السبت، 29 أغسطس 2015

سيرة حياة بنت الوطن السيدة خديجة الجهمي - إنتصار بوراوي ...


سيرة حياة بنت الوطن السيدة خديجة الجهمي

إنتصار بوراوي



  شهد عام 2006 صدور كتابين عن الرائدة الإذاعية والصحافية خديجة الجهمي، وذلك لأنه صادف ذكرى مرور عشر سنوات على رحيلها. الكتاب الأول بعنوان (خديجة الجهمي نصف قرن من الابداع)، من إعداد الأستاذة حميدة بن عامر، التي سبق وأصدرت كتاب عن رائدة تعليم الفتيات في بنغازي السيدة حميدة العنيزي. أما الكتاب الثاني فهو من إعداد الأستاذة الباحثة أسماء الأسطى، وهو بعنوان (أنا خديجة الجهمي).
 
  كتاب الأستاذة حميدة بن عامر عبارة عن لقاءات صحافية وحوارات مع مجايليها من الإعلاميين والإعلاميات، وتلميذاتها من الإذاعيات والصحافيات، رفقة سرد بسيط لسيرتها المهنية، فيما كان كتاب الباحثة أسماء مصطفي الأسطى سرد لحياة السيدة خديجة الجهمي الشخصية والمهنية، بالحوار المباشر والمسجل معها شخصياً. 

   تورد الباحثة في مقدمتها للكتاب سبب اختيارها لسرد السيرة الذاتية لرائدة حقوق المرأة في ليبيا، ورائدة الإعلاميات والصحافيات الليبيات بنت الوطن خديجة الجهمي ، كما تقول في مقدمة كتابها: عندما صدر كتاب (ورقات مطوية) لعمي محمد الأسطى متضمنا السيرة الذاتية التي سبق نشرها في صحيفة الأسبوع الثقافي عام 1976 أهديتها نسخة منه وكتبت لها في الصفحة الأولى أن تحذو حذوه وتكتب سيرتها الذاتية. 

   بعد ذلك انشغلت الباحثة كما تقول في مقدمة الكتاب بالتزاماتها الأسرية والأمومية إلى أن هاتفتها السيدة خديجة الجهمي واتفقتا على أن تتحدث السيدة خديجة الجهمي على سجيتها وتقوم الباحثة بتسجيل سيرتها على أشرطة تسجيل، تقوم بعد ذلك الباحثة بتفريغها، والذي أثمر عن صدور الجزء الأول من هذه السيرة الذاتية، ولكن الباحثة اسماء الأسطى لم تكتف بما أجرته من تسجيل حي وسردي للسيرة الذاتية للسيدة خديجة الجهمي شخصيا وإنما اعتمدت كما تقول في كتابها على ما تركته السيدة من رسائل عند عزيزة الشيباني، التي استلمتها منها الباحثة بعد وفاة السيدة خديجة الجهمي. 

   ومن المعروف أن السيدة عزيزة الشيباني كانت قد أصدرت كتابا عن السيدة خديجة الجهمي بعنوان (بنت الوطن) نشرت فيه بعض من سيرتها الذاتية وبعض من كتاباتها وخواطرها. 

   وتذكر الباحثة أسماء الأسطى بأن كل مقتنيات السيدة خديجة الجهمي لازالت موجودة في مخازن ذويها، وأنها تستحق أن ينِشأ متحف خاص بها باعتبارها أول من دافع عن حقوق المرأة وأول إذاعية وصحافية وأول مؤسسة لمجلة مختصة بالمرأة. 

   تورد الباحثة في الصفحات الأولى من كتابها كلمة الأستاذ منير البعباع الذي أبدى تحسره على تجاهل تاريخ خديجة الجهمي النضالي الطويل وما عانته من من شقاء في طفولتها وشبابها، وكفاحها في وقت الحرب والصعوبة الاجتماعية التي واجهتها في حياتها، وأنها تستحق أن تكون من ضمن الأسماء التي يشاد بها ليس على المستوى المحلي بل على المستوى العربي والعالمي. 

* السيرة الذاتية للسيدة خديجة الجهمي كما روتها شخصياً :

  تذكر مؤلفة كتاب (الذاكرة والفلسفة) في فصل من فصول كتابها يتحدث عن السيرة الشخصية، كلمات لكاتبة السيرة ستورم جيمس في سيرتها الذاتية المعنونة بـ (رحلة إلى الشمال) تقول فيها: حين يعيش الرجل او المرأة حياة غير اعتيادية او يلعب دورا في مشروع عظيم ما فإنه لا يحتاج إلى تقديم أسباب أخرى تدعوه إلى تسجيل ما مربه، ولأن السيدة خديجة الجهمي امتلكت مشروعا كبيراً نذرت له كل حياتها فإن تجميع بعض الباحثات لسيرتها الذاتية هو عمل تستحقه هذه المرأة العظيمة، وما قامت به السيدة عزيزة الشيباني والأستاذة أمينة بن عامر هو مجهود كبير من أجل إضاءة كثير من الجوانب الشخصية والمهنية لها. 

ولكن كتاب (أنا خديجة) للباحثة أسماء الأسطى هو كتاب مختلف عن الكتابين السابقين لأنه سيرة السيدة خديجة الجهمي بروايتها وبكلماتها، لذا جاء الكتاب دافقاً حيوياً ممتعاً في قراءته بحيث تستحضر روح السيدة خديجة الجهمي بصفحات الكتاب وكأنها تتحدث بجانبك حين تسرد بلهجة بنغازية بسيطة كل صفحات حياتها الشخصية والمهنية بصدق وعفوية وبساطة بنت البلاد الأصيلة التي كونت اسما كبيراً لها بجهدها وكفاحها وتعبها وفتحت الطريق أمام أجيال كثيرة بعدها للتعلم ومعرفة الحقوق التي أعطاها لها الله، وكان العرف المجتمعي يحرمه منها. وأيضا لروحها الإنسانية الخيرة التي ظهرت من خلال اهتمامها بمشاكل وقضايا الناس عبر برنامجها الإذاعي الأول والرائد في البرامج الإذاعية الاجتماعية والذي كان بعنوان (أضواء على المجتمع). 

   تبدأ السيدة خديجة الجهمي سيرتها في كتاب (أنا خديجة الجهمي) بذكر سنة ميلادها الذي كان في مدينة بنغازي، فجر يوم الجمعة 7 رجب الموافق 15/3/1921 ثم تتحدث عن والدها بالقول: أبي رجل متعلم بالنسبة لجيله، فهو يقرأ ويكتب باللغتين العربية والإيطالية، رغم أنه لم يدخل مدرسة قط، وكان يعمل في مطبعة يصفف الحروف ويطبع الجريدة التي كانت الإدارة الإيطالية تصدرها أنذاك وهى جريدة (بريد برقة). ثم تسترسل السيدة خديجة في الحديث عن والدها بحنان ومحبة حين تقول عنه في مقطع تالي من الكتاب: كان والدي شاعراً رقيقاً وسيماً أبياً، ذا شخصية قوية، عطوفاً كريماً وقد أحبني كثيراً.

   وتسرد السيدة خديجة تفاصيل العائلة الخاصة وطريقة زواج والدها من أمها وطفولتها في بيت الجد الذي عاش والداها فيه لمدة طويلة، ثم تصف بسلاسة وجمال بيت العائلة الذي تقول عنه: يقع بيتنا في شارع الكيش، وهو زقاق صغير يتكون من بيوت متشابهة محصورة بينه وبين زنقة البعباع.

   بيتنا ككل البيوت، له نفس الهندسة التقليدية التي تبدأ بممر طويل يتوقف عند سقيفة تفتح على ساحة في وسط البيت، وفي كل ضلع من أضلاعها المربعة دارين أرضيته مرصوفة بالإسمنت. 

وتسرد السيدة خديجة الجهمي بعفوية ملامح البيت من الداخل وتصف تفاصيله عبر منمنات دقيقة احتفظت بها ذاكرتها طازجة حية وكأنها ابنة اللحظة وكأنها لازالت تلك البنت الصغيرة التي تتجول في ربوع ذلك البيت وتغني لحصالتها باللغة الايطالية الأغنية التي علمتها لها مدرسة اللغة الايطالية.

    وتتحدث عن بنغازي بحنان غامر وحب دافق حين تسترجعها ذاكرتها: كانت مدينة صغيرة جدا، ولم يكن بها سوى شارع رئيسي واحد يصل وسط المدينة بالبركة إحدى ضواحيها، رغم أن المسافة بينهما لا تزيد عن كيلومتر ونصف إلا إننا كنا نعتبرها سفرا كلما اضطررنا لقطعها، أما عدد سكانها أنذاك فلا يزيد عن عدد سكان حي في ضواحي مدينة كبيرة، إلا أنها كانت بالنسبة لي مدينة كبيرة جدا قضيت فيها ربع قرن من عمري.
 
  وتسهب السيدة خديجة الجهمي في وصف أسواق المدينة التي كانت كما تقول: الأسواق الوحيدة في ذلك الوقت التي يقبل عليها المشترين من كل المناطق مثل سوق الفندق وسوق الحشيش. والحديث عن سوق الحشيش حديث ذو شجون فهو أكبر أسواق المدينة ويقع وسط الحي على مساحة مربعة تقريبا، منه تمتد طرق تؤدى إلى شارعي سالم الزوبيك ومقام ولى سمى الشارع باسمه هو عثمان بحيح. كان السوق ولا يزال له اكبر الأثر في خيالي بل في حياتي، ففي ساحته لعبت، ومن الحوانيت التي على جانبيه أبتعت لأسرتي جل ما تحتاج له. 

   وتمضي السيدة خديجة في سردها الممتع الجميل لكل زوايا المدينة والأشخاص المعروفين بالمنطقة، في استدعاء حميم ومذهل ويعبر عن ذاكرة صافية وذهن متقد بالرغم من أنها سردت سيرة حياتها وهى متجاوزة للسبعين من عمرها إلا أنها تذكر تفاصيل حدثت معها وهى طفلة في السابعة من عمرها مع الجيران والأهل بأسلوب عفوي ممتع يجعل القارئ يواصل قراءة كل تلك الذكريات المنهمرة لزمن آخر وعالم آخر وناس غير الناس بشغف وحب.

   وفي رواية دقيقة لتفاصيل اليومية في البيت والشارع وطريقة التسوق وأنواع الأكلات التي كان تعدها العائلات في تلك الفترة الزمنية عبر لوحة بانورامية جميلة تعبر عن وعي مبكر منذ طفولتها بمجريات الأحداث السياسية حولها حيث تتحدث عن استشهاد شيخ الشهداء عمر المختار، في عام 1931.

   كما أن وعيها المبكر وفطنتها وذكاءها سانده ما كانت تتحصل عليه من مجلات مهربة من مصر، لأن حيازة المجلات كانت تهمة في ذلك الوقت، فكانت تطالع مجلة الرسالة، الثقافة، الأزهر، الإسلام، الاثنين، الدنيا، الكواكب، روز اليوسف. 

  ومع إطلالة عام 1934 تقول السيدة خديجة الجهمي: أحضر لي والدي راديو كبير، نسمع عبره إذاعة مصر بصعوبة أثناء الليل، كما يصلنا بوضوح بث راديو بارى وراديو طنجة باعتبارهما مركزا دوليا. 

* عمل النساء في البيوت :

   تسرد السيدة خديجة الجهمي لدور المرأة وعملها من داخل البيت في تلك الفترة الزمنية من عقد ثلاثينات القرن العشرين عند العائلات الليبية التي بدأت صناعات بسيطة تقليدية للأحذية والبلغ. والبلغة جمعها بلغ، والرقعة هي التي تنتعلها النساء وهى حذاء يصل إلى ما تحت الركبة تشبه البوت أو الجزمة ونص الرقعة، أما الصباط حيث تأتى النساء بالقطع المفصلة والمقصقصة من الجلود لتتحول بأناملهما بواسطة أداة ذات رأس حاد تسمى المشفة حيث تستعمل لحرم الجلد الذي يطرز فيما بعد بخيوط رفيعة من الجلد ذاته أو بخيوط ملونة، بينما تقوم عائلة سيدى فرج بصنع أسرجة الخيول التي تطرزها النساء بخيوط من الذهب والفضة ليبيعها سيدى فرج في دكانه بسوق الحشيش.

   أما خالتي سعدة وبناتها وزوجة ابنها فهن جميعا في بيت آخر يصنعن الثياب الخاصة بالرجال من الصوف الذي يقمن بغزله ونسجه، كما تعمل نساء أخريات في صنع الجوارب من القطن او الجدائل المستعارة من الصوف المصبوغ باللون الأسود، كما أن هناك نساء أخريات يعملن في فن الدانتيل أو الكروشيه الذي تصنع منها أنصاف أكمام وياقات المريول، ذلك القميص القصير الذي يلبس تحت الزى الشعبي للنساء. 

* شخصيات من معالم مدينة بنغازي :

   تورد السيدة خديجة الجهمي شخصيات شعبية معروفة بمدينة بنغازي في أوائل القرن العشرين محفورة في ذاكرة أهل المدينة الأوائل ومنها كما تتحدث السيدة خديجة شخصية محضية والتي تصفها بالقول: هي امرأة ضخمة الحجم تمشى كالمجنونة في الشارع تكلم نفسها ولا تؤذي أحداً. وعبابودة ملامحه تشبه الصوماليين يلبس جلابية مفرطة الطول ينتعل صباطاً أو شبشباً ويرتدى فوق كل ذلك جاكبيتى. ثم تتحدث بصورة طريفة عن ثريا التي تقول عنها جاءت من البادية، لكنتها غريبة سمراء ذات تقاطيع رقيقة بوجهها استطالة تقترب في عمرها من الخامسة والثلاثين حلوة. وبطة المغنية اليهودية، زوجها خموس له دكان قبالة شارعنا يعمل لحاما وتسهب السيدة خديجة في الحديث عن كل شخصية بعفوية وطيبة وحياد وموضوعية كما رأتهم عين الطفلة وكما احتفظت بهم في الذاكرة عين المرأة الكبيرة. 

* نشوب الحرب العالمية الثانية :

   تقول السيدة خديجة الجهمي في سيرتها الذاتية: عندما نشبت الحرب العالمية الثانية كنت في العشرينات من عمري، ولم أغادر مدينتي سوى مرتين، واحدة إلى القوارشة والأخرى إلى قمينس. وتتحدث في مقطع آخر من الكتاب عن مغادرة عائلتها من بنغازي إلى منطقة القوارشة عند نشوب الحرب العالمية الثانية: غادرنا إلى القوارشة مع جدي البعباع حيث عملت هناك كممرضة متطوعة لأنني أتقن ضرب الحقن ومداوة الجروح وتضميدها. كان جدي يناديني مداعباً جيجا وهو اسم عجوز أرمينية كانت تحقن بالإبر وهى معروفة في أوساطنا الأسرية. كان هذا العمل تطوعي أي بلا مقابل فكيف نعيش أنا وأمي وأختي جازية وربيعة؟ لم يكن من المنطقي أن نكون في عنق جدي الذي يعول أربعة اسر غيرنا. عندها أخرجت آلة أو ماكينة الخياطة وبدأت العمل. لم يكن هناك قماش، لكن المظلات التي تسقطها الطائرات في الحرب الدائرة – وهى من نسيج الحرير الطبيعي وتخاط بشكل دائري – أوحت بالحل، فلم يكن من الصعب فتق الخياطة الأصلية وإعدادها قطعاً من القماش، كما كنت أصبغها بالألوان وأفصلها إلى سواري رجالة وقفاطين، بذلك صار لدى الكثير من المال الذي لا يحقق أي شيء ففي السابق الألف فرنك يمكن المرء من شراء منزل إلا أنه في زمن الحرب لا يأتى برغيف خبز. 

* سفرها الأول إلى مصر :

  بعد انتهاء الحرب رجعت السيدة خديجة الجهمي رفقة عائلتها إلى بنغازي ولكن والدها لم يرجع وإنما سافر إلى مصر، ثم توفت أمها بعد ذلك، وعاشت رفقة أختها ربيعة وجازية في بيت عمها محمد على دغيم، وطرأت عليها فكرة السفر لوالدها في مصر برفقة أختها ربيعة، فطلبت من عمها أن يصحبها إليه وكان يعدهم خيرا ولكنه لم يفعل.

   تقول السيدة خديجة الجهمي في سرد تفاصيل سفرها إلى مصر: قررنا أنا واختى ربيعة أن نسافر دون صحبته بل ودون علمه، خرجنا من البيت صباح يوم الخميس 1-11-1946 دون عدة ولا جواز سفر، بدون مال وبدون تقدير لمخاطر الرحلة التي عزمنا القيام بها من بنغازي عند الساعة العاشرة صباحاً. كنت متنكرة في زي عجوز بدوية تضع غطاء على وجهها وتتوكأ على عكاز.

 وتروى السيدة خديجة الجهمي تفاصيل الرحلة الخطرة التي قضتها طيلة يوم كامل إلى أن وصلت إلى مصر، والتقت بوالدها ومكثت في بيته بعد أن اكتشفت أن والدها قد تزوج من امرأة مصرية، و أنجب منها أربعة أبناء. 

   في هذا الفصل من الكتاب تسترجع السيدة خديجة الجهمي رحلتها مع التعليم والقراءة حيث تذكر بأنها دخلت إلى المدرسة في سن السابعة أي في سنة 1928 وتقول عن تلك المرحلة: عندما بلغت السابعة من عمري رأى أبى ضرورة الالتحاق مع تلك القلة المدرسة، وبفضله انخرطت مع عشر تلميذات أغلبهن غير ليبيات، البعض أمهاتهن من تونس والبعض الآخر من أصول كريتلية، كنا ثلاث بنات ليبيات الأصل فقط. أختان يعمل والدهما قاضياً في الشق الشرقي من البلاد جاءتا من طرابلس هما بهيجة وسكينة ميلاد العرادي وأنا، رفض الناس دخولي إلى المدرسة، ووقفوا موقف الهجوم على والدي، إلا إن أبي لم يكن يشابه أبناء جيله في نظرتهم وتفكيرهم تجاه البنات، عادة يصل عدد التلميذات إلى 25 في الغالب، وما أن يصلن إلى الصف الثالث حتى ينحسر عدد التلميذات، إلى أربع أو خمس تلميذات فقط. مدرستنا عبارة عن بيت فيه عدة حجرات للدراسة، وهى إيطالية المنهج والإدارة، تتخللها حصتان في الأسبوع للغة العربية وقواعد النحو والقرآن الكريم، درستها على يد الشيخ محمود بن مسعود، أما باقي العلوم مما يتعلق بتاريخ الرومان وجغرافيا إيطاليا والرياضيات، فتدرس لنا باللغة الإيطالية. تبلغ مدة الدراسة خمس سنوات، تبدأ بأول وثاني تحضيري ومن ثم أول وثاني وثالث ابتدائي، بعدها يتوقف سلم التعليم في بنغازي للبنات، أما البنين فتتاح لهم ثلاث سنوات أخرى للصنائع. انخرطت في فصول المدرسة الملوكية الابتدائية للبنات المسلمات، ولكنى توقفت عن تعليمي الابتدائي عامين أمضيتهما في البيت ولم أعد أذهب للمدرسة ، وصرت أطرز المحارم الخاصة برؤوس النساء، ثم عدت للمدرسة مرة أخرى حيث نلت الشهادة الابتدائية للصف الخامس وعمرى حينذاك 14 سنة. 

* رسالتها إلى الزعيم الفاسيشتي موسيليني :

  تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن رسالة تطالب فيها موسيليني بالرحيل وجيوشه عن ليبيا، بعثتها إلى مجلة (ليبيا المصورة) في عام 1939 ولكنها لم تنشر، عند ذلك تقول السيدة خديجة الجهمي راوية تفاصيل الحادثة التي أدت للتحقيق مع والدها: أعقبتها برسالة مفتوحة للزعيم الفاسيشتي موسيليني أوضح فيها استيائي من وجود الاستعمار، وأعلن فيها عن رغبتي في طرده وجيوشه من بلادي. تقول السيدة خديجة هذا المقال عرضني لتعنيف أبى لي بعدما خضع لتحقيقات مرهقة. 

* رحلتها الثانية إلى مصر :

  تقول السيدة خديجة الجهمي عن سبب سفرها مرة ثانية إلى مصر بعد عودتها منها: كنت متحفزة دائما لإكمال تحصيلي العلمي، خاصة بعد ما عاد والدي إلى ليبيا فسافرت في 10/8/1952 إلى مصر مرة ثانية، برفقة أختي ربيعة مع ابنتها سعاد البالغة من العمر أربع سنوات وأقمنا في بيت أقارب لنا في القاهرة، هناك بدأت أبحث عن عمل بعدما تعرفت على صديقة تدعى إنصاف سري، وهى زوجة منصور باشا فهمي التي تعد أول امرأة في مصر كلفت بإدارة المدرسة السنية حيث طمأنتني بأنها ستتوسط لي لدى وكيل وزارة التعليم لأعمل كمعلمة وأواصل تعليمي. استقبلني المعنى واسمه جعفر وسألني عن المؤهل ؟ قلت: خامس ابتدائي ايطالي وبمجاملة المصريين المعروفة أضاف أنا مقتنع بأنك أفضل من أية مدرسة هنا إلا إن الملف يحتاج لـ .. قاطعته بشكرا وخرجت. 

    تمضي السيدة خديجة الجهمي في سرد مسيرة أيامها في مصر وبحثها عن العمل إلى أن قادتها المصادفة للعمل خياطة في بيت الممثلة ليلى رستم وهى المذيعة المصرية في الإذاعة الانجليزية وخريجة الجامعة الأمريكية التي عرفت بجمالها وثقافتها العالية، وأكملت السيدة خديجة الجهمي دراستها فخاضت امتحان الشهادة الابتدائية ثم الإعدادية. 

* نادي الشباب الليبي :

  كان لدى السيدة خديجة الجهمي نشاط وافر وعدم رغبة في الركون للسكون والرتابة في حياتها، وذلك يتضح من خلال نشاطها الذي وزعته بين الدراسة والعمل، ولم تكتف بذلك بل انضمت لنادي في مصر اسمه (نادي الشباب الطرابلسي)، كما تقول ثم تغير اسمه إلى (نادي الشباب الليبي).

      تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن هذا النادي بالقول: كان النادي يضم فريقين، فريق يدرس في الجامعات المصرية، والآخر في الجامع الأزهر الشريف، ويخيل لي أنه كانت بينهما بعض الحساسية، ففي كل يوم خميس من كل أسبوع أتردد على هذا النادي، فوجئت بأن الجمعية العمومية تعقد اجتماعها لاختيار أعضاء لمجلس الإدارة وبأنهم انتخبوني للرئاسة ضد مصطفي التريكي. اعتذرت ولم يقبل اعتذاري الجامعيون الذين يمثلهم: محمود كامل المقهور، منصور الكيخيا، شوقي كانون، عثمان الكاديكي، أحمد نجم، الدغيس، وغيرهم. أما الأزهريون فيمثلهم: محمد التركي التاجوري، مصطفي التريكي، وآخرون. بعد التصويت فاز مصطفي التريكي مما أعفاني من هذه المهمة.
 
* محاضرة لها عن المرأة تثير معركة :

   تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن محاضرة ألقتها في النادي اثارت معركة بين الطلبة الجامعيين وذوى التوجه الإسلامي المتشدد. تسرد السيدة خديجة الجهمي تفاصيل ما حدث من خلال هذه الفقرة في الكتاب: في زيارة لي للنادي أقترح على من في النادي إلقاء محاضرة، رغم أنى لست مستعدة لها، لا ثقافياً ولا علمياً، فأعددت كلمة بسيطة قلت في أولها أنى أثبت وجود أختكم الليبية بينكم وهى بعنوان المرأة في الإسلام، كتبتها فيما يقارب ثلاث صفحات جمعت بعض معلوماتها من المراجع، وبينما أنا في منتصف المحاضرة دخل الشيخ … وقاطعنى بالقول: مع احترامي للأنسة خديجة الجهمي، لعن الله قوماً ولوا أمرهم امرأة، ونسج على هذا المنوال لمدة ساعتين حتى احتدم الخلاف بين الفريقين إلى حد الاشتباك. كان كامل المقهور من ضمن اثنين أو ثلاثة يحاولون فض الاشتباك وإصلاح الموقف الذي عرفت فيما بعد أن أحدهم أخبره بأن خديجة قالت بأن المرأة يجب أن تكون قاضياً وحاكماً الخ .. رغم أنى كنت أدعو لأن تعرف وتتعلم المرأة القراءة والكتابة. 

* زواج السيدة خديجة الجهمي وطلاقها :

    تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن زواجها بالقول بأنه كان نكتة. وتسرد قصة زواجها بالقول: تزوجت من رجل فاضل، سوري الجنسية، مقيم في مصر اسمه محمود خليل السباعي، وهو أرمل له ولد وبنت أحببتهم وأحبوني.

    وتتحدث السيدة خديجة عن العوامل التي دفعتها لهذا الزواج منها إن إقامتها في مصر كانت مهددة، فاضطرت لأن تتزوج من الرجل صاحب مشغل الخياطة الذي عملت فيه. وتقول في فقرة أخرى: استمرت هذه الزيجة عاماً واحداً تقريباً، لم تتحقق فيها أمومتي حينما وضعت بنتين توأمين ماتا فور الولادة. وعندما توفي والدى أردت العودة إلى ليبيا، لكن زوجي أبقاني هناك، ثم قررت العودة بدونه لأنه كان يتابع قضايا تتعلق بمحلات يملكها في مصر، فلم أنتظر مرافقته لي وعدت إلى ليبيا. وتحصلت بعد ذلك على طلاقها منه. 

* مشكلة رجوعها للعمل في التعليم :

  تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن المعاناة التي تعرضت لها بعد عودتها من مصر التي قضت خمس سنوات فيها، ومعها شهادة الثقافة والشهادة الإعدادية، ولكنها تفاجأت بأن المدة التي تغيبت فيها عن عملها بالتعليم ستعيدها لدرجة الصفر فرفضت العودة للتعليم. 

* ثاني صوت نسائي في الاذاعة في عام 1956 :
 
   تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن عملها بالإذاعة من خلال العرض الذي قدمه لها الاستاذ محمود للعمل في الإذاعة ولكنها ترددت مخافة رفض عائلتها، كما تقول في هذا المقطع: لم أخبر أحداً بهذا العرض، حتى جاءتني السيدة حميدة العنيزي تقول لي لماذا التشدد في الرفض أليس أفضل من التعليم بثمانية جنيهات؟ فقلت لها: تعلمين بأنني أتحصل بالخياطة على مبالغ أكبر ولكن لن أعمل بالإذاعة. قالت: لكن جدك البعباع موافق. قلت: ولكن عائلة أبى لن يوافقوا. 

   بذلك التدخل من حميدة العنيزي بدأت العمل في الاذاعة، ولكن عائلة عمي لم تكن راضية عن عملي كمدرسة فكانت مجازفة كبرى دخولي للإذاعة. حينها كان ابن عمى عبد القادر شاباً متحمساً فقال مهدداً: نخش عليها في نص الليل نقبض روحها. فلم أخف، وفكرت ثم ذهبت إلى عائلة عمى رحمهم الله: تعال أقتلني أما تهددني لا. فخجل وقال: حشمتينا يقولوا الناس بنت عمك تخدم في الإذاعة. قلت له: تعال وتبعني وأحكم. 

   وتسرد السيدة خديجة الجهمي دخولها الأول للإذاعة في بنغازي والتي كان المسؤول الأول فيها مستر فليشر السكرتير الأول بالسفارة البريطانية، ثم قيامها بتقديم برنامج (أضواء على المجتمع) الذي استمر لمدة 18 عاماً بعد ذلك، وأصبحت أول مذيعة تقرأ الأخبار في الإذاعة الليبية، وأول من أعد برنامجاً يذاع على الهواء للأطفال بعنوان (ركن الأطفال). بعد ذلك توالت البرامج التي قدمتها في الإذاعة: 

  صور من الماضي يتحدث عن سيرة المجاهدين – سل طبيبك – ندوة الإذاعة – أسهر معانا – ربع ساعة – يا فتاح يا عليم – صباح الخير – فكر معي – ركن المرأة – من حياة الناس – جولة الميكرفون – لقاءات مع الفنانين العرب، بالإضافة لإعداد الكثير من التمثيليات الإذاعية.
 
* دورة إذاعية في تونس :

    تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن الدورة الإذاعية التي تم فيها إيفاد ثلاثة عشر رجلاً وهى العنصر النسائي الوحيد بينهم في عام 1960 والتي استمرت لمدة 100 يوم حيث سافرت أولاً من بنغازي إلى طرابلس، ثم من طرابلس إلى تونس وتتحدث بروح إنسانية جميلة عن لقاءها بمدير الإذاعة الشاذلي القليبي وتدريبها رفقة المذيعين والمذيعات من تونس وعن لقاءها بالرئيس التونسي الحبيب بورقيبة. 

* إقامتها في طرابلس :
 
   بعد عودتها من تونس إلى بنغازي وجدت أن الأسرة قد قررت تزويج أختها ليلى، وهى لم تتجاوز الخامسة عشر من عمرها، فعارضت ذلك ولكن الأسرة لم تأبه لذلك، فقررت السفر والعيش مع أخيها بالرضاعة منير البعباع رفقة زوجته وأولاده، وتتحدث في هذا الفصل عن بداية عملها بالإذاعة في طرابلس وعن اصطدامها بالرفض من قبل العاملين من الرجال بالإذاعة لها، إلى أن استطاعت بإخوتها واحترامها أن تكسبهم كأخوة، ثم تتحدث عن مشكلة لهجتها البنغازية ومحاولة إزاحتها من البرامج، وتتحدث عن حادثة طريفة لذلك كما تذكرها في سيرتها الذاتية: كلفني المراقب أن أتولى (ركن المرأة) بسبب أن المذيعات الموجودات كن يتعاركن عليه فالخلاف حوله قائم بصورة دائمة سواء في إذاعة بنغازي أو طرابلس. ومن ضمن فقرات هذا الركن الذي توليته لمدة عشرين يوم فقط فقرة بعنوان أيش ناكلوا بكرة وصلتني على أثره رسالة رسمية مضمونها الآتي: لازم تحترمي المجتمع الذي تخاطبينه. المفروض ما دمتي تتكلمي باللهجة الدارجة أن تقولي شن ناكلوا غدوة مش كيف ما تقولي. 

* نظمها للزجل والشعر الشعبى :

  نظمت خديجة الجهمي كثير من الزجل الشعري كما تتحدث في سيرتها الذاتية ولكنها لم تحتفظ بالكثير منه مكتوباً ولكنها أوردت في كتابها قصيدة (نصيحة) عن ضرورة تعليم الفتاة وعدم منعها من القراءة والكتابة، باعتبار إن ذلك يعمل على تقدم المجتمع، بالإضافة لكتابتها لكثير من كلمات الأغاني وبذلك هي تعتبر أول امرأة ليبية كتبت كلمات أغاني، ومنها أغنية نور القلب والجوبة بعيدة، وغيرها من الأغاني الاجتماعية وأغاني الأطفال. 

* اصدارها لأول مجلة ليبية عن المرأة :

   تولت السيدة خديجة الجهمي الاشراف على اصدار مجلة المرأة في 5/1/1964 وتعاون معها من المحررين رباب أدهم، عمر الجعفري، عبد الله القويري، يوسف الشريف، كامل عراب، محمد عكاشة، محمد غضبان، وآخرون ثم التقت بعد ذلك بصديقة عريبي، فوزية بربون. وفي لمحات بارقة قصيرة تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن باقي الصحفيات اللواتي التحقن بالصحيفة في بداية صدورها وكن من المؤسسات لها، ومنهن من أصبحت اسم معروف في عالم الكتابة القصصية والروائية تقول عن كل اسم منهن: 

مرضية النعاس: كانت موظفة في المطبوعات ولكونها أم لأطفال وتقيم في طرابلس بعيداً عن أهلها وأهل زوجها، طلب منى زوجها أن تعمل معي وهى قلم جيد. 

نادرة العويتي: جاءني أخوها صبري الذي يعمل معنا في المطبوعات وقال لي أريدها أن تعمل ولو بدون مقابل. 

شريفة القيادي: جيدة وجدية جدا. 

نزهات القريتلي: كانت تجيد الإيطالية أكثر من الإيطاليين أنفسهم. 

زهرة الفيتوري: جاءت بعد عام من صدور المجلة كطباعة في البداية، حيث كان والدها يعارض عملها أخذتها معي والحقتها بدورة تصوير فوتوغرافي لتصبح مصورة صحافية بالمجلة.
 
    ثم تسرد السيدة خديجة الجهمي تفاصيل العمل بالمجلة الذي كانت تقوم به، بالموازاة مع عملها في الإذاعة المسموعة، واستمرارها في إعداد وتقديم برنامج اجتماعي معنى بحل المشاكل الاجتماعية للمستمعين من الجنسين، بعنوان (أضواء على المجتمع). 

* تفاصيل العمل اليومي بمجلة المرأة :

   تقول السيدة خديجة الجهمي في هذه الفقرة من الكتاب عن تفاصيل العمل بالمجلة: يوميا أتابع المجلة بالمرور على المطبعة لأرى المادة التي تمت طباعتها، حيث كان الجمع يدوياً لا مرئياً وبعدها أذهب إلى مكتبي في المجلة بمجرد صدور العدد، أذهب للموزع في شارع الوادي، أحمل معي الأعداد في سيارتي لتسويقها وأحيانا أذهب للمطار لأرسل المجلة إلى بنغازي وسبها واتأكد من ذلك. كم تمنيت أن تصبح المجلة مدرسة وأن تكون مجلة (المرأة) مثل مجلة الهلال. 

* مجلة الأمل :

  انبثقت مجلة الأمل كما تقول السيدة خديجة الجهمي عن مجلة البيت، كما اسماها الصادق النيهوم بعد قيام الثورة الليبية باعتبار أن لا تكون المرأة منفصلة عن الأسرة. وبدأت مجلة الأمل في 22/6/1975 واستلمتها لطفية القبائلي مع زهرة الفيتوري ومحمد الزوواي. 

   بكل هذا الزخم التاريخي، للحياة الشخصية، والمهنية للسيدة خديجة الجهمي ينتهي الجزء الأول من كتاب السيرة الذاتية لها، الذي صدر منذ أكثر من عامين. ولقد قصدت أن أعرض لهذا الكتاب بهذا الشكل المفصل وحاولت لملمة أهم، المحطات المذكورة في هذا الكتاب الجميل الذي يستحق القراءة، لأنه يتحدث عن امرأة ليبية كافحت وناضلت، من أجل أن تتعلم وتنشر العلم والتعليم ليس من أجل المرأة فقط، كما يعتقد البعض، وإنما كافحت من أجل مجتمع بكامله، حاربت ذهنية الأعراف والتقاليد، التي كبلت كل من الرجل والمرأة، وكانت رؤيتها ومبدأها الذي سارت عليه هو التعويل على التعليم للجنسين باعتباره الطريق الوحيد كي ينهض المجتمع، وينفض عنه غبار الافكار البعيدة عن روح وجمالية الإسلام الذي لا يحارب التعليم والمعرفة، لذا لم يكن من الغريب أن تكون أول محاضرة عامة لها والتي أثارت معركة بين اتجاهين من التفكير، بعنوان (المرأة في الإسلام). 

  ألا نحتاج في هذا الوقت من تاريخ بلادنا لأن نستضيء بمثل هذه الرموز الوطنية، التي مثلتها السيدة خديجة الجهمي التي لم تبحث عن مصلحتها الشخصية، أو اتخذت مناصبها الإعلامية، كوسيلة للربح المادي أو التكسب من خلاله، بل عاشت وسط الناس ووهبت نفسها لمساعدتهم عبر العمل الإذاعي والصحافي طيلة حياتها، فكانت بحق كما أطلق عليها بنت الوطن، لأنها عشقت الوطن فوهبت نفسها له. ومن المثير للأسى أنه لم يتم حتى الآن إنشاء متحف خاص بها كما أشارت واقترحت الباحثة في مقالتها المنشورة بالملحق الثقافي، وخاصة أن السيدة خديجة الجهمي كما تقول الباحثة تركت كثير من المقتنيات والأعمال المكتوبة الخاصة بها والتي لم تنشر في كتب حتى اليوم. 


ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة