ليلي المريضة في العراق
يرجع انشغالي بأمر ليلي المريضة في العراق إلى وقت مبكر من العمر حين أتيحت لي قراءة ديوان مجنون ليلي لأول مرة ولفت انتباهي قول قيس:
ألا يا حمامات العراق أعنـني علي شجني, ما بكين مثل بكائيا
يقولون ليلي بالعراق مريضة فياليتني كنت الطبيب المداويا!
وظللت زمنا طويلا أتساءل: ما علاقة قيس وليلي ـ اللذين ولدا وعاشا وماتا في نجد ـ بالعراق! وما الذي ذهب بليلي إلي العراق, وجعلها تمرض هناك, ليقول فيها قيس هذا الكلام, في سياق قصيدة من أجمل قصائده وأطولها نفسا؟.
ثم شغلت بالأمر ـ مرة أخري ـ وأنا أطالع قصيدة الشريف الرضي البديعة, التي اخترتها ضمن أحلي عشرين قصيدة حب في الشعر العربي, والتي يقول فيها:
يا ظبية البان ترعي في خمائله ليهــنك اليوم أن القلب مرعاك
الماء عــندك مـــــبذول لشاربه وليس يرويك إلا مدمعي الباكي
هبت لنا من رياح الغور رائحة بــعد الرقــاد عرفـــناها بريــاك
ثم انثنيـــنا إذا ما هــزنا طرب على الـــترحال, تعللـنا بذكــراك
ثم يجئ البيت موضع الاستشهاد:
سهم أصاب وراميه بذي سلم من العراق, لو أبعدت مرماك!
وذو سلم الذي ورد ذكره أيضا في مطلع قصيدة لابن الفارض, ومطلع البردة للبوصيري موضع بين الحجاز ونجد, وقد سمي بهذا الأسم نسبة إلي شجر السلم الذي ينمو فيه, وهو شجر يدبغ به. وإشارة الشريف الرضي تفيد أن ليلاه أو محبوبته يتيمة بذي سلم لكن سهمها أصاب وهو بالعراق, فما أبعد المرمي وأفتك التأثير!
وحين سمعت بكتاب الدكاترة زكي مبارك ليلي المريضة في العراق قلت لنفسي: الآن يمكنك جلاء الأمر ونشدان الحقيقة, والوصول إلي القول الفصل في أمر ليلي المريضة بالعراق, والكتاب يحمل علي غلافه هذه الكلمات: تاريخ يفصل وقائع ليلي بين القاهرة وبغداد, من سنة 1926 إلي سنة 1938, ويشرح جوانب من أسرار المجتمع وسرائر القلوب. والذي حدث أن زكي مبارك بعث ـ وهو في بغداد عام1938 ـ بعدة مقالات إلي مجلة الرسالة التي كان يصدرها ويرأس تحريرها أحمد حسن الزيات, ثم صدرت هذه المقالات في كتاب من ثلاثة أجزاء عام1939 يحمل عنوان المقالات ليلي المريضة في العراق.
وزكي مبارك ـ لمن لا يعرفه من شباب هذا الجيل ـ هو كما تقول عنه موسوعة أعلام الفكر العربي كتاب وشاعر وباحث أدبي, ولد عام1891, وتعلم في الأزهر, وعندما قامت ثورة1919 شارك فيها وكان من خطبائها المبرزين, فاعتقلته السلطات الإنجليزية في معتقل سيدي بشر بالاسكندرية عاما كاملا, ثم دخل الجامعة المصرية الأهلية سنة1916 وحصل منها علي درجة الليسانس عام1920, ونال الدكتوراه عن بحثه الأخلاق عند الغزالي سنة1924, ثم سافر إلي باريس سنة1927 حيث حصل علي الدكتوراه من جامعة السوربون عن رسالته النثر الفني في القرن الرابع الهجري عام1931. وقد اشتغل زكي مبارك بالتدريس في الجامعة المصرية, ثم في دار المعلمين العليا ببغداد, ثم بالتفتيش في المدارس المصرية, وسمي بالدكاترة لحصوله علي أكثر من درجة دكتوراه من مصر وفرنسا. وقد عاش حياته بروح فنان منطلق صادق مع نفسه, صريح صراحة واضحة في الحديث عن نفسه, جرئ في نقده. ويعد من ألمع الشخصيات التي ظهرت في الثلاثينيات والأربعينيات في الحياة الأدبية والصحفية.
ومن أشهر مؤلفاته: حب ابن أبي ربيعة وشعره, عبقرية الشريف الرضي, الأخلاق عند الغزالي, النثر الفني في القرن الرابع الهجري, البدائع, ليلي المريضة في العراق. ولزكي مبارك أشعار جميلة جمعت في ثلاثة دواوين هي: ديوان زكي مبارك, ألحان الخلود, أطياف الخيال( وهو الديوان الذي أشرفت علي جمعه ونشره, راعية تراثه: ابنته كريمة زكي مبارك, وقد نشر الديوان بعد وفاته سنة1987, أما رحيل زكي مبارك فكان في عام1952, بعد أن خاض معارك قلمية ضارية مع كثير من الشخصيات السياسية والأدبية, تركت آثارها في حياته الوظيفية والاجتماعية, وجعلته يستشعر الغبن وعدم الإنصاف من الناس والزمان, بالرغم من موهبته الإبداعية الضخمة, وكونه واحدا من أصحاب الأساليب الأدبية المتميزة, التي تميز بها أعلام جيله من أمثال طه حسين والزيات والعقاد والمازني وغيرهم. وقد قال عنه الزيات: إنه من أحد الكتاب العشرة الذين يكتبون لغتهم عن فهم, ويفهمون أدبها عن فقه, ويعالجون بيانها عن طبع.
قدم زكي مبارك لكتابه ليلي المريضة في العراق بتقرير طبي عن مرض ليلي رفعه إلي حضرة صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا ـ وكان يومها وزيرا للمعارف ـ وقد امتد التقرير الذي نشر في الرسالة علي حلقات ليصبح كتابا كاملا, تملؤه استطرادات المؤلف, وانتقالاته المفاجئة من موضوع إلي موضوع, واستشهاداته واقتباساته من القديم والحديث, وكأننا بإزاء دائرة معارف أدبية وفكرية. تتخللها نوادر المؤلف وطرائفه, ووقفاته الساخرة والمعابثة. وتحاول ابنته الأديبة الشاعرة كريمة زكي مبارك الإجابة علي السؤال الأول الذي يطرح نفسه وهو: من هي ليلي المريضة في العراق؟ مستشهدة بهذه السطور من الطبعة الأولي للكتاب التي صدرت عن مطبعة الرسالة بالقاهرة عام1939.
قال زكي مبارك: طلب جماعة من أدباء بغداد أن أعلن أن ليلاي غير ليلي الزهاوي, فإن الزهاوي كانت ليلاه في بغداد هي العراق, وأنا أصرح بأن ليلاي في بغداد هي ليلي المريضة في العراق وهي معروفة لجميع الناطقين بالضاد.
ثم تعلق كريمة زكي مبارك بقولها: وأنا بدوري أقول: ومن تكون ليلي المريضة في العراق ـ والمعروفة لجميع الناطقين بالضاد ـ غير اللغة العربية؟.
وعن السؤال الثاني ـ الذي يطرح نفسه أيضا ـ: ولماذا قصة الحب التي عاشها زكي مبارك مع ليلي؟ تجيب كريمة: كان زكي مبارك صاحب رسالة, رسالة لها أبعادها الوطنية والسياسي والدينية والاجتماعية والتربوية. وكان يريد أن يحبب الشباب في اللغة العربية لغة القرآن, وأقرب طريق إلي قلوب الشباب لغة الحب, ولهذا كثر حديث زكي مبارك عن الحب. فكتب عن ليلي في الزمالك, وفي أسيوط, وليلي في لبنان, وليلي المريضة في العراق, إلي آخر ما هنالك من الليليات إذا جاز هذا التعبير.
وتستشهد كريمة زكي مبارك بمقال نشره زكي مبارك في العدد446 من مجلة الرسالة بتاريخ التاسع من فبراير سنة1940, عنوانه تشريح عاطفة الحب يقول فيه: حديثي عن الحب صار مذهبا أدبيا, أشرح به ما يتعرض له الناس في ميادين النوازع والأهواء, ونحن لم نبتكر الكلام في الحب, فهو عاطفة عرفتها الأرواح منذ أقدم عهود الوجود, وما قيمة الدنيا إذا خلت من الحب؟
ليلي المريضة(2) إنتهي
ولأي غرض يحيا الناس إذا أصيبت أفئدتهم بالاعتلال, فلم تحس ذلك الروح اللطيف ؟
إن المتوقرين والمتزمتين يتوهمون أنهم وجدوا الحجج والدوافع حين استطاعوا أن يقولوا: إن الدنيا في حرب, وإن الظروف لاتسمح بالحديث عن الحب. وأقول: إن ما هتفوا به لم يصدر إلا من صدور مراض, فالحب لا يغزو إلا قلوب الأصحاء, وهو يساور قلوب الجنود في أصعب أوقات الحروب. وكيف يرانا من سيدرسون آثارنا الأدبية بعد جيل أو أجيال حين يظهر لهم أننا كنا نحسب الحديث عن الحب من فنون المزاح ؟ الحب جده جد, وهزله جد. ولا يتجاهل هذه العاطفة إلا الغافلون عن تأثيرها الحسن أو السييء في تلوين الوجود.
ثم يقول: إن عصرنا عصر الرسوم والأشكال, وأخشي أن يمر بلا أثر ملحوظ في خدمة العقل والقلب والذوق. وإذا سكتنا عن تشريح عاطفة الحب, فمن يتحدث عنها ونحن ندعي النيابة عن الجمهور في تشريح النوازع والأهواء ؟.
الأوروبيون لايرون الحب من المزاح, وإنما يرونه عاطفة أصيلة تنقل القلب من مكان إلي مكان, وتسبغ عليه أثواب الصحة والعافية. وتشريح عاطفة الحب هو عندي باب لتربية العواطف. تربية العواطف ؟ نعم, أنا أدعو إلي تربية العواطف فضمور العواطف هو الذي قتل الشاعرية في مصر, وهو الذي جعل المصريين أقل الناس إحساسا بمعاني الوجود.
فإذا حاولنا التأمل في رسالة زكي مبارك إلي الدكتور هيكل باشا ـ وزير المعارف ـ وجدناه يقول: وما أخفي عليكم أني كنت أعرف أن اهتمامي بمداواة ليلي سيعرضني لكثير من المكاره,, فهدتني الفطرة إلي أن أحتاط لنفسي, فأوهمت أهل العراق أني أديب عظيم, واستطعت بذلك أن أتصدر لتدريس الأدب العربي بدار المعلمين العالية, علي قلة ما أملك من الذخائر الأدبية, وقد أعانني الله ـ تباركت أسماؤه ـ علي تحقيق ما ادعيت, فألقيت علي تلاميذي وعلي جمهور أهل بغداد محاضرات أسبوعية بكلية الحقوق, كان لها في آذان أدباء بغداد رنين أي رنين. ولم أكتف بذلك, بل بالغت في ستر الموقف فأنشأت الفصول التي رأيتموها في كتاب وحي بغداد. فإن عجبتم من أن أوفق إلي ما وفقت إليه في زمن لايزيد علي تسعة أشهر, فتذكروا أن الإخلاص قد يزعزع رواسي الجبال.
ثم يقول زكي مبارك مخاطبا وزير المعارف: وإن رأيتم في هذا التقرير حبا شديدا للأمة العراقية فلا تعجبوا, فما ذقت طعم الحياة إلا في العراق, ولا رأيت صدق القلوب إلا في العراق, ولا عرفت جمال النيل إلا بعد أن رأيت ماء دجلة والفرات.
وما أسفت علي شيء كما أسفت علي أن لم يقدر لشاعرنا شوقي أن يزور العراق. وقد دعوتكم إلي زيارة العراق فمتي تجيبون ؟.
أحب أن أعرف متي أراكم في العراق بين قومي وأهلي ؟ أحب أن تسمعوا سجع الحمائم في الموصل, وأن تروا غابات النخيل في البصرة, وأن تعانقوا بقايا السحر في بابل, وأن تكحل أعينكم بغبار الصحراء في النجف, وأن تستصبحوا بظلام الليل في بغداد.
من أطرف فصول الكتاب, صفحات يتحدث فيها زكي مبارك عن محاضرة ألقاها في محطة الإذاعة العراقية عن حكم ابن عطاء الله السكندري, ناطقة بأسلوبه الأدبي البديع, وطريقته في الاستطراد والانتقال من موضوع إلي موضوع, يقول: أقول إني ألقيت محاضرة في محطة الإذاعة عن حكم ابن عطاء الله, ولكني ما كدت أودع جمهور المستمعين, حتي كان المذياع يجلجل:
يقولون ليلي في العراق مريضة فياليتني كنت الطبيب المداويا
وكانت لحظة طرب لن أنساها ما حييت, فاسم ليلي يشوقني, وبفضل ليلي رأيت العراق, وليس من التزيد أن أقول إن محاضراتي في الإذاعة ينتظرها الناس في جميع أرجاء العراق, وكذلك كان إلقاء ذلك الصوت بعد محاضرتي شاهدا علي حلاوة الدعابة العراقية التي خلدها أبو الفرج الأصفهاني علي وجه الزمان. جلست بعد المحاضرة أستمع هذا الصوت, والرفاق يضجون من حولي بالضحك, وفاتهم أني صرت كالذي قال:
بكت عيني اليسري, فلما زجرتها عن الحلم بعد الجهل أسبلتا معا
وخرجت من دار الإذاعة, فعبرت دجلة من الكرخ إلي بغداد, وأنا في ذهول, فحدثتني النفس بحلاوة الغرق في ذلك النهر الذي وعي ما وعي, وضيع ماضيع, من أسرار القلوب!
ثم تذكرت ديوني في القاهرة, ديوني للوجوه الصباح التي تعطر بأنفاسها نسائم مصر الجديدة والزمالك وديوني لعرائس دمياط اللاتي تفردن بنعومة الأجسام وعذوبة الأحاديث:
رباه صــــغت فؤادي من الأسـي والحنــــين
ولم تــشأ لضـــلوعي غير الجوي والشجون
فكـــيف تصفو حياتي من الهــوي والفــتون
أم كيف ترجي نجاتي من ساجــيات الجـفون
ليلي, يا بنت الفرات: أمري وأمرك إلي الهوي, فإليه ترجع القلوب!
أحاديث زكي مبارك ونوادره في كتابه البديع ليلي المريضة في العراق تذكرنا بزمان جميل, كانت فيه الأواصر والروابط الثقافية بين القاهرة وبغداد تجسيدا للحلم العربي, ومياها تتدفق بين النيل ودجلة والفرات, وكان الأساتذة المصريون الكبار من أمثال أحمد حسن الزيات وأحمد أمين وزكي مبارك وبدوي طبانة يحاضرون في الجامعة العراقية وفي دار المعلمين العالية ـ التي درس فيها السياب ونازك والبياتي والحيوري ـ وفي المنتديات الأدبية والثقافية, ويحملون في أعطافهم ـ وهم عائدون إلي مصر ـ بعض عطر الكرخ والرصافة, وبعض السحر من بابل, والنفحات الروحية من النجف وكربلاء, وأقباسا من إبداع المبدعين العراقيين الكبار في الأدب والفن والحياة وبخاصة في الشعر والموسيقي والغناء.
إن ليلي المريضة التي قصد بها زكي مبارك لغتنا الجميلة لم تعد مريضة في العراق وحده, فهي مريضة في كل قطر عربي, تبحث عمن يشخص العلة ويصف الدواء. لكن المشكلة الحقيقية الآن هي في النفس العربية المريضة والروح العربية المنكسرة التي لم تستشعر بعد عمق الداء وصعوبة الطريق إلي الشفاء. فمتي يصبح وعيها البازغ من ظلمات المحنة الجاثمة دليلا إلي الخلاص ؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق