الأحد، 30 أغسطس 2015

تحميل كتاب ما وراء الحجاب الجنس كهندسة اجتماعية - فاطمة المرنيسي ...



تحميل كتاب ما وراء الحجاب الجنس كهندسة اجتماعية




فاطمة المرنيسي


ترجمة : فاطمة الزهراء أزرويل


المركز الثقافي العربي

   إن هدفي من هذا التحليل الاجتماعي لتطور البنية العائلية في المغرب الحديث ليس إزعاج القارئ وعالمه المألوف، بادعاء تقديم للحقيقة حول دينامية العلاقة بين الرجل والمرأة في بلادنا منذ الاستقلال. فالحقيقة هي ملك أولئك الذين يبحثون عن اليقين، وأعتقد أننا نتقدم بسرعة أكبر ونعيش بطريقة أفضل إذا تخيلنا عن تفانينا في البحث عن الحقائق الراسخة والمألوفة والمعهودة، وتبنيناً على العكس من ذلك الشك والتشكيك كقطب لتجربتنا في مغرب يتطور بسرعة فائقة. ولا أهداف إلى تقديم عائلة مغربية مثالية للقارئ، خالية من التناقضات، تسودها الطمأنينة والسعادة كما أوهمتنا بذلك خرافات الطفولة وأحلام المراهقة... ولكنني أهدف إلى زعزعة طريقة فهمنا لعائلة مغربية راسخة البنى... فإذا تمكنت من تشكيك القارئ في معتقداته المسبقة وأنماطه الجاهزة حول دينامية الجنسين وأدوارهما، ومن حثه على التفكير في أشكال جديدة للعلاقات بينهما، سأكون قد حققت نجاحاً أكبر مما كنت آمله..


قراءة في خطاب فاطمة المرنيسي النسوي


كلمة للدراسات والأبحاث - فاطمة حافظ :

  تعد فاطمة المرنيسي عالمة الاجتماع المغربية، واحدة من الوجوه النسوية المرموقة في عالمنا العربي المعاصر، ذاع صيتها منذ مطلع الثمانينات حين أقدمت دون وجل على التصدي لإعادة قراءة النص الديني من منظور نسوي؛ محدثةً بذلك نقلةً نوعيةً في الخطاب النسوي العربي، الذي كان لا يزال يراوح مكانه في مقاربة قضية المرأة من منظور الثنائية التقليدية: الأنوثة والذكورة.

   وقد عُدَّت تلك المحاولة هاديةً ومرشدةً لعدد من المحاولات التالية، التي ينهض بها فريق من النسويات المسلمات في الغرب. وبالنظر إلى أهمية محاولة المرنيسي في حد ذاتها، وعمق تأثيراتها في الخطاب النسوي المعاصر، وتعرضها للتشويه الأيديولوجي؛ نسعى من خلال هذه الدراسة إلى تقديم قراءة معرفية في خطاب فاطمة المرنيسي النسوي.

مقاطع من سيرة ذاتية :

   ولدت فاطمة المرنيسي في مدينة فاس المغربية في فبراير عام (1940م) لأسرة مغربية متوسطة الحال، ولا يتوافر لدينا تفاصيل وافية حول طفولتها وأسرتها على الرغم من أنها دوَّنت سيرتها الذاتية في كتاب (نساء على أجنحة الحلم)، والكتاب عبارة عن سيرة ذاتية متخيَّلة وليست واقعية، وبالتالي لم يكن ممكناً أن نُميِّز بين الوقائع الفعلية والنص السردي الذي مثَّل غالبية الكتاب؛ لأن وقائع طفولتها لم تكن لتستغرق أكثر من صفحتين كما أوضحت. ويزيد الأمر تعقيداً أن موقعها الإلكتروني يخلو من صفحة للسيرة الذاتية، وإن كانت خصَّصت إحدى الصفحات لكرونولوجيا إنتاجها الفكري. ويبدو أنها استشعرت أن هذا الإنتاج في تاريخيته يُعبِّر عنها وعن سيرتها بأفضل مما تعبّر عنه مراحل حياتها المختلفة.

   واستناداً إلى ما كتبته فاطمة الزهراء أزرويل، الباحثة المقربة من المرنيسي، ومترجمة أعمالها إلى اللغة العربية، فإن المرنيسي التحقت في مراحل تعليمها الأولية بالمدارس الوطنية التي انتشرت في عهد الملك محمد الخامس، فالتحقت بمدرسة الأستاذ بنعبدالله، ثم بمدرسة مولاي إبراهيم الكتاني، وهما من المدارس المختلطة، ووفقاً للمرنيسي فإن المعاملة فيهما لم تكن تمييزية بين الذكور والإناث، وقد تلقَّت فيهما المبادئ الوطنية الممتزجة بالدعوة إلى الحرية، أما تعليمها الثانوي فقد كان في مدارس الإناث التي كان يتم تمويلها من الحماية الفرنسية.

   في الجامعة درست المرنيسي العلوم السياسية بجامعة الملك محمد الخامس، وما إن حصلت على شهادتها الجامعية حتى سعت لمواصلة دراستها فارتحلت إلى باريس، وقرّرت دراسة علم الاجتماع في السوربون، ثم غادرت إلى الولايات المتحدة والتحقت بجامعة برانديز Brandeis university ونالت منها درجة الدكتوراه في الاجتماع عام 1973 .

  وتسرد المرنيسي جانبًا من تجربتها الحياتية في الجامعة التي تشكّكت إدارتها في البداية في المقدرة العلمية للمرنيسي على خلفية تأنقها الزائد، وحرصها على ارتداء الحلي؛ فعهدت إليها بتكليفات دراسية على درجة من الصعوبة، مما اضطرها طيلة ستة أشهر للقيام بأعمال منزلية لإحدى الأسر حتى تتمكن من دفع إيجار مسكنها، إلى أن تأكدت الجامعة أن تأنق الطالبة لا يعني بالضرورة تدني مستواها المعرفي، ووافقت على طلبها للحصول على المنحة الدراسية، وقد وجَّهتها تلك الحادثة نحو دراسة الصراع بين نظرة الغرب والشرق حول سلطة النساء؛ لتكون موضوعاً للدكتوراه.

  مع حصولها على درجة الدكتوراه عادت إلى الرباط، وعملت منذ ذلك الحين استاذًا بجامعة الملك محمد الخامس، وخلال فترة وجيزة أثبتت كفاءة، وحقَّقت كتاباتها شهرة، وتُرجمت إلى عدة لغات. وعلى خلفيتها دعيت للمشاركة في عدد من المؤسسات البحثية الغربية كخبير في النسوية الإسلامية. وأشرفت على مجموعة من الأبحاث لفرق بحثية مغربية في مجال سوسيولوجيا العائلة، وسوسيولوجيا المرأة، والتحوّل الاجتماعي في المغرب المعاصر. وتعمل المرنيسي حاليًّا كمستشار لعدد من المؤسسات الدولية مثل منظمة اليونسكو، ومنظمة العمل الدولية، والبنك الدولي. وقد نالت عدداً من الجوائز الدولية تقديراً لمكانتها العلمية.

   وضعت المرنيسي عدداً من المؤلفات، وقد صدر أولها عام 1975م تحت عنوان (ماوراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية)، وهي أطروحتها للدكتوراه، وصدر لها بعد ذلك (الحريم السياسي: النبي والنساء) (1988م)، وكتبته باللغة الفرنسية وتُرجم إلى تسع لغات منها العربية، ثم (السلطانات المنسيات في الإسلام) (1990م) الذي تمت ترجمته إلى تسع لغات كذلك، (الإسلام والديمقراطية: الخوف من الحداثة) (1992م)، (شهرزاد ترحل إلى الغرب) (2001م)، وقد ترجم إلى عشر لغات. وهذه المؤلفات وضعت باللغتين الفرنسية والإنجليزية ثم نقلت إلى اللغة العربية في ترجمات تتفاوت في الدقة والجودة، وإن كانت ترجمات فاطمة الزهراء أزرويل -وفقاً للمرنيسي- هي الأفضل، وعلى هذا تخلو مؤلفاتها من الكتابات العربية خلا كتاب (الحب في حضارتنا الإسلامية)، الذي صدر في بيروت عام 1983م.

المفاهيم المركزية :

مفهوم الحدود :

   تمتلك فاطمة المرنيسي قاموساً خاصًّا تقارب منه القضايا المختلفة ولاسيما النسوية، وهو يضم عدداً من المفاهيم التي ينبغي الإحاطة بها، وفي مقدمتها «مفهوم الحدود» الذي يُعَدُّ مفهوماً مركزيًّا ضمن منظومتها الفكرية. ولكن قبل أن نشرع في تناول دلالات المفهوم واستخداماته لديها؛ نتوقف أمام أصله اللغوي، فقد جاء في المعجم الوسيط أن الحد هو الفاصل بين الشيئين، وفي اصطلاح المناطقة هو القول الدال على ماهية الشيء، وفي الشرع حدود الله هي أوامره ونواهيه.

    تتخذ الحدود لدى المرنيسي معاني ودلالات مغايرة، فهي ليست محايدة كما الأصل اللغوي، وإنما هي مُحمَّلة بالمدلولات السلبية التي يمكن استشفافها حتى قبيل أن تمضي في تحديد المفهوم وبيان معالمه، وذلك من خلال حديثها عن أن الله قد شقَّ البحر المتوسط ليكون حدًّا فاصلاً بين النصارى والمسلمين، وعن المغرب الذي ظل كياناً موحًّداً منذ فجر التاريخ وحين تنازعه الأسبان والفرنسيون شطروه نصفين ووضعت بينهما الحدود الفاصلة. ويلاحظ هنا أن المفهوم يتم توظيفه للإشارة إلى حالات الاصطفافات والاستقطابات الثنائية الحادَّة، ذلك أنها تعود لتُركِّز على أن الحدود هي كيانات وهمية مصطنعة وليس لها وجود واقعي، كما هو الحال مع الخط الفاصل بين جبهات القتال، فهو ليس إلَّا خط وهمي في رؤوس المتحاربين.

   ولا يقتصر استخدام المفهوم عند هذا المستوى وإنما الحدود مفهوم ممتد يشمل السياسي والديني والاجتماعي، إنه يشكل منظومة متكاملة فرضها من يملكون السلطة (الدينية والسياسية)، وتكاد تحكم بخناقها على الإنسان مع ترسُّخ الاعتقاد بأن انتهاك الحدود يشكل خطراً. وبحسب المرنيسي فقد تعرَّض العالم الإسلامي في مطلع القرن العشرين لهذا الانتهاك؛ ففي الخارج تخطَّى المسيحيون الغربيون الحدود واعتدوا على البلدان الإسلامية وعرضوها للخطر، وبالتساوق مع ذلك تخطَّت النساء أسوار الحريم في الداخل وهددن الحدود الدينية والاجتماعية المستقرة.

   عبر منهجية السرد الحكائي، التي تُكثر المرنيسي من اللجوء إليها حتى لتستحق عن جدارة لقب شهرزاد؛ تُمرِّر فكرتها الرئيسة، وهي أن الحدود –المرادف الحرفي للطاعة- يتم فرضها بالقوة عبر آليتي الإرهاب والتخويف منذ الصغر، فـ«التربية أن تتعلم كيف تميّز الحدود، ذلك ما كانت تقوله للا الطام الفقيهة في الكُتَّاب الذي بعثوا بي إليه في سن الثالثة لكي التحق بأبناء وبنات أعمامي العشرة، تملك للا الطام سوطاً مخيفة، وأنا أتفق معها بشأن الحدود والنصارى والتربية، أن تكون مسلماً يعني أن تحترم الحدود، أي أن تُطيع إذا كنت طفلاً». وتتوقف المرنيسي عند هذا الحد ولا تكمل جملتها، تاركة لقارئها أن يكمل بدوره فراغات الجملة الناقصة، وهي أن تخطي الحدود/ الطاعة يعني أن الإنسان تجاوز عتبة الطفولة ودخل مرحلة الرشد.

مفهوم الحريم :

  داخل قاموس المرنيسي يحتل مفهوم الحريم أهمية تجد صداها في اختياره ليكون عنواناً لعدد من مؤلفاتها، ووفقاً لتعريفها فإن «الحريم -قبل كل شيء- مفهوم مكاني وحدود تقسّم الفضاء إلى قسمين: فضاء داخلي أنثوي مستتر ومحرم على كل الرجال، وفضاء خارجي مفتوح على كل الرجال ما عدا النساء». ولفظ الحريم يستمد معناه من الحرام والحرم في آن، أو المكان المقدس الذي يخضع الدخول إليه إلى قوانين محددة وصارمة.

   وتمارس المرنيسي حفرًا مزدوجًا لغويًّا وتاريخيًّا للكشف عن معنى الحريم، وفيما يخص الحفر اللغوي تعود إلى (لسان العرب) لتستخرج منه الدلالات الكامنة وراء الحريم، وتنقل عنه أن أصل الكلمة الحِرم أو الحرام، والحريم ما يحظر لمسه فلا يمس، وهي أيضاً ما كان المحرمون يلقونه من الثياب فلا يلمسونه، وكان العرب يخلعون ثيابهم إذا حجوا ويطوفون بالبيت عراة حيث كانت النساء بدورهن يطفن عرايا، كما تنقل عنه ما رواه ابن واصل الكلابي من أن «حريم الدار مما دخل فيها مما يغلق عليه بابها، ونقيض حريم في هذا المعنى هو فناء أي الباحة الخارجية».

   وأما ما يخص الحفر التاريخي تذهب المرنيسي إلى أن مؤسسة الحريم تضرب بجذورها في أعماق التاريخ؛ فقد شملت جميع الحضارات ابتداء من الحضارة الإغريقية القديمة وصولاً إلى الحضارة الغربية الحديثة مروراً بالحضارة الإسلامية، ومؤسسة الحريم تعد وجهاً آخر لمؤسسة الرق، حتى أنهما قد يتماهيان، فكل منهما تتغذيان على الفتوحات العسكرية التي تمد السلطان الغازي وحده بالجواري اللواتي يُؤَمِّنَّ له المتعة.

   وتقارن المرنيسي بين حريم الخليفة العباسي هارون الرشيد والسلطان العثماني محمد الثاني فاتح القسطنطينية. وما يبرر المقارنة لديها أنهما من أكثر الحكام المسلمين إثارة للمخيلة الشعبية بفضل امتلاكهما عدداً وافراً من الجواري، ولأن كل منهما بسط سيطرته على أوروبا المسيحية. وقد توصلت من خلال المقارنة إلى وجود علاقة ثابتة بين الفتوحات العسكرية وتسخير الجواري لخدمة ومتعة السلطان «الغازي الأوحد»، وارتباط ذلك بالصراع الدائر بين أوروبا المسيحية والشرق المسلم.

  والحريم عالم مركب كما تعتقد المرنيسي وليس بسيطاً كما يبدو، فهو يشكل نقطة التقاء وانصهار لثلاثة من أكثر العوالم المرغوبة في العالم: السلطة والثروة والمتعة، وإذا فصلنا السلطة والثروة فإن المتعة هي التي تُشكِّل أصل الاستيهامات، ولكن العوالم جميعها تنصهر داخل كلمة حريم ويتداخل الرخاء المادي مع المتعة العاطفية والجسدية، وهذه المتعة لا تؤدَّى للجميع وإنما يختص بها شخص أوحد هو السلطان الآمر الناهي صاحب القرار والسلطة، وكل رعاياه لا سيما النساء مجرد أدوات بيديه، ولا يحق لشخص سواه أن يدخل عالم الحريم الذي سحقت تطلعاته وباتت أقصى طموحات نساؤه تدور في فلك السلطان وأن يقمن علاقة لمرة واحدة معه. وتفسر المرنيسي هذا الخضوع الذليل للحريم على ضوء عامل وحيد هو «وفرة عددهن بالنسبة إلى السيد الأوحد الذي لا شريك له».

يلفت نظرنا فيما تذكره المرنيسي أمران على جانب من الأهمية:

الأول: أن النص محمل بالدلالات بحيث يمكن القول: إنه في حقيقته نصَّان متوازيان وليس نصًّا واحداً، نص ظاهر معلن عنه ونص آخر باطن مسكوت عنه، وبينهما معابر وجسور بحيث يُحيل النص المعلن إلى النص المسكوت عنه عبر المفردات والألفاظ ذات الحمولة المزدوجة، فهناك السلطان الواحد في مقابل الرعايا من الحريم في النص المعلن، ويقابله الواحد الأحد الذي لا شريك له في مواجهة مخلوقاته/ عبيده الذين هم أدوات بين يديه في النص الباطن.

والثاني: مدى انطباق رؤية المرنيسي لعالم الحريم مع رؤية الرحالة الغربيين الذين زاروا الشرق وعبَّروا عنها في هيئة كتابات أو صور أو ماشابه. وهذه تحتاج تفصيل، لكننا نكتفي بالإشارة إلى أن هناك مساحات مشتركة، منها محاولة تمديد مفهوم الحريم بحيث ينسحب على التاريخ الإسلامي بأسره ويشمل كافة الأمصار والمدن والقرى، والإيهام بمركزية الجنس داخل الفضاء الإسلامي والنظر إليه باعتباره محركاً للتاريخ.

تأويل النص الديني :

   في كتابها (الحريم السياسي)، الذي حمل عنواناً فرعيًّا دالًّا هو (النبي والنساء)، قدمت المرنيسي أطروحتها الأساسية. ولسنا في حاجة لتبرير تلك الأهمية التي يؤشر إليها عنوان الكتاب الذي قامت خلاله -للمرة الأولى عربيًّا- بقراءة تاريخية للنص الديني المتعلق بالمرأة، فأرست بذلك الأسس الأولى للنسوية الإسلامية القائمة على التأويل وإعادة النظر في النص الديني من منظور نسوي.

   ومما يجب الالتفات إليه أن المرنيسي وقع اختيارها على نماذج بعينها داخل النص الديني، أسهمت برأيها في تحديد وضعية النساء إلى حد بعيد، وأعملت منهج القراءة التاريخية عليها، وهي:

- الآية المتعلقة بنزول الحجاب في سورة الأحزاب (الآية 53).

- الآية المتعلقة بالعلاقات الزواجية في سورة البقرة (الآية 223).

- الحديث النبوي الشريف: «لن يفلح قوم ولَّوا أمورهم امرأة».

   ومما ينبغي الالتفات إليه أنها لم تكشف عن تفاصيل المنهج الذي اختطته لنفسها لتقارب هذه النصوص الدينية، واكتفت بالإشارة إلى أنها رحلت إلى التاريخ عبر هذا «الكتاب السفينة» الذي يغوص في أعماق التاريخ ليستخلص الحقائق من الوقائع المتشابكة، وذكرت اطِّلاعها على المصادر الإسلامية الأصلية مثل سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد، وتفسير الطبري كي تفهم الفترة التأسيسية للإسلام في عهد النبي وخلفائه الراشدين.

  انطلقت المرنيسي في بحثها من فرضية أساسية، وهي أن النصوص الدينية قد جرى توظيفها من قبل الرجال بهدف إضفاء الشرعية على بعض الامتيازات ذات الطبيعة السياسية أو الجنسية. وحول هذه الفرضية طرحت تساؤلات حول المدى الذي بلغه التعسف في تأويل النص الديني، وكيف يمكن قراءة النص الديني الذي يمتزج فيه السياسي والديني على نحو يصعب الفصل بينهما، وكيف تضخّمت الأحاديث النبوية على هذا النحو بعد وفاة النبي، وما هي السياقات التاريخية التي اكسبتها السلطة على العقل المسلم.

   وقد توصَّلت المرنيسي من خلال البحث في المصادر الإسلامية إلى أن جذور معاداة النساء المتجذرة في الممارسات الإسلامية، لا يمكن إرجاعها إلى النبي محمد؛ ذلك «النبي العاشق الذي بشَّر في قلب الصحراء بلغة لا تعرفها الأم القبيلة ولا الأب السيف»، والمعادي لأي هرمية اجتماعية، والمنادي بالمساواة بين المؤمنين جميعاً رجالاً ونساءً.

   ولكن إذا كان النبي محبًّا للنساء، وإذا كانت آيات القرآن تنص على المساواة؛ فمن أين أتت جذور العداء للنساء؟ هذا ما أرجعته إلى الأحاديث المختلقة التي نُسبت إلى النبي بعد وفاته في فترة الاضطرابات السياسية والفتن التي شهدتها فترة الخلفاء الراشدين، والحديث المختلق –وفقاً للمرنيسي- هو شهادة تدَّعي أن النبي قد قال هذا أو فعل ذلك الأمر الذي يمنح هذا الفعل أو الموقف مشروعية. وتبعاً للأوضاع والرهانات السياسية كان القائمون على الخطاب الديني ينشرون أحاديث تُضفي الشرعية على بعض الامتيازات وتُرضي أصحابها.

    ضمن هذا الإطار تتوقف المرنيسي أمام الحديث الشريف: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»، الذي تَعُدُّه حديثاً نموذجيًّا في معاداة النساء وليس مجرد حالة خاصة، وقد صنفه الإمام البخاري ضمن الأحاديث الصحيحة، ولكن هذا لا يمنعها كامرأة مسلمة من القيام ببحث مزدوج: تاريخي ومنهجي حول الحديث ومن رواه، ولاسيما الظروف التي استُعمل فيها لأول مرة، فمن روى هذا الحديث وأين ومتى ولمن ولماذا؟

   وعبر عملية البحث تكتشف أن الحديث قد رُوي للمرة الأولى في أعقاب هزيمة السيدة عائشة في معركة الجمل، تلك الهزيمة التي أُعدمت فيها أم المؤمنين سياسيًّا. وتثير المرنيسي التساؤلات حول دواعي استدعاء الصحابي أبي بكرة راوي الحديث له من الذاكرة بعد مضي خمسة وعشرون عاماً كاملة من نطق الرسول به، وتضع عدة احتمالات لذلك، إلَّا أنها تُرجِّح أن هذا الاستدعاء له علاقة برغبة أبي بكرة في الانحياز لجانب فريق الإمام علي (رضي الله عنه) الذي انتصر في معركة الجمل واستعاد سيطرته على المدينة. من جهة ثانية تُثير المرنيسي شكوكاً قوية حول نزاهة أبو بكرة الذي جلده الخليفة عمر بن الخطاب على شهادة كاذبة بحق المغيرة بن شعبة. وهذان السببان كفيلان برأيها لاستبعاده من قائمة رواة الأحاديث الصحيحة، والتشكيك في صحة الحديث الذي يتنافى مع مبدأ المساواة النبوية بين الجنسين.

   وتنتقل المرنيسي بعد ذلك إلى مقاربة آية نزول الحجاب من سورة الأحزاب {وإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}، فتوقفت أمام مفهوم الحجاب الذي عدَّته أحد المفاهيم المفتاحية في الحضارة الإسلامية، كما هو الحال بالنسبة لمفهوم الخطيئة في الحضارة المسيحية، ومفهوم الاعتماد (credit) في الحضارة الأمريكية الرأسمالية. ومفهوم بهذه المركزية لا يمكن تخفيضه وتقليصه عند قطعة من القماش تسير بها المرأة في الشارع، ففي ذلك إفقار له وتفريغ له من مضامينه؛ لكونه متجذرًا في بنية الثقافة العربية وله استخدامات واسعة لدى المتصوفة وفي بلاط الأمراء، كما أن له دلالات عميقة مكانية وزمانية يتعذر معها أن نقصره على حجاب المرأة المتعارف عليه.

   ووفق منهجيتها التاريخية المعتادة تبحث المرنيسي في السياقات المصاحبة لنزول الآية، فتذهب إلى أنها نزلت في سياقين، الأول سياسي عام حيث نزلت في السنة الخامسة للهجرة وهي «سنة مشؤومة» بالنسبة للنبي؛ لأنها أتت بعد هزيمته في غزوة أحد، وفي أعقاب تجمع القبائل العربية لمهاجمة المدينة. أما السياق الخاص فهو يوم زفافه من السيدة زينب بنت جحش، وقد أراد النبي أن يختلي بعروسه بعد حفل العرس إلَّا أن قلةً فظَّةً من المدعوين على رأسهم أنس بن مالك لم تُغادر فنزلت هذه الآية «في غرفة الزوجين من أجل حماية حياتهما الخاصة وإبعاد الشخص الثالث عن النظر وهو أنس بن مالك، فأنس خُصّ بالحجاب بصفته شاهداً وممثلاً لجماعة أصبحت مزعجة جدًّا»، فالحجاب بهذا المعنى –أي معنى الستار- لم ينزل ليكون حاجزاً بين رجل وامرأة وإنما ليكون حاجزاً بين رجلين.

   المحصلة النهائية التي تخلص إليها المرنيسي من خلال هذا السياق التاريخي أن الآية تختص بنساء النبي، وأنها لا تفرض على كافة المسلمات أن يضعن الحجاب ويحتجبن في منازلهن بعيداً عن المجال العام.

   المحطة التالية التي توقَّفت أمامها المرنيسي في قراءتها التاريخية للنص القرآني كانت أمام الآية الكريمة {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} بوصفها تناقش حدود العلاقة الخاصة بين الزوج وزوجته. وحسب المرنيسي فقد نزلت الآية في حادثتين منفصلتين: امرأة من المدينة رفضت وضعاً معيناً من زوجها، والأخرى حول عنف أحد الأزواج ضد زوجته. وقد لجأت الزوجتان للرسول تشكوان إليه ذلك فنزلت الآية، التي تعتقد المرنيسي أنها انحازت إلى جانب الرجال حين أقرت بحريتهم في العلاقة الزوجية دون أن تقر بحرية النساء الموازية. وعبر مناقشات وعرض لرؤى مختلفة تستنتج المرنيسي أن ممارسة اللواط كانت ممنوعة على المستوى الشكلي في الإسلام الذي أقر ممارستها عمليًّا، وأن دور المرأة في العلاقة الزوجية، وهي المبدأ الأساسي الذي أثارت الآية حوله النقاش، ظل بدون حسم حتى الآن.

  وخارج سياق تأويل النص الديني تُحلِّل المرنيسي السياقات التاريخية والاجتماعية المصاحبة لنزول النص القرآني داخل المدينة، فتجد أنه وجدت رغبة لدى بعض الصحابة -وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب «الناطق الرسمي للمقاومة الذكورية ضد مشروع المساواة النبوي»- لتقليص حقوق النساء التي أُقرت عبر القرآن والممارسات النبوية، فعمر أزعجته مساحات الحرية التي كانت تتمتع بها نساء المدينة، وخشي من إمكانية انتقالها إلى المهاجرات، وهو ما أشار إليه حادث الاحتجاج النسوي الذي قامت به النساء في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين اشتكين أزواجهن. وفي تحليلها لدواعي استنكار عمر لهذا الاحتجاج تذهب المرنيسي أن عمر (رضي الله عنه) كان ضمن فريق يرى أنه ينبغي أن تقتصر التغييرات التي يدخلها الإسلام على الحياة العامة والروحية، أما الحياة الخاصة فينبغي أن تظل محكومة بعادات الجاهلية القبلية.

  تفتح محاولة المرنيسي لقراءة النص الديني قراءة تاريخية مجال النقاش واسعاً إلَّا أننا سنكتفي بإبداء بعض الملاحظات حول منهجيتها المتبعة، وسنبتعد عن الخوض في المسائل الشرعية التي نظن أنها تقع خارج حدود هذا البحث.

   الملاحظة الأولى، تدور حول العودة إلى التاريخ وإعادة قراءته؛ إذ المشكل ليس في العودة كما يحلو للمرنيسي أن تصور، فمن اصطُلح على تسميتهم بالأصوليين والسلفيين يعودون للتاريخ أيضاً، وإنما طبيعة الموضوع المبحوث والنتائج التي يتم التوصل إليها هما مثار التحفظ أو الرفض. ويرتبط بهذا مسألة انتقائية العودة وقصرها على بعض المواضع القابلة للاختراق، وإلَّا كيف نُفسِّر توقُّفها أمام حديث أبي بكرة دون غيره من الأحاديث، وهكذا يغدو الأمر وكأنه عودة أيديولوجية وليست عودة معرفية غايتها البحث عن الحقيقة.

  الملاحظة الثانية، تتعلق بمحاولتها إقامة ارتباط حتمي بين الديني والسياسي، ومن هنا البحث عما يمكن أن يشير أي إشارة إلى السياسي، فإذا لم تعثر عليه تضطر المرنيسي حينئذ إلى القيام بعملية إقحام مفتعلة للسياسي، كما هو الحال حين ربطت بين غزوتي أحد والأحزاب وآية نزول الحجاب؛ لتبرهن في النهاية أن النص ليس دينيًّا خالصاً وإنما له ظلال سياسية وتاريخية سيظل أسيراً لها.

  أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فتتعلق بمنهجية قراءة المرنيسي للنص الديني، والتي لم تبسطها في كتابها، وهذه المنهجية يمكن تلخيصها في الآتي:

- تقليص قداسة النص القرآني عند حدوده الدنيا، مع نزع هامش القداسة كليًّا عند التعامل مع النص الحديثي.

- عزل النص عن شبكة النصوص الدينية الأخرى، واعتباره وحدة مجتزأة منفصلة حتى يسهل التعامل معه أثناء عملية الحفر التاريخي.

- استبعاد الأدوات والمناهج التي تواضع عليها العلماء المسلمون للتعامل مع النص، مع الاكتفاء بآلية أسباب النزول للاستناد إليها لإثبات تاريخية النص وأنه متجذر داخل سياقه التاريخي ولا يتمتع بالإطلاقية التي تميز النصوص المقدسة عمَّا عداها من النصوص.

- البحث عن الثغرات داخل النص، وبالنظر إلى صعوبة اختراق النص من الداخل تتخذ المرنيسي من التساؤلات أداة لتفكيك التوافق حول النص من الخارج، عبر إثارة الشكوك حول الملابسات التي وُجد فيها، والتي صاحبت تشكُّله التاريخي.

المرأة والسياسة: السلطانات المنسيات :

   في كتابها السلطانات المنسيات تُسوِّق المرنيسي ثانيةَ أطروحاتها في الأهمية، وتتعلّق بالمرأة والسلطة والعمل السياسي، والتي تحاول فيها تفكيك الخطاب الديني السائد، مستخدمةً منهج التحليل التاريخي من أجل قراءة النصوص التاريخية للكشف عن السياقات التي تشكَّلت فيها الممارسات التاريخية، والكشف عمَّا تعتقد أنه تم السكوت عنه بشأنها.

   أطروحة المرنيسي في هذا الكتاب ذات شقين: الأول يثبت أن خمسة عشر امرأة مسلمة نجحن في انتزاع السلطة التي احكترتها الذكورية المهيمنة على مجمل التفسيرات الدينية، وأفلحن في أن يُصبحن سلطانات وملكات، ولكنهن لم يتمكن أبداً من الوصول إلى منصب الخلافة الذي ظلَّ مُحاطاً بسلسلة من السياجات التي تجعل من اختراقه محاولة محكوماً عليها بالإخفاق الأبدي. والشق الثاني يتتبع عملية إقصاء النساء من التاريخ، أسبابها وآلياتها وكيفياتها ودور المؤرخين فيها.

   انطلقت المرنيسي من التمييز بين مصطلح الخليفة من جانب والملك والسلطان من جانب ثانٍ؛ إذ يحيل الأول إلى معانٍ ودلالات دينية، على حين يُحيل المصطلحان الآخران إلى معانٍ سياسية دنيوية. وتتوقف المرنيسي أمام مصطلح خليفة لتبحث في جذوره اللغوية، ولتكتشف -حسب لسان العرب- أن كلمة خليفة لا يمكن استعمالها في المؤنث على حين أن كلمتي السلطان والملك توجد في الجنسين. وتستنتج من ذلك أن «النحو العربي قد حكم ونظم توزيع السلطة السياسية بين الرجال والنساء».

   وأردفت ذلك بالتوجه صوب التشكّلات التاريخية لترى كيف ترسَّخت مؤسسة الخلافة، ولماذا استطاعت النساء أن يُصبحن ملكات وسلطانات واستُبعدن من منصب الخلافة. وفي تحليلها فإن النساء استُبعدن من المنصب لرمزيته الدينية؛ فالخليفة هو ظل الله على الأرض، «وهو يَحِلُّ مَحِلَّ النبي في مهمته، بأن يتيح لمجموعة من الناس العيش حسب القوانين الدينية التي تضمن حياة منسجمة على الأرض سعيدة في الجنة، وليس لأيٍّ كان ادِّعاء الخلافة؛ إذ إن بلوغ هذا الامتياز يخضع لمعايير دقيقة، وخلافاً لذلك فإن ألقاباً كسلطان المشتقة من كلمة (سلط)، وملك التي لها المفهوم نفسه من القوة الفظَّة غير المعدلة بالدين، والتي يمكن أن يبلغها أي شخص كان؛ لهذا يمكن للنساء نيلها، لأنها لا تقتضي أية مهمة دينية».

   وتمضي المرنيسي لتعدد شروط تولي منصب الخلافة، فتذهب إلى أنه يوجد «هنالك معياران لشرعية الخليفة: الذكورة وأن يكون عربيًّا، وفي حين جُوْبِهَ المعيار الأخير بشدة ومات ألوف من المسلمين في سبيل أنه يمكن لأي مسلم أن يصبح خليفة، فإن أحداً لم يتنكر أبدًا لمعيار الذكورة، ولم يعرض أحد حياته للخطر كي يؤكد أن معيار الذكورة المطلوب لشغل منصب الخليفة كان يمس بمبدأ المساواة الذي هو مبدأ أساسي في الإسلام. فكيف استطاع الإسلام التوفيق بين هاتين النقطتين: مبدأ المساواة بين الجميع من جهة، والمعايير الضيقة لمشروعية الخلافة من جهة أخرى؟! ذلك أحد ألغاز التاريخ السياسي الذي ينبغي على المحدثين حل رموزه».

   وإذا كان نظام الخلافة هو نظام لا مساواتي معادٍ لجوهر الإسلام الرسالي -وليس الإسلام السياسي وفق تصنيفها-؛ فكيف استطاع هذا النظام أن يتجاوز العصور والقرون واحداً تلو الآخر؟! ذلك ما تفسره المرنيسي على ضوء أنه كان يمثل حلم الحكم العادل، والتي تمتلك في المخيلة الجمعية القوة والسلطة اللامنظورة؛ فـالخلافة «هي الحلم الذي تكشَّف بصعوبة بعد وفاة النبي أنها الرؤية الأسطورية لجماعة سعيدة تُدار مثاليًّا من قبل خليفة أسير للشريعة الإسلامية ومتنور بها»

   وبعيداً عن مسألة الخلافة تُناقش لمرنيسي مسألة كيفية ظهور النساء على المسرح السياسي والذي يمتزج خلاله الجنس بالسياسة، وتذهب إلى أن بعض الحريم الموهوبات قد امتلكن سلطة على الخلفاء، وتسوق مثالاً بالخليفة يزيد الثاني وجاريته حبابة التي ما إن كانت تشرع في الغناء حتى تأخذه النشوة بعيداً ويهذي بكلمات مفارقة للعقل والمنطق. وسلطة الحريم هذه أجرت تحوُّلات لم تنص عليها الشريعة في صميم النظام السياسي في علاقة النساء مع «ممثل الله على الأرض»، وقد بدأت تلك التحوّلات من خلال «ثورة الحريم» أو الجواري التي يمكن أن نعدّها ثورة من نوع خاص، وليست كثورات العبيد والزنج التي سجلها المؤرخون كأول الثورات الشعبية ضد الخلافة؛ ذلك أنها لم تنطلق من قلب بغداد وإنما انطلقت من قصر الخلافة نفسه في فراش وقلب من نصبه الشرع حاكماً مطلقاً على الأموال والأرواح.

   من خلال ثورة الحريم استطاعت بعض النساء أن يجتزن عتبة السلطنة، ولكن الصفة الثابتة في التاريخ الإسلامي تشير إلى أنه مع كل تولٍّ للسلطة من قبل النساء استمر من اصطلح على تسميتهم بالسلفيين والأصوليين ينظرون إليه كعدوان وانتهاك لقواعد اللعبة السياسية؛ فما إن تصل امرأة للسلطة حتى تظهر جماعة تشعر بإلحاق الأذى بمصالحها فتحاول معارضتها باسم الشريعة وحماية الثوابت الدينية. وتحت ستار المصلحة والأدلجة قام المؤرخون بدورهم في إسدال الستار على هذا الفاصل التاريخي النسائي وشطبه من التاريخ. واللافت للنظر أن تعترف المرنيسي أن المؤرخين القدامى كانوا أقل تطرفاً ضد النساء حين دونوا وصول النساء للسلطة في عبارات وفقرات مقتضبة، وذلك إذا ما قُورنوا بالمؤرخين المحدثين الذي شطبوا النساء بالكلية من التاريخ.

   في تحليلنا لما ذكرته المرنيسي حول السلطانات المنسيات ينبغي أن نشير إلى أن جهداً كبيراً قد بذلته للكشف عن هاته النسوة، واستخراج تفاصيل تجربتهن السياسية من بطون كتب التاريخ، ورغم ذلك نعتقد أن هناك نقطتين كان يتوجب عليها أن تتوقف أمامهما:

أولاً: دراسة وتحليل الفترات الزمنية التي ظهرت فيها السلطانات -والتي تقع بين عام 1236م تاريخ تولي رضية الدين العرش في دلهي، وعام 1699م تاريخ خروج زينة الدين كمالات من الحكم في سومطرة-، وعدم الاكتفاء بسرد التواريخ كما فعلت، ودون قراءة هذا الظهور في سياقه التاريخي والاجتماعي والسياسي العام، ومقاربته من نافذة الحريم والغرائز وكأنه ظاهرة لا تاريخية.

ثانياً: تقديم تفسيرات لجميع الإشكالات المرتبطة بالصعود السياسي النسائي، فالملاحظ أنها ركَّزت على بعض الإشكالات مثل عملية الاستبعاد ودوافعها وكيف تمت، وفي المقابل أحجمت عن تفسير محدودية هذا الصعود، ولماذا اقتصر على فئة معينة وبلدان إسلامية محددة، فضلاً عن أنها لم تفسر لنا الأسباب التي وقفت وراء تواري هذا النموذج منذ قرون، والأسباب التي تقف وراء عودته الآن، وما هي احتمالات استمراره في المستقبل على ضوء ذلك كله.

   في نهاية هذا الاستعراض المكثف لخطاب فاطمة المرنيسي النسوي نلفت الانتباه إلى أن نص المرنيسي نص مركب مفعم بالدلالات والمعاني المسكوت عنها، وقد كتبته باحثة ذكية تعلم كيف توظف أدواتها لخدمة النتائج التي تود الوصول إليها، وهي لهذا تحتاج إلى قارئ فطن بمقدوره استشفاف المعاني، ولكن مما يؤسف له أن النص كتب في الأصل بلغة أجنبية وترجم ترجمة رديئة غصَّت بالأخطاء بحيث يمكنها أن تحول دون القدرة على استيعاب كافة المضامين المضمرة، ومن هنا نعتقد أن على من يود الوقوف على المضامين بدقة أن يطالع الأصل الأجنبي ويقارن بينه وبين الترجمة العربية التي تستحق المرنيسي بكل تأكيد ما هو أفضل منها.

   من جهة أخرى نعيد التأكيد على أن أطروحات المرنيسي وإن تعلقت بتفسيرات النص الديني وتناولت حقبة مهمة ورموزاً دينية، إلَّا أنها تظل في النهاية منتجاً معرفيًّا صادراً عن عقل نسوي، وبالتالي فإن التعامل معها من خلال الأطر والمنظورات الشرعية، وبمنطق الحل والتحريم لا نظن أنه يجدي نفعًا، فعلينا التعامل معها على اعتبار أنها أطروحة معرفية تحتاج إلى أدوات ومناهج علمية حتى يمكن التعامل مع النتائج التي تتوصل إليها.

































 http://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=lbb5865-5770&search=books




ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة