قل ولا تقل
د. مصطفى جواد
فَلْنقُل :
بصراحةٍ وباطمئنانٍ معاً: إنّ اللّغة العربيّة لغةٌ هي أجمل اللغات وأسماها، في: ألفاظها وتعابيرها، في أنغامها وأساليبها، في تركيباتها وبلاغتها، وعلومها. وليس هذا فحسب، فهي أشرف اللغات على الإطلاق، ويكفينا دليلاً على ذلك أنّها اختِيرت مِن قِبل الله تبارك وتعالى لأشرف كتابٍ سماويٍّ مُنزَل، على أشرف نبيٍّ مُرسَل، وهي إلى ذلك لغةُ خمسة من الأنبياء عليهم السلام، آخرهم محمّد المصطفى المختار، صلوات الله عليه وعلى آله الأطهار...
ولأنّ هذه اللغة لغةٌ حسّاسة، وذات ذوقٍ رفيعٍ خاصّ، وذات قواعد وأساليب ومعانٍ دقيقة وواسعة، لذا ينبغي الاعتناء أيضاً بعلومها.. من الصَّرْف والبلاغة والإعراب والتعابير السليمة عن اللَّحن، وإلاّ تشوّهت المعاني واختلّت، ووقع التوهّم والخلط والخطأ في الفهم، وحُرّفت هذه اللغة وذهب جمالها وبلاغتها، ورونق صياغاتها، ثمّ ذهب تأثيرها وحلاوتها.
ولهذا وغيره همّ الدكتور مصطفى جواد قبل سبعينات القرن الميلادي السابق بأن يشير إلى الأخطاء الشائعة والأساليب الدخيلة على اللغة العربية، محاولاً تنزيه هذه اللغة من التشويهات، وإعادة الصواب إلى الأذهان لتقويم ألسنة الأجيال المتوالية وقد ابتعدت عن اللغة العربية الأصيلة، وتعهّدت اللغة الدارجة مقرونةً بالمصطلحات الهجينة واللغات الأخرى والأخطاء الفاحشة.
ولا شكّ أنّ أهل هذه اللغة الجميلة معنيّون قبل غيرهم بهذا الأمر، ولكنّ الكتّاب والخطباء والعلماء يتوجّه إليهم هذا الأمر أكثرَ من غيرهم. بعد هذا فلنقرأ ما كتبه لنا المؤلف في:
المقدّمة :
حيث قال: أفتتح كتابي (قُلْ ولا تقل) وأقدّمه إلى محبّي اللغة العربيّة في مختلف البلاد، التائقين إلى بقائها كريمةَ الضرائب، مُسعَفةً بالمطالب، رائقةَ المشارب، نقيّةً من الشوائب، سليمةً مِن لحن المتهاونين، بريئةً من غَلَط المترجمين، ناجيةً من عبث المستهزئين، سائرةً في سبيل التطوّر الطبيعيّ البارع، آخذةً بالاقتباس المفيد والقياس النافع، مُستمِدّةً اشتقاقها الجليل من مركبها الأصيل، ومجازِها العريض الطويل، مُضيفةً الجديد الصحيح إلى تراثها النبيل.
وأضاف الدكتور مصطفى جواد يقول:
والعربيّة لغةٌ جسيمة، عظيمةٌ قويمة، لأُمّةٍ كريمةٍ عظيمة، وقد حافظت على قوامها ونظامها وكلامها بقرآنها العزيز وتراثها الأدبيّ البارع، طوالَ العصور التي انصرمت بين زمن الجاهليّة وهذا العصر، وهي لا تزال قويّةَ الكيان، عَلِيّةَ المكان، مستمّرةَ الازدهار، مُستدامةَ الإيثار، عند أهلها وحُماتها من عربٍ صليبة، ومُستعرِبةٍ نجيبة.
ولقد أصابها من الشوائب ما لم يكن لها عنه مُنتدَح، من: ضروراتٍ شعريّة أو سَجَعيّة، وأوهامٍ للخواصّ والعوامّ، وترجمةٍ للأعجام والأغتام. قد تداركها الأدباء القدامى بالتأليف والتنبيه والتصنيف، من: جمع الضرائر، وبيانٍ للأوهام وإصلاحها، وكشفٍ عن اللحن، وإيضاحٍ للَّهَجات. وأكثرُ ما أُلِّف وصُنِّف في هذا الموضوع مطبوعٌ متداوَل...
ثمّ يشير الدكتور مصطفى جواد إلى الرزايا الواردة على هذه اللغة، منها: ظهور طبقة من المترجمين أتقنوا اللغات الأعجميّة واستهانوا باللغة العربيّة، ومنها: ظهور كتّابٍ وشعراء يكتبون وينظمون وينشرون كَلِماً غير مشكول ( أي غير مُعرَب الشكل ). ومنها أيضاً: ظهور طبقة من الحُكاة المعروفين بالممثّلين، جعلوا العربيّة أداةً لعيشهم وذريعةً لكسبهم. ومنها كذلك: أنّ أساتذةً في التاريخ والجغرافية والعلوم لم يتعلّموا من قواعد اللغة ما يصون أقلامهم وألسنتهم من الغلط الفاحش واللحن الفظيع.. ونرى في تحريرات الدوائر ودواوين الحكومة أغلاطاً تبعث على الأسف..
ولا تسألْ عن مترجمي الأفلام السينميّة، فهؤلاء أكَلَة السُّحت يرتكبون من اللحن والغلط الشنيعَين ما أصبح مخشيّاً كلَّ الخشية على العربية وطلاّب المدارس.. وإنّ من الأغلاط ما ارتكبه أدباء كبار، كالدكتور طه حسين وعبّاس محمود العقّاد، وتابعهما عليه مقلّدوهما.
لا بأس :
وقد اطّلَعْنا على فكرة الكتاب وسبب تأليفه، أن تكون لنا اطّلاعةٌ عاجلة على بعض الإشارات التصحيحيّة التي تفضّل بها الدكتور مصطفى جواد، للاستفادة من تنبيهاته اللغوية التقويميّة. وهذا جدول مختصر لبعض ما جاء في هذا الكتاب النافع:
ـ قل: أَسِفَ عليه، ولا تقل: أسِفَ له.
لأنّ الأسف هو الحزن والغضب معاً، فإذا كان الأسف على مَن دوننا صار غضباً، وإذا كان على مَن فوقنا صار حزناً، كما في قوله تعالى: « وقالَ يا أسَفا على يوسُف ».. وقال البحتريّ:
كَلِـفٌ يُكفكـِفُ عَبـرةً مِهـراقـةً أسَفاً على عهدِ الشبابِ وما انقضى
ـ قل: الجُمهور والجُمهوريّة، ولا تقل: الجَمهور والجَمهوريّة.
لأنّ الاسم إذا كان على هذه الصيغة وجب أن تكون فاؤه، أي الحرف الأوّل، مضمومةً، لأنّ وزنه الصرفيّ هو فُعْلُول، كعُصفور.
ـ قل: مُؤامِر، ولا تقل: مُتآمِر.
لأنّ حقّ الواحد المُفاعَلة، أي المُؤامَرة، تقول: آمَرَ فلانٌ فهو مُؤامِر، كما تقول: حارب فلانٌ مُحارِب، ولا تقول: مُتحارب.
ـ قل: السُّيّاح، ولا تقل: السُّوّاح.
لأنّ السُّيّاح جمع تكسير للسائح، وهو اسم فاعل من: ساح يسيح سياحةً وسَيْحاً وسَيَحاناً، وليس السائح من: ساحَ يَسُوح، مثل: قاد يقود، حتّى يُجمع سائح على سُوّاح، مثل قائد قُوّاد حيث فِعلُها: قاد يقود.
ـ قل: دَحَرْنا جيشَ العدوّ، فهو مَدْحور، ولا تقل: اِندحَرَ فهو مُنْدحِر.
جاء في ( لسان العرب ) لابن منظور: دَحَرَه يدحَرُه دَحْراً ودُحوراً، دفعه وأبعده، والدُّحور: الطرد والإبعاد، قال تعالى: « أخرُجْ مِنها مَذْؤوماً مَدْحوراً » أي مطروداً أو مُقصى.
أمّا اندحر فلم يرد في كتب اللغة..
ـ قل: تخرّج فلانٌ في الكليّة الفلانيّة، ولا تقل: تخرّج مِن الكليّة الفلانيّة.
لأنّ تخرّج هنا بمعنى: تأدّب وتعلّم وتدرّب، ولا محلّ لحرف الجر (من) هنا، إذ ليس المقصود الخروج من الكليّة، وإلاّ لكان لكلّ طالبٍ في اليوم خرجةٌ أو أكثر!
ـ قل: الطبيب الخافر، وطبيبُ الخَفْر، ولا تقل: الطبيب الخَفَر.
لأنّ الخَفَر مصدر الفعل: خَفِرتِ المرأة تَخفَرُ خَفَراً وخَفارة، أي استَحْيَت أشدَّ الحياء، فهي خَفِرة وخَفير ومخفار..
ـ قل: الشيء المذكور آنفاً، ولا تقل: الشيء الآنف الذِّكر.
جاء في ( مختار الصحاح ): قال كذا آنِفاً وسالفاً. وهو أسلوب القرآن الكريم، قال تعالى: ومِنهُم مَن يستمعُ إليك حتّى إذا خَرَجوا مِن عندِك قالوا لِلذينَ أُوتُوا العِلمَ ماذا قال آنِفاً .
ـ قل: كابَدَ العدوُّ خسارةَ كذا وكذا، ولا تقل: تكبّد العدوُّ خسارة...
ويستمرّ المؤلّف يعرض الصحيح ويُصحّح الخطأ، في بياناتٍ لغويّة، واستدلالات صرفيّة وبلاغيّة، وشواهد قرآنيّة وحديثيّة، يحسن بنا أن نتعلّمها فنقوّم بها ألسنتنا، فنَسْلم من الأغلاط بأنواعها، عائدين إلى لغتنا الجميلة السليمة الرائقة.
من كتاب قـُل ولا تـقـُل - الجزء الأول :
" ومن أشدّ الرزايا التي أصابت اللغة العربية أنّ أناسا من الكتّاب والشعراء يكتبون وينظمون وينشرون كلِمـاً غيرَ مشكول ، واللحن في غير المشكول لا يظهر ، فإذا قرؤوا كتابة أنفسهم ونظمهم بان عوارهم ، وانكشفَ لحنهم في أقبح الصور . وقد سمعتُ شاعراً مبدعاً يُقرن اسمه بالكبير ينشد قصيدة له فإذا هو لحّانه ، يكسر المفتوح ويفتح المضموم وينوّنُ الممنوع من الصرف ويكسر المضموم ، ويضمّ المفتوح ويفتح المكسور ويضم المكسور ... ويفعل غيرَ ذلك من الأوهام الصرفية دون النحوية لأنّ قواعد النحو معروفة محدودة ، وأما الضبط الصرفي فيحتاجُ إلى معجم مشكول أو سماع منقول مقبول . وهؤلاء قد حفظوا كلماً ملحوناً فيه من قومِ لحّانين وبقوا على جهالتهم .
وظهرت طبقة من الحُكاة المعروفين بالممثلين ابتليت بهم اللغة العربية فهم لها جاهلون ، وبها عابثون وبإفسادها عائشون . فمن يجعل العربية أداة لعيشه وذريعة لكسبه يجب عليه إن يحسنها بعد درس لقواعدها العامة إجادة لاستعمال معجماتها اللغوية . ليتحقق صحة ما أشكلَ عليه . ومن وهنت همته فعليهِ في الأقل أن يسترشد بها قبل العمل .
ومن أشد الرزايا التي نزلت بالعربية أيضاً أن أساتذة في التاريخ والجغرافية والعلوم لم يتعلموا من قواعدها ما يصون أقلامهم وألسنتهم من الغلط الفاحش واللحن الفظيع وإذا عوتبوا أو ليموا – وهم مليمون حقاً – قالوا نحن ندرس التاريخ والجغرافية والعلوم ، ولا يخجلون من هذا الاعتذار . مع أنهم أصبحوا سخرية الساخرين وضحكة الضاحكين ولا سيما مشاهدي " التلفزيون " مع أنهم يعلمون أن الانكليزي العام – على سبيل التمثيل - لا يخطئ الصواب في لغته ولو كان الخطأ الواقع منه في حرف جر لتناولته الألسن والأقلام باللوم والتقريع والتأنيب والتثريب .
ونرى في " تحريرات " الدوائر ودواوين الحكومة أغلاطاً تبعث على الأسف فرفع المجرور والنصب المرفوع من الأمور المألوفة فيها . ولا سيما الإعلانات والتنبيهات . فضلا عن السقيم من العبارات . وإني لأتذكر أني قرأت في العهد الملكي الزائل على باب مكتب اللجنة الطبية بمعسكر الرشيد هذه الجملة " ممنوع دخول القلم حفظاً لتفشي الأسرار " فتأمل جهل المنبه للتركيب التعبيري . أراد " منعاً لتفشي الأسرار " فوضع مكانه " حفظاً لتفشي الأسرار " ولم يخطر بباله " حفظاً للأسرار " فهو أوجز وأدل على المراد وأوفى بالمقصود .
ولا تسأل عن مترجمي الأفلام السينمية فهؤلاء أكلة السحت ، يرتكبون من اللحن والغلط الشنيعين ما أصبح مخشيا كل الخشية على العربية وطلاب المدارس . والشداة من الدارسين ، وليت شعري كيف تجيز لجنة رقابة الأفلام وهي لجنة منتخبة من موظفي الدولة ومنهم موظف من وزارة التربية والتعليم المهيمنة على شئون الثقافة اللغوية فلماً لغتهُ فاسدة مفسدة ، ناقضة لقواعد اللغة العربية . وأكثر المختلفين إلى دور السينما هم من طلاب المدارس والمعاهد والكليات ؟! "
العلامة مصطفى جواد :
أستاذ اللغة العربية في العراق وأحد أهم اللغويين العرب في القرن العشرين.
ولد الدكتور مصطفى جواد توركماني من عشيرة صارايلو في محلة (عقد القشل) ببغداد عام 1904م، ووالده جواد الخياط ابن مصطفى بن إبراهيم، وأصل أسرته من دلتاوه.
درس العلوم الابتدائية في مدارس دلتاوه (الخالص بمحافظة ديالى حاليا) في عهد الدولة العثمانية.
وبعد وفاة والده بدلتاوه في أوائل الحرب العالمية الاولى، عاد إلى مسقط رأسه بغداد. بعد الاحتلال البريطاني للعراق فكفلهُ أخوه (كاظم بن جواد) وكان يعد من أدباء بغداد في التراث الشعبي وهو الذي أسهم ببناء قاعدةالعشق اللغوي في شقيقهِ الأصغر، فدرس النحو ومعاني الكلمات وأعطاهُ قاموساً في شرح مفردات اللغة العربية وأوصاه بأن يحفظ عشرين مفردة في اليوم الواحد، وحفظ أكثر من عشرين حتى نشأت عندهُ حافظة قوية.
دخل دار المعلمين الابتدائية عام 1921م، وفي هذه الدار وجد أثنين من أساتذته يعتنيان بموهبتهِ وهما طه الراوي (1890- 1946)م، حيث أهداهُ كتاب المتنبي لما وجده يحفظ له قصيدة طويلة بساعة واحدة بصوت شعري سليم بأوزانه،
وأستاذه الآخر ساطع الحصري، حيث أهداه قلماً فضياً بعد ان وجد قابليات تلميذه تتجاوز عمرهُ الفتي بمراحل،
وكانوا يقولون له: (أنت أفضل من أستاذ، فهو يكمل عجز البيت الشعري اذا توقف الأستاذ عن ذكرهِ، ويحلل القصيدة ويتصيد الأخطاء ويشخص المنحول بقدرة استقرائية غير مستعارة من أحد.
و تخرج من دار المعلمين بعد ثلاث سنوات فعين مدرساً للمدارس الإبتدائية عام 1924م، ومارس التعليم في المدارس تسع سنوات (1924 - 1933)م، متنقلاً بين محافظة الناصرية والبصرة والكاظمية ودلتاوه.
ولما اكتشف فيه المفتشون انه أكثر قابلية منهم في طرق التدريس (وبلغة عربية فصحى لا مثيل لها) رحل إلى تدريس المتوسطة، وخلال تسع سنوات في التعليم قرأ المطولات في الشعر والتاريخ والتراث، وكانت مكتبتهُ ترافقهُ حيثما حل،
وفي هذه الحقبة ذاتها نشر ابحاثهُ اللغوية في الدوريات المحلية والعربية ولاسيما تلك الصادرة في مصر ولبنان، وطبع كتابين في التحقيق التراثي، وفي اثناء إجازتهِ أخذ يتردد على مجالس بغداد ويدخل معارك أدبية حول فنه الذي مافارقه (التصحيح اللغوي) الذي ألزمه بان يحفظ كثيراً ويعلل الحفظ ويقرنه بمزيد من الأسانيد والشواهد مما أتاح لهُ ذاكرة وحافظة قوية.
وسافر إلى فرنسا، وأكمل دراسة الماجستير والدكتوراه في جامعة السوربون ونشبت بعدها الحرب العالمية الثانية فعاد إلى بغداد، قبل أن يناقش الرسالة وعاد معه الدكتور ناجي معروف، والدكتور سليم النعيمي، وهما مثله كانوا بإنتظار مناقشة الرسالة ورجعوا معه.
ثم عين كاتباً للتحرير في وزارة المعارف ونقل بعد ذلك معلماً في المدرسة المأمونية ببغداد، و منها نقل إلى المدرسة المتوسطة الشرقية ببغداد. و تعرف خلال هذه المدة على الأب أنستاس الكرملي فلازمهُ وكتب في مجلته (لغة العرب). وكتب الكثير من الأبحاث والكتب عن اللغة العربية وتحديثها وتبسيطها.
وكان له برنامج مهم في التلفزيون العراقي بعنوان "قل ولا تقل".
من طرائف العلامة مصطفى جواد :
كان العلامة الدكتور مصطفى جواد دائرة معارف تمشي على قدمين، فهو علم اللغة العربية في العراق والوطن العربي...
كان فن مصطفى جواد هو التصحيح اللغوي فهو في العربية لم يسبقه سابق على الرغم من كونه تركمانياً من عشيرة صارايلو، وكانت حافظته عجيبة وشخصيته طريفة وقلبه سليما نقياً أبيض.
وقد قام الصحافي الرائد المرحوم رشيد الرماحي والذي فيه تتعرف على الوجه الآخر لمصطفى جواد، وهو الجانب الطريف المرح في شخصيته.
حيث قال : أثناء إجراء لقاء مع طبيبه الخاص الدكتور شوكت الدهان الذي ذهبت إليه في عيادته في شارع الرشيد وحدثني انه كان معجباً كثيراً بشخصية الدكتور جواد وكان يتمنى أن يتعرف عليه، وأنه مرة كان قادماً إلى عيادته فوجد الدكتور جواد يتمشى في شارع الرشيد فتقدم إليه وسلم عليه قائلاً: أنت الدكتور مصطفى جواد وأنا الدكتور شوكت الدهان وأحب أن أتعرف عليك... فاشترط جواد أن يعرف اختصاصه الطبي أولاً ولما أخبره بأنه اختصاص قلب ومفاصل وافق على أن يتعرف عليه.
يقول الدكتور شوكت الدهان: جئنا إلى العيادة، ودار بيننا حديث طويل عن الطب والأدب واللغة.
وفي أثناء هذا الحديث شكا لي الدكتور جواد معاناته من مشكلة عويصة تحولت الى آلام مبرحة في الظهر والمفاصل، وأخبرني أنه راجع العديد من الأطباء من دون أن يفلح احد منهم في إيجاد علاج ناجع، فطمأنته إلى أن ما يعاني منه أمر بسيط ولا يدعو الى القلق، واعطيته علبتين من حبوب (دلتابوتوزولدين) وأوصيته أن يتناول منها ثلاث حبات يوميا، وقلت له إذا شعرت بتحسن فاتركها بالتدريج. وبعد ثلاثة ايام جاءني مصطحبا معه ابنته لأعالجها وأخبرني بأنه تحسن كثيرا، وانه لا يدري لماذا لم يرشده الاطباء الذين راجعهم الى مثل هذه الحبوب. وكررت عليه تعليماتي السابقة بوجوب تركها.
ثم غاب عني لمدة شهرين لم اره خلالهما حتى اتصلوا بي هاتفيا لان صحته متدهورة فذهبت الى داره، وفحصته فوجدته يعاني صدمة وضيقاً في التنفس وألماً شديداً في الصدر، فاتصلت بالاسعاف من فوري، ونقلته الى مستشفى (ابن سينا) واجريت له تخطيطا للقلب، فلم أستطع أن اخفي عنه شيئا، واخبرته بأنه يعاني من (جلطة قلبية) وكنت أتوقع ان يحزن مصطفى جواد لهذا الخبر وينزعج منه، ولكنه ابتسم وقال
لي: (يا دكتور... قل غلطة قلبية... ولا تقل جلطة قلبية)!
ومما نقله إليّ من اللطائف أن العلامة جواد ركب إحدى سيارات الأجرة في بغداد، يوماً، وفي الطريق شغل السائق المذياع، وكان برنامجه من الإذاعة (قل ولا تقل) يذاع، فضجر السائق وأغلق المذياع وقال باللهجة العراقية العامية: (اسكت كواد)، فطلب مصطفى جواد التوقف
ونزل من السيارة وهمس في أذن السائق: (قل قوّاد ولا تقل كوّاد)، فسارع السائق للاعتذار منه وقبل مصطفى جواد اعتذاره وضحك.
ومرة التقى العلامة جواد الزعيم عبد الكريم قاسم وقال له: (أرجو أيها الزعيم أن لا تقول: “الجَمهورية“ بفتح الجيم، بل قلْ الجُمهورية بضم الجيم) وتقبل الزعيم النصيحة، لكنه تساءل عن السبب، فقال له مصطفي جواد: (لأن المأثور في كتب اللغة هو “الجُمهور” بضم الجيم ولأن الاسم إذا كان على هذه الصيغة وجب أن يكون الحرف الأول مضموماً لأن وزنه الصرفي هو فعلول كعُصفور.
ومرة أخطرته وزارة المعارف بكتاب رسمي بضرورة عدم نشر المقالات في الصحف استنادا للقوانين التي لا تجيز للموظف المشاركة في الأمور العامة والنشر في وسائل الإعلام، فقام بتصحيح الأخطاء الواردة في الكتاب بالقلم الأحمر وأعاد الكتاب إلى الوزارة داعيا أن تقوم بتقويم كتابها قبل أن تقّوّم الآخرين.
وذات يوم كان مسافرا خارج العراق وعند وصوله مطار البلدة التي يروم السفر إليها طلب منه الموظف المسؤول إبراز وثيقة التطعيم ضد الجدري فأخطأ في نطق الكلمة بكسر الجيم ورفع التشديد فرد عليه الجواد قل الجدري برفع الجيم وتشديد الدال فهز الموظف رأسه مستغربا وسمح له بالمرور.
وكان العلامة جواد بعيدا عن السياسة ومشكلاتها ولا يعنى بمتابعة مجرياتها حتى قيل إنه لو سئل عن مدير شرطة بغداد لصعب عليه معرفته ولكن لو سئل عن رئيس الشرطة في زمن هارون الرشيد لقال إنه فلان ابن فلان عين لرئاسة الشرطة سنة كذا وعزل من عمله عام كذا وتوفي عام كذا واستخلفه فلان الذي... الخ ولأورد تاريخ الشرطة في ذلك الزمن من دون أن يعنى بالحاضر لاشتهاره باهتماماته التاريخية وانصرافه للعلم وحده.
وحينما أسس الدكتور رياض الدباغ جامعة ديالى اطلق اسم العلامة على احدى القاعات تخليدا له.
ولا بد أن أذكر أن (العائلة المالكة) انتقته لتدريس الملك (فيصل الثاني) درس اللغة العربية...
لقد كان وداعه الأخير تظاهرة كبرى سار في توديعه جمهور كبير من محبيه والمعجبين بأحاديثه التلفازية عن محلات بغداد القديمة
وبرحيله فقد العراق علماً من أعلامه البارزين ورمزاً من رموزه الخالدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق