فِي القِرَاءَةِ وَنَظَرِيَّةِ التَّلَقِّي
نظرية التلقي :
هذه النظرية صدى لتطورات اجتماعية وفكرية وأدبية في ألمانيا الغربية خلال الستينات المتأخرة.
وتهتم هذه النظرية بالقارئ وبما يثير القارئ في النص بغض النظر عن النص وشخصية المؤلف , بل تركز تركيزاً كلياً بكل ما يثير القارئ , والدور الذي يؤديه في إتمام النص وغيرها من الجوانب التي سأناقشها في النظرية.
العوامل المؤثرة في ظهور نظرية التلقي :
1- المدرسة الشكلانية:
كان للشكلانين بما قاموا به توسيع مفهوم الشكل الذي يندرج فيه الجمال والجذب أن اسهموا بخلق طريقة جديدة للتغير ترتبط ارتباط وثيق بنظرية التلقي. وكان لاهتمامهم أيضاً بالأداة الفنية وما تحدثه من تغريب للتصورات في العمل الأدبي , وبما يشير هذا التغريب إلى علاقة القارئ بالنص فكان له دور فعّال في النظرية .
كما كان للتطور الأدبي وتعاقب الأجيال من أجل إحلال المبتدعات المثيرة لدى المتلقي محل التقنيات القديمة دور في نظرية التلقي (1) .
2 - ظواهرية رومان انجاردن :
ركز على العلاقة القائمة بين النص والقارئ . وأكد على دور المتلقي في تحديد المعنى, كما أنه له دور في العمل الأدبي وذلك حين يعمل خياله في ملئ الفجوات و الفراغات في النص التي يكتمل العمل الأدبي (2). وكل ذلك له دور كبير في نظرية التلقي.
3 - مدرسة براغ البنيوية:
لم يفصل البنيويون وخاصة موكاروفسكي العمل الأدبي بما هو بنيه عن النسق التاريخي , ويرى أنه لابد من فهم العمل على أنه رسالة إلى جانب كونه موضوعاً جمالياً.وبهذا فهو يتوجه إلى متلقٍ هو نتاج للعلاقات الاجتماعية المتغيرة , وبهذا المتلقي لا بمنشئه يفهم المقصد الفني الكامن في العمل(3).
4 - هومنيوطيقا جادامر:
قام بتطوير مصطلحين كان لهما أهميتهما لدى نظرية التلقي هما(التاريخ العملي) و(أفق الفهم) فالتاريخ وثيقة تضم خبرات لا يمكن استبعادها إذا أردنا الفهم من أجل تغيير العمل . وركز على علاقة المتلقي بالعمل وأن التوجه الاجتماعي والنفسي يؤثر في المتلقي ومن ثم في وعيه التفسيري العمل(1).
5 - سوسيولوجيا الأدب:
التركيز على الآثار التي أحدثها المنشؤن في زمانهم ويعد زمانهم, في نفوس المتلقيين الذين يدركون قيمة الأعمال ويقرورنها.
ولهذا لم يعد المؤلف وعمله الأدبي يحتلان مكان الصدارة , بل انصرف الاهتمام إلى المتلقي والظروف الاجتماعية التي تم فيها التلقي(2).
(1) انظر : هولب ,روبرت, نظرية التلقي , ت : عز الدين إسماعيل ( جدة ،النادي الأدبي ،ط 1, 1994 ) 73 _84.
(2) انظر : نفسه ،8 84_98 . وقطوس ،بسام : دليل النظرية النقدية المعاصرة ( النقرة ، دار العربية, ط1 , 2004 ) 163 .
(3) انظر: هولب, روبرت, نظرية التلقي ,98_111 . أبو أحمد, حامد :الخطاب والقارئ , نظريات التلقي وتحليل الخطاب وما بعد الحداثة (الرياض , مؤسسة اليمامة , 1997) 64_68 .
(1) انظر: هولب,روبرت ,نظرية التلقي , 112_128 . و فضل ,صلاح: مناهج النقد المعاصر.(القاهرة, دار الأفاق العربية,1997) 143_144 .
(2) انظر: هولب,روبرت,نظرية التلقي 135_141 .
(3) البازعي, سعد: دليل الناقد الأدبي (مكتبة الملك فهد ,ط2003,1) 133.
(4) خدادة,سالم: النص وتجليات التلقي (الكويت, حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية,2000) 44_48.دراسة,محمود:التلقي والإبداع قراءات في النقد العربي القديم، 35 .
(5) سلدن ،رامان:النظرية الأدبية المعاصرة،ت جابر عصفور(القاهرة،دار قباء،ط1 ، 1998) 175
مصطلحات نظرية التلقي :
أفق التوقعات:
هي مجموعة التوقعات الأدبية والثقافية التي يتسلح بها القارئ عن وعي أو غير وعي في تناوله للنص وقراءته(3).
والتلقي لا يتوقف عند زمن بل يُخلق في كل زمن , ولكل زمن قرّاه وهذا التلقي يختلف من زمن لآخر حسب الظروف السياسية المحيطة .., ويختلف من قارئ لآخر حسب تكوينه النظري من حيث الميول والرغبات والقدرات وحسب خبرة المتلقي الاجتماعية والتاريخية والثقافية التي يحملها وكل هذا يشكل مخزوناً لدى القارئ يتم تلقي النص على أساسه , وتشكل لديه أفق توقع يعمل النص على إخراجه(4).
ويخبرنا أفق التوقع كيف كان العمل يقيم ويؤول عند ظهوره, وكيف إن هذا التأويل لا يعطي معنى نهائي للعمل , ولكنه قابل لأن يُبدّل معناه ويغيّر, أو يزداد توضيحه مع تتابع الأزمنة , ومع هذا فإننا لا نستطيع فهم العمل إلا بانصهار الأفاق بعضها مع بعض من الماضي إلى الحاضر(5).
وهذا يعني بأننا لا نستطيع فصل النص الذي نقرؤه عن تاريخ تلقيه والأفق الأدبي الذي ظهر فيه , وانتمى إليه أول مرة, فالنص وسيط بين أفقنا والأفق الذي مثله أو يمثله , وعن طريق مزج الأفاق بعضها مع بعض تنمو لدى متلقي النص الجديد قدرة على توقع بعض الدلالات والمعاني , ولكن هذا التوقع ليس بالضرورة نفس التوقع المخزون لدى المتلقي فقد يحدث له شيء من الدهشة والمخالفة لما قد توقعه أوقد يكون النص مطابقاً لما توقعه , فيحدث لأفقه تغيير أو تصحيح أو تعديل , أو يقتصر على إعادة إنتاجه(1).
وعلى هذا فأن أفق التوقع يتشكل من ثلاثة عوامل رئيسية هي:
1. التجربة المسبقة التي اكتسبها الجمهور عن الجنس الذي ينتمي إليه النص.
2. شكل الأعمال السابقة وموضوعاته التي يفترض معرفتها.
3. التعارض بين اللغة الشعرية واللغة العملية أي التعارض بين العالم التخيلي والواقع اليومي(2).
وتتم عملية بناء المعنى وإنتاجه داخل مفهوم أفق التوقعات ،حيث يتفاعل تاريخ الأدب والخبرة الجمالية بفعل الفهم عند المتلقي . والمعنى ليس موضوعاً ماديا ً يمكن تعريفه وحده والإحساس به فهو يقع في منتصف المسافة بين الوجود العاري من معايشة المادة وإحساسها وبين التفكير وملكته حيث يصبح الموضوع فكرة محددة ،فلا حقائق في النص وإنما هناك أنماط وهياكل تثير القارئ حتى يصنع حقائق . ومن سمات هذه الهياكل أنها أشكال فارغة يصب فيها القارئ مخزونه المعرفي(3).
ومن هنا فإن بناء المعنى يستند إلى ثلاثة أبعاد:
1. يتضمن النص في احتمالاته والذي يسمح بتأمل إنتاج المعنى .
2. استقصاء إجراءات النص في القراءة ،ليكشف عن الصور الذهنية المكونة عند محاولة بناء هدف جمالي متماسك وثابت(4).
3. البناء المخصوص للأدب وفق شروط تحقق وظيفة التواصلية ،وتحكم تفاعل القارئ به وإن هذه العلاقة التفاعلية ناتجة عن كون النص ينطوي على مرجعيات خاصة به ويسهم المتلقي في بناء هذه المرجعية عبر تمثله للمعنى وإن الفجوة وهي عدم التوافق بين النص والقارئ هي التي تحقق الاتصال في عملية القراءة(5) .
ويضاف إلى أفق التوقعات فكرة:
نقطة الرؤية المتحركة :
فالنص لا يمثل سوى افتتاحية للمعنى ،فالنص لايمكن انفتاحه كموضوع إلا في المرحلة النهائية للقراءة ،عندما نجد أنفسنا غارقين فيه ،والقارئ باعتباره نقطة من المنظور يتحرك خلال الموضوعات ،فهو يمثل نقطة رؤية متحركة داخل ما يجب عليه تأوله وهذا ما يحدد فهم الموضوعات الجمالية في النصوص(1) .
الفجوات :
يوجد في النص مجموعة من الفجوات أو الفراغات التي يتركها المؤلف للقارئ من أجل ملأها ،فكل جملة تمثل مقدمة للجملة التالية وتسلسل الجمل يحاصر بمجموعة من الفجوات غير المتوقعة ،والتي يقوم القارئ بملئها مستعيناً بمخيلته(2) . فيساهم القارئ في إتمام معنى العمل الأدبي ،وهذا الملء يتم ذاتياً حسب ما هو معطي في النص ،وهذا الوعي للقارئ متكون من الأنماط الجزئية وترابطها مع بعضها البعض ،فيساهم في إخراج النص في صيغة مكتملة ،وذلك لأن النص ناقص بما به من فجوات،وهذه الفجوات تنتظر مساعدة القارئ من أجل ملأها ،أما ,إذا كانت قدرة القارئ غير متوفرة من أجل ملئ هذه الفجوات فإن النص ينتظر قارئ قادر على تأويله أي إنه يتوقع قارئه ذلك لأن هذه الفجوات هي التي تحقق عملية الاتصال بين النص والقارئ(3).
المسافة الجمالية:
هي الفرق بين كتابة المؤلف وأفق توقع القارئ ،بمعنى أنها المسافة الفاصلة بين التوقع الموجود لدى القارئ والعمل الجديد (4).
ويمكن الحصول عليها من استقراء ردود أفعال القراء على الأثر ،أي من الأحكام النقدية التي يطلقونها عليه ،والآثار الأدبية الجيدة هي تلك التي تمني انتظار الجمهور بالخيبة ،إذ الآثار الأخرى التي ترضي آفاق انتظارها وتلبي رغبات قرائها المعاصرين هي أثار عادية جداً لأنها نماذج تعود عليها القراء(5).
وعلى هذا يمكن تمييز ثلاثة أفعال لدى القارئ :
1. الاستجابة :ويترتب عليها الرضى والارتياح لأن العمل الأدبي يستجيب لأفق توقع القارئ وينسجم مع معاييره الجمالية.
2. التغييب :ويترتب عنه الاصطدام لأن العمل الأدبي قد خيب أفق توقع القارئ فيخرج من المألوف إلى الجديد.
3. التغيير :أي تغيير الأفق المتوقع(6).
المتعة الجمالية:
وتعتمد على :
· فعل الإبداع :أي المتعة الناجمة عن استخدام المرء لقدرته الإبداعية الخاصة.
· الحس الجمالي :وتشير إلى اعتماد الإبداع على التلقي .
· التطهير:وهي الخبرة الجمالية الاتصالية التي تنتج لذة العواطف المثارة بواسطة البلاغة أو الشعر ،وهما القادران على تعديل اقتناعات المتلقي وحركته(1).
القارئ الضمني :
أصحاب هذه النظرية لا يشرحون النص وإنما يشرحون الآثار التي يخلقها النص في القارئ ،والمتلقي طرف ملازم للنص يتبادل معه علاقة التأثير والتأثر,فالتفاعل قائم بين النص والمتلقي ،والمتلقي هو الذي تقوم عليه نظرية الوقع الجمالي التي لايمكن أن تتحقق خارج فعل القراءة أي خارج التلقي (2).
وأية نظرية تختص بالنصوص الأدبية فإنها لا تتخلى عن القارئ .فهو نظام مرجعي للنص.وهذا القارئ عند أصحاب هذه النظرية هو القارئ الضمني وهذا القارئ ليس له وجود حقيقي ولكنه يجسد التوجيهات الداخلية للنص ،فالقارئ الضمني ليس معروفاً في اختبار ما،بل هو مسجل في النص بذاته ,ولا يصبح للنص حقيقة إلا إذا قرأ في شروط وقام القارئ باستخلاص ما في النص من معاني وصور ذهنية فكأنه يعيد بناء المعنى من جديد(3).
والقارئ له دور في فهم الأدب ،بعد أن يتخلص من الدلالات المثالية الصرفة أو الواقعية الصرفة ،فهو يسعى إلى الإمساك بالتصورات العامة التي تجعل من الملفوظ ما يحقق استجابات مستمرة لتجربته ويضعه في دائرة التواصل ،فالقارئ الضمني ليس شخصاً خيالياً مدرج داخل النص ,ولكنه دور مكتوب في كل نص ويستطيع كل قارئ أن يتحمله بصورة انتقائية وجزئية وشرطية ،وهذه الشرطية ذات أهمية قصوى لتلقي العمل ،لذلك فإن دور القارئ الضمني يجب أن يكون نقطة الارتكاز لبنيان استدعاء الاستجابة للنص(4).
(1) خليل,إبراهيم: النقد الأدبي الحديث(عمّان,دار المسيرة,ط2003,1) 133 العمري,محمد: في نظرية الأدب مقالات ودراسات( الرياض ,مؤسسة اليمامة ,1997) 201.
(2) صالح،بشرى:نظرية التلقي أصول وتطبيقات(الدار البيضاء،المركز الثقافي العربي،ط1، 2001)46.
(3) البازعي ،سعد :دليل الناقد الأدبي ،131.
(4) قطوس ،بسام :دليل النظرية النقدية ،168. وخضر ،ناظم:الأصول المعرفية لنظرية التلقي (عمّان ،دار الشروق،ط1، 1998)152.
(5) هولب ،روبرت :نظرية الاستقبال ،ت:رعد عبد الجليل(اللاذقية ،دار الحوار ،ط1، 1992)103.
(1)فضل ، صلاح : مناهج النقد المعاصر،150.
(2)أبو أحمد ، حامد: الخطاب والقارئ،131.
(3)بو حسن ، أحمد: من قضايا التلقي والتأويل (الرباط ،كلية الآداب والعلوم الإنسانية ،جامعة محمد الخامس ، 1995)108.
(4)صالح ، بشرى : نظرية التلقي ،46.
(5)الواد ، حسين : في مناهج الدراسات الأدبية (الدار البيضاء، منشورات الجامعة،ط2، 1985)77.
(6)بو حسن،أحمد: من قضايا التلقي والتأويل ,104.
(1)أبو أحمد،حامد: الخطاب والقارئ،102.
(2)بو حسن ،أحمد: من قضايا التلقي والتأويل،105.
(3)سلدن ،رامان :النظرية الأدبية المعاصرة ،ت: سعيد الغانمي (عمّان،دار الشروق ,ط1, 1997)63 1.
(4)نفسه،164.
نظرية التلقي ونظرية نقد استجابة القارئ:
تعتمد كل من نظرية التلقي الألمانية ونظرية نقد استجابة القارئ الأمريكية في الأساس الأول على دور القارئ وأهميته في فهم ,ولكن هناك جوانب اتفاق بين النظريتين وجوانب اختلاف ،وجوانب الاتفاق أكثر من الاختلاف .
بعض جوانب الاتفاق:
1. تهتم كلا النظريتين بأنواع القراء الذين تتضمنهم النصوص ،والدور الذي يلعبه القراء الفعليين في تحديد المعنى الأدبي ،وعلاقة مواضعات القراء بتأمل النصوص ومكانة ذات القارئ .(1)
2. القارئ الصوري لدى نظرية نقد استجابة القارئ وهو القارئ الغير حقيقي ،وهو لا يختلف عن القارئ الضمني لدى نظرية التلقي(2).
3. القارئ المثالي لاستجابة القارئ يطابق القارئ الضمني لنظرية التلقي(3).
4. أفق التوقعات وهي مجموعة التوقعات الأدبية والثقافية والتي يتسلح بها القارئ عن وعي وغير وعي لا تختلف عن مقولة الكفاءة /القدرة المكتسبة لدى نظرية نقد استجابة القارئ(4).
5. تركز نظرية نقد استجابة القارئ على متتالية القرارات والتنقيحات والتوقعات وعمليات النقص والاستعدادات التي ينجزها القارئ عندما يفاوض النص,نجد هذا عند نظرية التلقي حين نجدهم يهتمون بالتعديلات التي يجريها القراء على التوقعات وهم يمرون بالنصوص،ويهتمون بتوالي الكلمات التي تخلق أثراً لدى القارئ حين يُعلّق بين معنيين(5).
6. المعنى هو ذهن القارئ وتجربته في أثناء القراءة متأثراً بذلك بلغة النص ،ولكن المعنى لا يوجد مستقلاً دون علاقة القارئ به ،لذلك فهو الذي يحدد المعنى،وهذا هو المعنى لدى النظريتين(6).
7. تتفقان أيضاً في أن القارئ عندهما هو الذي يحدد بنفسه ما هو المعنى وذلك بتعبيرات تجريبية(7).
الموضوعة الهوية(الذات)عند نقد استجابة القارئ هي البنية العميقة للشخصية،وتتجلى في كل فكرة وفعل أو إدراك ،وهي تتفاعل وتستجيب لكل تجربة واقعية كانت أم أدبية ،وهي تعيد بناء نفسها وتأكيدها كما هي الحال في التكوينات الجشتالية عند نظرية التلقي(8).
(1)انظر :تومبكنز،جين:نقد استجابة القارئ ،ت:حسن ناظم وعلي حاكم ،مراجعة :محمد الموسوي(القاهرة ،المجاس الأعلى للثقافة ، 1999)17.
(2)انظر :نفسه :19.
(3)السيد إبراهيم:نظرية القارئ (القاهرة ،مكتبة زهراء الشرق)25.
(4)انظر :البازعي ،سعد: دليل الناقد الأدبي ,131.
(5)انظر :سلدن،رامان:النظرية الأدبية المعاصرة،ت:سعيد الغانمي،171.
(6)انظر:تومبكنز:نقد استجابة القارئ،22.
(7)انظر : سلدن ،رامان:النظرية الأدبية المعاصرة،ت:سعيد الغانمي،171.
(8)انظر : تومبكنز،جين:نقد استجابة القارئ،218 . البازعي ،سعد: دليل الناقد الأدبي ,137.
بعض جوانب الاختلاف:
1. في نظرية نقد استجابة القارئ لاينشغل القارئ بملء الفجوات التي يتركها النص أويضع استنتاجات من تلميحات النص على العكس في نظرية التلقي(1)
2. القدرة الأدبية المكتسبة من الثقافة والخبرات السابقة هي التي تساهم في صنع المعنى ،والكشف عن النظام الضمني في النص ،غير أن أصحاب نظرية التلقي يرون المعنى إنما هو حصيلة استجابة القارئ لإلماعات المؤلف(2).
3. نظرية التلقي تجد الصلة بين النص والقارئ حاصلة في العرف ،ولما كانت الأعراف والقواعد لا تخص شخصاً معيناً أو مجالاً محدداً فإنها لا تستقر كلية في النص ولا كلية في القارئ بل عن تفاعل بينهما ،في الصلة بين النص والقارئ في نظرية نقد استجابة القارئ تكون في الكفاءة وقدرة القارئ(3).
المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب من خلال كتاب (د.حسين الواد):
من منظور أفق التوقعات (الانتظار):
لقد أفصح الواد في مقدمة كتابة( المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب)بأن من الأمور التي سيتناولها في جمالية التقبل(أفق الانتظار )وهي أن القارئ يتزود بصنوف من المعارف يتكيف معها فهمه وتكوّن لديه (أفق انتظار )معين لنوع معين من الآثار الأدبية يترجاها،بمعنى استعداد الجمهور ثقافياً لتلقي آثار الأدب ،وهذا الاستعداد مشترك بين الأديب المبدع والجمهور المتلقي للإبداع . لذا فإن من الكتاب من يسعى إلى التجاوب مع أفق الانتظار فيبدع أثاراً تقابل بالاستحسان وتستهلك سريعاً ،ومنهم من يخرج على الانتظار والتوقع فيحدث إذا ما صادفه النجاح تحولاً تاريخياً في الإبداع وفي التذوق .ومن شأن مدارس النقد واتجاهاته أن تسعى إلى إرساء أفق الانتظار على ثوابت في التأليف والقراءة ومن شأن الآثار الأدبية بما فيها من تفرد وخصوصيات أن تحدث في تلك الثوابت شروخاً وأن تعمل على تحويلها . ومن هذا الاعتراك على أفق الانتظار ،بين المؤسسات الثقافية وحركة الإبداع يتكون جانب هام من تاريخ الأدب(1).
وسيقف الواد من خلال هذا المنظور على أبيات يسميها بالأبيات المتوقعة والأبيات المفاجئة في شعر المتنبي ،وسنحاول من خلال محاورتنا لما سيأتي من أمثلة في كتابه التحقق من قوله بتطبيق نظرية التلقي من خلال أفق التوقعات أم لا.
الأبيات المتوقعة :
يقول الواد بأنها الأبيات التي يساويها غيرها من جيد الشعر ومتوسطه لورودها في غاية الانسجام مع( ما تتقاضاه مذاهب العرب بصناعة الشعر والشعراء قديمهم وحديثهم ) (2) ولأن هذه الأبيات لا تتميز عن معظم اشعر العربي بميزات تجعلها في علاقة متوترة معه ,لذا فقد اتسم وقوف القدماء معها بكثير من الاعتدال,ولم يطيلوا اللبث عندها ,وكان كلام القدماء شديد التماثل والتجانس والانسجام معها (3).كقول المتنبي في عضد الدولة :
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أنْ يحلّ به سواكا.
يقول الواحدي : (يقول أروح عنك وقد سددت عليّ طريق محبة غيرك بأن جعلت حبك ختماً على قلبي لا ينزل فيه غيرك)(4).
وقال العكبري عندما تناول هذا البيت يقول أروح عنك وقد ختمت على قلبي بحبك، واستخلصته بما ترادف عليّ من برّك،فلم يدع حبك فيه لغيرك مكاناً ينزله،ولاأفضلت عنه لسواك نصيباً يتناوله.وقد نقله من قول ابن المعتز:
لا أشرك الناس في محبته قلبي عن العالمين قد ختما(5)
ثم يعلق الواد على هذا بأن القدماء قد حولوا صيغة الانتظام إلى الانتثار دون أن يلتفتوا إلى التجويد العبارة أو تحسينها ،وذلك لأن هذه الأبيات خالية من التعقيد والأغراب .وقد تعامل مع هذه الأبيات هذا التعامل ،لأنها منسجمة مع التراث الشعري خاضعة لتقاليد الإبداع عند العرب ,ولمل كانت هذه التقاليد شائعة في كتب الأدب والنقد توقع السامع من الشاعر كلاماً معيناً واستجاب الشاعر لتوقع السامع فأرضى توقعه وانتظاره وذلك لأن معظم الشعر العربي القديم لم يكن دالاً بخصائصه الذاتية أو بعلاقة الفرد فيه بنظام اللغة ,بقدر ما كان دالاً باحتذاء النماذج التعبيرية وطرائق الصنعة وقوانين الصياغة ولوازمها .فقد كان الشاعر القديم مقيد بطرائق نموذجية في التعبير والأداء يعرفها السامع وينتظرها منه لكثرة ما ألفها في أعمال السابقين الأوائل ،وتقاس مهارته بمقدار إفلاحه في النسج على منوال تلك النماذج المشهورة(1).
(1) انظر : تومبكنز،جين:نقد استجابة القارئ،28.
(2)نفسه: 29.
(3) انظر :البازعي ،سعد: دليل الناقد الأدبي ,134.
(1) انظر: الواد حسين : المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب,18ـ19.
(2)ابن جني:الفتح الوهبي على مشكلات المتنبي ،تحقيق :محسن غياض(بغداد ،مطبعة الجمهورية العراقية ،1973)24.
(3)انظر : الواد حسين : المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب,85ـ86.
(4)الواحدي :شرح ديوان أبي الطيب المتنبي ،تحقيق :فريد رخ ديترصي(القاهرة,دار الكتب)801.
(5)العكبري:التبيان في شرح ديوان أبي الطيب المتنبي ،ضبطه وصححه مصطفى السقا وإبراهيم الأنبا ري وعبد الحفيظ شلبي (بيروت,دار المعرفة )2/387.
(1) انظر : الواد حسين : المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب,87ـ91.
الأبيات المفاجئة :
لم يخل الشعر القديم من الخروج عن الصيغ النموذجية القديمة ,فظهرت اندفا عات من الشعراء خرجت عن المألوف ،فاجأت المتلقين بذلك الخروج .وكان لأبي الطيب حظه من الأبيات التي فاجأ بها السامعين وأرقهم وأثار بينهم جدالاً طويلاً (2) .
وقد اعتنى القدماء بهذه الأبيات اعتناء كبيراً وعملوا على استخراجها من ديوان أبي الطيب،وأن كان بعضها رديئاً ،من ذلك قول المتنبي :
فأكبروا فعله وأصغرهُ أكبر من فعله الذي فعله
تم الكلام على (وأصغره)أي استكبروه منه واستصغره هو ،ثم قال مبتدئاً:أكبر من فعله الذي فعله .أي فاعل الفعل فكأنه قال :هو أكبر من فعله(3).
وقوله: حسن في عُيون أعدائه أقبح من ضيفه رأته السوامُ.
فالذي يسبق إلى النفس من هذا أنه حسن في عيون أعدائه ،وأنه أقبح من ضيفه إذا رأته السوام .وليس الأمر كذلك،بل هو بضده وإنما معناه :حسن أي هو ختم الكلام .ثم كأنه قال :هو أقبح في عيون أعدائه من ضيف وقت رؤية السوام له ،وهو مال الراعي لأنه ينحره للأضياف وكذلك وتهلك الأعداء وتبترهم(4).
ثم يعلق الواد على ذلك فيقول أن المتنبي أجرى العربية ألفاظها وتراكيبها على نحو ينزع إلى التقادم والاغراب ،فاستدل أنصاره بذلك على فضله وتقدمه.أما خصومه فقد استدلوا بذلك على جنوح أبي الطيب إلى التعسف وعلى فساد ذوقه وأغرامه بالتفاصح . فقد أجرى أبو الطيب بعض المعاني والتشبيهات على غير ما ألفه الناس قبله (5). والغريب في هذه الأبيات أنها رغم اعتياص مبانيها وانغلاق دلالاتها .ظلت تشد إليها القراء شداً محكماً لم يخفف من شدة وقعه مضي الزمن أو كثرة الاجتهادات النازعة إلى إخضاعها للفهم(1) .
ومن خلال عرضنا لما سبق ,فإننا نرى بأن الواد قد عرض الأبيات التي سماها بالمتوقعة والمفاجئة من خلال رأي النقاد القدماء لها وهل هي موافقة لما ألفه النقاد من التقاليد الشعرية المعروفة والنماذج القديمة أم لا , لكنه لم يمزج هذه الآراء بعضها مع بعض ليخلص منها إلى رأى ،بل أنه يرى أن كل شخص نقل عن الآخر ،وذلك لأنه جعل قوانين النقل هي فك المنظوم إلى المنثور ، ولم يخبرنا أن هذه الأبيات صدمت توقعنا فوافقته أو خالفته من حيث المعنى الذي طرقته والغرابة في الصور والمعاني التي جاءت فيها . ولكنه أوضح أتباع الشاعر للصيغ النموذجية القديمة أم عدم أتباعه , وأوضح تلقي ـ على حد تعبيره ـ فئة معينة من الناس وهم النقاد فقط ,ولم يفصح عن مواضع الغرابة التي تفاجأ المتلقي ،والمواضع التي توافق توقعه ،كما جاءت في النظرية.
قصيدة المتنبي( واحرّ قلباه):
لقد ضمن المتنبي أبياته كل براعة شعرية ،حتى أننا نلمس فيها العاطفة الصادقة التي تهيجنا ،وذلك ناتج من دقة اختياره لألفاظه وإيقاعاتها ونحن في هذه القصيدة يطالعنا المتنبي بأسلوب جديد في العتاب ،حين نرى عتاب شديد فكأنه هجاء وخاصة في استخدامه لقافيته الميمية التي توحي بذلك. ويزداد اعتداداً بنفسه في هذه الأبيات، فجاءت أبيات القصيدة تشتمل على الأغراض التالية:
(1ـ 14) شكوى وعتاب ،ومدح لسيف الدولة.
(15ـ24) فخر بنفسه وأدبه.
الخلاصة:
* أهمية دور القارئ في النص ،ودوره في إكمال العمل الأدبي الذي يتطلب قارئ يستجيب له ويقرأه، ويساهم في ملء فراغات النص التي يتركها المؤلف لمن يتلقى عمله،ويستجيب لنداءات النص وما يتطلبه من معاني يحاول القارئ إيضاحها ومحاورتها.
* نظرية التلقي على الرغم من أنها تنادي إلى إظهار دور القارئ في العملية الإبداعية وتهتم به وبكل العوامل المؤثرة فيه،إلا أنها لا تستطيع أن تلغي تأثر القارئ بالآخر وتأثره أيضاً بالظروف المحيطة بالمؤلف،ومؤثرات النص وما يحمله من ألفاظ موحية واختيارات لغوية توحي بإيحاءات مختلفة.
* وعلى الرغم من دور القارئ الفعال في النص الأدبي ،إلا أن العملية الإبداعية تتكون من كاتب ونص وقارئ وبتفاعلهم معاً دون فصل عنصر عن الآخر .
* توصلت أيضاً أن نظرية التلقي تلتقي كثيراً مع نظرية نقد استجابة القارئ،فكلا النظريتين تهتم بالقارئ ودوره في العمل الأدبي ،والمصطلحات التي تستعملها النظريتين وإن اختلفت في المسمى إلا أنها تدل على نفس المفهوم ،فالقارئ الصوري والمثالي هو نفسه القارئ الضمني ، والكفاءة/القدرة هي نفسها أفق التوقعات وغيرها من الأمور التي اتضحت في مبحث نظرية التلقي ونظرية نقد استجابة القارئ .
* توصلت أيضاً من خلال مناقشتي لتطبيق الواد للتلقي على الأبيات المتوقعة والمفاجئة ـ كما يسميهاـ من شعر المتنبي،إلى أن تطبيقه كان يشير إلى تلقي القدماء حسب اتباع الشاعر للتقاليد الشعرية والنماذج القديمة،فأن وافقها لم يفاجئنا وأن خالفها فاجئنا ،دون أن يشير إلى أغراب المعنى والصور مثلاً أو لا كما هو واضح من نظرية التلقي.
* شعر المتنبي قد لاقى تلقياً كبيراً ومتبايناً ومستمراً من عصره وإلى وقتنا هذا ،لذا فهو صالح جداً لتطبيق النظرية ،وقصيدة (واحرّ قلباه)من القصائد التي لاقت تلقياً مختلفاً من ساعة النطق بها وإلى وقتنا،وذلك راجع إلى الظروف التي قيلت فيها فقبلت بالرفض ،في حين نقف الآن معجبين لهذا الإبداع.
(25ـ38) توديع وعتاب.
وإن كان هذا التقسيم منهجي ،فالأبيات وحدة تتداخل المعاني مع بعضها...
* يبدأ المتنبي قصيدته بمطلع وجداني ،فيه نداء توجع لعظمة حاله وما أصابه (واحرّ قلباه ) وفيها شكوى لسوء المعاملة التي يلقاها من سيف الدولة فحبه عميق لدرجة أنه قد أسقم حاله ،ومع ذلك يعامله سيف الدولة بالبرودة فإلى متى يكتم المتنبي هذا الحب الصادق في صدره،بينما يتظاهر الآخرون بحبهم لسيف الدولة ،ويدعونه في كل مناسبة مع أنهم في هذا الحب كاذبون منافقون ،وإذا صح أن حب سيف الدولة هو الجامع المشترك بين المتنبي وهؤلاء الحساد ،فليت كل واحد ينال من مودة سيف الدولة وعطاياه بقدر ما يحبه.
* ثم ينتقل إلى مدح سيف الدولة بالشجاعة وحسن أخلاقه ،وأن انقلبت عليه الأحوال...الخ.
* ثم ينتقل إلى العتاب مخاطباً سيف الدولة بقوله :إنك لست عادلاً في معاملتي ،أنت موضوع الخصام بيني وبين الحساد،وأنت الحكم في هذا الخصام ،وإذا كان الخصم هو الحاكم فكيف يعدل في حكمه ,واعلم أن الفرق بيني وبين الآخرين هو كالفرق بين الشحم والورم .ولا أظن أن هذا ملتبس عليك .وإلا فما نفع النظر للإنسان إذا تساوى عنده النور والظلمة ؟!
* يفاجئنا المتنبي حيث يجعل العتاب والمدح لسيف الدولة إلى فخر بنفسه مرتفعاً إلى مصاف الأنبياء المصطفين ،ممتدحاً شاعريته الفذة التي تجترح العجائب فتعيد البصر للأعمى والسمع للأصم،في حين يسهر الشعراء طوال الليالي بحثاً عن القوافي الصعبة ،لكنه تأتيه القوافي عفو الخاطر ،بيسر وطواعية ،كما إنه يمتدح شجاعته وفروسيته،فلكم نازل خصومه وانتصر عليهم ،فقد جال وصال في ميادين القتال على ظهر جواده السريع ،يضرب بسيفه البتار رؤوس الأعداء وأن انقضوا عليه كالأمواج إلا أنهم يتساقطون صرعى ،وهو لا يخاف الوحوش الضارية ولا الظلام ،فهو كالأسد الذي يكشّر عن أنيابه ويفتك بأعدائه . ولشدة إعجابه بنفسه يصرّح بأن (الخيل والليل والصحراء والرماح والكتب )كلها تعرفه لخوضه المعارك وفصاحته وقوة شعره. فلم يترك شيئاً من الفخر إلا نسبه لنفسه،فماذا أبقى للخليفة،إذا وصف نفسه بكل هذه الصفات ؟ألا يحق لسيف الدولة بعد هذا الفخر أن يزداد حنقاً على المتنبي بدل أن يسامحه.
* ويلتفت المتنبي لسيف الدولة قائلاً :كم تبحثون عن عيب تلصقونه بي فتعجزون ذلك لأن العيب والنقصان بعيدان عن شرفي بعد الشيب والهرم عن النجوم .
* ثم يودع سيف الدولة منذراً أياه بأنه سيندم على تركه أليه ،فشر البلاد التي لا يوجد فيها صديق يدافع عنك ويعينك على نوائبها .
* ثم يختم أبياته بأنه لم يعاتبه إلا لحبه له ،فهو عتاب المخلص الوفي الذي لا يشتمل كلامه إلا على درر المعاني والألفاظ.
(2)انظر:نفسه:97.
(3)انظر:نفسه:99.
(4)انظر :نفسه:99.
(5)نفسه:99.
(1)نفسه:155.
شبكة ضقاف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق