الخميس، 4 يونيو 2015

نبض الحياة ونبض الموت... مشاهد ووقفات - قراءة في رواية التبر لإبراهيم الكوني ...


نبض الحياة ونبض الموت... مشاهد ووقفات 

قراءة في رواية التبر لإبراهيم الكوني 



الأخضر بن السائح - قسم اللغة العربية وآدابها - جامعة عمار ثليجي / الأغواط -ولاية الأغواط / الجزائر :

- رواية التبر طائر يحلّق أعلى من المألوف في سماء الصحراء وفيضها السرّي ، وعبثها الأبدي، كانت الشمس فيها أكثر اشتعالا، والسعادة أقلّ اكتمالا حيث تكتنز الانكسارات والخيبة والعزلة التي تطلّ على الهاوية، مزج فيها المؤلّف بين رماد الأساطير وحركة الكائنات مع صوت الأشباح والجنيّات.

   للصحراء روح تحملها رواية التبر التي ولدت بين النار والماء والأرض والسماء في روح موزّعة بين جسدي "اوخيّد" و"الأبلق" هذه الروح الطليقة المقسّمة بين السماء والأرض حيث المساحات التي تبرز فيها النواة الدلالية الممغنطة والتي تقوم باجتذاب المحاور السردية الأخرى وتسخيرها للاندماج والتلاحم مع نصوص مختلفة ولا يكتمل التلاحم إلا باجتماع الروافد الثلاثة المهيمنة على الرواية هي ( الفيض العقلي والخيالي والشعوري )، وعبر تداعي المحاور وتقاطعها يشحن السرد بقوّة هائلة فاعلة ، مكثّفة ومشحونة عبر نزيف لغوي يرتقي إلى عوالم التجلّي والمشاهدة وتصل إلى مقامات السموّ والرؤيا فترحل الأرواح كامتدادات نورانية من الجسد إلى العالم الآخر وتخترق الزمن والمكان .

- لن أبالغ بالقول إن قلت: رواية التبر رؤية مستمدّة من إشراقات الذات وتجلّي الصور البرزخيّة بلغة المتصوفة. 



- تطلع علينا "رواية التبر"وكأنها قطعة أثرية نادرة تؤرّخ للصحراء وتسجّل طقوسها عبر ثنائية الصوت الواحد والمتعدّد من خلال "أوخيّد"وجمله الأبلق ، وفي محراب الصحراء وعبر دروبها نلمس تلك الهمسة المسموعة أو الرائحة الخفية التي تعبّر عن عالم الروحانيات حيث الصفاء والخلود والتجرّد من كل ماهو محسوس، أو العالم السفلي حيث التراب ودنس المادّة التي تشدّ الإنسان إلى الأرض فيفنى الجسد و تصعد الروح إلى ماهو أعلى .

- وإذا كان "أوخيّد" بطل الرواية قد مات في آخر المطاف فإن روحه بقيت في مضارب الصحراء وتضاريسها وجبالها وطقوسها وكائناتها الخفيّة عن طريق تراسل الحواس، أو عن طريق الحلول في مظاهر الطبيعة الحيّةو الجامدة وتبقى شخصية "أوخيّد" مشحونة بغليان آدمي راعد وكأنّ لسان حالها يقول :

....أنا فيهم....والسابقون فينا ونحن فيمن سيأتي... وتبقى رواية التبر تقاسيم على أوتار ربابة لعلّها غير مألوفة الإيقاع، تهيمن عليها النبرة الأحادية في النص المتعدّد الذي يتتبّع فيها الصدى للحكمة القديمة التي تجسّدها الأسطورة في تاريخ الثقافات. وبامتداد الصحراء وفيافيها وشعابها تتولّد الرؤية التي تجاوزت الأجوبة الجاهزة التي يقدّمها تراث الماضي،ويحاول المؤلف من خلال هذه الرواية المتميّزة القبض على تلابيب ذلك التاريخ ألسرابي لعالم الصحراء - وعلى الظلال النفسية التي يتأثّر بها وعلى الأصداء الفكرية التي تغمر أجواءه، معتمدا على لغة الهواجس والتأملات والتوجّسات ، ولعلّ حيوية السرد في هذا المتن الروائي ، ناجمة عن حيوية المشهد ، حيث نلمس غياب الصوت وحضور الحركة التي يتمتّع بها قرين "أوخيّد "الأبلق حيث يغيب الصوت وتحضر الحركة وكأنّ الإشارة أصبحت بديلا عن اللغة والجسد بديلا عن الفكر .

- إنّ المتتبّع لمسار السرد عبر الثنائي المتوحّد في الواحد "أوخيّد"و"الأبلق"جسدان لروح واحدة حيث يبلغ التماهي ذروته بين روح واحدة في جسدين مختلفين "هما اثنان في الجسد، ولكنهما واحد في الروح ، والروح التي توجد في جسدين لها فرصة أكبر في النجاة" [1]

   هذه الروح تعيش لحظات الصراع والخوف والإقصاء والاختلاف والتحالف والصمت والصخب والفوضى والعبث والحقيقة والخيال، المجرّد والمحسوس ، المرئي والمخفي وقد سعت الرواية إلى تثبيت ذلك كلّه عبر فضاء الصحراء وسياقها الفلسفي .

- ومن الناحية البنائية يلاحظ أن فضاء الرواية مؤثّث ببنيات سردية صغرى على شكل قطع فسيفسائية تشمل فضاء الصحراء اللامتناهي حيث الحقيقة والخيال والوهم والظاهر والباطن ....

- إنّ الكائنات الخفيّة التي نشعر بها ولا نلمسها هي ما تحاول الرواية القبض عليه من خلال اللغة لأنّ "اللغة هي ما يعتقنا إلى حدّ ما من قيود بيولوجيتنا المملّة ،وهي ما يمكنّنا من أن نجرّد أنفسنا عن العالم الذي يشتمل على أجسادنا ،واللغة تحرّرنا من سجن حواسنا ،وتشكّل طريقة سهلة تماما لأن نحمل معنا العالم من حولنا" [2]

- ولعل المهم في رواية " التبر" هو البحث عن الجانب الآخر خارج أجسادنا وخارج دواتنا ،هذا الشيء المفقود الذي نتأمّله ونشعر به مع أرواحنا وخارج أجسادنا.

   تبدأ الرواية بهذه الالتفاتة التي تشير إلى تلك الهدّية الرائعة التي تلقّاها "أوخيّد" من زعيم القبائل والمتمثّلة في المهري "الأبلق ّ" وتلك الفرحة والشعور بالنشوة بحيث نلمس "أوخيّد"هو السائل والمجيب "هل سبق لأحدكم أن شاهد مهريا أبلق ؟ ويجيب نفسه لا ،هل سبق لأحدكم أن رأى مهريا ينافسه في الكبرياء والشجاعة والوفاء ؟"لا" ،هل سبق لأحدكم أن رأى غزالا في صورة مهري ؟لا ، هل رأيتم أجمل وأنبل ؟ لا ،لا ،لا، حتى إذا تعب ، أنهار على الرملة..... [3]


- بهذه العبارات القلقة المسائلة والكاشفة تبدأ فصول الرواية يخترق من خلالها المؤلف صمت الصحراء،ويكسر وحشتها ويغيّر من رتابتها ،ويزعج صمتها ويثير سكونها لعلّها تسمع أو تجيب .

- حوار أوخيّد يستنطق الغائب والمخفي حيث تتقافز بعض الأصوات والتعليقات من هذا الجانب المنسي والمهمّش ، فالحضور يحاور الغيّاب، والكينونة تحاور العدم، والظاهر يحاور الباطن . فحوار "أوخيّد" ومساءلته تجلّت كحركة مسائلة للذات والآخر ،فالحاضر لايمنع الماضي من استعادة ماضيه في مستقبله هذا الزمن الدائري هو الذي اعتمده إبراهيم الكوني في بناء روايته .

- تتطوّر أحداث الرواية بتطوّر فصولها وتشعّب أحداثها يوظّف فيها المؤلف خصوبة التصوّف الإسلامي وبعده المعرفي ، تشتد العلاقة بين "أوخيّد"وجمله الأبلق إلى درجة التماهي والحلول في روح واحدة تسكن جسدين .

- إنّ المنحى الإشكالي لشخصية "أوخيدّ والأبلق" أنهما تعيش بين عالمين ،عالم علوي مجنّح مفارق لايلامس الأرض ،وعالم سفلي مرتبط بالأرض والخطيئة والفناء، كما أن البطل في هذا السيّاق تتنازعه قوّتان داخليتان، رغبة عميقة جارفة في الانضباط داخل بنية المجتمع والقبيلة والخوف من هذا الانضباط الذي يفقد الحرية والإنعتاق .

- إنّ المعجم المستعمل في هذه الرواية يحيل على طقوس العبادة حيث ،الخشوع ،والصمت ،و تلاوة التعاويذ والنذر، وتتصاعد نبرة هذه الطقوس حين تقترن بالزهد وأفق العبادة والتشبّث بملكوت السماوات والحرّية ،وهذا ما يجعل الرواية قائمة على تركيب معقّد يتداخل فيه الشعوري واللاشعوري في آن واحد وهذا هو لبّ رواية التبر ومضخّتها الحرارية التي تنبش في تلك الدهاليز المسكوت عنها وللامفكّر فيها .

- المتن الروائي مقسّم بين الأنا الأعلى حيث يمثّل القيم والمثل والخلود، والعوالم السفلية المرتبطة بالأرض حيث الخطيئة والدنس والتراب . 

- بدأت رحلة أوخيّد وقرينه الأبلق بالخطيئة التي ربطته بهذا العالم السفلي ، وأول خطيئة ارتباطهما بالأنثى والجرب الذي أصاب الأبلق و الطرد الذي تعرّض له أوخيّد، ثم اللعنة من الآلهة وعدم تنفيذ النذر، وانتهت بطلب المال وارتكاب جريمة القتل ثم المطاردة والموت .

- يبدأ المؤلف سرد أحداث روايته المتعلّقة بمغامرات "أوخيّد" العاطفية والتي يشاركه فيها صديق دربه "الأبلق" حيث نلمس الانشطار الذي يرتكز على التفاعل المتبادل بين محكيين متماثلين من حيث الموضوع التيماتي ، ثم يتشعّب مسار ألحكي معتمدا على وظيفة التناوب والاسترجاع بين"أوخيّد" و"الأبلق" فعلى مستوى التعبير الروائي القائم على التناوب نلمس تلك الأسئلة الشمولية عن الذات والآخر والمصير من خلال الجزيئات الدقيقة والاهتمام بالتفاصيل المتّصلة بالأشياء والمكان الذي تؤثثّه حيث نجد على لسان السارد بعض الكلام المتعلّق بمغامرات "أوخيّد " قوله" فقد تعوّد أن يقوم بغزواته العاطفيّة الليليّة إلى النجوع المجاورة على ظهر الأبلق ، يسرّجه بعد المغيب ، وينطلق إلى ديّار المعشوقات ، فيصل بعد منتصف الليل ، يوثقه بالعقال في أقرب الأودية ويتسلّل في الظلمات إلى خيم الحسان يتغازل ويتسامر ويختطف القبلات حتى ينفلق أفق الصحراء عن الضوء ، فيتسلّل إلى الوادي ويقفز فوق السرج وينطلق عائدا ......" [4] .

- هنا بداية الخطيئة ، حيث انزاح أوخيّد إلى مطالب الجسد والشهوة هذه المطالب التي تربطه بالعالم السفلي (الماتحت) في مجتمع تمثّل فيه القداسة رأس مال الصحراء، هذه بداية الرواية على مستوى الخطاب وعلى مستوى الحكاية أيضا... والموقف هنا لايقتصر على أوخيّد وحده ، بل أيضا جمله الأبلق يشاركه في هذه الخطيئة التي ربطت قلبه بالأرض بدل السماء وقد ورد على لسان الرّاوي ما يفيد هذا المعنى أو يحمله "تكرّرت الغزوات حتى اكتشف أن أبلقه الرشيق قد وقع في غرام ناقة حسناء تملكها قبيلة تعوّدت أن تقضي الربيع في وادي المغرغر....." [5] .

- فالجنس هنا هو بؤرة للصراع في عالم الصحراء وفضائها وقد أحسن الكاتب الجمع بين جسم الإنسان وعالم الحيوان بما فيه عالم الأشياء وفق العلاقات الرمزية الخاصة ، وهي مقدّمة من مقدّمات التشويق وإثارة الانتباه .

   يحاور أوخيّد جمله الأبلق في إحدى غزواته الليلية معاتبا صديقه على هذا الكتمان "لماذا تخبّئ عنّي؟اعترف أنك تطير إلى محبو بتك ولا تطير بي إلى محبو بتي .اعترف أن لافضل لك في العدو هذه المرّة ؟ الأنثى هي السبب؟ هي السبب دائما ؟فيردّ عليه متمايلا ،ينثر الزبد ،ويمضغ الرسن في عدوه السعيد.....
- أو – ع – ع – ع .....
فيضحك أوخيّد ،ويستمر في مداعبته ....... [6]

- الكاتب لم يجتر هذه الحكاية و يستنسخها ،بل كان يوّلد ويجدّد باستمرار مسترقّا السمع لأدّق الحركات الوجدانية الدفينة ليعبّر من خلالها عن عالمه الروائي المثير، ففي كلّ مرّة يفتح أفقا جديدا للتأمّل والتخيّل والقول مستسلما لغواية اللغة وفتنتها ،هذه الفتنة التي تضيف نكهة جديدة للرواية وإيقاعا دافئا لها، تجعل من الصحراء تيمه فضائية ودلالية مركزّة ومسكونة بالغموض ،كما أن الكاتب أحسن في انتقائه للحوافز التي تؤسّس الحبكة وتثري إيقاع السرد بصورة تترك بصمتها على جسد الكتابة والقول .

- والمتأمل لرواية " التبر" يلمس ذلك النفس الروائي الساخن والفاتن ، المحبوك والمتنوّع ، لا يخيّب أفق انتظار القارئ نظرا لموقع الرواية التي تتوّسط بين الكتابة الإبلاغية الإخبارية ،والكتابة البلاغية الإشارية وهذا دأب مؤلف الرواية وقائد رحلتها الشاقّة والمضنية .

- أوخيدّ، الشخصية اللغز وقع في الورطة ،وقع في الخطأ غاصت أقدامه في الأرض أكثر بدل أن يصعد إلى السماء ،زاد همّه وغمّه، اغتسل بماء الخطيئة وعليه أن يدفع ثمن هذا الخطأ ، تتالت عليه الأحداث المأساوية بعد ذلك ،والصحراء لا ترحم لمن لايحسن التصرّف ، ناموس الصحراء وقانونها الظلم بالظلم والبادئ أظلم ،وأوخيّد من بدأ ، الصحراء أمّ قاسية لاترحم ،متاهة ،بالوعة لافرق في شريعتها بين الوجود والعدم .

- الثابت في الصحراء الأصول الروحانية للجسد ،والقبض على قداسة الكائنات الخفيّة وإيماءاتها وأوخيّد ضيّع هذه الفرصة واستسلم لجاذبية الجسد حيث الخطيئة و العقاب.

- جمله الأبلق لم يسلم هو أيضا فقد وقع في الدّنس مثل صاحبه ودارت عليه الدائرة .

- شيخ القبيلة الحكيم يقول "إذا أفلت الفارس من حسان القبيلة ، فلا يجب أن يفلت المهري النادر من نوق القبيلة..... 

- كانت تلك عملية فظيعة ، كلّما تذكّرها أوخيّد أحسّ بالغثيان والخجل" [7] .

- يقع الأبلق ضحيّة غريزته الجسدية ، وتتحوّل الفحولة ذات السلطان المطلق إلى وضعية قاتلة ومميتة.

- يستغلّ مؤلّف الرواية في استعمال "الفحولة " مادّة للغة وأداة للنص ويتحوّل "أوخيّد" مع أبلقه إلى مادّة كتابية يشترك الرجل فيها مع الحيوان داخل نص واحد في روح واحدة ، أوخيّد يحكي والأبلق يستمع ، ويدخل الاثنان في تغيرّ كوني صاخب ومضطرب .

- الصحراء الأم والوطن لابدّ أن تثأر واللعنة تلاحق أوخيّد والأبلق معا.

اضطرم النص بحرائق اللعنة ، والجريمة جرم لا تستطيع فيافي الصحراء أن تستره ، وذاكرة الفحولة داخل الحكاية يجب استئصالها حتى يستريح أوخيّد ويشفى الأبلق .

- المؤلف يستعين بطرائق السرد التراثية والمحكي الشعبي ألشفاهي، ويطرح بعض الأمثلة التي تنبع من صلب المتخيّل ومن صورة ألحكي.

- دواعي الجريمة والآثار المترتبّة عنها جعلت أمر تهشيم الفحولة وتكسير الجسد المذكّر أمر لامفرّ منه.

- الأبلق يصاب وملامح العقوبة باديّة على جسده، نشوة الفحولة تلاشت وحلّ محلّها اليأس والحزن والاستسلام للمرض، وقد لاحظ أوخيّد كآبته ولكنه لم يكتشف العلاج إلا بعد أيّام .

- فقد الأبلق ذاته، والأنثى سلبت منه تلك الذات.

- لسان السارد عن الأبلق يقول "واصل مغامراته مع النوق السارحة في مراعي الصحراء ، فكلّفته الفحولة العمياء داء الجرب، عاد من إحدى الغزوات كئيبا ، انطفأ بريق المرح في عينيه الكبيرتين ودلّى شفته السفلى أكثر ، وقف في العراء هادئا صامتا يشيّع الأفق المتراقص في ألسنة السراب السماوية ، بنظرة حزينة.

كان خجولا ....." [8] .

- كلّ عنصر من عناصر التراب يعود إلى التراب، الجسد ، الأنثى ، الفحولة ، كل عنصر مادّي يعود إلى أصله بفعل الطبيعة.

- الفحولة المفلسة والأنوثة الضارّة هو زلزال الكون وزواله ، هذه صحراء الصمت والعبث الأبدي التي جعلت "أوخيّد"و أبلقه غريبين في أرض غريبة ، كائن آدمي في جسد حيوان ، وحيوان في كائن آدمي ، أوخيّد والأبلق هو الكائن الذي لم يكن .

- الصحراء أصبحت عاقما بدون فحل ولم يبق لأ وخيّد و أبلقه إلاّ الرحيل.

- بقي "أوخيّد" يلعن الأنثى ومن حولها، و أبلقه الحزين يموت ببطيء وهو يموت معه ، هل نداء القبر حان ، وهل من جسدين في روح يحملهما قبر واحد. 

- الصحراء ثقيلة وناريّة وهي تطعم النار لمن أحّبوها.

- هذه الصحراء الشاسعة أصبحت قبرا في نظر أوخيّد الذي يئس وتعذّب بعذاب رفيق دربه الأبلق.

- إبراهيم الكوني اقتنص مادّته الحكائية من الموروث الشعبي والأساطير والتصوّف الإسلامي وشغّل هذه الأشياء جميعا لغة ورؤية وبناء.

- ولذا نجده يرصد تلك العلاقة الجوانية المتوتّرة بين الظاهر والباطن ، المرئي والمخفي .

- الصحراء حيث الصفاء والطّهارة والجوهر والنقاء، تدنّست وتغيرّت وعوض أن تصعد إلى السماء نزلت إلى الأسفل حيث الخطيئة وحيث العذاب حتى الجن أصبح أحسن حالا من الإنس .

- التشكّلات السردية التي تحيل على دلالات متباينة بدأت بذاكرة الفحولة من حيث التعامل مع المادة الحكائية ، النص الروائي نصّ فحولي في جسده وفي دلالته ، وعّلة النص ومرض الصحراء وتخلّيها عن طقوسها هو في "الأنثى"

- أوخيدّ أصبح مشدودا بين قطبين جاذبين لايستطيع أن بتقدّم ولا يستطيع أن يتأخّر . 

- ما يربطه بالأرض حيث الأبلق والزوجة والولد، وما يربطه بالسماء حيث الحياة الأخرى الأبدية والطاهرة.

- "أوخيّد" بطل الرواية ومحورها ولغزها يرتحل إلى مكامن السرّ في كهوف الصحراء الداخلية ،حيث يلمس روح تلك الكائنات الخفيّة ورموزها وأساطيرها وشريعتها ، هذا الارتحال إلى مكامن السرّ في الصحراء بصحبه شغف الالتحام باللغة وولوج الجسد الحي للنص لتحسّس نبضه حين تتحوّل فيه المفردات إلى أزرار تستدعي نصوصا غائبة تمثّل في النهاية المرتكزات المعرفية لمؤلّف الرواية .

- هذه المرتكزات التي تمنح له القوّة في خلق متتاليات سردية تتّسم بالفاعلية والتنوّع داخل النص الروائي.

- وحين نعود إلى مسار ألحكي ونرتحل مع "أوخيّد" فارس الصحراء وبطلها نشعر بهمومه تكاثرت وأصبحت جيوشا تحوم حوله ، كما أن رغبته في الاستئثار بمن يحب "الأبلق" تزداد قّوّة ، مناخات الغبطة المستمدّة من مغامراته اللذيذة بالحّب وأصدائه أصبحت في خبر كان ، انفلت الإحساس بالاطمئنان أمام الواقع المرّ، مرض الأبلق والشعور بالفجيعة والغياب على الأبواب.

- عتبات الإحباط والاستسلام للمرض.. حياة الجحيم التي مسّت الأبلق نلمسها في هذا المقطع الروائي "الأبلق الآن ليس أبلق. اختفت البقع البديعة من الجسد الرمادي، اختفت النظرة الذكّية من العينين الساحرتين . القوام الرشيق، الممشوق تحوّل إلى هيكل أسود مترّهل مبقع بالظلمة ، خيال شاحب وبائس لكائن آخر .سبحان الله كيف يصنع المرض من المخلوقات كائنات أخرى مختلفة ، المرض يصنع ذلك مع الناس أيضا، المرض الطويل يفعل ذلك....." [9] .

- يأتي ذكر الشحوب والمرض والبؤس والترهّلّ واللون الأسود للّدلالة على التحوّل والانتقال من عالم إلى عالم .

- ابتلاع الأرض للكائن الحيّ لامفرّ منه، دنوّ النهاية لتبدأ البداية سنّة الله في خلقه.. كثافة التصوير بطابع تراجيدي مؤلم وساخن، يحوّل النص إلى بؤرة مشحونة بالمدلولات الغائبة (العالم الآخر )، والدلالات النهائية ما بعد الفناء لاطاقة تفسّر تلك الظواهر إلاّ اللجوء إلى تلك الكائنات الحفيّة حيث الطقوس والجن ، والمقابر، أو كلام الشيخ موسى العالم في أمور الدين والدنيا .

- في عالم الصحراء يقوى الجانب الرّوحي الخفي حيث المقدّس أمام صمت الصحراء المطبق.

- الصدى في الصحراء هو نهاية تفتح بداية للاتصال بحركة الزمن الآتي .

- " المؤلف" يبحث عن رسالة غائبة تقبع في ظلّ النص وليلة ، هو أشبه بسراب الصحراء اعتمده الكوني في بناء عالم الرواية.

- "في هذه المرحلة لم يعد الأبلق يقترب منه في النهار ، يقضي اليوم مهموما، يتابع انسياب الملائكة في سراب الأفق.

أصبح يخجل من مداعباته أمام الناس. وحتى إذا أقبل إليه ليمسّده بقطرات الدواء يتملّص ويحاول أن يفلت . وفي بعض الأحيان يشتكي في بؤس : "أو – ع- ع-ع....

في تلك الأثناء يتسلّل إليه مع الظلمات بعد أن يكون كلّ شيء في الصحراء قد همد ومات. لايبق في عمق الليل إلا الجنّ، يسعون في العراء ويهمهمون بالمحاورات الخفيّة....." [10]

هذا المقطع يؤشّر على شعلة ناريّة عنيفة تحرق الأبلق وتحرق أوخيّد معا، كما يعبّر عن عجز "أوخيّد" من ثقل الماضي وثقل الحاضر أيّضا ، هذه الّنار التي تزحف في الروح محوّلة الجسد إلى رماد لا يتحملها "أوخيّد" هذا الرجل الضعيف أمام قسوة الطبيعة وثقلها "فالأصل في الحياة هو الحركة المنبثقة من دور الطبيعة ذات التحوّل الأزلي " [11]

  هذه الحركة تريد أن تأخذ "الأبلق وأوخيّد " فالزمن ليس بزمنهم والصحراء لم تعد أرضا بكرا كما كانت....

الإنسان هو الذي دنّسها والأنثى هي سبب بلائها .

   والمتتّبع لمسار السرد يلمس ذلك الحوار الداخلي "لأوخيّد" الذي كثيرا ما يردّد نصيحة الشيخ موسى العالم الفقيه المتصوّف الذي نصحه أن لا يربط قلبه بشيء في هذه الأرض حتى تبقى روحه في السماء ،وهو أخطأ حين ربط روحه بالأبلق والزوجة والولد فها هو العالم السفلي يجذبه إليه ،وهاهو يسقط في براثنه وأوحاله .

الألم يزداد في جسم الأبلق الضعيف، ونار البوح وعنفوانه يتصاعد من "أوخيّد" تشتدّ الصدمة وتبدأ الرحلة التراجيدية .

"أوخيّد" المعادل الموضوعي للأبلق يجب عليه أن يوّلد الحياة من ظلمة الفقد والغياب ، عليه أن يصارع من أجل البقاء، من أجل الطهارة، أو يرحل مع صديقه .

تبدأ الرحلة ويبدأ العذاب.

  "أوخيّد" يبحث عن عشبة "آسيار" هذه العشبة التي نصحه الشيخ موسى باقتنائها لأبلقه فهي التي تشفيه من مرضه وتكتب له البقاء، وقد حذّره من مخاطرها كفقدان الوعي أو الجنون .

   هذه العشبة "عشبة آسيار" وهي عشبة سحرية تداولها أقرب إلى الأسطورة منه إلى الواقع وهي أيضا مرتبطة بالكائنات الخفية الأخرى لأنها تملك طاقة وفاعلية أكبر من طاقة البشر –إنها نبتة الجن ولابد من استعمالها ...... [12]

   يساير أوخيّد اليقين في هذه العشبة ،يرحل إلى السفوح ويتحمّل العناء وينزل إلى الأودية ،ويتوعدّ بالنذر لآلهة الصحراء هذه الأرض التي تتساوى لعنتها مع قدرها ولا يجد مساعدا أود دليلا إلا الجن هذا الكائن ألسرابي الذي لا تستطيع الإمساك به، ولكن تستعين به في هذا المصاب الجلل .

  يعثر أوخيّد على عشبة آسيار وتبدأ رحلة أخرى عجيبة بين الموت والحياة.

   الريح تعوي والجن يصيح ، والوداع الأخير يعدّ طقوسه بطريقة تراجيدية دموية تعبّر عن عنفوان الصحراء وغضبها .

    تبدأ رحلة الكائن المغامر الذي يقيم في الواقع المتشظّي والحياة المتداعية تحت دائرة الوعي واللاوعي تحت تأثير عشبة "آسيار" وتبدأ الجمل السردية كوحدات لا متناهيةّ تغيب بالقارئ والمؤلفّ على السواء لتخرجه من عالم إلى آخر .

- هذه العشبة الجنيّة "آسيار تحوّل الأبلق إلى أتون مشتعل ...وهو ردّ فعل غريزي يطلقه اللاشعور بانفعال آني بعد تفريغ تلك الشحنة المترتبة من هذه العشبة المقدّسة.

- "كان البريق إشارة خفيّة حقا ، ففي اليوم التالي بدأت المعركة ، بدأت مع الأصيل ، وقف المهري مستنفرا يحرّك ذيله المشدود وكأنه يطارد ذبابة وهمية ، ثمّ تبعته حركة الأذنين ، ثمّ الجلد المسودّ....

- تأهّب أوخيّد ، ولكنه لم يعرف ماذا يفعل ، فتابع حركات الأبلق في قلق أيضا . ثمّ بدأ يلوك الهواء وتقيأ زبدا ناصعا تصاعدت الرغوة حول شفتيه ثمّ بدأت تتساقط على الأرض في قطع كبيرة منفوشة . من الجسد الملتهب تفصّد العرق . لم ير عرقا حارا وغزيرا على جلد الأبلق كما رآه يومها ....ثمّ رغى ...رغى بصوت فجيع...أليم أحسّ أوخيّد بالوخز في قلبه . صاح بلا وعي أصبر ـ أصبر ـ الحياة هي الصبر.

- ولكن المهري لم يصبر ـ اشتكى بصوت عال طويل أليم آ ـ آ ـ آ ـ آ " [13] .

- تبدأ ثورة الأبلق على الحياة الفاسدة لبعث الحياة الفاضلة "فالثورة هي الفعل والتحوّل والحركة لأجل التجاوز " [14] .

- تجاوز المرض واليأس وخيبة الأمل لتبدأ حياة جديدة ، نهاية لبداية ستأتي لاحقا .

- تحضر بعض الوحدات المشحونة بالصرخة المطلقة اللامحدودة لا أحد يقف في وجه هذا الكون اللامحدود.. ولذا صرخة الألم كان صداها مفتوحا ، أزليا، مستمرا للبحث عن هذا الغائب في أغوار الصحراء ..

يتألّم الأبلق ويتألّم أوخيّد معه، الألم الذي يعيش في أعماق "أوخيّد " والأبلق يخرج إلى فضاء العالم ،مشحونا بالحركة والانفجار .

- الصراع المتوتّر والحركة المتحوّلة والصرخة المدويّة تعبّر عن حركة التناوب بين الموت والحياة . 

- على مستوى مسار ألحكي يتمّ تصوير المعاناة بتصعيد الدلالة السلبية لما ينتظر الأبلق وأوخيّد ، كما نلمس التحوّل والتجاوز عبر التجسيد الإبداعي للحقيقة .

- الحركة المتفجّرة للحكاية ، تخلق في رحم النص ولادة بمعنى أن حياة " السرد " تنبض وتستو لد جذورها من نوعها وذاتها.. أي.. القلم ألم والكتابة ولادة.

- الإبداع مخاض وألم لا يختلف عن ألم الأبلق وأوخيّد والكون معا ، العالم السفلي يغرس أنيابه والعالم العلوي يصيح. 

- ما يلاحظ على مستوى المتن الروائي أن الكاتب نجح في مجابهة عدوانية الواقع بالعدوان الإبداعي المضيء ، بدليل أن النص مشحون بطاقة توّتر عالية جعلت المتلقي أو القارئ يعيش هذا الألم وبتصّبب عرقا معادلا لعرق الأبلق وأوخيّد معا .

- لن أجازف بالقول إن قلت إنّ لغة إبراهيم الكوني و جمله السردية المتتالية كانت فعلا مؤشّرا لتحريض القديم الموروث والجديد الوافد بشيء من الاختراق والتجاوز والتحاور والتقاطع في رحلة النصوص ووجوهها المتكرّرة والمختلفة عبر الأجيال.

- إنّ استحضار الدلالة الخلفية للكون يهتك الحجب المطوّقة بالمألوف، ويتجّه صوب الجديد القديم الملغّم ببراعم التحوّل ومشاكسة الرتيب البالي .

- إنّ رحلة أوخيّد وجمله الأبلق، هي مكابدة للوحدة وصمت الصحراء ومغالبة ظلمة القبر ووحشته.

- إنّ الدور المحوري الذي يلعبه "الأبلق" وهو حيوان يدخل إلى النص كبنية ومؤشّر ، حيث يتحوّل إلى مولّد للطاقة التعبيرية الجارفة تزوّد النص بشحنات قويّة متتالية تشحن النص السردي بالقوّة والحركة والتوالد بدءا بالمشاهد وانتهاء بالإيقاع الداخلي للنص .

- "الأبلق" يخصّب الطاقة الخيالية للنص ويعمّقها عبر تلك الرحلة الموجعة والمؤلمة، ومن ورائها الكون والتطور التاريخي الحضاري للإنسان عبر مسيرته الشعورية واللاشعورية.

- رواية التبر تحليل جواني للنفس البشرية لازمت مؤلف الرواية عبر إحساس انفعالي و تداعيات وجدانية فجّرت الموروث بصورة مذهلة مرتبطة لا شعوريا برحلة " الأبلق " التي خصّبت الطاقة الخيالية و عمّقتها عبر تراجيديا الموت و الحياة و تحولاتها..

- سنحاول في الصفحات الآتية أن نتفحّص المشهد السردي كما ورد في الرواية حيث تفجّر الجمل السردية المتتالية بؤرة الكون التي تحيل إلى ذروة الاغتراب الذي عاشه الأبلق وأوخيدّ .

- نهض الأبلق مزمجرا بعد أن تمكنت عشبة آسيار منه ويقفز في الخلاء ويقفز أوخيّد معه متشبثا بلجامه [15].

- "....انطلق الجمل تجاه القمة ، عبر سهلا كثيف الأعشاب وصعد المرتفع ، ثمّ هبط واديا مزحوما بالسدر. دخل في أدغال الشوك ، ومزّق جسده ، فنزّ المزيد من الدم ، من أطراف أوخيّد أيضا تفصّد الدم ، تمزّق ثوبه عند الأكمام ، شوك السدر اقتطع من القماش الفضفاض ، فكشف ذراعه حتى الكتف الأيمن ، سال الدم من الذراع والساعد.

توسل للحيوان المجنون 

- ماذا تفعل ؟ توقف، الهرب لن يفيد ، مما تهرب ؟ هل تهرب من نفسك، هل تهرب من قدرك، الحكيم لا يهرب من قدره إذا هربت منه تمكّن منك أيهّا الأبله .

   إذا أدبرت اعتبر ذلك جبنا، سيلا حقك ويغلبك ، الجن قدرك ، ألم أقل لك أن الأمر لن يستقيم إلا بالصبر ؟ ألم أخبرك أن الحياة هي الصبر ؟ توقّف حالا ـ انتظر لديّ سرّ آخر .. 

ولكن الحيوان لم يلتفت لتوّسلات صديقه، في جوفه .

- ألم أكبر من العقل، ومن تحذيرات الأصدقاء ، في جوفه نار موقدة ...." [16]

- التداعيات الذهنية التي تثيرها الجمل السردية المتتالية الألم ، العذاب ، الصبر ، القدر ، الصراط، التشبّث بالحياة ، الإيمان بالقدر ، هذا السيل الجارف من الدلالات تمّثل مؤشّرات أّولية على الموت ، والبعث والحياة والأزل والقبر والسماء.

- يشير المقطع السردي إلى الصبر ، الصبر هو الحياة الصبر هو العلاج المسكّن لظلم الصحراء ، الصبر مرهم فعّال

ورد ذكره في جلّ الكتب السماوية بما فيها القرآن.

- الصبر في العرف الاجتماعي شجاعة و إقدام ونبل.. الأبلق يقاوم المرض في جوفه نار ملتهبة ، هذه النار يتنفّس " أوخيّد" هواءها ويستعيد الرّاوي أصداءها، جسد الأبلق الملتهب ومأساة أوخيّد ومعاناته هي هاجس الرواية ونواتها الدلالية والحكائية.

- هذا المقطع يقدّم من خلاله الروائي فاعلّية مشهديه وبصريّة ، نبصر ، نرى ، ونسمع ،و نتخيّل ، هروب الأبلق وعنفه هو هروب من قدره .....

- ولكن القدر نهرب منه أم نهرب إليه .

- "أوخيّد" الشخصية الواعية متشبّث بالأبلق يريد أن يوقفه عند قدره بكل شجاعّة وقوّة .

- الصحراء لا رادّ لقدرها، فهي أمّ قاسية تخفي أكثر مما تبدي.

- سقوط جلد الأبلق" هو ميلاد لحياة جديدة وموت لمرحلة قديمة .

- الموت والحياة والبعث والفناء رموز لغويه يمارس الكاتب من خلالها لعبة الكتابة مستسلما لغواية اللغة وفتنتها .

- تستمرّ الرحلة التي هي أقرب إلى الصراط والعقاب وتستمر معها المطاردة.

- ".....استمرّت المطاردة ،أوخيّد يلهث ويسفح العرق من أطرافه يسيل الدم ، المهري يسفح العرق والزبد والصديد والدم ، النار تغلي في جوفه ، فيزداد جنونا ، ويطير في الهواء أمام عينيه حجاب ، طار العقل وحلّ العماء . سادت الظلمات وفقد الإحساس بالزمن وبالأشياء . لايدري ما إذا كان يجري أم يقف ساكنا في المرعى .لم يعد يحسّ بجسمه، بنفسه بأطرافه. الألم أكل الأطراف ، أكل الإحساس .الألم أكل الألم . فمات الجسم ومات الإحساس .ولم يبق إلا الجنون في الرأس ، قطع وادي السدر وصعد مرتفعا آخر .

- وقع أوخيّد على الأرض ، فجرجره المهري بضعة أمتار ،تمزّقت الشفة العليا ،وتحرّر الجمل من اللّجام ،تدحرج أوخيّد عبر المنحدر ويده تمسك اللجام . سيطر على عجزه بمحاولة بطولية ونهض .إذا أفلت منه الآن وهو في قمّة جنونه فلن يدركه إلى الأبد . سيفترقان إلى الأبد . هل كتب الله .

- أن يودّع صديقه القديم في هذه السقطة ؟ في هذا المنحدر الشقي؟ هل حلّت لحظة الوداع الأبدي ؟.." [17]

- عند مايذهب الإحساس ويذهب العقل ، تتساوى الأشياء بين الموت والحياة ، الحقيقة والخيال ، الشعور واللاشعور اليقظة والمنام .

- هل هو حيّ أم ميّت ...لم يميّز بين البصيرة والبصر فالزمان تكسّر واللغة انكسرت ، ولم تبق إلاّ جثّة الأبلق تضرب في الغيم عبر الأساطير والهواجس .

- مازال أوخيّد يشاهد الأحلام وهو يقول لصاحبه أصبر لنصعد أعلى وأعلى على سلّم الهاوية ونجتاز الصراط في شعاب الجبال.

- أوخيّد يدركه الرحيل ويمضي إلى المجهول وحده مع أبلقه

- مازال بريق أمل ، ومازال في الجسد بقيّة حياة .

الممرّ طويل والحساب عسير ،ألم ودم ونار ودمار وأشلاء جسد .

ممر واد السدر طويل ، والمعركة حامية الوسيط بين زمن قديم وزمن جديد ، بين عالم سفلي وآخر علوي ،بين الفاتحون القدماء والفاتحون الجدد ، بين الفتح والفتح المضاد ، الحنين إلى أي شيء مضى أو سيمضي .... يقف أوخيّد مع أبلقه في مفترق الطرق يصارع من أجل البقاء ،من أجل صديقه من أجل الطهارة والنقاء والقداسة .

فالمكان يبّدل أحلامه ويبّدل زوّاره .

- الأبلق صاعد إلى حتفه وأوخيّد كذلك.

- الأبلق وأوخيّد في رحلتهم الأخيرة وزمانهم الأخير فالأرض فقدوها منذ دخل الذهب مع دودو وأعوانه .

- "جنون الأبلق " وهو يضرب في واد السدر هو السفر نحو الأبعاد اللامتناهية ، و مقاومة المرض والموت وأوخيّد يقاوم الظلم والقهر والرتابة .

- نلمس في هذا المقطع مخاض عسير فيه آهات وتأوّهات وزفرات .

- العلاقة بين أوخيّد والأبلق علاقة جدلية يتقدّم فيها العاشق "أوخيّد" على المعشوق الأبلق لأن الصورة خرجت عن مقاسات الحسّ والعقل بل أصبحت ميدانا لعمليات تخيلية خلقية إبداعية .

- المؤلف مشدود إلى أطياف الرؤيا في هذا الترحال الذي بلغ مشارف عالم جديد .

- الجسد يفقد قيمته وإحساسه ، المشهد يتحول إلى إشارات روحية. 

- البحث عن الخلاص له ثمن..... الأبلق يدفع ثمن الشفاء من جسمه ولحمه ودمه وجنونه ،وأوخيّد كذلك .

- وادي السدر وأشواكه مرهم للخطايا والذنوب والمعاصي وهذه الأشياء جميعا سقطت وتلاشت مع وادي السدر وبقيت هناك .

- موت الجسم دليل على بقاء الروح.

- الخروج من نفق وادي السدر هو الخروج من الصراط حيث الجزاء .

- وادي السدر هو الفاصل بين عالمين سفلي وعلوي .

- شخصية "أوخيّد" المتشبث بحياة صديقه الأبلق هو تشبّث بالحياة الطاهرة ورغبته في إعادة صياغة الآخر .

- تراجيديا الألم والفوضى والجنون هو الإغراق في خراب الفشل وفوضويته .

- دخول الحيوان إلى عالم الكتابة والرواية هو عودة إلى عالم الفطرة والطبيعة حين كانت الأرض بكرا لم يفسدها عالم الإنسان المتوحّش .

- تناول عشبة آسيار واجتياز واد السدر الموحش والمؤذي هو هجرة من الموطن إلى المنفى ومن عالم المحسوس إلى عالم الأرواح ومن الدنس والخطيئة إلى الطهارة والصفاء .

- رواية التبر نزيف لغوي يتدفّق دما وألما حتى صارت اللغة جنونا لأن "اللغة مادّة كيميائية جاهزة للجنون ولذا فإن العلاقة مابين الكتابة والاكتئاب هي طبيعة في الفعل الإبداعي " [18]

- رحلة "أوخيّد والأبلق " عبر منعرجات واد السدر ومرتفعاته و منخفضا ته وأشواكه استوحاها مؤلف الرواية من ثقافته الدينية الإسلامية حيث نلمس هذه الرؤيا أقرب ماتكون من التراث الديني حيث الإسراء والمعراج أو الصراط حيث الحساب والعقاب وكذلك البرزخ و فلسفة التصوّف في الإسلام حيث التماهي والأحوال و المقامات والعشق الذي يصل إلى الوجد .كما نلمس روح قصّة ابن طفيل مع شيء من المنعطفات والانحناءات.

- رحلة أوخيّد مع أبلقه هي رحلة استقراء في نسيج الكون والإنسان .

- "أوخيّد والأبلق " وروحهما الواحدة هي النواة المركزية التي تدور حولها الرواية بأكملها .

- الرحلة الأولى عبر "وادي السدر" تمرّ وتبقى في قلق السؤال مستمرة .

- سيحضر المؤلف فعل الالتقاء بالحياة الجديدة من زمنه الماضي إلى زمنه المستقبلي .

- تنتهي الرحلة الأولى لتبدأ الرحلة الثانية يشعر أوخيّد بالدوار قبل الدخول في غيبوبة الخلاص .

- اعتمد المؤلف على تبادل الأدوار بين أوخيّد والأبلق في الرحلة الأولى عبر "وادي السدر" كان أوخيّد هو الذي يحمل مقود الأمان والأبلق خرج عن عقله.

- في الرحلة الثانية..... رحلة العطش والبحث عن الماء .....يفقد أوخيّد عقله ويبقى الخلاص بيد الأبلق الذي استرد عافيته" [19] .

- رحلة البحث عن الماء ومتاعبها. 

- ما كاد أوخيّد ينتهي من رحلته الشاقّة التي دفع ثمنها من لحمه ودمه وروحه حتىّ دخل في متاهة أخرى أكثر شقاء وأكبر خطرا هي الماء /الحياة.

- مؤلف الرواية يدخل قارئه خلف الستائر الضبابية للكون والوجود والبعث ويحوّل القارئ إلى صانع للإشارات وقارئ لها.

- فالسكن في المستحيل وراء الدلالات المتناقضة يجعلك تسترجع السياق الفلسفي والفكري والذهني في توضيح تلك الضبابية مع احتمال تشكّل الدلالة في وجوه عدّة نظرا لأصدائها ومحمولاتها الدلالية القائمة على الحركة والتحوّل حيث السؤال والجدل وتثو ير الفكر ، وهو انعكاس لتكوين جوّاني يسوق المؤلف إلى الآماد الصوفية وعوالم الرؤيا والاستكشاف .

- يصاب أوخيّد بالظمأ إلى درجة فقدان الوعي ، الماء عصب الحياة ولا يملك الطاقة الكافية على الصبر أو جلب الماء، يعجز عن أداء هذه المهمّة ، ويسلّم أمره لصديقه الأبلق .

- مسار الاتجاه للحركة التناوبية يتحملها الأبلق في الرحلة الثانية.

- حبل النجاة عند الأبلق ويحاول أن ينصر صديقه مثلما نصره في الأوّل.

- في الفصل التاسع نجد على لسان الراوي قوله "في السقطة الأولى وجد نفسه في برزخ بين الوعي والغياب ، بين الموت والحياة. 


   خيّل إليه أن الجمل ينحدر من جبل عال ، ثمّ تجاوز مقامه في البرزخ ، وعبر إلى الظلمات مرّة أخرى.غاب طويلا ، وعندما عاد من رحلته الوحشية ، وجد نفسه فوق البئر في "آوال " تحسّس الفوهة الحجرية بحثا عن الدلو لم يجد الدلو ...... 

  رركل شيء غائم ، كل شيء يغرق في الغيم والعتمة ، عيناه فقدتا التمييز من زمان، ربما يسبب طول البقاء في البرزخ ، بين الدنيا والآخرة، بين الموت والحياة ، الحياة ،الحياة هي التي تحرك أعضاءه الميتة وتملي إرادتها التي لاتقهر ، ما أقوى الحياة ، ربط اللجام في قدمه فوق الرسغ أحكم الوثاق . وتفقد اللجام المربوط إلى الذيل أيضا ترنّح وهو يحاول أن يهتدي إلى رقبة المهري إلى رأسه ، كان ينوي أن يبوح له بسرّ قبل أن يندفع إلى الهاوية ، لم يفكّر أنه لن يعود ، فكّر في تلك اللحظة المدهشة أن الموت الذي يقول عنه الشيخ موسى إنّه أقرب من حبل الوريد هو أبعد من الصين . وكان ينوي أن يخبر الأبلق بذلك ويعطيه وصيته في أثناء غيابه في الهاوية ، وفرّ عليه الشقاء فهرع عليه بشفتيه ، لعق الأبلق وجهه ، ولكنه عجز أن يرى عينيه عجز أن يفتح فمه بكلمة ، فقد القدرة على النطق ، بعد العماء جاء الخرس بحث عن فوهة البئر ، تخطى الفوهة و وتدلت رجله الطليقة من القيد في الهاوية ، لم يفكّر في الموت أبدا فكّر فقط فيما سيقوله للشيخ موسى . الموت أقرب من حبل الوريد حقّا ولكن ما أصعب أن يموت الإنسان ..مع ذلك الموت أبعد من الصين ، شيء آخر إذا وجدت البئر غاب الدلو، وإذا وجدت الدلو فلا تطمع في البئر ، هكذا دائما ظلّ ممسكا بحافّة البئر بأحجار الفوهة ، تزحزح نحو الهاوية ، لم ير لم يسمع ، لم يحسّ ، جاهد في أن ينزل الأحجار الأولى مستعينا بيديه حتى لا تؤدي السقطة الحرّة إلى نزع الوثاق قرّر أن يفعل ذلك ولكن القوى الخائرة الأطراف خانته فانهار في الهاوية.

   في هذه اللحظة الصغيرة الفاصلة بين الحجر الأعلى والماء الأسفل مرّ دهر كالأبد ....دهر أبعد من الميلاد بل رأى ، ميلاده في تلك اللحظة ، رأى نفسه وهو يسقط من رحم أمّه إلى الهاوية سمع عويل الجنيّات في جبل الحساونة .ورأى أطياف الحريّات في الفردوس ، تلقتّه إحدى هنّ بغلالتها الشفّافة وأودعته نهر الجنّة ، شرب من نهر الجنّة... [20] .

- البئر هو الحياة والهاويّة ، والسقوط في البئر هو السقوط في الهاوية ، وإحكام الوثاق على الرجل بإحكام وشدّه بلجام الأبلق هو التشبثّ بالحياة وإبعاد الموت.

- الأبلق هو الأمل المتبقي في سحب صاحبه من فوهة البئر.

- إبراهيم الكوني نجح في أجراء تلك المقابلة بين الحياة والموت بين الحجر الأعلى الموجود في فوهة البئر والماء الأسفل في قاع البئر .

- حياة في موت وموت في حياة ، الماء في قاع البئر هو الحياة في قاع الموت وفوهة البئر موت فيها أهم عنصر من عناصر الحياة (الماء).

- في هذه اللحظة بين الوعي و اللاوعي لم يفكّر أوخيّد في الموت ولكنّه فكر فيما يقوله للشيخ موسى "الموت أقرب من حبل الوريد حقا ولكن ما أصعب أن يموت الإنسان مع ذلك ،الموت أبعد من الصين" .

   الإنسان بطبعه و غريزته و فطرته يخاف من الموت و يستبعدها من حياته حتى تفاجئه و تنزل عليه بغتة بدون أن يعلم

-الموت اقرب إلى الإنسان حقيقة من حيث طبيعتها و وجودها و لكنها ابعد ما تكون في عقيدة الإنسان وفكره وتصوّره....

- الإنسان يتشبّث بالحياة حتى آخر لحظة منه و حتى ولو كان في حضن الموت فإنه يأمل في الحياة و أمل الحياة أقوى و اكبر .

-إبراهيم الكوني يستخدم الخيال و تداعيات الرؤيا بسلسلة من التحولّات و العلاقات بين الموضوعي و الذاتي و المطلق بالعابر و الكوني بالفردي و الواحد إلى المتعدد والمتعدد الذي يلتئم بالواحد الكلّي .

  هذه الحركة هي التي تسمح للطاقة الخيالية بالعبور إلى الماوراء ، واللامنتهى .....

  هذا السيّاق في المقطع السردي هو الذي يسمح للمؤلف أن يعبّر من خلاله إلى حيث بكارة الطبيعة وعذرية السماء بعيدا عن جحيم الواقع وصعوبته ..

- الكاتب استطاع أن يخترق المجاهيل بحثا عن جوهر الأشياء واكتشاف الآخر والكون معا .

- أوخيّد وقف على حافّة البئر حبّا في الحياة .

- الإنسان يقبل على الموت رغبة في الحياة ، حاجته الماسّة إلى الماء جعلته يقبل على الموت بدون معرفة .

- الحياة تلد من الموت والموت من الحياة سنّة الله في خلقه.

- الإنسان ينتقل من الظلمة إلى النّور ومن النور إلى الظلام مرّة آخرى .

- يلد من بطن أمّه حيث الظلام ويلد ليستقبل النور .

- ويعود إلى الظلمة مرّة أخرى ، فالحركة الدائرية الإستئنافية هي التي تسيّر الكون والطبيعة وهي التي تسيّر رحلة أوخيّد في هذا المتن الروائي الموسوم ب" التبر" .

- التوحّد مع الآخر وعناصر الكون هو لّب الرواية في آخر المطاف .

- الهبوط من فوهة البئر في الخارج صوب الداخل هو الهبوط من ذروة الواقع في الخارج إلى قرارة الواقع في الداخل .

- إبراهيم الكوني " نجح في استحضار الرؤيا وتقصيّ جميع الأصوات العديدة التي تتداخل وتتقاطع وتتوّحد مع صوت "أوخيّد" ومن ورائه المؤلف .

- كلام الشيخ موسى / عويل الجنيّات / أطياف الحورّيات / خيال الأبلق .

- العناصر الداخلية للكون تخاطب العناصر الخارجية بلغتها وروحها المبهمة حيث الغموض والغرابة والغياب واللامعنى .

- الانفصال عن الكون يعني الصمت والموت ، ولكن تلك العلاقة تبقى متواصلة حتى أثناء الغيّاب وفقدان الوعي حيث يقوم "الأبلق " بالمهمة ويسحب صاحبه من الأسفل إلى الأعلى ، من الغياب إلى الوجود ، من الموت إلى الحياة.

- أحداث الرواية تبقى متواصلة ومتناسلة من بعضها .

- يشفى الأبلق من مرضه وتعود له الحياة ويرتاح أوخيّد براحة صديقه الأبلق ،لكن السعادة لم تكتمل بعد ولن تكتمل " فإذا وجدت البئر لن تجد الدلو ".

- وإذا وجدت الصحّة فلا تطمع في الأمن والسلامة ،وحضرني في هذا المعنى بيت يقول فيه .

- لكلّ شيء إذا ماتمّ نقصان....فلا يطمعن بطيب العيش إنسان..... وأوخيّد وأبلقه لم تكتمل سعادتهما وبقيت المطاردة كأن بينه وبين الصحراء ثأر قديم لم تسعه ما وقع لأوخيّد والأبلق من عذاب .

- بقي ثأر دودو يطارده كانت الحاجة ماسّة إلى رأس أوخيّد حتى تخمد تلك النار .

- تحرّر "أوخيّد" عن الأبلق لفترة فرضتها طبيعة المطاردة والملاحقة وكان عليه أن يهرب بنفسه ويختفي حيث لايراه أحد وكاد ينجح ويسلم بنفسه لو لم يربط مصير ه بمصير الأبلق .

- اهتدى الأعداء إلى الأبلق

- يجري الكلام على لسان الراوي "....سمع جلبتهم عند السفح وهم يحومون حوله ، ثمّ يحاصرونه ،تعالت صيحاتهم ،مرّ زمن قبل أن يسمع صوته ، استغاثته آ -آ- آ - أع - ع - ع ... ماذا يفعلون ؟

- عادت الاستغاثة الأليمة أقوى من قبل ...تردد صداها في قمة الجبل طويلا ثمّ ..ثمّ غزت أنفه رائحة الشياط .

- فهم .إنهم يكوونه بالنّار ، يحرقونه ، يحرقون قلبه ،لن تصطاد الصقر إلا إذا عبثت بعشه ،بفراخه ، عرفوا عشّه .

- خدم دودو دلوّهم عليه ،وربما كان الراعي الحكيم ذو الفم الخالي من الأسنان بينهم دليلهم ، قال لهم إنّ قلب الصقر في ولده ، ولن تقتنصوا .

- الصقر القابع في القمم إلاّ إذا أحرقتم قلبه بالنار.

- الشيخ موسى على حق ، الشيخ موسى على حق.. في كل شيء لا يملّ الشيخ من القول ،لا تودع قلبك في مكان غير السماء و إذا أودعته عند مخلوق على الأرض طالته يدّ العباد وحرقته .

- والشيخ موسى لايرهن قلبه ، لم يرهنه قط ، لم يتزوج و لم يلد ولم يربيّ قطعان الأغنام أو الإبل ، ربما كان هذا هو لسبب تحرره من الهمّ ، لم يره غاضبا ولم يره ضاحكا ، ابتسامة واحدة ثابتة مطبوعة على شفتيه وهاهو الآن يقف على حكمته ، هو أخطأ فأودع قلبه لدى صديق ، لدى الأبلق ، فلحقته اليد الآثمة ، يد الإنسان " [21]

- "أوخيّد" "ما يوشك على الخروج من محنة حتى يدخل محنة "أخرى " وفي كلّ مرّة يتشبّث بحكمة الشيخ موسى المتصوّف / الزاهد أكثر .

- هو مختبئ الآن و خلفه الأعداء يريدون " رأسه " أوخيّد "يفتّش في ذاكرته و لا يجد إلا التأمل والتدبير في أبعد الأمور .

- ها هو يقف عند حقيقة تأكدت له اليوم وهي كلمة موسى "لاتربط قلبك بشيء زائل و اربط صلتك بالسماء حتى لاتطالك يد العباد وهاهو ربط قلبه بالأبلق / ربط قلبه بالدنيا بهذا العالم السفلي حيث الظلمات بدل عالم السماء ، عالم الأنوار .

- المؤلّف ينطلق من المرئي إلى أبعاد ه الداخلية ،فهو دائم البحث عن ما وراء الأشياء حيث الحقيقة والجوهر .

- أوخيّد يريد التخلّص من سجن الظل والظلام و ألم الأبلق يشق قلبه .

- أوخيّد راوده شكّ في ذلك الراعي الحكيم الخالي فمه من الأسنان والذي تربطه بأوخيّد علاقة صداقة وأسرار بينهما .

- الأبلق يمثل مكمن الوجع الذي كان سببا في إخراج أوخيّد من مخبئه ،وهذا ما تفطن له الأعداء " ضعف الصقر في فرخه ......"

- أوخيّد تحت هذا الألم يخرج بجسده من عالم الأسرار إلى عالم الأنوار حيث التلاشي والذوبان والفناء بين الجسد والروح ،ويستجيب لنداء صديقه الأبلق تحت التعذيب ، وينزل إلى أعدائه بكل قوّة و شهامة محاولا تخليص صديقه الأبلق والافتداء بنفسه .

- إبراهيم الكوني عزم أن يضع نهاية لهذه الشخصية الرمز الشخصية الأسطورة التي يمثلها أوخيّد وهي في الحقيقة تمثيل للكون والإنسان والطبيعة والفطرة في آن واحد .

- مسار الرواية كانت بداية ونموّ واكتمال ونهاية و هاهي النهاية على الأبواب...لتبدأ حياة البعث والنشور من جديد .....

طبيعة بناء الرواية كانت على شكل دوائر حلزونية تستمدّ طاقتها من شخصية أوخيّد الرمز وصديقه" الأبلق" مزج فيها المِؤلف بين الحضور والغياب التخييلي ،حيث تقبع الدلالة في رحم النص بانتظار من يستولدها ...

إبراهيم الكوني نجح في استحضار الخارج إلى الداخل ليأّسس علاقة جدلية بين الذاتي والكوني ويصهرهما معا ،لذا نجد التعامل مع الغياب يلغي الأبعاد الحقيقية للمكان والزمان ، حيث البحث عن بكارة ماقبل التكوين ...

- حركة التحوّلات في النص هي حركات بركانية نارية عنيفة يتعرّض من خلالها الشخصية الرمز والحيوان الأسطورة للآلام والاحتراق بغية الوصول إلى جوهر الكون وعلاقاتها الضدّية .

   الرحلات الطيفية والشبحية التي مسّت أوخيّد والأبلق ساعدت المؤلف أن يبحث خارج الجسد حيث الروح .

- وحين توشك الرواية على النهاية يشعر القارئ بدنوّ أجل شخصية أوخيّد الذي يخرج من مخبئه ويقابل قدره المحتوم بشيء من قبول الأمر الواقع وتخفيف العناء عن صديقه الأبلق

- المؤلف كتب نصّه وأوخيّد لقي حتفه.

- يقول السارد ".... تدحرج عبر السفح سلخته الأحجار ومزّقت الصخور ثوبه ...وصل الموقع ممزّقا مجرّحا حاسر الرأس وقف أمامهم ، تفحصوه صامتين ، تفحصّهم صامتا لم يكن الراعي الحكيم بينهم /أحسّ بارتياح غامض مجرّد غياب الراعي ذي الفم الخالي من الأسنان زرع في قلبه المحترق طمأنينة غامضة وضعوا القيود في يده دون أن يتبادلوا كلمة.

- الأبلق يخوض في الحروق والدم ...

- قيدوا يديه ورجليه بالحبال ، جاؤوا بجملين ،شدّوا اليد اليمنى والرجل اليمنى إلى جمل ،و شدوا اليد الأخرى والرجل اليسرى إلى الجمل الآخر .

صاح البدين

- السوط ، السوط .

   أحرقوا أجسام الجمال بألسنة السياط قفز أحدهم نحو اليمين ،وقفز الآخر نحو الاتجاه المضاد ،وجد نفسه في البرزخ ، سقط من حافّة البئر ، في المسافة بين الفوهة والماء رأى الفردوس ، زغردت الحوريات ، وناحت الجنيات في جبل الحساونة و ......

سمع صوتا :

- شيوخنا لن يصدّ قونا إذا لم نأتهم بدليل " زحف الجسد الممزّق ، الدامي ، زحفت الأشلاء ،أجتثّ الجمل الأيمن الجمل الأقوى فخذ أوخيّد الأيمن ، وذراعه اليمين ،انتزعتا من المنبت ، وبرغم البدن الممزّق رفع أوخيّد رأسه مستعينا بصدره ويده اليسرى ....

- أقبل البديّن ، وفي يده لمع سيف ...طلب مساعدة أحدهم فرفض والتفت صوب الجبل ... وأمسك بالرأس الحاصر ، طار السيف في - الفضاء ....واغتسل بماء السماء....بأشعة الشمس القاسية ونزل على الرقبة ..... 

- انشطرت الظلمة بالقبس المفاجئ ،ضرب بيت الظلمات زلزال ،انهار الجدار الفضيع بضربة سيف النور ، فتبدى الكائن الخفي ،ولكن ....بعد فوات الأوان لأنّه لن يستطيع الآن أبدا أن يحدّث أحدا بما رأى" [22]

- بهذه النهاية المأساوية الجارفة وهذه التراجيديا المميتة تنتهي رواية " التبر " هذه الرواية المكتنزة المتلاحمة التي أخرجتنا من أجسادنا لتحلّق بنا بعيدا خارج المنظور الحسّي الذي ألفناه ، حيث تفتت صورة العالم الخارجي وبقيت الروح ترفرف خارج الزمان والمكان

- " رواية التبر" هي رواية العصر بدون شك تعتمد على الدلالة الباطنية العميقة في مقابل ظاهرها ، استخدم فيها المؤلف الرموز المشّعة المتعدّدة التأويل ..... إنّها بحقّ سيل جارف لاتحتويه صفات الكلام العادي والمعاني المباشرة .....


الهوامش :

_________


[1] / د سعيد الغانمي / رواية التبر رأس مال الصحراء / مجلة نزوى / الموقع / www.nizwa.com /تاريخ المشاهدة 07/03/2007 .

2 - مجلة الآداب الأجنبية /اتحاد الكتاب العرب بدمشق العدد 105/2001 ص 03/جدلية الجسد والموضوع في الدراسات السردية المعاصرة .

[3] الرواية /ص 11 .

[4] - الرواية (ص16)

[5] - الرواية ص16

[6] الرواية ص 17....

[7] _ التبر ..ص 20......

[8] - التبر -ص21

[9] - التبر –ص29

[10] التبر - ص30

[11] - د / أوسيمة درويش / مسار التحولات في الشعر آدونيس –المركز الثقافي العربي .ص 273 .

[12] ينظر الرواية ص 36 وما بعدها .

[13] الرواية ص 38 ، 39

[14] / د/ أسمية درويش /مسار التحوّلات ص273

[15] ينظر الرواية .ص 41.

[16] التبر ص42

[17] التبر _ ص 46........

[18] -1- / د/ عبد الله الغذامي المرأة واللغة ج2 .ط 98 المركز الثقافي العربي ص 138.......


[19] ينظر الرواية ص 47 ، 48 ، 49 ومابعدها ......

[20] التبر ص 54

[21] التبر ص 156 ...

[22] التبر - 159 .......


منتديات ستار تايمز - كل الحقوق محفوظة للمؤلف ...

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة