَلَه حبيس الفراش فترات طويلة ، وقد تأثرت طفولة الصبي (( علي عزت )) بمرض أبيه خصوصًا خلال السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة من عمره . 

   كانت أسرة أبيه على درجة كبيرة من الثراء وكان أبوه نفسه يملك تجارة واسعة في بلدتهم الصغيرة المسماة ( بوسانسكى شاميتس ) ولكن هذه التجارة تبددت في ظروف غامضة ربما بسبب تقاعد أبيه . 

  مما يتذكره (( علي عزت )) في طفولته المبكرة عن تأثير أبيه في تشكيل حياته الفكرية ، أنه عندما انتقلت الأسرة إلى سراييفو لإلحاق أبنائها وبناتها بالمدارس كانت الأسرة محاطة هناك بأهل أمه وأقاربها ، وقد لاَحَظَ أنهم جميعًا يحترمون أباه ويُقَدِّرُون حكمتَه ويلجأون إليه لفضِّ المنازعات العائلية والزواجية ، وكانت قراراته تُحْمَلُ على محملِ الجدِّ والتقدير وكان الجميع يُثْنُون على حكمتِه وعدلِه ، ومن ثَمَّ امتلأ قلبُه بالاعتزاز والفخر لمكانة أبيه .. ولكن حبّه الأكبر اختصَّ به أمَّه ، فقد كانت رقيقةً عطوفًا وعلى جانب عظيم من التدين والتقى وهو يعتقد أن جانبًا كبيرًا من التزامه الديني والأخلاقي جاء من ناحيتها ، حيث يقول : (( كانت أمي تحرصُ على قيام الليل وقراءة القرآن حتى يحين موعد صلاة الفجر فتوقظني لنذهب معًا إلى صلاة الجماعة في المسجد القريب من بيتنا ...

   كنت في ذلك الوقت بين السنة الثانية عشرة والرابعة عشرة من عمري ، ولم يكن من السهل عليّ أن أغادرَ وفاء الفراش في هذا الوقت المبكر فكنت أقاوم في بادئ الأمر .. ولكني كنت أشعر بعد العودة من المسجد بارتياح كبير وسعادة من هذه الخبرة المثيرة خصوصًا في فَصْلِ الربيع ، حيث تكون الشمس قد أشرقت وملأت المكان بأشعتها الدافئة ... ولما تزل آيات القرآن حلوة ندية ترقرق في مسامعي ، فقد اعتاد الإمام الشيخ قراءة سورة الرحمن كاملة في الركعة الثانية بصوته العذب وكان شخصية محبوبة من جميع الناس .. كنت أعود من المسجد سعيدًا منشرح الصدر .. وقد استقرَّ هذا الانطباع في أعماق نفسي واضحًا مشرقًا في وسط ضباب كثيف من الخبرات الأليمة التي أحاطت بحياتي عَبْرَ السنين )) . 

المراهقة وغواية الفكر الشيوعي

   (( عندما بلغت السن الخامسة عشرة تحرَّرْتُ من سيطرة الأبوين وبدأت أشعر أن لي كيانًا خاصًّا وحياة خاصة بي .. في هذه الفترة من المراهقة المبكرة اهتزَّ إيماني بأشياء كثيرة ووجدْتُ نفسي مع مجموعة من رفقاء المدرسة نبحث فيما حولنا عن آفاق جديدة تشبعُ تطلعاتنا وأشواقنا المنبثقة ، فقرأنا كثيرًا من كُتُب الشيوعيين والملاحدة ، وكانت يوغسلافيا في ذلك الوقت تغصُّ بالنشطاء الشيوعيين .. وكانت الدعاية الشيوعية تتحرك بقوَّة وسرِّيَّة بين الشباب فاستطعت أن أحصل على بعض كُتُبهم ومنشوراتهم .. وأدركت من قراءتها أنهم لا يفهمون الديمقراطية ولا يبالون بها ... كانوا ضد الفاشية الشمولية ، ولكنهم بفكرهم كانوا يُمَثِّلُون أيديولجية شمولية أيضًا وإن كانت مضادة للفاشية ، بمعنى آخر كانت شمولية حمراء في مواجهة شمولية سوداء .. كان الشيوعيون أقوياء في المدرسة الثانوية وكان هناك مدرِّسون يَبُثُّون الفكرَ الشيوعي سرًّا بين التلاميذ وبدأْتُ أنشغل بفكرة العدالة الاجتماعية ، والتأمل في أفكار الشيوعيين عن الله ، فوجدت أن الله في الدعاية الشيوعية يقفُ إلى جانب الظلم الاجتماعي ، ومن ثَمَّ انبثقت مقولة : (( أن الدين أفيون الشعوب )) لأنه يعدُهم بالنعيم في حياة أخرى مشكوك فيها لكي يكفُّوا عن النضال في الحياة الدنيا الواقعية )) ، كانت الغواية قوية وكان من السهل على صبي قليل الخبرة أن يقع فيها ، ولكن عشق (( علي عزت )) للحرية والديمقراطية والجذور الدينية التي انغرست في فطرته مبكرًا عصمته من الانزلاق . 

يقول في ذلك : 

  (( انتصرت الفطرة في النهاية فقد كنْتُ أومُن أن الرسالة الأساسية للدين هي المسئولة .. وفي ذلك يتساوى الملوك والأباطرة مع عامة البشر ، فإن لم يكونوا يخشون القانون والشرطة لأنهم يملكون القانون والشرطة في أيديهم ، إلا أن مسئوليتهم أعظم وأخطر أمام الله ، فهم سيُسألون عن أعمالهم وما ارتكبوه من مظالم يوم القيامة ولا مفرَّ هنالك من الحساب والعقاب ، وتلك وظيفة الضمير الديني .. وقد بدت لي فكرة أن الكون بلا إله هو كون لا معنى له .. ولذلك لم يستمرّ تردُّدي وشكوكي طويلاً فقد برئت منها في غضون عام أو عامين لأعود مرة أخرى إلى ينابيع الإيمان الصافي الذي يغمر قلبي وعقلي )) . 

العمل الإسلامي وتجربة السجن

   بَدَأ (( علي عزت بيجوفيتش )) يتجه إلى العمل الإسلامي عندما تعرَّف على مجموعة من الشباب في جامعة زغرب وجامعة بلجراد كانوا قد لَخَّصُوا عقيدتهم في تصوّرٍ عن الإسلام رأى أنه يتلائم مع أفكارِه الخاصة ، حيث اتفق الجميعُ على أن الإسلامَ ينطوي على حقيقتين متكاملتين : عبادة ظاهرة برانية ومحتوى روحي جواني لا ينفصمان ، ولكن المؤسسة الدينية الرسمية حصرَتْ نفسها في الشكل البراني وأغفلت الجانب الروحي ، مما أدَّى إلى خواء صَرَفَ الشباب عن هذه المؤسسة .. لذلك اتفق الطلاب على إنشاء جميعة لهم باسم ( جمعية الشبان المسلمين ) وأرادوا تسجيلها وفقًا لقوانين الجمعيات الذي كان معمولاً به في ذلك الوقت ، وعقد الطلاب جمعية عامة تأسيسية تخضَّ عنها انتخابُ مجلس إدارة ، لم يشأ (( علي عزت بيجوفيتش )) أن يَذْكُرَ أنه كان أحد أعضاء هذا المجلس ، حَدَث في ذلك الوقت أن غَزَت القوات الألمانية يوغسلافيا ، وكان هذا في إبريل 1941 فلم يتم تسجيل الجمعية رسمًّا بعد ذلك أبدًا نظرًا لتلاحق الأحداث المعاكسة . 

   المعالم الأساسية في فِكْرِ هذه الجمعية كما يُحَدِّدها (( علي عزت هي : الإسلام مع بعض عناصر ذات اتجاه معارض للفاشية والفكر الشيوعي الإلحادي ، بهذا تحدد محور اهتمام حركة الشبان المسلمين ومسارها . 

    هذا الموقف لم يأت من فراغ وإنما جاء كرد فِعْل على المناخ السياسي الذي كان سائدًا في أوربا في ذلك الوقت ... يقول : (( كان يسيطرُ على النظام العالمي حينذاك فاشية (( هتلر وشيوعية (( ستالين )) ، وكلٌّ منهما يريدُ تغيير العالم وصياغته وفقَ رؤيته الأيدلوجية الخاصة ... ولم يكن هذا أكثر من وَهْمٍ سرعان ما تكفَّل الزمنُ بعلاجه ، فقد تلاشت الفاشية بسقوط (( هتلر )) ، ثم انهارت الشيوعية بعد ذلك وبقي العالم القديم ليغير نفسه بنفسه )) . 

ملامح أخرى

   لدعوة الشبان المسلمين عندما يصفُ لنا (( علي عزت )) أوضاع العالم الإسلامي في تلك الفترة ندركُ من وَصْفِه أن حركته كانت على بينةْ ودراية واسعة بأحوال المسلمين المتردية في العالم حيث يقول : (( عندما ظَهَرَتْ حركة الشبان المسلمين في أوائل الأربعينات كان العالم الإسلامي في حالة يائسة ، فأكثر بلاد المسلمين كانت ترزخ تحت الاحتلال العسكري والاقتصادي .. وكنا نشعر أن الإسلام يستحقُّ وضعًا أفضل مما هو عليه ، وأن الحاجة ماسة إلى إبراز جوهره الصافي وتمكينه من الانعتاق والانطلاق في عالم الإصلاح والتقدُّم )) . 

  انتشرت دعوة الشبان المسلمين في أوساط طلاب الجامعات والمدارس الثانوية وأصبح لها مُؤَيِّدُون بالمئات في كلِّ مدينة وبلدة في أنحاء البوسنة والهرسك ، وكان هناك شِبْه اتفاق غير مكتوب بينهم وبين السلطات الحاكمة فيما بين سنتي 1941 و 1945 : (( ألا يكون هناك صدام أو تحرُّش )) . برغم أنه كان من الواضح أنَّ هذه الجماعة كانت تشكِّلُ المعارضة الحقيقية للنظام القائم . وقد استمر نشاط الجمعية على هذا المنوال بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، ولكن الظروف السياسية كانت قد تَغَيَّرَت كثيرًا ، فقد انتهى عصرُ يوغسلافيا الملكية وبدأ عهد يوغسلافيا الشيوعية . 

   وفي هذا يقول (( علي عزت )) : (( حاولَ الشيوعيون في بادئ الأمرِ استمالتنا إلى فِكْرِهم مع تثبيط نشاطنا الفكري والإعلامي فلما فشلوا شرعوا يُلفِّقُون لنا التُّهَمَ ويزجُّون بنا في السجون ، دَخَلَ السيوعيون سراييفوا في إبريل 1945 وحكموا البوسنة والهرسك ، وبدأت بذلك فترة من الصراع والمعاناة استمرت 45 عامًا )) . 

بداية الصدام مع النظام الشيوعي

  في خريف سنة 1945 ظَهَرَت محاولات مكثفة لاحتواء جمعية علماء المسلمين ( بريبورد ) وإخضاعها للتوجيه الشيوعي .. كان الهجوم عليها وعلى قياداتها وعلى الإسلام نفسِه هجومًا عنيفًا ظالمًا به حَشْدٌ من الافتراءات والأكاذيب وكثير من الجهل بالإسلام . 

   يقول (( علي عزت )) : (( كان لابدَّ لنا أن ننهضَ للدفاع عن الجمعية المظلومة وعن الإسلام المفترى عليه ، ونردَّ على مزاعم الشيوعيين بالحجج والبراهين ، كان خطابنا ناريًّا ضد هذا الاتجاه الإلحادي المسعور فصفَّقَتْ لنا الجماهيرُ كثيرًا ورحَّبُوا بنا وهتفوا لنا فكان ردُّ فِعْلِ الشيوعيين علينا فوريًّا حيث قام رجال الأمن بإلقاء القبض علينا ونحن على منصَّة الخطابة )) . 

   لقد أفرج عن الخطباء في اليوم التالي ولكن السلطات الشيوعية اعتبرت هذا الدفاع عن الإسلام تمرُّدًا على النظام ، فوضعَتْهم تحت الملاحظة والرقابة .. حيث كانوا يُدَبِّرُون للجمعية ما هو أخطر .. فبعد أشهر قليلة وعلى وَجْهِ التحديد في مارس 1946 ألقي القبض على (( علي عزت )) مع أربعة عشر من زملائه وقُدِّموا لمحاكمة صورية وحُكِمَ عليهم لمدة ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة .

  ولكن برغم الأحكام الجائزة استمرَّت جمعية الشبان المسلمين تمارس نشاطها ... بل اتسعت رقعتها في المجتمع البشناقي فقامت السلطات بإلقاء القبض على مجموعة أخرى سنة 1947 تم تَلَتْها مجموعة ثالثة سنة 1948 . 

  ثم أرادت السلطات الشيوعية أن تقومَ بعملية كبرى شاملة لسحقِ الجماعة واجتثاثها من الجذور .. كان هذا سنة 1949 م .

  ثم أرادت السلطات الشيوعية أن تقومَ بعملية كبرى شاملة لسحقِ الجماعة واجتثاثها من الجذور .. كان هذا سنة 1949 م عام ( الكومنفورم ) الذي هاجم في (( ستالين )) يوغسلافيا هجومًا عنيفًا واتهمها بالتراخي مع الجماعات المضادة للثورة الشيوعية .. فأراد الشيوعيون أن يثبتوا العكس ، ومن ثَمَّ وسعوا دائرة الاعتقالات إلى أقصى المدى ، مما أثار الذعر في البوسنة والهرسك كلها . 

   يقول (( علي عزت )) : (( حُكِمَ على بعضِ زملائنا بالإعدام وكان أكبرهم سنًّا هو (( حسن بيبر )) ( 27 سنة ) وأُعْدِمَ (( نصرت )) الذي كان أصغرنا سنًّا حيث لم يكن قد بلغ العشرين بعد .. وكان من بين التهم التي وُجِّهَتْ إلينا تهمة الإرهاب وهو أمر لم يحدث مطلقًا لأن أحدًا منا لم يمارس أي لون من ألوان لعنف ، ولا حتى قُمْنا بمظاهرة .. فقد انحصرَتْ أنشطتنا في الكتابة والتواصل بالخطابات والاجتماعات ، يعني كانت كلها مقاومة شفوية ونفسية للفكر الشيوعي )) . 

تجربة السجن الأولى : 

  فضي (( علي عزت )) في السجن ثلاث سنوات من مارس 1946 إلى مارس 1949 م ، ولأنه رجل صادق ومنصف ولا يحبُّ المبالغات لم يزعم لنفسه بطولات لم يفعلها ولا نَسَبَ عيوبًا للسجن أكثر مما فيه حيث يقول : (( فيما عدا أنني كنت أشعرُ بالجوع .. لقلة الطعام إلا أنني لم أتعرَّضْ لأي نوع آخر من التعذيب البدني سوى التجويع .. )) ويصفُ لنا سجْنَه فيقول : (( وَضِعْتُ في أحد السجون العسكرية في مكان واحد مع عتاة المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام .. ولبالغ دهشتي التقيت بنماذج إنسانية مثيرة للعجب قَذَفَ بها الحظُّ السيِّئ هذا المصير )) .. وفي هذا المجال يقصُّ علينا حكاية شاب تورَّط في القتل دفاعًا عن أبيه .. (( فقد جاءَه مَنْ يخبره بأن مجموعة من البلطجية قد أحاطوا بأبيه وهو في المطعم يتناول عشاءَه فأسرع إليه ليراه يحاول حماية نفسه تحت المائدة وقد تَجَمَّعَ عليه بعض البلطجية يركلونه بأقدامهم ويضربونه بالمقاعد فاستشاط الابن غضبًا ، وأخرج من جيبه مطواة غيبها في صَدْرِ أحدهم فانفضوا عنه )) . 

  يقول (( علي عزت )) معلِّقًا على هذا الحادث : (( لو كنت مكانه ورأيت أبي في هذا الوضع المهين وحياته معرَّضة لخطر الموت ربما كنت سأفعل مثلما فَعَلَ هذا الابن المسكين )) . 

  بهذا التعليق يحاول (( علي عزت )) الإنسان أن يلفِتَ نظرنا ألا نتسرع في الحكم على الناس أو ننظر إليهم – كما تعوَّدْنا – باحتقار واشمئزاز إذا سمعنا أن شخصًا حكَمَتْ عليه السلطات بالسجن أو حتى قامت بإعدامه اعتقادًا منا بأنه لابدَّ أن يكون مجرمًا ، وأنه يستحقُّ ما أصابه ، فكم في السجن من مظلومين !! .. 

رُبَّ ضارة نافعة : 

  لم يخلُ السجن والأشغال الشاقة من بعض الفوائد الفكرية والعملية بالنسبة لعلي عزت وفي ذلك يقول : (( أُرْسِلْتُ إلى موقع بناء أسهمت فيه بعمل بدي .. وأصبح هذا المبني مركزًا للشرطة السِّرِّيَّة .. ثم عملْتُ بسراييفوا في تشيد مبنى آخر أصبح مقرًّا للجنة المركزية للحزب الشيوعي ، فكثير من أعمال الطوب والمحارة والتسليح في هذا المبنى من عمل يدي )) وكمسلم شديد الإيمان بالله وقَدَره يستخلصُ بعضَ العبرِ حيث يقول : (( لا يستطيعُ الإنسانُ في حقيقة الأمر أن يعلمَ على وجْه اليقين ما هو خيرٌ وما هو شرٌّ .. فقد تحوَّل شرُّ السجن في حالتي إلى خيرٍ لم أحسب له حسابًا ولا مرَّ بخاطري .. فلولا أنني كنت مسجونًا سنة 1946 ، وهو أمرًا اعتبرَتْه أسرتي مصيبةً كبيرة حلَّت بهم ، لولا هذا لما نجوت من القتل الذي كان من نصيب زميلي الشهيد ( خالد كايتاز ) الذي حلَّ مكاني في قيادة الجمعية بعد القبض علي )) .. فقد حُكِمَ عليه بالإعدام رميًا بالرصاص في أكتوبر 1949 م .

    ثم يحكي قصة أخرى في نَفْسِ السياق نَفْهمُ منها أن السلطات الشيوعية أرادت أن تحرمَه من زيارة أسرته نكايةً به وبهم ، فأرسلَتْه إلى سجنِ على الحدود المَجَرِيَّة .. وبالصدفة المحضة يجد أن هذا السجن كان عبارة عن مزرعة كبيرة بها كمِّيات هائلة من البطاطس ، فكان هو وزملاؤه في السجن يجمعونها من الأرض ويشوونها على النار ثم يلتهمونها كغذاء يومي .. وبذلك لم يَعُد للجوع أَثرٌ في حياته .. ويقول أيضًا : (( عملت هناك قاطعًا للأخشاب فأصبحت ماهرًا في هذه الصنعة .. وكلما فكَّرْت في الأمر قلْتُ لنفسي : إنها صنعة مريحة إذا اضطررت إلى مزاولتها في المستقبل لكسب عيشي )) ، ويستطرد فيقول : (( عندما حانَ موعد الإفراج عني بانتهاء مدة العقوبة كنت قد بلغْتُ الرابعة والعشرين .. خرجْتُ بكامل صحتي فلما رآني أهلي بكوا فرحًا ؛ لأنهم لم يكونوا يتوقَّعُون أن يجدوني بصحة جيدة )) . 

الزواج ومعاودة النشاط :

   لم يمكث (( علي عزت )) إلا قليلاً بعد الإفراج عنه حتى تَزَوَّجَ من فتاة كان يعرفها منذ صباه ولم تنقطع صلتهما رغم الأحداث والسجن الذي ابتلي به ، إنها زوجته السيدة (( خالدة )) التي صَاحَبَتْه طوالَ حياته فاحتملَتْها بحلوها ومُرِّها وساندته في مسيرته النضالية بالحبِّ والصبر .

   وأنجبت له بنتين وولدًا ، أما الولدُ فهو (( بَكْر )) وأما البنتان فهما (( ليلى )) و (( سابينا )) ، أنجبتا بدورهما – بعد الزواج – خمسة أحفاد كلّهم بنات ، يقول (( علي عزت )) : كنت دائمًا محاطًا بالنساء في داخل الأسرة .. وقد وجدْتُ أنهن يعانين من أمور كثيرة كان يمكن تجنبها ، ولذلك اكتسبت الرغبة بل الإصرار على إنصافِ النساء في مستقبل حياتي ... كانت أول حفيدة لي هي (( سلمى )) التي وُلِدَت منذ أربعة وعشرين عامًا مضت ... وقد استولت هذه المخلوقة الصغيرة – حينذاك – على أعمقِ مشاعري بشكلٍ قد لا يتصوره كثيرٌ من الناس )) . 

   بعد خروجه من السجن فورًا عاود نشاطه في جمعية الشبان المسلمين المحظورة ! .. (( وكانت مُهِمَّتي الرئيسية كتابة بعض المقالات لمجلة اسمها ( مجاهد ) كانت توزَّع سرًّا )) .. لم ينعم بصحبة صديقه ( حسن بيبر ) سوى أربعين يومًا حيث ألقي القبض عليه سنة 1949 وتعرَّض لضغوط كثيرة وتعذيب شديد ليعترف بأنني عدت للالتحاق بالجمعية ، ولكنه رَفَضَ بإصرار ولولا ذلك لعدت إلى السجن مرة أخرى بحكم طويل الأمد مع الأشغال الشاقة .

حُوكِمَ (( حسن بيبر )) وقَضِي عليه بالأعدام رميًا بالرصاص . 

   وتلا ذلك عمليات اعتقال واسعة ودَهْمٍ للمنازل والاستيلاء على أوراق ومستندات الجمعية كلها .. وتمَّ تدمير الجمعية تدميرًا كاملاً .. وأودع قادة الجمعية في أنحاء البلاد بالسجون وتبعثر الباقي أو لجأ إلى الاختفاء .

   ربما كان الأصدقاء يلتقون مع الاحتياط والحذر .. وقد يتحادثون ولكن بعيدًا عن أعين رجال الشرطة السرية . 

سراييفو تحت النظام الشيوعي :

   بعد خروجه من السجن هَالَه أن يَرَى سراييفو – بعد ثلاثة أعوام فقط من الحكم الشيوعيّ – في حالة يائسة ، ولم تكن بقية البوسنة والهرسك أسعد حالاً من سراييفو .

    يقول (( علي عزت )) : (( أعطاني أحد الزملاء بالسجن رسالة إلى زوجته في سراييفو وكانت تملك محلاًّا لبيع ( الخضروات ) ، وعندما وصلْتُ إلى هناك وقفْتُ أنظر حولي فلم أجد في المحلّ شيئًا يُذْكَر للبيع سوى بعض حِزَمٍ من الفجل ... كان الجوُّ شديدَ البرودة ، ورأيت المرأة تتلفعُ ببطانية حيث لا يوجد أي مصدر للتدفئة .. سألْتُها ماذا تبيعين ؟ . 

   فأشارت بعينها قائلةً : ما تَرَاه أمامَك ! .. أحيانًا يكون عندنا بعض البطاطس ، وعندما توجد يتجمعُ الناسُ أمامنا في طابور طويل لشرائها )) .. يضيف (( علي عزت )) قائلاً : (( عمومًا لم يكن يوجد في المحلات الأخرى بسراييفو سوى بعض الزيت والدقيق والسكر وقليل من الأقمشة .. وكلها تباع بكوبونات .. وفي هذا الحال يتساوى عامة الشعب .. ولكن هناك فئة قليلة متميزة خُصِّصَ لها منافذ أخرى للبيع وتُسَمَّى (( المحلاَّت الوزارية )) وهي على ثلاث درجات متفاوته ، أعلاها رقم ( 1 ) وهذه مُخَصَّصَة لكبار الأتباع من رجال القوات المسلحة وكبار السياسيين ، في هذا النوع الراقي من المنافذ يوجد كلُّ شيء من اللبن الأمريكي إلى أفخر أنواع الشيكولاته .. لقد اتبعت يوغسلافيا النموذج الروسيّ .. ولا عَجَبَ ففي بلد الاتحاد السوفيتي وتوابعه حيث الاشتراكية الحمراء كان هناك احتكار رهيب من قِبَلِ رجال الحزب الشيوعي ورموز السلطة لكلِّ شيء بما في ذلك أعظم المراكز أهمية في الاقتصاد والسياسة والثقافة .. وهي مناصب يمكن اكتسابُها أو فقدُها والحرمان منها بتأشيرة من اللجنة المركزية للحزب ... وكانت الامتيازات المرتبطة بهذه المراكز تشتمل على المرتبات العالية والكبائن الفاخرة المنفصلة في القطارات ، ومدارس خاصة ومراكز خاصة للعلاج ذات مستوى رفيع محظور على غير الفئات المتميزة .. وفي كتاب بعنوان ( عدم المساواة الاشتراكية في يوغسلافيا ) وَصَفَتْ ( إيفا بركوفيتش ) نظامًا مثل هذا النظام : مرتبات قيلات وشقق وسيارات ومصايف مدعمة .. الخ . 

  وهي امتيازات تمتد من المستوى الفيدرالي إلى مستوى الجمهوريات نزولاً إلى مستوى المحلِّيات ... وكان الحديث عن هذه الامتيازات في الشارع أو في الحزب من الأمور المحرَّمة .. يُوصَفُ مرتكبها بأنَّه ضد الاشتراكية وضد الدولة ! .. 

   في الوقت الذي كانت فيه محلات سراييفو فارغة من السلع كانت السجون ممتلئة بالمعتقلين ، وعندما امتلأت السجون التي خَلَّفَتْها يوغسلافيا الملكية والأستاشا أثناء الحرب العالمية بدأ الشيوعيون يبنون سجونًا جديدة .. وظلَّ الحال على هذا النحو من التوسُّع في السجون والمزيد من الاعتقالات على أشده في عَهْدِ قائد الشرطة وساعد (( تيتو )) الأيمن الطاغية ( ألكسندر رانتوفيتش ) .. عَزَلَه (( تيتو )) من منصبه سنة 1966 ولكن بدون تَحَسُّن يُذْكَرُ في الأمور حتى سنة 1975 م أي بعد ثلاثين عامًا من الحكم الشيوعي ، بدأت الأوضاع تتحسن قليلاً وبدأ الناس يتنفسون شيئًا من نسمات الحرية ، وكان هذا بثمنٍ باهظ بَلَغَ عشرين بليون دولار من الديون الخارجية التي جعلت يوغسلافيا تتعرَّض لمزيد من الضغوط الخارجية . 

انطلاق العنصرية الصربية بعد موت تيتو

   مات (( تيتو )) سنة 1980 وبدأ عَهْدٌ جديد في يوغسلافيا ظلَّت فيه الهياكل السياسية والاقتصادية تتخذ نَفْسَ الأسماء الاشتراكية القديمة ولكن عوامل التآكل والتحلُّل كانت ماضية فيها بلا هوادة ، فقد كان زوال عَهْدِ (( تيتو )) بمثابة كَشْفِ الغطاء عن القومية الصربية الكامنة التي شَرَعَت تتهيأ لوراثة يوغسلافيا وكان أول ضحاياها (( تيتو )) نفسه ، ففي عقْدِ الثمانيات انهالت عليه الاتهامات التي اعتبرت إنجازات حياته كلها أخطاء فاحشة : سعيه لصداقة الدول العربية والإسلامية كان خطأ لأنها بلاد متخلَِّفة معادية للتقدُّم ، وإصلاحاته الدستورية سنة 1975 م التي أعطت كوسوفا كيانًا ساسيًّا مكافئًا لمستوى الجمهوريات اليوغسلافية الأخرى ، وسماحه بناء مسجد للمسلمين في بلجراد وإنشاء معهد للدراسات الإسلامية في سراييفو .. كل ذلك موضع هجوم شرس من قِبَلِ الكُتَّاب الصرب القوميين ، الذين أبدوا عداء سافرًا للإسلام والمسلمين فاق كلَّ هجوم سَبَقَ به الشيوعيون في بداية حُكْمِهم سنة 1945 م .

  وقد تأكَّدت النزعة العنصرية الاستئصالية ضد المسلمين فيما سُمِّي بالتطهير العنصري خلال التسعينات .. في البوسنة أوَّلاً ثم في كوسوفا فانهارت دولة يوغسلافيا ولم يبق منها سوى الاسم .

سجناء الرأي ومحنتهم الثانية :

   كانت محنة (( علي عزت بيجوفيتش )) في هذا المناخ القومي العنصري الجديد أشد وأنْكَى فقد ألقي عليه القبض سنة 1983 ضِمْنَ مجموعة من المثقفين البشناق المسلمين بتهمة الثورة المضادة ، وكانت وثيقة الاتهام الوحيدة التي قَدَّمَها الادعاء في محكمة سراييفو هي كتاب (( علي عزت )) ( الإعلان الإسلامي ) الذي قُمْنا بترجمته إلى العربية فيما بعد . 

   كانت قضية ملفَّقة من أولها إلى آخرها .. جِيء فيها بشهود زور تحت التهديد الأمني .. وكانت المحاكمة مهزلة كبرى ، ورغم ذلك حكمت المحكمة على المتهمين بأحكام متباينة كان نصيب (( علي عزت )) منها أربعة عشر عامًا من السجن مع الأشغال الشاقة .. لم يكن بالكتاب المذكور إشارة واحدة إلى يوغسلافيا أو البوسنة وإنما هو معني بشئون عامة في الفكر الإسلامي والبلاد الإسلامية خارج أوروبا .. بل يحتوى على كثير من النقد للمجتمعات المسلمة ويُقَدِّم اقتراحات بحلول لمشكلاتها الأساسية .. ومع ذلك اعتبرَتْه المحكمة تحريضًا ضد الدولة ومؤامرة لقلب نظام الحكم فيها . 

   لقد دافع (( علي عزت )) عن نفسه وزملائه في هذه القضية دفاعًا منطقيًّا رائعًا ، فَنَّدَ فيه أدلة الادعاء وكَشَفَ عمَّا فيها من افتعال وجَهْلٍ وما تنطوي عليه من مخالفات صريحة للقانون والدستور .. ولكن هيهات ! .. فالأحكم كانت مُعَدَّة سلفًا حتى قبل أن تبدأ المحاكمة وكان الهدف منها هو التخلُّصُ من النخبة المسلمة من المثقفين والمفكرين ، والقضاء على كلِّ أَثَرٍ للفكر الإسلامي في البوسنة .

   والحقيقة أن ما جرى في هذه المحاكمة من تناقضات ومساخر كما يرويها (( علي عزت )) في مذكراته يُقَدِّم لنا نموذجًا من نماذج المحاكمات التي نشهدها هذا الزمن في أكثر بلاد العالم الثالث استبدادًا وتخلُّفًا ، لذلك تحتاج منا محاكمة سراييفو إلى وَقْفَة تأمُّل . 

محاكمة سراييفو وتجربة السجن الثانية :

    لا أدري لم أَلَحَّ على ذاكرتي وأنا أكتب هذه الحلقة من سيرة (( علي عزت بيجوفيتش )) ما درسته – بانبهار شديد – منذ خمسين عامًا عن الفيلسوف الإغريقي (( سقراط )) ونهايته المأساوية في السجن ؟ .. ربما كان السبب هو تشابه في بعض الملامح الشخصية المشتركة بين الرجلين ، فقد كان سقراط – مثله مثل علي عزت – من أشد المفكرين دفاعًا عن الحق والعدل والقيم الأخلاقية والحرية الإنسانية ، وكان (( سقراط )) مثل (( علي عزت )) في تصديه للانتهازية والسوفسطائية التي سادت المجتمع اليوناني في زمنه ، هذه السوفسطائية التي أسقطت معايير الحق والعدل وأخضعتها للهوى الشخصي والمصالح الفردية ، ومكنت للسفهاء والجهال أن يستولوا على مقاليد السلطة والإدارة وأن يفسدوا القضاء ، قَدَّمَ السوفسطائيون سقراط إلى المحاكمة بتهمة إفساد الشباب . 

    وكلُّ ما كان يفعله سقراط هو أنه دأب على محاورة الشباب لتصحيح مفاهيمهم عن الحقِّ والعدل والحرية فاجتذبت طريقته في الحوار جمهورًا من الشباب أصبح يشكل في نظر الساسة معارضة خطرة لفلسفتهم الانتهازية ومحاولة لزعزعة سلطاتهم في المجتمع . 

   نَصَحَه بعض أصدقائه أن يستعطف المحكمة لتخفيف الحكم عليه أو العفو عنه ، وقد كان هذا أسلوبًا شائعًا ومثمرًا في ذلك الزمن ، ولكنه بل إنه لم يحاول الدفاع عن نفسه وإنما تصدَّى للقضاة متحديًا لهم حيث قال : (( لو أنصفتم حقًّا لجعلتم مكانكم في مقعد القضاء ولنزلتم أنتم مكاني هنا في قَفَصِ الاتهام لأحاسبكم على جرائمكم ضد الحق والعدل وضد المواطنين الأبرياء . 

   وعندما أدخل سقراط السجن تمهيدًا لتنفيذ حكم الإعدام فيه دَبَّرَ تلاميذه له فرصة للهرب من سِجْنِه ولكنه أَبَى مرة أخرى أن يستجيب لرجائهم مُفضِّلاً مواجهة الموت بشجاعة على الفرار الذليل .

الاتهام بالتآمر لقلب نظام الحكم :

   في سنة 1983 اعتقل (( علي عزت بيجوفيتش )) مع ثلاثة عشر من زملائه قادة الفكر والمثقفين الإسلاميين ، وكانت تهمتهم هي القيام بثورة مضادة والتآمر ضد نظام الحكم وانفرد (( علي عزت )) بتهمة التمهيد لقلب نظام الحكم وإنشاء دولة مقتصرة على المسلمين في البوسنة ، بمعنى إخلاء البوسنة والهرسك من غير المسلمين عن طريق التصفية أو التطهير العرقي . 

  لم يكن هناك أسلحة ولا مليشيات مدربة ولا مظاهرات ولا منشورات ولا أجندة اجتماعات سرِّيَّة ولا حتى ورقة واحدة مكتوبة ... ولكن هل يحتاج أي نظام دكتاتوري مستبد إلى شيء من هذا المبرِّر اعتقال مواطنين أبرياء وتقديمهم إلى المحاكمة بأي تهمة ملفَّقة ؟ ! ..

  وهل يحتاج مثل هذا النظام إلى شهود حقيقيين إذا كان في مقدوره دائمًا أن يزود المحكمة بشهود زور تمّض تلقينهم بواسطة خبراء الشرطة السِّرِّيَّة ! ؟ .. 

   هذا ما حَدَثَ في محاكمة سراييفو : (( تكرار نمطي تقليدي في النظام الشيوعي تقارير الشرطة السرية بتوجيه مباشر من وزير الداخلية نفسه كما ثَبَتَ من تحقيقات لاحقة )) ، ومجموعة من شهود الزور تَمَّ اختيارهم وتلقينهم بواسطة خبراء متمرِّسين تحت الإرهاب والتهديد .

   الوثيقة الوحيدة المكتوبة التي قُدِّمت إلى المحكمة كانت كتابًا صغيرًا بعنوان ( الإعلان الإسلامي ) من تأليف (( علي عزت بيجوفيتش )) ولم يكن بهذا الكتاب شيء جديد .. بل سَبَقَ نَشْرُ محتوياته كلها في سلسلة مقالات خلال عقد السبعينيات في مجلة المسلمين الرسمية وكانت السلطات الشيوعية في عَهْدِ (( تيتو )) على عِلْم كامل بوجود هذه المقالات ولم تعترض عليها ، قرأت الكتاب وقمت بترجمته إلى العربية ونشرته دار الشروق سنة 1999 ، وسيجد القارئ أن هذا الكتاب معني بالشأن الإسلامي في عمومه وبمشكلات المسلمين في العالم ... وليس فيه إشارة واحدة ليوغسلافيا أو البوسنة ، ومع ذلك اعتبرته السلطات وثيقة اتهام ... ولذلك يبدو كلام مُمَثِّل الادعاء في المحكمة عن الكتاب أمرًا مثيرًا للعجب ومثيرًا للسخرية والضحك في آن واحد . 

عبثية المحاكمة :

   كانت المحاكمة كلها من بدايتها إلى النهاية مسرحية هزلية عبثية ، لم تَخْلُ من مواقف مثيرة للضحك ، وفي هذا يسوق (( علي عزت )) في مذكراته نموذجين من شهادة الشهود : 

النموذج الأول : - تُمَثِّلُه شاهدة تُدْعَى (( نيرمينا )) عندما وقفت أمام القاضي ، وقد نَبَّهَهَا القاضي بضرورة أن تشهد بالحقِّ ولا شيء غير الحقِّ وإلا قضت عليها المحكمة بالسجن خمس سنوات لشهادة الزور ... ولأنَّ المرأة كانت حسنة النية صَدَّقت القاضي وشعرت كأنَّه قد أَلْقَى إليها بطوق نجاة ... ولكنها تذكَّرَت تهديدات رجال الشرطة السِّرِّيَّة ألا تقولَ في المحكمة سوى الكلام الذي لَقَّنُوه إليها .. فسألت القاضي : هل حقًّا ستحميني إذا قلْتُ الحقيقة ؟ .. 

  ويبدو أن القاضي قَدَّرَ أنها تقصد حمايتها من أُسَرِ المتهمين فأجابها على الفور : بالتأكيد سوف نَحْمِيكِ ، فم أن بدأت الشاهدة تُدْلِي بشهادتها حتى ظَهَرَ الذهول واضحًا على وجه القاضي وعلى وجوه الحاضرين في المحكمة أما نائب الادعاء فقد أصيب بصدمة كأن جدارًا سَقَطَ على أُمِّ رأسه . 

   قالت المرأة : (( كلُّ شيءً وَقَّعْتُ عليه أثناء التحقيق والذي اعتبروه شهادتي هو كلام لم أَقْلْه وإنما كَتَبَه الضابط المحقِّق بنفسه ثم أمرني بالتوقيع عليه تحت الضغط والإرهاب ...وكان المحقِّق حريصًا على أن أُرَدِّدَ على مسامعه عبارات معينة مما كَتَبَه مرة بعد مرة حتى فَقَدْتُ القدرةَ على المقاومة ... لقد استجوبتني الشرطة عدة مرات وأمضيت في قِسْم الشرطة السِّرِّيَّة ستة أيام لكي يتأكَّدوا أنني حفظت الشهادة التي من المفروض أن أُدْلِي بها أمام المحكمة عن ظَهْر قَلْبِ ... وعندما وَصَلَت المرأة إلى هذه النقطة شعرَتْ وكأنها قد تخلَّصَتْ من كابوس كان يَجْثمُ على صَدْرِها وبَدَا أن ضميرها قد استيقظ ليأخذَ بزمام الوعْي ، فاستعادت توازنها وأخذَتْ تتحدَّثُ بثبات واطمئنان قالت : (( إنني أُقَضِّلُ الآن أن أُسْجَنَ خمس سنوات على أنْ أحيا يومًا واحدًا وأنا أعلم أنني كنت مسئولة عن أكاذيب تسبَّبَتْ في سَجْن أناس أبرياء مثل هؤلاء الذين يُمَثِّلُون أمامَكم وأشارت إلى المتهمين ... ثم أضافت : إذا أردتم أن تحاكموني معهم الآن فافعلوا إنْ شِئْتم )) . 

  لم تكد المرأة تنتهي من كلامها حتى أَطْبَقَ السكون على قاعة المحكمة وبَدَت الحيرة والارتباك على وَجْه القاضي وكأنه لا يدري ماذا يقول أو يفعل – ثم توجَّه إليها بالكلام فأمرها بقوله : (( يمكنك أن تجلسي الآن ) .

شهادة حجة باشا :

  تابعت المحكمة الاستماع إلى الشهود الذين لم تَخْلُ شهاداتهم من أقوال متناقضة أحيانًا ومثيرة للضحك أحيانًا أخرى ، وكان الحاضرون لا يَكُفِّون عن التهامسِ وتبادل التعليقات الساخرة طول الوقت ، حتى جاء الشاهدُ المدعو ( أنور باشا ليتش ) الشهير باسم ( حجة باشا ) وهو رجل معروف بحكمته ومَرَحِه ولكنه تظاهر أمام المحكمة بالغباء والصَّمم فهو لا يفهم جيدًا ولا يسمع جيدًا ! ...

   فلما وَجَّه إليه القاضي سؤالَه مَكَثَ الرجل يتحدَّثُ ساعتين في مسائل لا علاقة لها بموضوع القضية ... فحاول القاضي أن يعيدَه إلى نقطة السؤال الموجَّه إليه دون جدوى فقد استمرَّ يَرْوي حكايات ويورد تفاصيل لا صلة لها بالقضية ... وأدرك جمهور الحاضرين أنهم أمام مشهد هزلي في مسرحية عبثية انتزعت منهم الضحك ، مما أثار غَضَبَ القاضي فتوجَّه للشاهد مُحَذِّرًا لأنه يقول للمحكمة كلامًا مختلفًا عن أقواله في محضر التحقيق .. فاعترض الرجل وقال ببساطة وهدوء : أبدأ .. إنَّه نفس الكلام الذي أدليت به في التحقيق ، لكن ربما كان تسجيل الكلام هو المختلف فقد سُئلت مرات مرات عديدة .. أنا لست متأكِّدا إذا كنت قلْتُ للمحققين كلامًا مختلفًا عما قلته الآن .. فلما رأى القاضي أنه لا فائدة من هذا الشاهد المعتوه وأنه ليس في الإمكان الحصول منه على شيء أَخَذَ يتلفت حولَه كأنه يبحث عن مساعدة غير منظورة ، فلما يَئِسَ وأدرك أنه لابدَّ من إنهاء هذا الموقف الهازل أمر الشاهد بالانصراف قائلاً له : ( اذهب ولا أريد أن أراك هنا مرة أخرى ) فتطلع الرجل في بلاهة إلى المنصِّة ثم قال : (( إنني متأسف جدًّا )) . 

   يقول (( علي عزت )) : (( تحوَّل الشاهد إلى قَفَصِ المتهمين حيث كنا نجلس وأَلْقَى علينا تحية الإسلام بلهجة البشناق القدامى (( الله إيمانيت )) ورَفَعَ يده اليمنى ملوِّحًا إلينا بنفس الطريقة التقليدية .. فانفجر الحاضرون بالضحك فيما عدا القاضي ونائب الادعاء . 

  حَضَرَ في هذه القضية خمسة وستون شاهدًا استبعد منهم ثلاثة وعشرون شاهدًا لم تتحقق في شهاداتهم شروط الصلاحية واختلفت شهادة سبعة وعشرين منهم عما ورد في محاضر التحقيق ، وكَرَّرَ خمسة عشر من الشهود نَفْس الأقوال المدونة في محاضر التحقيق .. كانوا يحفظونها عن ظَهْرِ قَلْبٍ .

دفاع علي عزت :

   وَقَفَ (( علي عزت )) يدافع عن نفسه فقال : (( إنني أحبُّ يوغسلافيا ولكني لا أحبُّ هذه الحكومة .. وأنا لا أحاكم هنا في هذه القضية لأنني خالفت قوانين البلاد ، ولكن لأنني خالفت بعض قواعد غير مكتوبة فَرَضَتْها مجموعة من أصحاب السلطات والنفوذ أباحت لنفسها أن تشرِّعَ للناس ما هو مسموح به وما هو مُحَرَّم عليهم دون أي اعتبار للقانون والدستور ) لم يعتذر ولم يلتمس لنفسه العفو .. كان يعلم أن المقصود بالمحاكمة هو الإسلام أكثر من أي شيء آخر .. فألقى يقفاز التحدِّي في وَجْه المحكمة وهو يضيف : (( أود أن أُقرِّرَ هنا أنني مسلم وسأبقى كذلك تحت كل الظروف فأنا اعتبر نفسي مناضلاً من أجل الإسلام في هذا العالم وسأظلُّ ملتزمًا بموقفي مادام في صدري نَفَسٌ يتردد .. ذلك لأن الإسلام بالنسبة لي هو اسم آخر لكل ما هو رائع ونبيل في هذه الحياة .. إنه اسم لوعد وأمل في مستقبل أفضل للشعوب المسلمة أن يحيوا بحرية وكرامة .. مستقبل كل شيء فيه يستحقُّ التضحية . 

  أما بقية المتهمين فقد تابعوا (( علي عزت )) في موقفه فلم يعتذروا عن شيء ولم يلتمسوا العفو بل اتهموا المحكمة بالظلم والتَّحَيُّزِ وعدم الجدارة . 

   وصَدَرَت الأحكام بالسجن مع الأشغال الشاقة لِمُدَدٍ تتراوح بين خمس سنوات إلى خمسة عشر عاما كانت من نصيب (( علي عزت )) ، فلما انتقلت القضية إلى الاستئناف في المحكمة العليا خُفِّضَ الحكم عليه إلى اثنتي عشرة سنة وكان هذا بناء على التماسات جاءت من بعضِ المثقفين في بلجراد ومن خارج يوغسلافيا . 

الحياة في السجن :

  أُودِعَ (( علي عزت )) في السجن مع كبار المجرمين وسَجَّلَ في مذكراته أن القتلة كانوا أقلَّ وطأة وشراسة من اللصوص ، في هذا السجن ، وهذه لمحة ثاقبة من طبائع البشر كما تعرف عليها عن قُرْب وملاحظة يومية في السلوك أتاحتها له ظروف هذا السجن ، فقد لاحظ انعدام الضمير والأخلاق عند اللصوص حيث لا يشعرون بالذنب على الجرائم التي ارتكبوها بينما تراودُ القتلةَ مشاعرُ الذنب وتأنيب الضمير فَتُغَيِّرُ مواقفهم ومسلكهم .

  كانت إدارة السجن تسمح للمساجين بما فيهم قطاع الطرق بإجازات يقضونها بين ذويهم وخارج السجن أما السجناء السياسيون فلم يكن مسموحًا لهم بالخروج من السجن أبدأ وانعكست أوضاع السجن وكآبته على مذكرات (( علي عزت )) فكتب : (( شعرت أنني محكوم علي بالسجن إلى الأبد وأنني لن أرى أحدًا ولن يراني أحد بقية حياتي ... ومع ذلك لم أستسلم لليأس .... وليس في هذا بطولة ولكن كان الأمر يتعلَّق في نظري بالثبات والاتساق الجواني مع الإيمان والعقيدة .. فالإنسان قد يقول أشياء يؤمن بها فعلاً ولكن عندما تأتي لحظة الحقيقة إذا بشعوره نحوها يختلف ... فمثلاُ كنت أعلم أنَّ من أهم مبادئ الإسلام وتعاليمه الإيمان بالقضاء والقدر وأنَّ على المسلم المؤمن أن يَتَقَبَّلَ كلَّ ما يَحْدُث له باعتباره مشيئة الله وإراداته ... والحقُّ أنني لم أفكر في هذه الناحية من قَبْل بنفس الطريقة التي بدأت أفكِّر بها بعد تجربة السجن هذه المرة .. فعندما واجهت حقيقة احتمال أن أقضي بقية حياتي وأن أموت بين عتاة المجرمين لم يتناقص إيماني ، وإنما انبعث في أعماق قلبي بقوة موازية لقسوة الظروف المطبقة في السجن فشعرت بنوع جيد من التناغم بين العقيدة والمحنة مما جعلني في حالة عقلية سويَّة متوازنة وساعدني على الحفاظ على صحتي البدنية أيضًا ... وعلى العموم فقد حَمِدْتُ الله كثيرًا على نعمة الإيمان الذي أعانني على التفاعل بإيجابية مع محنة السجن .. ولا يمكن أن أَنْسَى نعمة أخرى مِن نِعَمِ الله عليّ تَمَثَّلَتْ في إخلاص أبنائي وتشجيعهم المعنوي لي في السجن )) . 

   الزمن في السجن ليس هو الزمن الذي اعتدنا عليه في الحياة العادية خارج السجن ، فهو يتثاءب ويتمطى ويمضي بطئئًا ثقيلاً بجثم على القلوب كالكابوس ويكاد يقطع الأنفاس في الصدور .. وهو لا يُحسب بالأيام والأسابيع والشهور ، وإنما بالساعة والدقيقة والثانية ... لذلك لم يكن (( علي عزت )) يتصوَّر في أيامه الأولى بالسجن أنه يستطيع تحمُّلَ وطأة هذا المصير وبدأت تراوده فكرة أنه قد تقدَّم كثيرًا في العمر وأنَّ الموت قد بأتيه في أي لحظة ليختم هذا العذاب بطريقة درامية .. ولكن في نفْسِ الوقت كانت تراوده أفكار أخرى مضادة مُؤَدَّاها أن هذا المصير الرهيب في السجن ربما كان أرحم من مصير آخر خارج السجن يستهلك الإنسان ويمتصُّ عمره يومًا بعد يوم في صراع عقيم مستمرّ مع القوى الغاشمة للسلطات الشيوعية . 

   والحياة في السجن – كما لاحظ علي عزت – بعزلتها عن المجتمع وانتفاء المشاغل اليومية تمنح العقل المفكِّر مساحة واسعة من حرية الفكر والخيال والتأمُّل العميق .. وفي وَصْفِ هذه الحالة يقول : (( كنت أحاول أحيانًا أن أخترق بخيالي بعض الحجب والأسرار الكونية الكبرى فأركِّز على قضية بعينها تركيزًا شديدًا ولفترة طويلة حتى أشعر وكأنني أقترب من بعض الحقائق الكونية التي طالما حيرتني وراوغت عقلي ، فإذا بي أراها في متناول إدراكي وكأن نافذة قد انفتحت أمامي .. وكنت حينئذ أتمنى لو كنت رسَّامًا ، ففي تلك اللحظات الكاشفة كان ينتابني شعور بعجز كلمات اللغة عن التعبير عما أشاهد وأن الوسيلة الوحيدة للإمساك بتلابيب الحقيقة لا يمكن أن تتحقق إلا بالرسم لو أتيحت لي في ذلك الوقت أدواته .. كنت أقف ساعات مُمْتَلِئَا بالاستفسارات وأنا أُحَمْلِقُ وأناضل بلا أمل للإمساك بالصور المتلاحقة في عقلي .. ومن خبرتي مع هذه اللحظات أعتقد أنني فهمْتُ أسرار القنِّ الحديث بطريقة لا يستطيع أحد غير المبدعين أن يستوعبها . 

تأملات سجين : 

   بعد أن انتهت إجراءات المحاكمة وبدأت أَتَكَيَّفُ قليلاً مع المناخ الجديد في السجن شرَعْتُ في تسجيل ملاحظاتي وتأملاتي عن الحياة والمصير وعن الدين والسياسية وعن الكتب التي قرأتها وعن مؤلِّفيها وعن كلِّ شيء يمكن أن يَخْطُرَ على بال سجين متأمل استغرق في سجْنِه أكثر من ألفي يوم استطالت أوقاتها ليلاً ونهارًا إلى ما لا نهاية ... وقد تحولت هذه المذكرات إلى ثلاثة عشر مجلدًا من ورق كبير في حجم هذه المذكرات إلى ثلاثة عشر مجلدًا من ورق كبير في حجم ( الفلوسكاب ) مكتوبة بحروف صغيرة صعبة القراءة .. متعمِّدًا ألا يتمكَّن من قراءتها سواه ، واستطاع أحد السجناء أن يتولَّى تهريبها خارج السجن ثم استقرَّت في سُبات طويل لمدة عشر سنوات حتى استطاع ناشر في سراييفو طباعتها ونشرها سنة 1999 تحت عنوان : (( فراري إلى الحرية ) . 

   في بعض رسائله إلى ابنته ( سابينا ) ألمح إلى معاناته من لحظات معينة في السجن هي أشد وطأة على نفسه من أي لحظات أخرى وتلك فترة دخول الليل ، فكتبت إليه ابنته تُعَلِّقُ على هذه الحالة النفسية التي تنتابه عند دخول الليل رسالة تعتبر من أروع ما قرأْتُ من رسائل تَتَدَفَّقُ بالحبِّ والعطف والحنان الممتزج بالعقل والحكمة ... وتكشف فيها حقيقة أنها هي أيضًا تشعرُ نفس الشعور عند حلول الظلام وتُذَكِّرُه بأن هذه اللحظات هي التي كانت تشهدُ لقاء أفراد الأسرة معًا حيث تَتَجَاذَبُ الأسرة أطرافَ الحديث وهم يتناولون قهوة المساء . 

   يصفُ (( علي عزت )) بعض خبرات مثيرة في السجن فيقول : (( قد تكون أستاذًا جامعيًّا أو فيلسوفًا مشهورًا ، ولكنك بهذه المؤهِّلات لن تكون حياتك في السجن أيسر فَبَيْنَ المساجين أفضل شيء أن تكون محاميًا ( مثلي ) عندئذ يلجأ إليك الجميع لتكتب لهم التماسات قانونية للإفراج عنهم إلى غير ذلك من استشارات ومطالب وسوف يعترفون لك بجرائمهم ويصفون لك أحوالهم ... وكانت هذه خبرة مثيرة لي ... فهل أستطيع – بناء على هذه الخبرة – أن أقول : إن بعض القتلة كانوا أناسًا طيبين ! ؟ .. فقد قتلوا لأسباب إنسانية مفهومة ... أنا لا أقول : إنها مبررة ولكني أقول إنها على الأقل مفهومة ... أحدهم قَتَلَ دفاعًا عن أبيه ، وسجين آخر – عمره عشرون سنة – قَتَلَ زوجته التي كانت تخونه مع أشخاص غرباء وكانت أمُّها تَتَسَتَّرُ عليها ، وقد حُكِمَ عليه بالإعدام أولاً ثم خُفِّفَ عنه الحكم إلى عشرين سنة ... قال : (( بكيت كالطفل عندما نجوت من الإعدام )) إلى جانب هؤلاء كان هناك مجرم قَتَلَ آخر لمجرد الحسد والحقد عليه ، هذا السجين – لغير ما سبب ظاهر – سَرَقَ كتابًا من أحد أصدقائي وأَلْقَى به من النافذة في منطقة يستحيلُ استرداد الكتاب منها ... اعتدت أن أتحاور مع هذا الصديق ونَتَفَلْسَفُ معًا ... وفي مرة تَرَكَ كتابه على حافة النافذة وذهب إلى دورة المياه فلما عاد لم يجده ... واعترف السارق لي بذلك ثم قال كلامًا غريبًا : (( أعلم أنك تُؤْمِنُ بالله ولكني لست متأكِّدًا من وجوده ، والذي أنا على يقين منه هو أنَّ الشيطان موجود )) ويبدو هذا السارق كأنه شرٌّ محض إذا قارنْتَه بغيره من السُّرَّاق الفقراء الذين يسرقون بباعث من الحاجة ... فهؤلاء على الأقل لديهم باعث إنساني مفهوم وكان يمكن معاملتهم بطريقة أخرى غير السجن )) . 

الكلام جريمة :

   من بين تأملاته الفلسفية عن السجن والجريمة يقول (( علي عزت )) : (( تعلَّمْنَا في المدرسة أن تاريخ الجنس البشري بَدَأَ عندما أصبح الإنسان حيوانًا تاريخيًّا أي عندما بدأ يَكْتُبُ .. ولكنه أصبح أنسانًا على الحقيقة عندما تعلَّم الكلام ، أي أن يقول ما يُفَكِّرُ فيه ... ولكن جاء آخرون من بني جلدته فمنعوه من الكلام عندما اخترعوا جريمة ( التلفُّظ ) وشرعوا لها أشدَّ العقوبات فعادوا بذلك إلى الحقبة الغامضة من تطوره قبل أن يتعلَّم الكلام ... ويرجع الفضل في هذا إلى (( لينين )) زعم الثورة البلشفية الذي أضاف إلى قانون العقوبات في الاتحاد السوفيتي سنة 1922 معارضة أعداء الثورة بالكلام كواحدة من جرائم ستة يعاقب عليها بالإعدام )) . 

  ينتقل (( علي عزت )) من هذه النقطة إلى المقارنة بموقفه هو عندما أصبح رئيسًا لجمهورية البوسنة والهرسك حيث كَتَبَ : (( أثناء محاضرة ألقيتها في سراييفو سنة 1994 ( أثناء حرب البوسنة ) قام أحد المواطنين يسألني عن تراخي الرقابة على الإعلام قال : 

   هل تعلم يا سيادة الرئيس ماذا يُكْتَبُ الآن في صُحُفِ البوسنة الآن ؟ .. هذا وقت حَرْب ، فكيف تسمح بهذا ؟ ! ..

لماذا لا تُصِدرُ قانونًا للرقابة على ما يُنْشَرُ في الصحف ؟ .. 

   وكانت إجابتي كالآتي : (( بعد الذي أصابني من جراء قوانين الرقابة لا يمكنني أن أكون مساندًا لمنع الصحافة من حرية الكلام ... وليس هذا مجرد التزام بمبدأ فحسب ولكنه أيضًا مسألة ( براجماتية ) فإني أعتقد أن التحريم والقوة لا يكسبان شيئًا عندما يكون الأمر هو إقناع واقتناع عقدي ... وذكَّرْتُه أن القرآن نفسَه أثبت هذه الحقيقة بأروع تعبير وأبلغ إيجاز في آية واحدة قصيرة : { لا إكراه في الدين ... } فإذا طَبَّقْنَا هذه الآية في مجال أوسع واعتبرنا الإيمان هو كل ما يعتقد فيه الإنسان من أفكار لَتَبَيَّنَ لنا أنَّ الإكراه لا يجدي ولا يثمر في أي عقيدة ... فهل كان الإكراه مفيدًا للشيوعيين في القضاء على الأفكار المعارضة بالتهديد والتعذيب والسجن والقتل .. فتلك كانت بعض وسائلهم في قَمْعِ الأفكار ؟ .. 

  لقد دَلَّتْ تجربة النظام الشيوعي وبَرْهَنَتْ هزيمته النهائية على أنَّ هذا مستحيل )) . 

الانتقام غير وارد :

   استمرَّ سجن (( علي عزت )) ( 2075 يومًا ) يصفها بأنها سنوات من العمر القصير أَكَلَها الجراد وأصبحت عدمًا ... وعندما حَصَلَ على حريته وانتصر على الشيوعيين في انتخابات الرئاسة سنة 1990 كانت أكثر الأسئلة التي وُجِّهَتْ إليه من قِبَلِ الصحافة والإعلام تدور حول فكرة واحدة هي : (( هل هناك توجُّه للانتقام من الشيوعيين الذين فَعَلُوا به وبزملائه ما فَعَلُوا ؟ .. وكانت إجابته دائمًا : (( لا انتقام الآن ولن يَحْدُثَ في أي وقت ... وبالفعل فإنَّ كلَّ الذين كان لهم دور في محاكمة سراييفو من الشرطة والمحققين والقضاة لم يَنَلْهم في عهدي أي أذى بل احتفظ بعضهم بوظائفهم ... لقد عفوت عنهم كسياسي في السلطة ولكني كإنسان لم أستطع أن أغفر لهم في أعماق نفسي ذلك الظلم الذي لَحِقَ بي وبزملائي بلا ذنبٍ أو جريرة )) .

   هذا الموقف أشبه ما يكون بموقف رسول الله @ من وَحْشي قاتل عمه وحبيبه حمزة غدرًا واغتيالاً ، لقد حزن النبي على حمزة أشد الحزن ولكنه لم ينتقم من وَحْشي عندما تمكَّن منه ، وقبل إسلامه ، ولكنه أشاح عنه ولم ينظر إلى وجهه الذي يُذَكِّره بالغدر والاغتيال ، ولست أشكُّ أنَّّ هذا الموقف كان حاضرًا في عقل (( على عزت )) ووجدانه عندما انتصر على أعدائه وظالميه ، فالعفو والإنصاف – عند المقدرة – مع الأعداء سمة راسخة في سلوك (( علي عزت )) خلال سيرته كلها ، وقد تعرَّض في حياته السياسية وفي حربه ضد العدوان الصربي والكرواتي لألوان من الغدر والجحود والافتراءات ما يزعزع الجبال ولكنه قابل ذلك كله بروح المؤمن المجاهد الصابر العادل ، ونجح في كلِّ ابتلاء أصابه حتى أنَّ أعداءه أنفسهم كانوا يُدهشون ، ويحسدونه حتى على محنته وإصراره ومثابرته والتزامه الأخلاقي في أَحْلَكِ الظروف وأقساها .

من السجن إلى قيادة الشعب :

   بعد موت الرئيس اليوغسلافي (( جوزيف بروز تيتو )) انطلقت القومية الصربية من عقالها وتصاعدت في الثمانينات وبداية التسعينيات من القرن الماضي ، حيث شهدت بلجراد تحولات في الفكر والصحافة والإعلام ، كان من أبرز معالمها الهجوم الشرس على (( تيتو )) وتراثه وعلاقاته الخارجية وعلى الأخص علاقته بالدول العربية والمسلمة ، وشَنَّ أنصارُ القومية الصربية حملات عنيفة ضد الإسلام والمسلمين في يوغسلافيا وخارجها .. كانوا يعملون في إطار الهياكل السياسية والإعلامية التقليدية تحت اسم الاشتراكية ، ولكنها اشتراكية فارغة من المعنى ، بل كانت تَحْتَضِرُ أمامَ زَحْفِ القومية العنصرية ، فقد ظهرت مخططات جديدة تستهدف إخضاع القوميات والشعوب اليوغسلافية الأخرى تحت الهيمنة الصربية ، باسم جديد هو ( الاتحاد اليوغسلافي الجديد ) وكان في حقيقته ( صربيا الكبرى ) وليس فيه من يوغسلافيا سوى الاسم .

   وكانت أول خطوة عملية في هذا الطريق إلغاء دستور 1975 الذي مَنَحَ كوسوفا وضعًا سياسيًّا مساويًّا لوضع الجمهوريات اليوغسلافية الأخرى ، فأصبح لها مُمَثِّلُ في مجلس الرئاسة الفيدرالي في بلجراد ، وتلا ذلك إلغاء كل مظاهر الحكم الذاتي التي كانت كوسوفا تتمتع به في ظلّ هذا الدستور ، فلما تفجَّرَت المظاهرات والاحتجاجات في كوسوفا نزلت الدبابات الصربية في الشوارع لقمع الانتفاضة ، وكان هذا أول مسمار يُدَقُّ في نَعْشِ يوغسلافيا ، ومن ناحية أخرى تأكَّد توجُّسَات الجمهوريات الأخرى من التوجُّهَات الخطرة لانبعاث القومية الصربية فسعت إلى الانفصال بدءًا بسلوفينيا وكرواتيا وانتهاء بمقدونيا والبوسنة والهرسك .

  اقترنت هذه التحوُّلات في يوغسلافيا بانهيار مفاجئ للنظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي ، ثم توالت الانهيارات في الأنظمة الشيوعية لدول شرق أوروبا .

  هذه التحولات والأحداث هي التي صَنَعت المناخ السياسي الذي أسرع بالإفراج عن (( علي عزت بيجوفيتش )) ، وكان عليه بعد خروجه من السجن أن يتعامل معه من منظور جديد ، فلم يَعُد (( علي عزت )) مجرد مُفَكِّر ومناضل من أجل الحرية وإنما وَجَدَ نفسه قائدًا وزعيمًا لشعب يثقُ به ويريد أن ينتزع حريته ويدافع عن كيانه وهويته في مواجهة الأخطار المحدقة به .

ويُعَلِّقُ (( علي عزت )) على هذه الأحداث في مذكراته فيقول : 

   لم يكن يخالجني أدنى شك أن هذا النظام الشيوعي المتحجِّر لا يمكن أن يستمرَّ طويلاً ... ولكني لم أكن أتصور أن يكون سقوطه بهذه السرعة .. بل كنت أعتقد أننا قد نشاهد نوعًا من التراخّي الداخلي الذي يسمح بشيء من التعددية والاختيارات السياسية للظهور .. ولكن الأحداث برهنت على خطأ هذا التصوُّر ، فقد تَبَيَّنَ أن النظام الشيوعي والحرية على طرفي نقيض ، فإما أن تقضي الشيوعية على الحرية وإما أن يَحْدُثَ العكس ... وهذا ما حَدَثَ : ففي منتصف العشرينيات من القرن الماضي دمَّرَت الشيوعية الحرية ، وفي نهاية القرن رأينا الحرية تُدَمِّرُ الشيوعية .. وكان الرمز هو سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989 ثم توالت الانهيارات بعد ذلك . 

   كان (( علي عزت )) – عكس ما زَعَمَتْه وسائل الإعلام الصربية يشعرُ أن تفكيك يوغسلافيا لن يكون في صالح المسلمين بصفة عامة ولا في صالح البوسنة والهرسك بصفة خاصة ، ولذلك كان أحرص الناس على استمرار الاتحاد اليوغسلافي في إطار منظومة جديدة تَضْمَنُ للقوميات المختلفة حظوظًا متساوية من السيادة والإدارة ، ويَضْرِبُ على الخلل في هذه الناحية بأمثلة من الهيمنة الصربية على الجيش والشرطة في جمهورية البوسنة ، فبرغم أن المسلمين هم الأغلبية في البوسنة إلا أن كلَّ الوظائف القيادية في الشرطة من الصرب و2ر63 % من عدد ضباط الجيش من الصرب ولا يُمَثِّلُ المسلمون في جيشهم إلا بنسبة 7 % والباقي من جمهوريات يوغسلافية أخرى ، ولذلك يقول (( علي عزت )) : ( كنت مرتبطًا عاطفيًّا بيوغسلافيا ولكني كنت لا أحبُّ الهيمنة الصربية )) . 

إنشاء حزب العمل الديمقراطي :

   عرفنا من القرآن الكريم قصة يوسف النبي الصابر المستعصم الذي خَرَجَ من السجن إلى الحكم ، وعرفنا حديثًا (( نيلسون منديلا )) المناضل الجسور الحكيم الذي خَرَجَ من السجن ليقود شعبه إلى الحرية ، وينقذه من جحيم واحد من أبشع الأنظمة العنصرية في تاريخ البشرية ، بنفس الطريقة خَرَجَ (( علي عزت بيجوفيتش )) من السجن ليجد نفسه على رأس شعب يتطلع إلى قيادته ، فيختاره زعيمًا لحزب جديد هو حزب العمل الديمقراطي ، ثم ينتخبه رئيسًا لجمهورية البوسنة والهرسك ، وقائدًا يخوض به غمار حَرْب ضروس ، شَنَّهَا المعتدي الصربي الغاصب في ظروف مأساوية انعدم فيها التكافؤ بين جيش من أعْتَى جيوش أوروبا وشَعْبٍ أعزل كان عليه أن يبني قوة عسكرية من نقطة الصفر ، وكانت هذه المهمة مجرد واحدة من معضلات كثيرة كان على القائد أن يتصدَّى لها .. ناهيك عن مواجهة كوارث أخرى كالتطهير العرقي والإبادة الجماعية والاغتصاب والقتل والتشريد والتجويع والحصار الدولي الذي حَرَّم على مسلمي البوسنة الحصولَ على السلاح للدفاع المشروع عن كيانهم ووجودهم .. وتكتمل المأساة بموقف أوروبي مشارك بالصمت حينًا وبالمؤامرة والتواطؤ مع العدوان الصربي أحيانًا أخرى . 

   لقد تناولت مأساة البوسنة بالتحليل والتفصيل في كتاب بعنوان (( البوسنة في قَلْب إعصار )) ، ولذلك لن أتطرق إلى ذلك في سياق هذا العرض لمذكرات (( علي عزت )) ، وإنما سأكتفي بالتعليق على بعض مواقفه المتميزة وانعكاسات الأحداث على فِكْره ومشاعره ورأيه الخاص في الشخصيات التي تعامل معها وكان أكثرها أشد وطأة وأكثر شرًّا من عتاة المجرمين الذين صَادَفَهم في حياته بالسجن ، وأشهد أن (( علي عزت بيجوفيتش )) كان عفيفًا مهذَّبًا حكيمًا مدركًا لمواطن الضعف البشري في كل تعليقاته على هذه الشخصيات التعيسة أمثال السفاح (( ميلوسفيتش )) والكذاب الأشر (( كاراجيتش )) وقائد جيشه (( ملاديتش )) شيطان الإبادة الجماعية ، ولورود (( أوين )) المُضَلِّل الكذوب وجنرال (( روز )) المتآمر الخبيث ، هذه الصفات كلها لم ترد أبدًا على لسان (( علي عزت بيجوفيتش )) ، وإنما جاءت في كتابي وصفًا لحقيقة هذه الشخصيات كما رأيتها عارية من كل زينة ، أما (( علي عزت )) فهو طراز فريد من البشر يصعب الارتقاء إلى مستواه ولكنك تزداد منه اقترابًا وله إعجابًا كلما ازدادت معرفَتُك به ، وتشعر أحيانًا بالدهشة عندما يُطْلِعُك على بعض خواطره عن نفسه فترى إنسانًا بسيطُا شديد التواضع لا يتطرق إليه الغرور بالنفس أو بالمنصب ولا يرى في نفسه مواهب أو قدرات فريدة دون بقية الناس ، وفي هذا يقول : (( انتصر حزب العمل الديمقراطي في انتخابات نوفمبر 1990 ووجدْتُ نفسي من البداية زعيمًا للحزب مع أنني لم أفهم أبدًا لماذا اختاروني زعيمًا ! ؟ .. لقد كنت أفكر بيني وبين نفسي : إذا كنت أنا – مع ما فيّ من عيوب – هو أفضل الجميع فما هو حال الباقين ! ؟ .. ثم يتطرق إلى احتمال آخر تتجلَّى فيه روح الفكاهة فيقول : (( لعلَّ الأمر على غير ما أظن وأنه ليس من الضروري أن يكون الزعيم هو الأفضل ، بل مَن يتمتع بعيوب كبيرة فإذا كان الأمر كذلك فإن عندي الكثير من هذه العيوب !! .. )) .

   تمّض إعلان قيام ( حزب العمل الديمقراطي ) في 27 مارس 1990 م ، في ذلك الوقت كان القانون اليوغسلافي لا يزال يمنع أحزاب أخرى غير الحزب الشيوعي وكانت العقوبة المقررة هي السجن عشر سنوات ، غير أن (( علي عزت )) أَقْدَمَ على المغامرة وأحسب أن هذه خصلة أو سمة من سمات القائد الشجاع ، ولكن (( علي عزت )) يقول : (( لم أعتبر هذا شجاعة وإنما هي عادة ملازمة في مجري حياتي فأنا لا أتورع عن شيء من المغامرة إذا لم يكن منها بُدّ ... حَدَثَ هذا سنة 1946 عندما التحقت بجمعية الشبان المسلمين ( المحظورة ) وانتهى بي الأمر إلى ثلاث سنوات بالسجن )) . 

   اشتمل برنامج الحزب على مبادئ هامة مؤسّسة على الديمقراطية وحقوق الإنسان ، وبرغم أن الحزب كان مقصودًا به تجميع كل المسلمين في يوغسلافيا تعويضًا لهم عن الاستبعاد المتعمد من كل نشاط سياسي ، إلا أن برنامج الحزب اشتمل على إعلان صريح بأن عضوية الحزب مفتوحة لجميع الذين ينتمون إلى الثقافة الإسلامية والذين يُؤَيِّدون برنامج الحزب ، وليس في برنامج الحزب نصٌّ يَقْصِرُ العضوية على المسلمين ، وفي خطاب لعلي عزت بمناسبة إعلان افتتاح الحزب أراد أن يوضح لجماهير البشناق بصفة حاسمة أن هذا الحزب يُمَثِّلُ نقطة انطلاق فكري وسياسي جديدة وليس استمرارًا للعهد البائد فقال يصف النظام الشيوعي السابق : (( إنَّ المحاولة الكبرى لِخَلْقَ جَنَّة أرضية بدون إله وبدون إنسان ، وبالتأكيد ضد الله وضد الإنسان معًا ... هذه المحاولة قد انتهت إلى غير رجعة بفشل كامل )) . وهنا انفجرت القاعة بتصفيق حاد طويل .. وكان بعض الناس يُعَبِّرُون عن مشاعر الغبطة بدموع الفرح فقد أَدْرَكَ الجميع أن صفحة جديدة من تاريخ البشناق قد طويت وبدأت صفحة جديدة . 

استقبال الجماهير للقيادة الجديدة

   استجابت السلطات الشيوعية بشيء من الفزع واستخدمت العبارات التقليدية في تزييف الحقائق والأكاذيب حيث وَصَفَ تليفزيون سراييفو قادة الحزب بأنهم ( مجموعة من السجناء السابقين ومن أساتذة الجامعات الفاشلين وبعض السياسيين المتمردين ) ... وكان هذا أقْصَى ما كان النظام المتهاوي قادرًا عليه من إيذاء في ذلك الوقت أمَّا على النطاق الشعبي فقد سَرَتْ موجةٌ من حُمَّى الحماس في الجماهير ونما الحزب نموًا سريعًا في أنحاء البلاد وأنشئت فروع للحزب في كلِّ مدينة وبلدة ، وكان (( علي عزت )) في حركة دائبة وسَفَرٍ مُتَّصِل يخاطب الجماهير في كل موقع دون كَلَلٍ أو مَلَلٍ .. وقد حاولت السلطات الشيوعية مَنْعَه من دخول ( بنيالوكا ) ونجحت في ذلك أول مرة ولكن في الشهر التالي ذَهَبَ مرة أخرى إلى المدينة وقد اجتمع في ميدانها العام عشرون أَلْف بشناقي فخطب فيهم ، وأُنْشِئ فرع للحزب في (( بنيالوكا )) وانتخب الناس الدكتور (( حمزة موباجيتش )) رئيسًا للفرع .

لم تقتصر رحلات (( علي عزت )) رئيسًا للفرع . 

   لم تقتصر رحلات (( علي عزت )) لحشد التأييد لحزبه على الداخل فقط بل سافر إلى بلدان أوروبية وأمريكية كثيرة ليشرح للبشناق المهاجرين حقيقة الأوضاع الجديدة ويدعوهم لمساندة الحزب .

  كان بعض المسلمين اليوغسلاف ممن قابلهم (( علي عزت )) في أمريكا يتوقّعون في وقت مبكر أن الصرب يُبَيِّتُون شرًّا مستطيرًا لمسلمي يوغسلافيا ومن هؤلاء (( ينازبالتاك دياجا )) تحدَّثَ إلى (( علي عزت )) في اجتماع عام فقال له : (( يا سيدي هل أعددت العدة العسكرية لمواجهة الشتنك ؟ (( وهو يقصد القوميين الصرب الذين قاموا على مَدَى التاريخ بمذابح بشعة ضد المسلمين )) . إنك لم تفعل . حسنًا ! دعني أقول لك : إنهم سيقتلونكم ويُلْقُون بجثثكم في نهر (( درينا )) كما فعلوا من قَبْل ... سيفعلون هذا بكم مهما تحدَّثْتَ عن التسامح الإسلامي والامتزاج العرقي في البوسنة .. سوف يذبحون شعبنا رغم كل شيء )) . 

التسامح الإسلامي في فوتشا :

   في الحرب الإهلية التي جرفت البوسنة ( أثناء الحرب العالمية الثانية ) بين الصرب والكروات كان أكثر الضحايا من المسلمين – وكانت مدينة ( فوتشا ) إحدى المواقع التي سالت فيها أكثر الدماء البريئة ، ذهب (( علي عزت )) هناك ، وكان خطابه تحت شعار (( لا ينبغي أن تتكرر مجزرة فوتشا مرة أخرى أبدًا )) .. تحدَّث عن السلام والصفح والمغفرة وقال : (( إنَّ المسلمين اليوم يمرون بامتحان تاريخي وأنا أرفض فكرة العقاب الجماعي للصرب بتهمة ارتكاب جريمة قام بها فريق من الإرهابيين ضد المسلمين ... فالقضية ليست قضية صِرب ومسلمين إنما هناك تصنيف آخر للناس .. هناك المجرمون القتلة والضحايا الأبرياء )) .. كان الأطفال من بنين وبنات مبتهجين يُلْقُون الزهور من الجسر في النهر حيث جَرَت مذبحة فوتشا .. واقترح (( علي عزت )) أن توضع الزهور أيضًا على مقابر الضحايا الأبرياء من الصرب ووافق الناس ، وفي ذلك يقول (( علي عزت )) : (( للأسف كانت هذه مثالية بلا مردود عملي .. ففي سنة 1992 فوجئ العالم بالإرهاب الصربي المروِّع الذي اجتاح المسلمين في فوتشا مرة أخرى ، بل أسوأ مما حَدَثَ في الماضي فَقُتِلَ مَن قُتِلَ وأُجْبِرَ السكان الباقين على الهجرة القسرية .. ودَمَّرَ الصر كلَّ مساجد المدينة وكان من بينها المسجد التاريخي الشهير ( ألاديا ) .. وهو تحفةٌ معمارية من آثار القرن السادس عشر الميلادي )) . 

دولة مدنية :

     وفي ( فيليكا كلاوتشا ) تجمع ألفا إنسان يستمعون إلى (( علي عزت )) فذهب في خطابه خطوة أخرى في طريق اللقاء مع كرواتي وصربيي البوسنة حيث أكَّد انه لا ينوي إقامة دولة إسلامية كما يُشاع عنه ، إنما هي دولة مدنية وأن هذا يعتبر اختيارًا استراتيجيًا للشعب البشناقي ( المسلم ) .. قال : (( إنَّ البوسنة والهرسك جمهورية مدنية وليست إسلامية كما أنها ليست اشتراكية .. وحول هذا الهدف ندعو إخوتنا من الصرب والكروات أن يشتركوا معنا في بناء هذه الجمهورية .. ثم أشار في هذا الخطاب إلى نقطة هامة لأول مرة حين قال : إذا نفذت كرواتيا وسلوفيينيا تهديدهما بالانسحاب من يوغسلافيا فلن تبقى البوسنة وحدها لتصبح جزءًا من صربيا الكبرى ، وإذا اقتضت الضرورة أن نحملَ السلاح للدفاع عن البوسنة فسوف نفعل )) . 

مؤامرة من داخل الحزب : 

   لم يكن حزب العمل الديمقراطي يخضع لايديولوجية واحدة وإنما تَتَمَثَّلُ فيه تيارات مختلفة وكانت مجموعة ( ذو الفقار باشتتش ) أحد هذه التيارات .. وكان هو نفسه يعتقد أنه زعيم المسلمين بلا منازع .. وكان (( علي عزت )) من ناحيته يَشْعُرُ بأنه يتجه إلى الانشقاق عن الحزب وفي يوم 18 سبتمبر بينما كان يجلس في مقر الحزب يعدُّ لاجتماع سيُعقدُ في (( إليجا )) حين اقتحم عليه بدون استئذان مجموعة من أعضاء الحزب يبدو عليهم الهمُّ والاهتمام فقالوا : (( إنَّ ذو الفقار باشتيش )) و (( فيلبوفيتش )) ( من قيادات الحزب ) قد أعلنوا – توًّا – في مؤتمر صحفي أنهم استولوا على الحزب ، وأن تبريرهم لذلك هو أن الحزب يتجه نحو اليمين وأن (( علي عزت )) يقود الحزب تجاه الأصولية في حين أنهم يريدون أن يقودوا الناس إلى أوروبا ... كان انقلابًا كلاسيكيًّا بدون الرجوع إلى قيادة الحزب ولا قواعده .. وظهرت عناوين الصحف في اليوم التالي ( يوم للبكاء في البوسنة ) ... كانت صدمة كبيرة للشعب الذي تَلاَحَمَ في لحظة واحدة وفَشَلَ الانقلاب بأسرع مما يتصوَّر الناس ... يقول (( علي عزت )) : (( احتشدت الجماهير في الساحة الرياضية الكبرى ومَنَعُوا (( فيلوفيتش )) وجماعته من الدخول ثم جاءوا إليّ وحملوني على أكتافهم عاليًا )) ... 

   كان الشعب معنا بكل جوارحه .. وقد تأكَّدت هذا في سلسلة الاجتماعات الحزبية التي توالت بعد ذلك ثم كَشَفَت انتخابات نوفمبر بشكل حاسم حقيقة الأمر فقد هُزِمَ (( ذو الفقار باشتيش )) في انتخابات رئاسة الحزب . 

شخصيات في حياة علي عزت :

   من رأي (( علي عزت )) أن التكوين النفسي والسمات الشخصية لقادة الشعوب لها أكبر الأثر في تشكيل قراراتهم السياسية ودَفْع شعوبهم إلى الحرب أو السلام .. وأن شخصيات بعينها يمكن أن تكون سببًا في صُنْعِ كارثة ، أو تَجَنُّبِها والخروج منها ، من هنا جاء اهتمامه الشديد بالقادة الفاعلين في المعترك السياسي وسعيه الدائم للحوار معهم وسَبْر أغوارهم عن قُرْب ، وقد حَفِلَت مذكراته بالحديث عن كثير من الشخصيات السياسية وتحليل مواقفهم .

فرانيوتوجمان : 

  تكرر اسمه كثيرًا في أزمة يوغسلافيا عندما كان رئيسًا لجمهورية كرواتيا وهو دكتاتور على النمط الذي كان شائعًا في دول أوروبا الشرقية . 

   يقول (( علي عزت )) عنه : سمعت اسمه وأنا في السجن وكان اسمه يُذْكَر دائمًا في البوسنة مع مشاعر مختلطة .. وقَرَّرْتُ أن أتعرَّف إليه عن قُرْب .. التقيت به في مقرِّ حزبه بزغرب وابتدأت المناقشات التي سرعان ما تحوَّلت إلى اختلافات في الرأي ، وعدم اتفاق مستمرّ بعد ذلك لسنوات طويلة ... استضافني على الغداء في مطعم بزغرب فقاد السيارة بنفسه .. وانتهز الفرصة ليجعل نفسه واضحًا تمامًا فقال لي بالحرف الواحد : (( يا سيد علي عزت لا تُعَوِّل كثيرًا على إقامة حزب مسلم فهذا خطأ كبير ؛ لأن شعب الكروات والمسلمين في البوسنة شعب واحد ، فالمسلمون كروات وهذا هو ما يشعرون به )) ، قلْتُ له معترضًا : (( إنك يا سيدي تَخْدَعُ نفسك فالمسلمون يشعرون فيما بينهم وبين أنفسهم بأنهم مسلمون ... إنهم يحترمون الكروات كثيرًا ولكنهم ليسوا كرواتًا )) .. شَرَعَ توجمان يسردُ لي بعض الحجج التاريخية لتأييد وجهة نظره . فأجبته بأنني أتحدَّثُ عن البوسنة والهرسك الآن . وهذا ما أعرفه معرفة تامة أكثر منك .. فقال : (( سوف تَرضى أن الحزب الكرواتي في البوسنة ( HDZ ) هو الذي سيجتذب أصوات المسلمين والكروات جميعًا في البوسنة وسيحصل على 70 % من أصوات الناخبين )) فقلت له : إن حزبك هذا لن يحصل على أكثر من 17 % فقط )) وهكذا جاءت بالفعل نسبة الكروات 17 % في انتخابات نوفمبر 1990 م ولم يكن في الأمر سرٌّ فنتيجة الانتخابات كانت انعكاسًا طِبْقَ الأصل من تعداد السكان في البوسنة حيث يُمَثِّلُ الكروات فيه 17 % فقط . 

فكرت عبديتش :

  (( فكرت عبديتش )) أحد القيادات السياسية المحسوبة على المسلمين ، ولكنه كان رأسماليًّا من نوع غريب كَوَّنَ ثروته من شركة أنشأها في عَهْد (( تيتو )) تتاجر في المواد الغذائية تُسَمَّى ( أجروكوميرش ) وهو رجل زئبقي له أصدقاء كثيرون بين الشيوعيين الصرب والكروات والقوميين ومن كل مِلَّة وهو يساعد الكلِّ والكلُّ يساعدونه – هو زئبقي وولاءاته أيضًا زئبقية متنقلة حيث يجد مصلحته ، ارتبط اسمه بالتمرُّد على بني جلدته من المسلمين في غرب البوسنة سنة 1993 في أحلك مرحلة من مراحل الصراع الدموي في البوسنة فأحدث انشقاقه صدمة كبيرة وأذى شديدًا للمسلمين في البوسنة ، فقد كان يملك أربعة آلاف مقاتل مسلح .. وقد استطاع صرب (( كراجيتش )) تحقيق أحد أهدافهم الاستراتيجية وهو إثارة الصراع بين القوات البوسنوية ، وكان انشقاق (( فكرت عبديتش )) هو الوسيلة إلى ذلك .. يقول عنه (( علي عزت )) (( لقد انتهت صفحة عبديتش نهاية مؤسفة .. وكان هناك نظريات لتفسير سلوك عبديتش .. ليس عندي أدلة دامغة عليها .. ولكن الصرب قالوا عنه : إنه رَجُلُهم منذ البداية .

  وكان أثناء الحرب يمدُّ الصربَ بكميات هائلة من الطعام والوقود )) .. هكذا كان تعليق (( علي عزت )) على رجل خان شعب البوسنة وارتكب جريمة لا تغتفر في حقِّ وطنه وشعبه .. تعليقًا هادئًا موضوعيًّا ومتحفظًا يليقُ بقائد شريف عفيف وفارس كريم لا يُجْهِزُ على عدوِّه حينما يَسْقُطُ تحت قدميه مهزومًا . 

على طريق المصالحة إلى أقصى المدى

   كان (( علي عزت )) مستعدًا أن يذهب إلى أبعد المدى في سبيل تحقيق الوحدة والمصالحة وحُسْن النية مع جميع الأطراف والقُوَى السياسية في البوسنة ، ولذلك فَضَّل أن يُشَكِّلَ حكومة ائتلافية رغم أنه كان يستطيع ألا يفعل ؛ لأن حزبه فاز بأغلبية المقاعد في البرلمان ، فَعَلَ هذا من أجل التمازج الوطني فأشرك الحزبين الصربي ( SDS ) والكرواتي ( HDZ ) ولكنه يَعْتَرِفُ بقوله : (( لقد أثبتت الأيام أنني كنت مخطئًا وإن كنت ما أزال أعتقد أن هذه المحاولة كانت جديرة بالاهتمام ، ولو كنا اتخذنا مَنْحَى آخر لقامت الحرب في وقت أكثر تبكيرًا ، وتفسيره لفشل التجربة فيما يقول : (( لقد ظَهَرَ من البداية أن الحكومة تسلك سلوكًا سيِّئًا فكلُّ حزب فيها كانت لديه فكرة مختلفة عن هوية البوسنة ومصيرها ، وبَدَا أن كلا الحزبين ليس إلا امتدادًا للحزب الأم سواء في بلجراد أو زغرب .. وهكذا انفتح الباب على مصراعيه للتدخل الأجنبي )) . 

في جحر الثعابين :

   عندما ينتقل (( علي عزت )) إلى الحديث عن الأزمة اليوغسلافية تتسع آفاق العمل السياسي والتزاماته ويجد نفسه في دوامة من الصراعات القومية والتعصُّبات العرقية والأيديولوجية ويصطدم برجال يقولون شيئًا وهم يُضْمِرُون شيئًا آخر ... أَدْلَى بتصريح صحفي في أول رحلة إلى بلجراد للالتحاق بمجلس الرئاسة اليوغسلافية في يناير 1991 قال : (( لقد اتفق الرؤساء على أن الجميع مع يوغسلافيا وعلى أن البوسنة دولة ذات سيادة داخل يوغسلافيا .. وأن تكون يوغسلافيا دولة ديمقراطية تَتَسَاوى فيها الجمهوريات والشعوب والقوميات .. والتزمنا بالسوق الحرة وحرية حركة الأفراد ، وانتقال البضائع ورءوس الأموال وقوَّة العمل فيما بين الجمهوريات .. أمّا مشكلة أن تكون يوغسلافيا فيدرالية أو كونفيدرالية فهي مشكلة مصنوعة .. فالديمقراطية هي الأساس .. هذا هو موقفنا المبدئي في المفاوضات القادمة )) . 

  يبدو من كلام (( علي عزت )) في هذه المرحلة المبكرة من حياته السياسية أنه كان يَجْهَلُ نوعية الشخصيات التي تعامل معها في مجلس الرئاسة اليوغسلافية ، فهو الوحيد من بينهم الذي لم يلتحق بالحزب الشيوعي وليس لديه خبرة بالمناخ الحزبي العَفِن الذي عاش فيه هؤلاء الناس الذين دَرَجُوا على النفاق وتدبير المؤامرات والفوز بامتيازات الحزب .. وما الكلام الذي اتفقوا عليه في هذا الاجتماع إلا محاولة لإرجاء لحظة الصدام حتى يَتَمَكَّنَ كلُّ واحد منهم من أدواته ووسائله المناسبة للانقضاض الناجح في الوقت المناسب ، ولقد ظَهَرَتْ أعمالهم فيما بعد مناقضة لكلما تظاهروا بالاتفاق عليه ، فلم يكن (( ميلوسفيتش )) الصربي ولا (( توجمان )) الكرواتي يعتقدان حقًّا في استقلال جمهورية البوسنة أو سيادتها وكلاهما يعتقدان حقًّا في استقلال جمهورية البوسنة أو سيادتها وكلاهما كان طامعًا في أراضيها ، ولم يكن أحد منهم مَعْنِيّ بالديمقراطية ، فعقولهم شمولية ومصالحهم الشخصية لا تُحَقَّقُ إلا بالدكتاتورية ، ولم يكن أحد منهم مَعْنِيّ ببقاء يوغسلافيا موحَّدة ، فكلُّ واحد كان يتطلع إلى الانفصال والاستقلال حتى (( ميلوسفيتش )) نفسه ؛ لأنه كان يحلم بصربيا الكبرى المهيمنة على الجميع وإنما اتخذ يوغسلافيا غطاء لتحقيق مآربه ... ولم يكن هناك في الحقيقة سِوَى رجل واحد – رغم كل المزاعم والاتهامات التي وُجِّهَت إليه كذبًا وافتراء – ذلك هو (( علي عزت )) ، فقد كان الوحيد الذي آمن بإمكانية بقاء يوغسلافيا موحَّدة في إطار ديمقراطي وعلى أساس من المساواة والحرية لكل الشعوب والقوميات . 

نماذج من البشر

   نجد في مذكرات (( علي عزت بيجوفيتش )) أسماء كثيرة لشخصيات ترددت في الإعلام والصُّحُف العالمية لارتباطها بمأساة البوسنة ، بعض هذه الشخصيات من يوغسلافيا السابقة من أمثال (( سلوبودان ميلوسفيتش )) و (( فرانيو توجمان )) و (( كراجيتش )) و (( ملاديتش )) ، ومن بريطانيا لورد (( أوين )) و (( جون ميجور )) و (( دوجلاس هيرد )) ، والرئيس الفرنسي (( ميتران )) ، والجنرال (( لويس ماكنزي )) الكندي ، والياباني (( ياسوشي أكاشي )) المبعوث الخاص للأمم المتحدة المشهور في الإعلام الغربي باسم ، (( ميتسوبيتشي شتنك )) ، سخرية بموقفه المنحاز للمعتدي الصربي . 

   أصحاب هذه الأسماء – فيما بدا لي – يشتركون في أمرين : كراهية للإسلام وخوف من المسلمين ، ورغبة في هزيمة مسلمي البوسنة والقضاء على مقاومتهم ، ربما يَتَمَيَّزُ على الجميع (( ميلوسفيتش )) و (( توجمان )) بأطماعهما في أرض البوسنة وتآمرهما على تقسيم البوسنة وضمّ أراضيها إلى صربيا وكرواتيا . 

   أخبار هؤلاء الناس وأعمالهم كانت منشورة على نطاق واسع في كل ما أُذِيعَ وما كُتِبَ عنهم أثناء حرب البوسنة ( 1992 / 1995 ) ، ولكن كتابات (( عزت بيجوفيتش )) عنهم تتميز بمذاق خاص وتكشف عن جوانب دقيقة من شخصياتهم وتُفَسِّر لنا بعضًا من مواقفهم وتصرفاتهم لم نفهمها حين صدورها أو لم نَلْتَفِتْ إليها بالقدر الذي تَسْتَحِقُّه . 

   فمثلاً نحن نعرف أن الرئيس الصربي (( ميلوسفيتش )) وهو يقف الآن أمام محكمة دولية تحاسبه على جرائم الحرب التي ارتكبها في البوسنة وكوسوفا ، وأن الرئيس الكرواتي الذي يقف الآن أمام المحكمة الإلهية كلاهما أصاب البوسنة بأكبر الكوارث ، وكلاهما تَرَكَ فرصة للإساءة إلى (( عزت بيجوفيتش )) والافتراء عليه إلا اتخذها ، ومع ذلك أجد في كتاباته عنهما موضوعية مذهلة وتجرّدًا من الهوى ومن روح الانتقام ، فماذا يقول عن (( ميلوسفيتش )) من واقع انطباعاته عنه خلال مفاوضات السلام في دايتون وانطباعاته السابقة عنه في مجلس الرئاسة في يوغسلافيا السابقة ؟ .. 

عن (( سلوبودان ميلوسفيتش )) يقول : 

   (( لست متأكدًا إذا كنت أعرف (( ميلوسفيتش )) معرفة جيدة ، ولكنني كثيرًا ما تَعَجَّبْتُ لتناقضات مُحَيِّرة في شخصيته فكأنه هو وسياسته أمران مختلفان ، ولا أظن أنني استطعت أن أُوَفِّقَ بين ما يفعله وبين صورته كما تَتَمَثَّلُ في انطباعاتي عنه ، فهو لا يبدو لي شخصًا بغيضًا ، وإنما كنت أشعر أنه يتحدَّث وهو في حالة من السكر الخفيف وتتملكه رغبة في الكلام المستمر ، ويظهر أنه يؤمن بما يقول .. ولابد أنه جرئ ، ولا أستطيع أن أقول عنه : (( إنه منافق )) .. ربما يعاني من انقسام في الشخصية .. تتكشف عن صراعات دفينة بين عوامل الخير والشر فيه ... ولابدَّ أن الشخص الآخر أو الجانب الشرير فيه هو المسيطر ، ومن ثَمَّ كانت إفرازاته الشريرة هي السائدة ، وقد تَجَلَّتْ في دايتون حالة من عدم الاتزان والتأرجح بين تشدد بَلَغَ حدَّ الاستماتة في التفاوض حول سراييفو حيث رَفَضَ كلَّ مطالبنا بشأنها رفضًا قاطعًا واستمرَّ على هذا الرفض فترة طويلة ثم فجأة ومن غير مقدِّمات قَبِلَها جملة واحدة وهَبَّ واقفًا ليغادر المكان وهو يقول : (( سوف أذهب إلى هؤلاء الأغبياء )) وكان يعني صاحبي (( كراجيتش )) اللذين ينتظران نتائج المفاوضات في غرفة مجاورة )) . 

ويُعَلِّق (( علي عزت )) على ذلك بقوله : 

  (( أظنه كان صادقًا في وَصْفِه للرجلين وأن هذا هو ما يعتقده فيهما بحق )) ...

   ما يلفتنا إليه (( عزت بيجوفيتش )) هنا هو هذا الجانب المريض في شخصية (( ميلوسفيتش )) الذي وصفته في كتابي بحقّ بـ ( صانع الكوارث ) ، وكأنه يَلْتَمِسُ له بعض العذر فيما أفرط فيه من شرور وجرائم .

فرانيو توجمان :

أما عن فرانيو توجمان فيقول عنه : 

  (( ما أحببْتُ هذا الرجل قط .. ففي مظهره نفخة وغرور واضحان وفي سلوكه تكلُّف شديد وإفراط في الشكليات الفاقعة .. ولا يستطيع أن يخفي شراهته فهو دائمًا ما يُعَبِّرُ بفجاجة عن رغبته في ابتلاع قطعة من أرض البوسنة )) . 

  ويقول عنه أيضًا : (( يبدو أنه قَرَأَ كتاب (( هانتنجتون )) (( صراع الحضارات )) ووجد سعادة كبيرة في قراءته فهو يتخذ منه سندًا نظريًّا يغذّي به شهيته في الاستيلاء على أرض البوسنة ودَحْرِ أصحابها المسلمين ... وكان التقسيم طبقًا لخطِّ (( هانتنجتون )) هو فكرته الثابتة التي يدور حولها وعندما اشتدت ضراوة هجوم الناتو في كوسوفا سنة 1999 خَرَجَ علينا (( توجمان )) باقتراحه تقسيم كوسوفا إلى شقين أحدهما ألباني والآخر صربي ... وكأنه مأخوذ بفكرة التقسيم ظلَّ يكررها في كل مناسبة وبغير مناسبة .

   ولكن رغم هذه الصورة القائمة عن (( فرانيو توجمان )) يجد (( عزت بيجوفيتش )) في نفسه القدرة على أن ينصف الرجل ولا يغمطه حقَّه فيما يستحقُّ عليه التقدير ... انظر إليه وهو يبرز لنا الجانب الآخر من صورة (( فرانيو توجمان )) يقول : (( توجمان هذا ليس شيئًا واحدًا وإنما اثنان أحدهما لكرواتيا والآخر لبوسنيا والعالم الخارجي ... فإنجازاته لكرواتيا لا تُقَدَّر بثمن فقد وَضَعَ أساسًا قويًّا لدولة كرواتيا المستقبلية ... دولة ديمقراطية ومتقدِّمة وكأنه أراد أن تكون دكتاتورية هي آخر النظم الدكتاتورية في حياة هذه الدولة ... وإنجازاته الأخرى لكرواتيا متعددة ومستمرة )) ، ثم يستطرد قائلاً : 

   (( إنَّ أخطاء (( توجمان )) في كرواتيا مُؤَقَّتَة وقابلة للإصلاح .. أما بالنسبة للبوسنة فالأمر على عكس ذلك تمامًا فآثاره المدمِّرة لا تزال قائمةً فيها فالفيدرالية التي اتفقنا عليها بتحريضه وتدخله ظلَّت إلى اليوم شكلاً بلا مضمون ، فمدينة (( موستار )) ما تزال منقسمة إلى شطرين منفصلين شطر للبشناق وشطر لكروات البوسنة ، وبها دولتان وجيشان منفصلان ونظامان مختلفان في المالية والتعليم والبريد والسكك الحديدية .. وإن بقي الأمل يراودنا في تقدُّم نحو الوحدة ( بعد رحيل توجمان ) . )) 

الفيدرالية عند توجمان :

  كان (( علي عزت )) يُعَوِّل كثيرًا على الفيدرالية بين البشناق وكروات البوسنة ، فعندما توحَّدَتْ جهودهم العسكرية كانوا يُحَقِّقُون نتائج باهرة في تحرير أرض البوسنة من الاحتلال الصربي ، حتى كان حصار (( بنيالوكا )) معقل القيادة العسكرية المركزية (( لكراجيتش )) .. هنا تدخلت أمريكا بإغراء (( توجمان )) بمكاسب مُعَيَّنة إذا عمل على فَضِّ هذا الحصار وقد فَعَلَ ، هذا النكوص من جانب (( توجمان )) أضعف مركز البوسنة في مفاوضات السلام التي انعقدت بعد ذلك في (( دايتون )) ، ولم يكن هذا الموقف غريبًا على (( توجمان )) فهو في سياسته الخارجية انتهازي متقلِّب المزاج لا يُؤْمَنُ جانبه ، اعتاد على الإدلاء بتصريحات مفاجئة تُعَبِّرُ عن عداء كامن للبوسنة وقيادتها ، كان في باريس وأدلى بحديث إلى صحيفة ( لو فيجارو ) صَرَّحَ فيه أن كرواتيا قد مُنِحَتْ مُهمَّة ( أَوْرَبة ) البشناق المسلمين ( يقصد جعلهم أوروبيين ) وأن الفيدرالية قد خُلِقَتْ لأنَّ أوروبا والعالم معها لن تسمح بقيام دولة مسلمة في أوروبا . 

   وقد سَبَّبَ هذا التصريح بلبلة وفتنة كبيرة بين الشعب البوسنوي ، وجاء صحفي من ( لوفيجاروا ) ليسأل عن (( عزت بيجوفيتش )) : (( بماذا يُعَلِّق على هذا التصريح )) ، فكان ردُّه على الوجه الآتي : (( قبل كل شيء (( توجمان )) يعلم جيدًا أن أوروبا هي التي فرضت علينا دولة مقتصرة على المسلمين وفقَ خطة تقسيم ( أوين – ستولتنبرج ) ونحن الذين رَفَضْناها ، ذلك لأن الشعب البشناقي قد اختار دولة بوسنوية موحِّدة ومدنية ، وقد تابعت هذا الاختبار بإصرار وبلا انقطاع ، أما بالنسبة لأَوْرَبَة المسلمين ... فدعني أقول لك : نحن بلد أوروبي وشعب أوروبي ... وأنا لا أقرر هذا لأن فيه ميزة أو فضلاً ... ولكن ببساطة شديدة هذه هي الحقيقة التي لا يستطيع أحد إنكارها .. وأعتقد أنه من الخطأ تقسيم العالم إلى أوربي وغير أوربي فهذه إهانة لبقية العالم وأنا أعلم ( من واقع خبرتي ) أن بلادًا وشعوبًا كثيرة في العالم يرفضون هذه التصنيفات المَهِيْنة ... وأودُّ أن أُلْفِتَ نظرك إلى أن (( كاراجيتش )) و (( ملاديتش )) ( وأنت تعرف جرائمهم ) من الأوروبيين ، وكذلك كان الجنرال الذي دَمَّرَ ( بلا داع ) جسر (( موستار )) الأثري .. هو أيضًا أوروبي ولكن كونه أوروبيًّا لم يمنعه من ارتكاب هذه الجريمة الحمقاء ... أعتقد أن تقسيم الناس يكون أفضل إذا قلنا : (( أناس مُتَحَضِّرون وأناس همجيون برابرة )) .. هذا هو التقسيم الوحيد الصحيح ، وما سواه ليس إلا إهانة سفيهة )) .

   تَعرَّضَ (( عزت بيجوفيتش )) في مذكراته للحديث عن الجنرال (( تيتو )) الرئيس الأسبق ليوغسلافيا ، حيث نجد في تصويره لشخصيته هذا التوازن الدقيق والموضوعية التي اتسمت بها كتاباته عن الشخصيات العامة التي عاصرها أو التقى بها ، سأله صحفي عن (( تيتو )) وهل ساعد البشناق في حياته ؟ .. 

   وردًّا على هذا السؤال قال : (( أنا لا أحبُّ إخفاء تعاطفي مع هذا الرجل .. صحيح أنني ما أحببت يومًا أيديولوجيته الشيوعية ولا طريقته في الحياة وقد اتسمت بالبذخ والرفاهية المفرطة التي تجلَّت في جزيرته الساحرة في البحر الأدرياتيكي ( جزيرة بريوني ) وفي قصوه واستراحاته المتعددة التي كان يستخدمها في رحلات صيده وفي أسفاره الكثيرة إلى غير ذلك من مظاهر البذخ ، ولكن كنت أعتقد دائمًا إنه إنسان فاضل وأنني لم أُخْطِئ في هذا الحكم ، هو على الأقل ليس إنسانًا سيئًا ولا شريرًا ... لقد كان شيوعيًّا ولكنه لم يكن بلشفيًّا مفرطا في القسوة ، فإذا كان النظام الشيوعي شيئًا بشعًا وخاطئًا إلا أنه أدخل عليه كثيرًا من التعديلات ليكون إنسانيًّا ومحتملاً ، قالوا عنه : (( إنه كان يعشق الحياة )) وفي تقديري أن مَنْ يعشق الحياة لا يكره الناس ؛ لأن عِشْقَ الحياة وكُرْهَ الناس لا يتفقان لا بسبب عقيدة في الزهد وإنما بسبب تجارب مُحْبِطة في حياتهم ، وهؤلاء لا يستطيعون أو لا يعرفون كيف يحبون حياة حقيقية ومن ثَمَّ لا يدعون غيرهم ليتمتعوا بالحياة .

   والذين عرفوا (( تيتو )) جيدًا قالوا : (( إنه لم يكن استراتيجيًّا عظيمًا )) ولكن لا أحد ينكر أنه كان سياسيًّا بارزًا ، ربما كان أبرز شخصية في منطقة ( البلقان ) في القرن العشرين ، لقد انقسمت يوغسلافيا من بعده وانهارت ولكن لم يكن هذا خطأه وإنما كانت الهيمنة الصربية المتجذرة في النسيج اليوغسلافي هي البذور التي أدت إلى هذا الانهيار ... ولا شكَّ أن (( تيتو )) حاول تقليص هذه الهيمنة ولكنه للأسف خَسِرَ المعركة .. ويمكننا أن نقول : (( إن الأشياء الخيرة في يوغسلافيا جاءت معظمها من ناحية شخصيته وأما الأشياء السيئة فقد جاءت من أيديولوجيته ، أو كانت موروثة من نظام قَبْلَه )) ، أو نقول بطريقة أخرى : (( إنه كان رجلاً حسنًا على رأس نظام سيِّئ ، أو كان سيئًا في بداية حكمه ( من سنة 1944 إلى 1966 ) حيث كانت يوغسلافيا دولة بوليسية يدبرها رئيس الشرطة (( ألكسندر رانكوفيتش )) ، ثم تحسنت الأوضاع في الأربع عشرة سنة الأخيرة )) ... ولعلَّ المقارنة تجلِّي الحقيقة لنا أكثر : 

   فإذا قارنت يوغسلافيا (( تيتو )) بالنمسا مثلاً سواء في مستوى المعيشئة أو في حقوق الإنسان تسقط يوغسلافيا ، ولكن بالمقارنة مع بلغاريا ورومانيا وألبانيا أنور خوخا ، تبدو يوغسلافيا بالنسبة لهذه البلاد كأنها أمريكا .

  هكذا نرى (( عزت بيجوفيتش )) في أحكمه على الناس يُمْسِكُ بميزان العدل في يده فلا ينساق مع الهوى ولا ينحرف مع الغضب والكراهية .. بل يعطي كلَّ ذي حقِّ حقَّه بلا إفراط ولا تفريط ، كأنه قد تَشَرََّ في عقله ووجدانه روح الآية الكريمة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] . 

نماذج مُتَحَيِّزَة من بريطانيا : 

   برتشكو مدينة بوسنوية تقع على نهر سافا في الركن الشمالي الشرقي ، كان أغلب سكانها من المسلمين ولكنها تعرَّضت للتطهير العرقي وشُرِّدَ سكانها من غير الصرب ... موقعها استراتيجي وكانت هي المشكلة المستعصية التي بسببها أوشكت مفاوضات السلام في (( دايتون )) على الانهيار .. كان صرب البوسنة مستميتين في الاستحواذ عليها ؛ لأنها كانت تقع عند بداية ممر أفقي يصل بين شطري الأراضي المخصَّصة لهم في خطة التقسيم المقترحة من قِبَل لجنة الاتصال وكان التحيُّز الأوروبي لمطالب الصرب نموذجًا نمطيًّا صارخًا لإجبار الضحية على الركوع والاستسلام للمعتدي الصربي والخضوع لمنطق القوة الغاشمة .

   في 13 نوفمبر 1995 دعي (( عزت بيجوفيتش )) للاجتماع مع وفد بريطاني مؤلِّف من اثنين : (( آلان تشالتون )) و (( بولينا نفيل – جونز )) من وزارة الخارجية ، لم تحاول (( بولينا نيفل – جونز )) أن تخفي كراهيتها المقيتة للمسلمين وهي تُعَبِّرُ عن قلقها لعدم التقدُّم في المفاوضات ثم هَدَّدَتْ بسحب قوات الأمم المتحدة من البوسنة ، وباستعلاء وعجرفة قالت لعزت بيجوفيتش فيما أورده في مذكراته : (( يجب أن تفهموا أن المجتمع الدولي مستعد للبقاء هنا في البوسنة فقط في حالة توصُّلِكم إلى اتفاق ... وأي إشارة مني يمكن أن تُؤَدِّي إلى انسحاب قوات الأمم المتحدة التي ما فتئت تُخَفِّفُ المعاناة عن شعبكم .. بل ستكون العواقب أوخم من هذا إذا لم تصلوا إلى اتفاق فوري )) ... ثم أضافت : (( إنها جاءت لتحذيرنا في الوقت المناسب )) ، يقول (( عزت بيجوفيتش )) : (( اعتبرت هذا الكلام ضغطًا مكشوفًا لا مبرر له وأوجبتها : (( ألاجدر بك أن تدافعي عن خريطتكم ... خريطة مجموعة الاتصال .. ولا ينبغي السماح للجانب الصربي أن يحصل على مكافأة للإبادة الجماعية التي اقترفها )) ... ومع استمرار المحادثات استمرَّ الوفد البريطاني يدافع عن المطالب الصربية في ممر أوسع .. فاعترضْتُ قائلاً : (( المفروض أنكم هنا لمساعدتنا في الحفاظ على وحدة الدولة ولا يصح أن تساعدوا القتلة ... اذهبوا إلى (( ميلوسفيتش )) فهو يريد بفارغ الصبر أن ترفعوا عنه الحصار الاقتصادي .. اضغطوا عليه هو لكي يكف عن أطماعه في البوسنة ولا يكن همكم الدائم هو الضغط علينا بلا مبرر )) ... ألقيت هذه العبارة الأخيرة بغضب ظاهر .. ومع ذلك استمرت السيدة (( نفيل – جونز )) بنفس اللهجة المتعجرفة في التهديد مؤكِّدة أن أوضاعنا ستكون أسوأ من أوضاع الصرب إذا توقفت المفاوضات ، وأن العواقب بالنسبة لنا ستكون أوخم ... حاولت أن أشرح للوفد أن (( ميلوسفيتش )) يريد توسيع الممر حتى يتمكن من فَصْلِ جمهورية صرب البوسنة ولا يصح أن تقوم بريطانيا بمساندة الانفصال ... استمرَّ الجدل عنيفًا .. وتَدَخَّلَ (( حارس سيلاجيتش )) ( وزير الخارجية ) حيث قال : (( لقد ارتكبت صربيا إبادة جماعية وهي التي خلقت هذا الوضع في برتشكو وليس من حقِّكم الدفاع من موقفها )) وأضفت إلى ذلك قائلاً : (( لقد وافقنا على خطة مجموعة الاتصال بعد أن وافق عليها (( ميلوسفيتش )) ... وليس في هذه الخطة أي ممرات ومن واجبكم أن تُذَكِّروه بهذا وأن توجهوا تهديداتكم إليه لا إلينا ... لم يعجب الوفد البريطاني هذا الكلام المنطقي فانصرف ساخطًا متأففًا )) .

   كان هذا موقفا نمطيًا ثابتًا متكررًا تجاه البوسنة المسلمة من قِبَلِ العديد من الشخصيات الأوروبية والعالمية ... استأسد الجميع على البوسنة في محنتها الطاحنة ، وأرادوا هزيمتها واستسلامها أو استئصالها من الوجود كما يفعلون اليوم بالفلسطينيين ، لولا الوقفة البطولية لشعب البوسنة وقيادته الصلبة التي استمسكت بالمقاومة والإيمان بنصر الله مهما طال أَمَدُ المعاناة . 

المثقفون المحايدون :

  لم يَخْذُل البوسنة أناس من خارجها فقط بل خَذَلَها أيضًا فئة من أبنائها المثقفين أصيبوا بضمور شديد في حاسة الانتماء الفطري فصنعوا لأنفسهم هوية زائفة وانتماءات أنانية من صُنْعِ أوهامهم وضلالاتهم ... وهنا يُنَبِّهُنا (( عزت بيجوفيتش )) إلى حقيقة بسيطة وإن كانت تنطوي على معاني إنسانية خالدة عندما يُقَارن بين ضلال هذه النخبة وبين سلامة الفطرة التي يُعَبِّرُ عنها الأطفال بعفوية مطلقة .

   اعتاد (( عزت بيجوفيتش )) وهو رئيس للجمهورية والحرب دائرة أن يَزُورَ مدرسة ابتدائية في سراييفو من حين لآخر ويتحاور مع الأطفال في فُصُولهم وكان يقارن بين أفكار هؤلاء الأطفال وبين أفكار بعض المثقفين ويجد أن أفكار هؤلاء الأطفال يَرْجحُ أفكار المثقفين ... وفي هذا يقول : (( قد لا يوافقني في ذلك بعض الناس ولكن هذه مشكلتهم فأنا أجد الأطفال رؤيتهم شديدة الوضوح فيما يتعلَّق بوطنهم البوسنة وعن الشعب الذي ينتمون إليه هذه المفاهيم واضحة في عقولهم وضوحًا لا لَبْسَ فيه ... بينما أسمع من بعض المثقفين ثرثرة يقال فيها : (( أنا محايد .. الحرب لا تعنيني .. أنا فوق هذا كله .. هؤلاء المثقفون المحايدون دائمًا فوق كل شيء ما .. خارج شيء ما .. حتى مع هذا الصراع الدموي الذي قُتِلَ فيه الأطفال واغْتُصِبَت النساء هم محايدون .. فهل يمكن أن يكون لأي إنسان حقّ في الحياد أمام هذا الوضع المأساوي ؟ .. 

   هذا وقت نضال لا وقت حياد وسلبية .. فالخير والشر لم يتصادما بمثل هذا الوضوح الشديد .. حتى الأعمى يستطيع أن يُمَيِّزَ بين هذا وذاك .. ولكن هؤلاء المثقفين محايدون فيا للعار ! )) ... 

   لهؤلاء المثقفين المحايدين قصة أخرى في البوسنة فَهُم لم يكونوا مناضلين أو ثائرين في يوم من الأيام بل كانوا أبواقًا تُرَدِّدُ أفكار السلطة الحاكمة ويُصَفِّقُون للنظام أينما اتجه ولكنهم يَدَّعُون لنا اليوم أنهم كانوا دائمًا ثائرين ومناضلين ، والغريب أنهم لا يَكُفُّون عن الكلام ولكن يدورون في دوائر مغلقة حول مشكلات الحرب والقتل والاغتصاب ولكن لا يستطيعون أن يُصَرِّحوا بوضوح : من الذي يقتل ؟ .. من الذي يطلق الرصاص ؟ .. من الذي يغتصب ؟ .. من المعتدي ومن الضحية ؟ .. 

يقول (( عزت بيجوفيتش )) : 

  (( مع أمثال هؤلاء بحالهم الذي هم عليه لن نَصِلَ إلى شيء .. ولكن لحسن الحظ – رغم كثرتهم – ليس لهم تأثير كبير )) .

   هؤلاء المثقفون المحايدون بعد (( دايتون )) وبعد ترسيخ النفوذ الأمريكي الأوروبي لم يعودوا محايدين فقد أصبحوا يُمَثِّلُون المعارضة ويتجرَّءُون على الهجوم والنقد لحكومتهم البوسنوية ، وقد تَبَنُّوا كلَّ المقولات الأجنبية عن الإسلام والمسلمين ، وأصبحوا أداة نشطة في إطلاق الأكاذيب والافتراءات على حزب العمل الديمقراطي وعلى الرئيس (( عزت بيجوفيتش )) وعلى أسرته . 

السياسيون ومكانهم : 

   (( عزت بيجوفيتش )) سياسي من نوع مُتَفَرِّد فهو يَكْرَه التكلُّف والتظاهر والنفاق وكلُّها عُمْلة متداولة في أوساط السياسيين ، واثناء محادثات السلام في (( دايتون )) كثرت اللقاء السياسية والاجتماعات غير الرسمية وحفلات العشاء الرسمية وقد شعر حيال هذا كله بمقت شديد ، فقد بدا له أنه ليس طبيعيًّا أن تأكل وتحاول تبادل أطراف الحديث مع أناس ليسوا بأصدقاء ، يقول في هذا : 

   (( لقد احتجت وقتًا طويلاً لكي أفهم أن الابتسامات والتحيات السياسية لا تعني شيئًا حقيقيًّا على الإطلاق ، فقد يبتسم إليك شخص ابتسامة عريضة تظنُّها مخلصة بينما هو يُوَقِّعُ عليك حكمًا بالإعدام )) . 

   ومن احتكاكه بعدد كبير من السياسيين في العالم اكتشف أنهم يفتقرون إلى العبقرية ، بل لا تجد فيهم الرجل الذي يحوز على إعجابك ويَأْسرُ مشاعرك بسجاياه .. وهو يرى أن العباقر الحقيقيين لا يوجدون إلا في مجالات العلوم والفنون ، أما السياسيون سواء كانوا صغارًا أو كبارًا فيمكنك أن تُصَنِّفَهم في مكان وسط بين العبقرية والغباء وإنما يتميزون بعضهم عن بعض بفروق هائلة في الغرور والطموحات .

سلام ظالم :

   بعد انتهاء محادثات السلام والتوقيع على اتفاقية (( دايتون )) في 21 نوفمبر 1995 وَجَّه حديثًا إلى شعب البوسنة قال فيه : (( قد لا يكون هذا سلامًا عادلاً كما تمنيناه .. ولكنه أكثر عدالة من استمرار الحرب .. في وَصْعٍ كهذا الذي وُجِدْنا فيه وفي عالم كهذا العالم لم يكن في الإمكان أن نتوصَّلَ إلى سلام أفضل من هذا .. إنَّ الله شَاهِدٌ علينا أننا قد فَعَلْنا كل ما في وسعنا وطاقتنا لكي نُقَلِّلَ من حَجْمِ الظلم الواقع على شعبنا وعلى بلادنا )) ثم يضيف (( ولدى عودتي من (( دايتون )) سألني صحفي بوسنوي من صحيفة (( ليليان )) عن معنى عبارتي (( في عالم كهذا العالم )) ؟ .. 

  فأجبته : (( إنه عالم يُمْكِنُ فيه أن تَشُنَّ حربًا ظالمة وتَفْرِضَ سلامًا غير عادل ! )) . 

لقاءاته الصحفية وتصريحاته :

  عندما يتحدَّث البعض عن قُدُوم المنقذ الأمريكي لتخليصنا من طغيان الأنظمة السياسية واستبدادها ولنشر الديمقراطية ونور الحضارة ، فيجب أن نتوقف قليلاً لفحص قَدْرِ الصدق في هذه الرسالة ، فلا شكَّ أننا في أمس الحاجة إلى الديمقراطية والعدل ونور الحضارة ، ولكن هل هذه بضاعة قابلة للتصدير ؟ وهل تُصَدِّرُها لنا أمريكا بلا مقابل ؟ وهل أَوْفَت أمريكا بوعودها لأي شعب مسلم ؟ .. على مثل هذه الأسئلة يجيب (( علي عزت بيجوفيتش )) في مذكراته ويشرح لنا تجربته مع أمريكا والدول الأوروبية فيا يتعلَّق بتنفيذ اتفاقية (( دايتون )) للسلام ، فقد نشطت هذه الدول في تنفيذ الشقِّ العسكري والسياسي الذي يَضْمَنُ وقفَ الحرب وتأمين وجود القوات الأجنبية والإدارة على أرض البوسنة ، أمَّا الشقُّ المدني من الاتفاقية الذي يشتملُ على إعادة إعمار البوسنة وإعادة اللاجئين إلى ديارهم وتسليم مجرمي الحرب إلى المحكمة الدولية الخاصة بذلك في (( لاهاي )) ، كل ذلك لم يتحقق منه إلا القليل . 

   فبعد ثمانية أعوام لم يَعُد من المسلمين إلى ديارهم إلا 2 % فقط بينما عاد كل اللاجئين الصرب والكروات إلى المناطق التي يسيطر عليها المسلمون ، ولا تزال القوات الدولية تُمَاطِلُ في إلقاء القبض على أكبر المجرمين المسئولين عن التطهير العرقي في البوسنة وعلى رأسهم (( رادوفان كراجيتش )) وقرينه الجنرال (( ملاديتش )) ، وما نسمع عنه أو نراه على شاشة الفضائيات العالمية من وقت لآخر عن المطاردات وتفتيش أماكن يشتبه في وجودهما بها ليس إلا سيناريوهات تضليل للرأي العام العالمي ، ذلك لأن هناك موقفًا أوروبيًّا ثابتًا في هذه القضية ، ومن يتشكك في هذا عليه الاطِّلاع على مذكرات (( ريتشارد هولبروك )) المفاوض الأمريكي صانع اتفاقية (( دايتون )) في كتابه ( لإنهاء حرب ) To End a War الصادر سنة 1998 ، أما إعادة إعمار البوسنة فلم يتحقق ، ولعلَّ هذا كان هو السبب الرئيسي في استقالة الرئيس (( علي عزت بيجوفيتش )) من منصبه فقد كانت الإشارات تصله واضحة بأنه مادام هو في قيادة شعب البوسنة فلن يكون هنالك إعمار ، وكان التحريض الأجنبي للمعارضة الشيوعية والعلمانية وحملات الهجوم والافتراءات على حكومة (( عزت بيجوفيتش )) وحزبه تتم بتنسيق مفضوح بين الأجنبي وبين القُوَى المحلية الطامحة إلى السلطة ، ولأنهم وضعوا قضية إعادة إعمار البوسنة ومصالحها في كِفَّة ووجود (( عزت بيجوفيتش )) في الحكم في الكِفَّة الأخرى ، وقد آثر الرجل مصالح بلاده وضَحَّى بالسلطة ، وحَمِدَ الله أنه تَخَفَّفَ من مسئولية أرهقته وتَرَكَتْ بصماتها قاسية على قلبه وصِحَّتِه وحياته . 

تجربته مع الأجنبي :

   لقد استجاب (( عزت بيجوفيتش )) لجهود السلام الأمريكية لكي يضع حدًّا لنزيف الدم الذي تعرَّض له شعبُه ، وقَبِلَ بوجود قوات أجنبية على أرض بلاده كضرورة لا بديل عنها ، وكان كارهًا لذلك أشدَّ الكراهية ، وفي هذا يقول : (( كثيرًا ما حَدَّثْت نفسي .. وصرَّحت في مناسبات عديدة أنني رغبت في شيء وكرهته في نفس الوقت ، ألا وهو وجود قوات أجنبية في البوسنة .. فالأجانب يساعدونك في أول الأمر ثم يَتَحَوَّلون إلى قوة مسيطرة مستبدّة ... وهم في هذا ينفذون برامجهم وما يتفق مع مصالحهم وأهوائهم ، ويضربون عرضَ الحائط بمصالحك ولا يقيمون وزنًا للمواثيق والوعود التي قَطَعُوها على أنفسهم ... وتلك تجربة (( علي عزت بيجوفيتش )) لعلنا نستخلص منها درسًا أو عبرة . 

   أعود إلى الخط العام في تقديم مذكرات صاحب السيرة لنكتشف أبعادًا أخرى من شخصيته المتعددة المواهب .. وسوف نجد – بهذا الصدد – في لقاءاته الصحفية وفي تصريحاته أمام المحافل الدولية ثروة فكرية وجرأة نادرة في الحق .. وهي جرأة مقرونة بالحكمة والفهم العميق للقُوَى والأفكار التي تثحَرِّك هذا العالم .

مع عبد الله سيدران :

   نبدأ بسلسلة من اللقاءات معه .. أجراها صحفي شاعر وكاتب سيناريو مرموق في البوسنة هو (( عبد الله سيدران )) .. نُشرَتْ حلقات هذه السلسلة في مجلة (( سراييفو سلوبودنا بوسنًا ) في ثلاثة أعداد بتواريخ 11 و 25 أغسطس و 8 سبتمبر 1996 م . 

  سأله في البداية عن أصوله الأولى وما قيل عن انتسابهم إلى بلجراد وفيم كانت هجرتهم منها وإلى أين ؟ .. 

  وقد أكَّدَ (( عزت بيجوفيتش )) أن بلجراد بالفعل كانت هي موطن أجداده الأول وقد استقرُّوا فيها حتى سنة 1886 م ، عندما ثار الصرب ضد القوات العثمانية واستولوا على بلجراج لينكَّلوا بالمسلمين ويطردوهم منها ، فتشتَّتُوا في الآفاق ، وتوجَّهت مجموعة من اللاجئين الذين رافقوا أجداد (( عزت بيجوفيتش )) إلى موقع للإيواء في شمال شرق البوسنة .. كان مجرد موقع مُؤَقَّت للإيواء في أرض مَنَحَها لهم السلطان العثماني عبد العزيز ، تَحَوَّل إلى بلدة معمورة باسم ( العزيزية ) ثم تَغَيَّرَ الاسم بعد ذلك إلى ( ساماتشسر ) ، ولهذه البلدة قصة مثيرة في حياة (( عزت بيجوفيتش )) يقول فيها : (( ... بعد مقتل (( فرديناد )) ولي عَهْدِ النمسا في سراييفو سنة 1914 على يد إرهابي صربي أخذ النمساويون عددًا كبيرًا من الصرب من مختلف المدن البوسنوية رهائن فيما عدا (( ساماتش )) ، ذلك لأن جدي – وكان عمدة للبلدة – رفض تسليم أربعين شابًّا صربيًّا إلى السلطات النمساوية ووَضَعَهم في حمايته ، وكان لهذه الوقفة الإنسانية الشجاعة من جدي أثر في إنقاذ حياتي بعد ثلاثين سنة ، ففي سنة 1944 اختطفتني عصابة الشتنك الإرهابية ( وهم من القوميين الصرب ) وكانت تنوي قتلي .. ولكن جاءت مجموعة من الصرب للتدخُّل والحيلولة دون ذلك حيث قصُّوا على الكولونيل ( كيزيروفيتيش ) قائد الشتنك قصة جدي الذي قام بحماية أربعين صربيًّا ودافع عنهم ضد القوات النمساوية سنة 1914 م ... وحَثُّوه على أن يقومَ هو أيضًا برد الجميل ... والحمد لله خرجت من المعتقل هذه المرة ورأسي فوق كتفي )) . 

قراءاته :

   سألته سيدران عن قراءاته في السجن وعن اهتماماته الأدبية والفلسفية ؟ . 

   فقال : (( كان من حُسْنِ حظي أو من سوئه – لا أدري – أنني قرأت كثيرًا جدًّا .. وقد تَبَيَّنَ لي فيما بعد أن كثيرًا مما قرأته من كُتُب الفلسفة كان عديم القيمة أو كان يُمّكِنُ الاستغناء عنه بتعلم لغة أجنبية فذلك أجدى ( مثلاً ) من قراءة كُتُبِ الفلسفة الهندية ... )) .

البشناق والبوسنة : 

   وفيما يتعلَّق بالإعلام قال سيدران : (( حزنت لأنك يا سيدي الرئيس وافقت على إنشاء محطة تليفزيونية جديدة خاصة بالبوشناق ( وهو الاسم التاريخي لمسلمي البوسنة ) .. وسألت نفسي : هل هذا في صالح البوسنة أم اتجاه يمكن أن يُؤَدِّي إلى تمزيقها )) ؟ .. 

   (( عزت بيجوفيتش )) : (( تُخْطِئ إذا وضعت البوشناق والبوسنة على طرفي نقيض ، وأن تعتقد أن أي زيادة في طرف تُؤَدِي بالضرورة إلى نَقْصِ في الطرف الآخر ! .. 

   هناك أناس يعتقدون أن إضعاف البشناق يُؤَدِّي إلى بوسنة أقوى .. وهذا غير صحيح .. فبوسنة قويَّة موحَّدة وديمقراطية لا يستلزم شيئًا من ذلك ، هؤلاء الناس يرون أنه من الأفضل أن يَنْسَى البشناق عقيدتهم وماضيهم وحتى أسماءَهم ففي هذا تقوية للبوسنة .. وهو غير صحيح أيضًا ، وإنما العكس هو الصحيح : إن شعبًا من البشناق الأقوياء الواعين هو العمود الفقري لدولة البوسنة والهرسك .. وهو الضمان الأساسي لإنقاذ البوسنة في مواجهة الأطماع التوسُّعيَّة من الدولتين المجاورتين الشرقية ( صربيا ) والغربية ( كرواتيا ) ... وهو الذي سيأخذ البوسنة والهرسك تدريجيًّا في طريق الوحدة .. البشناق هم الضمان بأن الستار لن يَسْقُطَ على دولة البوسنة )) ...

   (( سيدران )) يعترض شعار حزب العمل الديمقراطي الذي يقول : (( في عقيدتنا وعلى أرضنا )) ويرى أن هذا الشعار يتناقض مع فكرة البوسنة الموحَّدة متعددة الأعراق – ثم يسأل : (( أريد تعليقك على هذا .. كيف تنسجم الوحدة مع الحديث عن ( الدين والأرض ) كما في شعار الحزب )) ؟ 

  (( عزت بيجوفيتش )) : آسف أنك تبدأ من افتراض خَاطِئ .. فأنت تفترض أن حزبنا هو البوسنة بينما الحقيقة أنه أحد الأحزاب البوسنوية وإن كانت تركيبية بوشناقية .. ونحن لا نُخْفي هذه الحقيقة .. ولكننا نُؤْمِنُ أن سنوات من العمل المشترك بين البشناق والعناصر الوطنية الأخرى من صرب البوسنة وكرواتيا سوف تنبثق الوطنية البسنوية بمجموعة من القيم المشتركة تكون أساسًا للوحدة )) . 

مسقبل البوسنة رؤية وواقع : 

  (( سيدران )) : (( سيدي الرئيس .. أرجو أن تتحدَّث عن شخصية (( علي عزت بيجوفيتش )) التاريخية وأعماله .. هل تتذكر مقولتي أن (( عزت بيجوفيتش )) سيكون شيئًا إذا نجا البوشناق وبقيت البوسنة ، وسيكون شيئًا آخر إذا اختفيا من وجه الأرض ! )) .. 

   (( عزت بيجوفيتش )) : (( لا أحبُّ أن أتحدَّثَ عن شخصية (( علي عزت بيجوفيتش )) وأعماله ، ولكني أحبُّ أن أتحدَّثَ عن البوسنة ومستقبلها .. وفي هذا أقول لك باطمئنان : (( إنني أعتقد أن فكرة البوسنة ستفوز وتبقى .. أُومِنُ بذلك لأسباب ثلاثة : 

1 – أن قوة الشعب البشناقي وقوة البوسنة في نمو مطرد . 

2 – أن صربيا ستبقي في حالة ضَعْفٍ واضطراب لفترة طويلة . 

3 – التحوُّل الديمقراطي بكرواتيا يتقدَّم بِخُطَى ثابتة ومعنى هذا أن الدولتين القويتين المجاورتين الطامعتين في التوسُّع بالبوسنة لن يكونَ لهما أَثَرٌ فَعَّال ، ومن ثَمَّ لن تستطيع صربيا تدمير البوسنة ولن تريد كرواتيا تدميرها )) ... 

   بكلام آخر أقول : (( إنَّ قوتنا الداخلية في إطار صربيا ضعيفة وكرواتيا ديمقراطية من الخارج هي رؤيتي وتصوري التاريخي الذي أراه يتحقَّق أمامي في هذه المنطقة .. في هذا الوضع التاريخي سوف تبقى البوسنة وسوف تؤكِّد نفسها تدريجيًّا كدولة ديمقراطية موحَّدة )) . 

(( سيدران )) : (( ماذا عن رؤيتك للبوسنة سنة 2030 م )) ؟ .. 

   (( عزت بيجوفيتش )) كيف يَتَسَنَّى لي معرفة ماذا سيحدث بعد ثلاثين أو أربعين سنة قادمة .. ولكن البعض يؤكِّد أن تغييرات هائلة ستحدث في العالم .. وأعتقد أن أوروبا ستكون مقاطعة واحدة وأن الشرق الأقصى سيكون مركز العالم ... وأن أمريكا ستفقد سيطرتها في العالم بسبب سقوطها الأخلاقي .. وهذا هو السياق العالمي الذي ستعيش فيه البوسنة ... ولكني لا أعتقد أن التأثير القادم من بعيد سيكون على مستوى التأثير المباشر لجاريها الصربي والكرواتي .. كما أعتقد جازمًا أن كرواتيا خلال خمس عشرة سنة ستصنع من نفسها دولة ديمقراطية حديثة بينما ستبقى صربيا ضعيفة لزمن طويل ، وفي هذا المناخ ستجد البوسنة فرصتها في البقاء والنمو كما سَبَقَ أن أَشَرْت )) . 

الإسلام والأصولية : 

   في محاضرة ألقاها (( عزت بيجوفيتش )) أمام الجمعية الألمانية للشئون الخارجية في (( بون )) بتاريخ 17 مارس 1995 م فقرات لفتت نظري بشدة يقول فيها : (( أحبُّ أ أُلْفِتَ النظر إلى حقيقة وجود قُوَى فاشية على جانبي البوسنة ( في صربيا من اليمين وفي كرواتيا من اليسار ) وهؤلاء جميعًا يفخرون بتبني مفاهيم قومية ضيقة ( دين واحد وحزب واحد ) ... وتهبُّ علينا من الجانبين رياح تريد أن تُطْفِئ هذه الشعلة الصغيرة التي أَضَأْنَاها في أرض البوسنة التي تحرَّرت ، والجميع يهاجمون ما يصفونه بأنه ( أصولية إسلامية ) ، ويزعمون أنهم يقومون بدور الدفاع عن أوروبا من الخطر الإسلامي .. ولعلَّ هذه فرصة مناسبة من حيث المكان والزمان لإلقاء الضوء على ما يُسَمُّونه بالأصولية الإسلامية في البوسنة .. غير أني أودُّ أولاً أن أُنَبِّهَ إلى حقيقة هامَّة وهي أنه لا ينبغي لكم أن تسمحوا لهؤلاء الناس بالدفاع عنكم حتى لو كان هذا متعلِّقًا بالأصولية الإسلامية ... فأنا لا أظنُّ أن أوروبا قد انحطت إلى درجة أن تتوقع من الذين دَمَّرُوا الأماكن المقدَّسة والآثار الثقافية والتاريخية .. أن يقوموا بحماية أوروبا من أي شيء . 

   نعم يوجد في البوسنة إسلام ولكن ليس فيها أصولية ، فإذا كان هناك مَن لا يستطيع أن يُفَرِّقَ بين الإسلام والأصولية فتلك مشكلته الإدراكية ... لقد استيقظ الدين – بعد خمسين عامًا من القمع الشيوعي – في نفوس الناس ، وهذه العملية جزء من اليقظة الوطنية للشعب البوشناقي وسوف تستمرُّ ... ولكن الإحياء الديني في البوسنة لن يكون متطرفًا راديكاليًّا لأنه إحياء طبيعي وحرّ . وقد أدَّى دورًا إيجابيًّا في أَنْسَنَةِ صراعنا في سبيل الحرية ، فالدين يؤكِّد الفرق بين الخير والشر ... بين ما هو حلال ومباح وما هو حرام .. وكان كلُّ ما حلَّ بنا من ظُلْمٍ ودمار يدفعنا لانتقام لا ضابط له ولكننا بحمد الله لم نتورط في غواية الانتقام ، بل انتصرنا عليها بفضل استمساكنا بعقيدتنا الدينية .. فهل هذه أصولية ! ؟ .. 

   هذا التضليل الذي يخلط بين الإيمان وبين الأصولية لا يزال معلَّقا في هواء البوسنة بفضل الصمت والقبول المتبادر بين المعتدي والغرب ، فالمصلحة واحدة وإن اختلفت الأسباب ، أما مصلحة المعتدي الصربي فهي أن يَحُولَ بين الغرب وبين أن يقوم بواجبه في مساعدة البوسنة باستخدام خدعة الأصولية الإسلامية ، ومصلحة الغرب هي أنه وجد مبررًا لسلبيته ونكوصه عن القيام بواجبه الإنساني نحو البوسنة المعتدي عليها )) .. في هذا المقام ضرب (( عزت بيجوفيتش )) مثالين أجتزئ بواحد منهما له دلالة خاصة قال : 

   (( نَشَبَ خلاف في سوق سراييفو حول أماكن بيع لحم الخنزير وضرورة فَصْلِها عن أماكن بيع اللحوم الأخرى ( الحلال ) ، وطار الخبر إلى الصحافة الغربية فاستشاطت غضبًا وأفاضت في خطورة هذا التوجُّه من جانب المسلمين وظَلَّت تضخَّ التحقيقات والتصريحات لعدة أيام وتضخَّمت قصة الخنازير وأخذت من الاهتمام أكثر بكثير مما أخذته من قَبْل معسكرات الإبادة الصربية التي اختفى فيها آلاف الناس الأبرياء ولم يَبْقَ منهم خلف الأسوار الشائكة سوى هياكل عظيمة .. فهل هذا معقول )) ! ! ..

مسلم وأوربي :

   في آخر المحاضرة قال (( علي عزت بيجوفيتش )) : (( اسمحوا لي في نهاية هذه المحاضرة ببعض ملاحظات شخصية .. لقد جئت هنا بصفة وظيفتي الرسمية كرئيس لجمهورية البوسنة ... ولكن لماذا لا أقولها بصراحة : إنني أيضًا جئت كمسلم من البوسنة فأنا أشعر أنني مسلم قدر شعوري بأنني أوروبي ، ولا أظنُّ أن أحدهما يستبعد الآخر .. وأنا لا أدري وجود اختلافات بين الناس أو بين الحضارات مما لا يُمْكِنُ معه التواصل والتوافق فإذا كانت كل حضارة هي بصفة أولية مجموعة من القِيَم .. في التحليل النهائي قيم أخلاقية يعتنقها أصحاب حضارة ما ، إذن في مقدورنا أن نتحدَّث عن إمكانية وحدة الحضارات ... هذه القضية بالنسبة لي هي قضية المساواة الإنسانية .. وفي القرآن آية تقول : { تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } [ آل عمران : 64 ] . 

   والدعوة هنا موجهة إلى اليهود والنصارى ولذلك أدعوكم أن تسقطوا دعوى إقامة الحواجز الصناعية ( أو العدائية ) بين المسيحية والإسلام .. بين الشرق والغرب .. ثم دَقِّقُوا النظر لكي تروا تلك التعصبات الكامنة وراء الأنانية والظلم الغربيين .. أكثر من هذا سوف تُدْرِكُون أنَّ كثيرًا من الاختلافات التي ترونها وتستشعرون فداحتها ليست اختلافات جوهرية ، وإنما هي وليدة اختلافات في المستوى الثقافي والنمو الاجتماعي .. إنني كمسلم أوروبي وأشعر بارتياح كامل إزاء هذه الحقيقة )) . 

ما أنا إلا رئيس انتخبه الشعب :

   في مقابلة مع صحفي من مجلة ( داني ) الأسبوعية الصادرة في سراييفو بتاريخ 11 ديسمبر 1994 ، كانت الحرب في البوسنة على أشدَّها وقد بدا كِفَّة قوات المسلمين تُرْجحُ ، إذ استطاعت أن تقتحمَ معاقل الصرب وتُحَقِّقُ انتصارات لم يكن أحد يتوقعها من المراقبين الدوليين بل بَدَت وكأنها معجزات . 

   سأل الصحفي : (( سيدي الرئيس .. قيادتك العبقرية للشعب البشناقي لا جدال فيها فلست رئيسًا لحزب ولا رئيسًا للجمهورية فقط ولكنك أصبحت رمزًا للشعب البشناقي .. ومع ذلك أغامر وأسالك : ماذا بعد علي عزت بيجوفيتش ؟ .. إنني أسألك هذا السؤال وأنا أعلم أن لك محبين كُثُر كما أنك لك كارهون ، ولكنهم جميعًا مجمعون على أنك تُمَثِّلُ أحد العوامل الحاسمة في الدفاع عن الشعب البشناقي والحفاظ عليه )) . 

   (( عزت بيجوفيتش )) : أظنُّ أنك تبالغ كثيرًا فأنا مجرد رئيس اختاره الشعب في انتخاب حُرٍّ ... وأعرف بالضبط ما يعنيه هذا الاختيار ومسئولياته .. إنني أشعر من كلامك بالإطراء ولكن هناك ما يبرر شعوري بالحزن وربما الغضب أيضًا .. فأنا أخالفك في فكرة أنني على هذا القدر من الأهمية بالنسبة للدفاع عن الشعب البشناقي .. وأحمد الله أنَّ هذا غير صحيح .. لقد خَرَجَ الناس بالآلاف يقاتلون ويدافعون عن وَطَنِهم ضد العدوان .. نعم لقد جَعَلْتُ ذلك عليهم أيسر ، ولكنهم كان في استطاعتهم أن يحاربوا بدوني وسوف يستمرون في القتال من بعدي .. لقد كنت دائمًا متأكِّدًا من هذا في أكتوبر سنة 1992 .. وكانت هذه أول مرة ذهبت أطوف فيها بالبوسنة كلها وكانت الحرب مشتعلة في كلِّ مكان .. وكنت أُكَرِّرُ هذه الجولة من وقت لآخر ... لقد استطاع المقاتلون البشناق في ( جراداكاتش ) أن يهزموا أعداءهم في نوفمبر 1992 ويحررونها ، فماذا فعلت لهم ؟ .. القليل .. أما هم فقد قاموا وحدهم بالتخطيط والدفاع وانتصروا .. وكذلك بالنسبة لإعادة بناء صناعتنا العسكرية .. كانت كلها بجهود ومبادرات عبقرية من قِبَلِ مجموعات محلية وبدون كثير من مساعدة .. كنا نقوم بالتنظيم والتشجيع وقليل جدًّا من المساعدات )) . 

بين الحرية والتطرُّف :

   تحدَّث الصحفي عن الاتهامات الموجَّهة إلى حزب العمل الديمقراطي ( أي حزب عزت بيجوفيتش ) وكيف أن البريطانيين يدعون إلى تصفيته على أساس أنه حزب قومي متطرِّف شأنه في هذا شأن الحزبين الآخرين : حزب الصرب وحزب الكروات ... وكان رد (( عزت بيجوفيتش )) موجزًا بليغًا قال : (( لم يكن في حزب العمل الديمقراطي تطرُّف ولن يكون مادام ظَلَّ الإسلام حرًّا في البوسنة ... إما إذا لاحظت حالات فردية من التطرُّف فهذا أمر عادي يحدث في كل بلاد الدنيا )) . 

   قال الصحفي مُعَقِّبًا : (( إذن بماذا تُفَسِّرُ زيادة عدد الوهَّابيين ( السلفيين ) وأولئك الذين يؤيدون طالبان علنًا )) ! ؟ .. 

   (( عزت بيجوفيتش )) : فَهْمي للإسلام واضح ومعروف وهو مختلف عن فَهْم هؤلاء الناس ، فأنا لا أعتقد أن المرأة يجب عليها أن تُغَطي وجهها بل إنني أعارض هذا ... وقد زُرْتُ الحرم المكي فلم أشاهد امرأة تغطي وجهها إلا نادرًا ، فلماذا تغطي المرأة وجهها في سراييفو ؟ .. 

  ... إنني لا أعرف أن في البوسنة كثيرًا من الوهابيين .. وماداموا لا يستخدمون وسائل غير قانونية فهم أحرار في بلاد حرة )) . 

   ثم وجَّه الكلام إليه شخصيًّا قال : (( إذا كنت يا سيد ( بتشانين ) تقول وتكتب وتعار كما تشاء ، فلماذا لا يفعلون هم أيضا بنفس الحرية ؟

   هذه الآراء تصبح موضع اهتمام السلطات فقط عندما يبدأ أصحابها يفرضون آراءهم بالقوة واستخدام العنف )) . 

التحوُّل المذهل : 

    في لقطة واحدة قصيرة يُطْوَى تاريخ البوسنة في مائة عام حتى اللحظة الراهنة حيث وَقَعَ الانقلاب الأخير ... يقول (( عزت بيجوفيتش )) : ( خلال مائة عام تحت أنظمة أوروبية عانينا بسبب إسلامنا ، وكان التدمير المُنَظَّم موجَّهًا نحو هويتنا ، حتى لم يبقَ منها إلا بقايا وأطلال ، إلا أننا بعد نشوب هذه الحرب استعدنا هويتنا وعدنا إلى جذورنا الإسلامية الأولى ، لذلك لم يَعُد هناك سبب ولا يحقُّ لنا أن ننظر إلى المستقبل بيأس .. لعل العدوان الغاشم الذي وَقَعَ علينا كان عقوبة إلهية لتفريطنا في جَنْبِ الله .. ولكننا جاهدْنَا جهادًا كبيرًا لاستخلاص حريتنا وقد كَافَأنا اللهُ بالنصر .. إننا اليوم نُؤْمِنُ أنَّ الأمم القوية وحدها هي التي تُصاب بمحن كبيرة .. وهي وحدها التي تَعْتَصِمُ بمبادئ الأخلاق ، والإخلاص لهويتها ، وتظلُّ مع ذلك مفتوحة على العالم في أَحْلَكِ الظروف .. وهذا ما أتمناه لشعبي وللمسلمين في هذا العالم )) . 

الإسلام والحضارة الغربية :

   وفي حديثه عن العلاقة بين الإسلام والحضارة الغربية يقول : (( يواجه المسلمون اختيارًا صعبًا ينبغي عليهم أن يتجنبوا فيه اختيار أحد طرفين متعارضين : الرفض التام للحضارة الغربية أو اتباعها اتباعًا أعمى فكلاهما خَطَرٌ على نَفْسِ المستوى ، ذلك لأننا إذا لم نتعاون بإيجابية فإنَّ ضَعْفَنا سوف يمتدُّ إلى ما لا نهاية ، وإذا قَبِلْنا هذه الحضارة بلا تمييز بين ما فيها من خير وشر فسوف نخسر هويتنا .. نحن لا نستطيع أن ننعزل ونقطع أنفسنا عن العالم ، ويجب علينا أن نَهْتدي في هذا بقول نبينا الكريم : (( الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المؤمنِ أَنَّى وَجَدَها فهو أحقُّ بها )) . 

    كما يجب أن نعي حقيقتين ربما يغيبان عن أذهاننا : الحقيقة الأولى : هي أن هذه الحضارة هي نتاج مشاركة عالمية لعدد كبير من العلماء ينتمون إلى قوميات وأديان مختلفة ، والثانية : هي أن قوة الغرب ليست في اقتصاده وقوته العسكرية فحسب ، فهذا هو الجانب الخارجي منها ، ولكن القوة الحقيقية للغرب تَكْمُنُ في النقد الفكري . وهذا ما ينبغي أن نَفْهَمَه وأن نمارسه في حياتنا )) . 

   ويُحَذِّر (( عزت بيجوفيتش )) مما سَمَّاه بالتقليد الطفولي للمظهر الخارجي للحضارة الغربية ؛ لأن هذا المظهر يَحْمِلُ في طياته بطانة ثقافية غير مشهودة ، ولكنها ممزوجة بكراهية عميقة واحتقار شديد للإسلام والمسلمين موروث من زمن الحروب الصليبية .. وهذا ما يُفَسِّرُ لنا كيف أن أبناءنا عندما يَحْتَكُّون بهذه الحضارة وينبهرون بها يشعرون بعقدة النقص تجاهها ، ويَتَشَرَّبُون روحَ العداء للإسلام وقِيَمِه وتاريخه ومن ثَمَّ ينشا عندنا ذلك الصراع الأزلي بين دعاة الحداثة والتبعية للغرب وبين المحافظين المتصلبين على التقاليد .. وقد مَزَّقَ هذا الصراع كثيرًا من المجتمعات المسلمة وأدَّى إلى نتائج كارثية . 

فكرتان جديدتان في أوروبا :

    يلْفِتُ (( عزت بيجوفيتش )) أنظارنا إلى فكرتين كبيرتين تتردان في الثقافة الأوروبية المعاصرة ويدعونا إلى أن نَتَأمَّلَ فيهما بعناية شديدة ، تتعلَّق الفكرة الأولى بما يُسَمَّى ( المجتمع المفتوح ) كما تحدَّث عنه (( كارل بوير )) في كتاب له بهذا العنوان وجعل من أهم أركانه ك حرية الفرد وحرية الفكر والنمو الشخصي ، وحق الإنسان في نَقْدِ المؤسسات السياسية والتبادل الحر للأفكار ، يقول (( عزت بيجوفيتش )) : (( لست أجد في مبادئ الإسلام وقيمه ما يحول بين المسلمين وبين الاشتراك في تنمية المجتمع المفتوح بهذا المعنى ، على الأخص أن آراء (( بوبر )) تحثُّ على التسامح وعلى محاربة التوجهات البربرية في أوروبا والتي طالما وُجِّهَت ضد المسلمين في هذه القارة )) . 

   أما الفكرة الثانية فيُطلق عليها اسم ( النهضة الأوروبية الثانية ) كما يدعو إليها الفيلسوف الألماني ( وايتساكر ) Weizsacker وتختلف هذه الفكرة عن النهضة الأوروبية الأولى التي حَصَرَت مصادرها في الحضارتين الأوربيتين اليونانية والرومانية في أنها تتوجه إلى عوالم وثقافات خارج أوروبا ، هذا التحوُّل الجديد نحو الخارج يجعل للفكر الإسلامي موضعًا محتملاً في إطار الاهتمام الأوروبي ، ولذلك فنحن مدعوون للقيام بجهد إيجابي مخلص في تقديم الإسلام وتقريبه من الاهتمام والمزاج الأوربيين ، وفي هذا المجال يسوق (( عزت بيجوفيتش )) الآية القرآنية : 

   { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ المائدة : 48 ] . 

   ويُعَلِّق على هذه الآية بقوله : (( نحن لا نستطيع أن نستبق الخيرات إلا عندما نُقَوِي هويتنا ويزداد وَعْيُنا بها ... فالمسلمون الواعون وحدهم القادرون على الأخذ والعطاء ( والحوار ) دون أن يلقوا بقيمهم الإسلامية وراء ظهورهم )) . 

مسلم وأوربي :

   في لقاء صحفي مع مندوب صحيفة (( شتيرن ) الألمانية بتاريخ 5 نوفمبر 1994 سأله قائلا : (( السيد الرئيس أنت معروف كمسلم حريص على التقاليد الأوروبية والتسامح الأوروبي وأنك منفتح على العالم بأسره ، ولكن هناك تقارير صحفية تزعم أن هناك أَسْلَمةٌ جارية في البوسنة والهرسك فهل هذه مجرد شائعات )) ؟ .. 

  انظر إلى إجابة الرجل الذي يفهم العقلية الأوروبية وكيف يخاطبها لا بلغة الاعتذار والتبرير المهين وإنما بمنطق المواجهة الحكيمة قال : 

   (( سوف أكون شديد الصراحة وأقول لك : لا ليست هذه شائعات بل حقيقة – وتفسيرها أن العودة إلى الدين أصبحت ظاهرة عالمية في كلِّ مكان قَمَعَ فيه الشيوعيون الدين على مدى خمسين إلى سبعين سنة .. نعم هناك أسلمة في البوسنة – على حدِّ وَصْفِك – وهي صحوة إسلامية ، بقدر ما فيها صحوة أرثوذكسية وكاثوليكية ، ولكن الفرق هو أن عودة المسيحيين إلى دينهم لم تلفت انتباه أوروبا المسيحية وهو أمر أَفْهَمُه ولا ألومها عليه ، أما عودة المسلمين إلى دينهم فقد اعتبرته أمرًا مفزعًا .. أودُّ فقط أن أُصَحِّحَ لك في نقطة واحدة وهي أن تسامحي ليس مردُّه إلى أنني أوروبي ، وإنما مصدره الأصلي هو الإسلام ، فإذا كنت متسامحًا حقًّا فذلك لأنني أولاً وقَبْلَ كلِّ شيء مسلم ثم بعد ذلك لأنني أوروبي ... لقد لاحظت خلال حرب البوسنة أن أوروبا تسيطر عليها ضلالات وأوهام لا تستطيع التحرُّر منها رغم الحقائق الدامغة ، فقد دُمِّرَتْ في هذه الحرب مئات المساجد والكنائس ... كلها – بلا استثناء – دَمَّرها مسيحيون ، ولا توجد حالة واحدة لكنيسة دَمَّرَها البشناق ( المسلمون ) .. أسوق إليك حقيقة تاريخية أخرى : فقد حَكَمَ الأتراك العثمانيون البلقان خمسمائة سنة فلم يهدموا كنيسة ولم يُبِيدُوا شعبًا ، بل حافظوا على الأديرة الشهيرة في جبال فروشكا جورا ( قريبا من بلجراد ) لأن إسلامهم يأمرهم بهذا ، ولكن هذه الآثار الدينية التاريخية لم تصمد ثلاثة أعوام فقط تحت الحكم الأوروبي .. فقد دَمَّرَها الشيوعيون والفاشيون خلال الحرب العالمية الثانية ، وهؤلاء لم يكونوا نتاجًا آسيويًّا بل صناعة أوروبية ... وحتى هذه اللحظة لم تُظْهِرْ أوروبا حساسية ضد الفاشية المتصاعدة في البلقان ووقفت تتفرج على الخراب الذي أَحْدَثه الصرب في البوسنة ... إنني أَعْتزُّ بأوروبا وأَكِنُّ لها كلَّ تقدير ولكن أوروبا تُحَمِّلُ عن نفسها فكرة أعلى بكثير من حقيقتها ! )) . 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .. 

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة