الثلاثاء، 28 أبريل 2015

ساعتانِ أو أكثر .. قصة قصيرة - عبيـر غيث ...

ساعتانِ أو أكثر 


عبيـر غيث

     تَقِفُ خلفَ النافذةِ وكلّها شوقْ.. عيناهاَ تلمعانِ فرحاً، تتنقّلانِ بينَ الساعةِ والطريقِ الحجري أمامَ المنزلِ، تحسبُ الثواني في انتظار عودتهِ.. في انتظار سيارتهِ أن تظهَر من خلفِ الأفقْ، تمخرُ الطريق نحو المنزلِ، نحوها هي، إليها.. اليومْ.. سيعودُ من سفرٍ طال.. اتصلَ بِها قبلَ موعدِ الإقلاعِ ليخبرها أنّــهُ إشتاقها، وأنّــهُ أخيــراً سيعودُ إلى منزلهما، إليْـــها.. التفتتْ إلى الساعةِ وتمتمتْ "تُــرى هلْ حطتْ الطائرة؟ يُفتَرضُ بِــه أن يصلَ الآن، فَــلا تستغرقُ الرحلةُ أكثرَ من سَــاعتيْنِ"..

   شيّعتْ نظرها مجدداً إلى الطريق البعيدة، فهي لاتُريدُ أنْ تغفلَ عنْ رؤيةِ سيارتهِ القادمةِ بِــاتجاهها.. مضتْ ساعتانِ أوْ أكثر على الموعدِ الذي حددهُ لها للوصولْ، بدأ القلق يزحفُ على مساحاتِ عقلها، وبدأ الخوف يضربُ جذورهُ وسط أحشائها، اتجهتْ إلى هاتفها المُلقى على الأريكة، أمسكتْ بِهِ وضعتْ اصبعها على اسمهِ، صورتهِ، رقمهِ وظهرَ على الشّاشةِ "جاري الاتصال".. ثانيتانِ مرّتا قبل أن تسمعَ تلكَ رنينَ الهاتفِ في الجهةِ الأخرى، ولا من مجيبْ...

   سرتْ الرعشةُ في روحها قبل يديها، حيثُ سقطَ منها الهاتفُ متناثراً إلى قطعٍ، ولمْ تستطع لملمةْ شتاتْ تفكيرها ولا التقاط هاتفها.. تهالكتْ بسرعةٍ على الاريكة بجانبها، كانَ قلبها ينذرها بشيءٍ سيءْ ولكنها لم تعلمْ ما كان.. أينَ منَ الممكنِ أن يكون؟ أين ذهبْ؟ هل تعطلتِ الرحلة؟ هل أصابهُ مكروه؟ كلها أسئلةٌ كانتْ تدورُ في ذهنها، لكنها لم تجرؤ على توقعْ أيّ إجابةْ، أو بالأحرى هي لم تُرِدْ التفكير في أي احتمال.. ماذا ستفعلْ وبمنْ ستَتّصـلْ وهي في بلادٍ غريبةٍ لا تتكلمُ لُغتها.

- تذكرتهُ وهو يقول لها: أتعرفينْ، يجبُ عليكِ تعلمُ لغة..

- هي: لا، لا أريدُ هذا.

- هو: ولمَ لا؟ إنها صعبةٌ قليلا في البدايةْ لكنك بعد ذلك ستتعودين عليها.

- هي: لا أريدْ، ولما أتعلمها إن كنتَ أنت بجانبي تترجم لي، العربيةُ تكفيني.. وتلتفتُ إليهِ بِــابتسامةِ وَغنجٍ: لا أريدْ أن أحادثَ أحداً غيركْ ولا أريدُ أن أفهم أحدا ولا أنْ يفهمني أحدٌ سواكْ..

- لكنّهُ وبكلّ جديّةٍ وحزمٍ قال لها: تنتظرنا حياةٌ هنا، ولن نعود قريباً إلى الوطنْ، رُبّمـا متُّ أنا، ربما تأخرتُ أنا، كيف ستتصرفينَ من دوني؟!..

- هي: لن أضطر إلى التعاملِ مع أحــدٍ لأنكَ ستكون طوال الوقتِ بجانبيِ ولن تتركني، أنهتْ المحادثة بِــابتسامةٍ وقبلةٍ صغيرةٍ على جبينهِ وانتقلتْ إلى المطبخ.. الآن، وهي في هذا الوضعْ، تمنتْ لوْ أنها أخذتْ بنصيحتهِ، تمنتْ لو أنها تعلمتْ هذهِ اللغةَ الغريبة، لمْ تكنْ تتخيلُ أنها ستواجهُ يوماً موقفاً مُماثلاً..

   مـــرتْ خمسُ ساعاتٍ، لمْ يعدْ بعدْ، ولا هاتفٌ يردْ.. أينَ الملاذُ والملجاُ الان؟! في حيّ دبلوماسيّ لاتوجدُ بهِ أكشاكُ للهواتف.. كان حيّاً فخماً للبيروستقراطيين.. أحستْ بالعجزِ الشديدْ، لو أنّها فقط تعلمتْ لغتهمْ.. خرجتْ منْ المنزلِ قاصدةً جيرانها، لعلهم يستطيعُون مُساعدتها أو فعلَ شيئاً ما لها.. خلاَلَ بضعِ ثوانٍ وجدتْ نفسها وسطَ الشارعِ قاطعةً الطريقَ نحوَ المنزلِ المقابلْ، ضغطتْ على الجرسِ بِـشكلٍ متواصلْ ولمْ ترفعْ يدها إلا حينما فُتِحَ البابْ.. كانتِ الجارةُ تقفُ خلف البابْ، راعها مظهرُ جارتها العربيّة، بِــشعرها المتطايرِ وعينيها المتورمتين، وملابسها الخفيفة رُغمَ درجة الحرارة التي لم تُجاوز الثلاثْ درجات فوق الصّفرْ، فتحتْ لها البابَ على مصراعيهِ راجيّةً إيّاها بالدخول، كانَ مظهرها يوحي بِــأنّ شيئًا مُريعاً حدثَ لها، ركضتْ الجارةُ اللطيفَةُ الى زوجهاَ لِـتخبرهُ بوجودِ جارتهمْا الشابة وهي في حالةٍ مزريةْ، ثمّ ذهبتْ إلى المطبخَ لِــتعدّ لِـــها مشروباً ساخناً.. كانتْ تقفُ في وسطِ الغرفةِ وتنظرُ إلى النافذةِ شاردةَ الذهنِ، لمْ تنتبهْ إلى التلفازِ والصور التي كانَ يعرضها، لعلّ الصوتَ المنخفضَ لهُ واللغة الغريبةَ عنها، هما ما أقنعاها بالعدولِ عن الالتفاتِ اليهِ.. حضرَ ذلك الرجلُ سريعاً، كَان في أواخرِ العقدِ الخامسِ من العمرْ، التهمَ الشيبُ رأسهُ، يبدو على ملامحهِ المرحٌ يتميز بابتسامةٍ جذّابة، وعينينِ زرقاوينِ كَـــلونِ البحرْ، لابدّ أنه كان وسيماً حينما كانَ أصغر عمراً.. كانَ على معرفةٍ باللغة العربيّة نوعاً ما، وذلك لاحتكاكهِ بِـالعربِ أثناء سنيّ خدمتهِ في الشرق الأوسطْ منذُ عشرون سنةٍ مضتْ.. سَــارَ إليها، حيّاها ثم دعاها للجلوس، كانتْ ملامحهُ توحي بالقلقِ عليها، اختارَ المقعدَ الصغيرَ في الزاويةْ، وتركَ لها الأريكة الكبيرةْ لتجلسَ عليها وحدهاَ، فقدْ تعلّمَ جيداً تقدير المسافاتْ التي يجبْ أن تكون بينه وبين شرقيّة.. رمقهاَ بِنظرةٍ قَلِقةٍ سريعةٍ، فهمتْ منها أنّهُ يُريدها أن تشرحَ وضعها، فانطلقتْ بِــصوتٍ واهنٍ تقول: زوجي، طائرة، لم يعدْ.. 

   أخذتْ تُرددُ نفس الكلماتِ مرةً أخرى وهي تُحركُّ يديها في الهواءْ لِتحاكي شكل طائرةٍ، لتشرحَ لهْ.. لمعتْ عينا الرجلْ، يبدو أنــه فهمها، قبض على يديهْ، انحنى نحوها قائلاً لها: سيدتي، لا تقلقي.. نهضَ من مكانهِ على عجلٍ التقطَ الهاتفْ، وخرجَ من الغرفةْ.. أحستْ بالوقتِ يمضي بطيئاً بطيئاً، تلحقُ الثانيةُ الثانيةَ ببطء قاتلْ.. عشرونَ دقيقةً غابَ فيها جارها مضتْ كأنها عُمرْ، على الرغمِ من وجودِ زوجتهِ بِجانبها تواسيهاَ..

   وأخيِــــــراً حضرَ، كانَ يقودُ الطريقَ لِــضيفٍ معهُ، ليسَ غريباً عليها، ملامحهُ مألوفةْ، أينَ رأتهُ من قبل؟!، يُرافقهُ اثنانِ من الحرسِ، تُحاوِلُ أن تتذكرَ، لكنّــــــــهُ قطع حبلَ أفكارها قائلاً: أنا رئيس إدارةِ الشرطةْ، يؤسفني أنني أحملُ أنباءً غير سارةْ.. لمْ تستوعبْ ما قال، لكنّهُ كانَ يتكلمُ بِـــعربيّةٍ فصيحةٍ لا تدعُ مجالاً للشكّ، رفعتْ عينيها إليهِ وكأنّها تستجديهِ أنْ يسحبَ أقوالهُ، لكنّــــهُ نظرَ إليها بِــإصرارٍ وتابعَ: سيدتي إنّ ما حصَلَ للطائرةِ التي يستقلّها زوجكْ هو أمــــرٌ محزنٌ، لقدْ اختفتْ الطائرةْ وَهي في الهواءِ ولمْ نجدْ لها أثراً، ليستْ لدينا معلوماتٌ مؤكدةٌ إلى الآنْ، ولكن الدولة تعملُ بجدٍ وكدٍ لتقف على حقائق وملابسات هذه الكارثة..

   وحتى ذلكَ الحين، لكِ مُطلقُ الحريّةِ في التنقلّ في أرجاء البلادْ كــأي مواطن حقيقي.. انحنى مُحيّيِا إياها وجاراها، وخَرَجَ، لم يدعْ لها مجالاً للاستيعابْ، لمْ يدع لها مجالاً للتصديقِ أو الشكّ حتى. خرجتْ خلفهُ ضائعةً، مذهولةً، مصدومةً، غيرَ آبهةٍ بالبردِ القارسْ، ولا بِــقدميها الحافيتينِ.. ركضتْ إلى البيتْ، أغلقتهُ على نفسها، جلستْ أمامَ الهاتفِ وهي تنظرُ إليهِ، وَكأنّها تستحثهُ أنْ يَــرنْ، لكنّ انتظارها طــــالْ.. زوجها الذي كانتْ تنتظرْ، حلمها الذي كان يحتضرْ، وأمـــانٍ وعدها وأمناها بها.. غابتْ الشمسُ، غابَ معها الأمل، حلّ الليلُ وحلّ معهُ الخوفُ، الوحدة، واليأسْ.. بدأتِ الأسئلةُ تنقضُّ جــائِعَةً على مَا تملِكُ هي من بياناتٍ ومعطياتْ، بدأتْ الظنونُ تخنقها.. بِـــــخطىً واهيةٍ وبِـيدٍ مُرتعشةٍ، أقبلتْ نحوَ التلفازِ وشغلتهُ على إحدى المحطاتِ الحكوميةْ، لمْ تفهمْ شيئًا لكنّ الصورةَ كانتْ أبلغَ من الكلامْ، غيرتْ المحطة وما منْ جدوى، كانتْ كلّ المحطاتِ تعرضُ صُورَ الطائرةَ المختفية.. أطفأتِ التلفازْ، تهالكتْ على السريرِ. سالتْ دموعها حارةً على وجنتيها، شعرتْ بالشلل، عرفتْ إلى أي حدٍ يمكن أن تكون عاجزةً بدونهِ.. اختنقتْ بِـــأنفاسها، رُغمَ تشبع رئتيها بذلك الأوكسجين النقي إلا أنها لم تستطع التنفس، أخذتْ شفتاها بالإزرقاق. تكورتْ على نفسها وأخذتْ تشهقُ بِالبكاء، تبكي، وتبكي وتبكي.. وضعتْ يدها على بطنها تَتحسسُ جنينهاَ.. خارتْ قواها، لمْ تعدْ قادرةً على النحيبِ، اختفى صوتها، لكنّ دموعها كانت تنهمر كَمطرْ، تسيلُ بحرارةٍ لترسمَ طريقا على وجنتيها مروراً بشفتيها لِتتْرُكَ أثرها على الوسادة.. 


تصميم غلاف القصة: الفنان بشير أبوالقاسم

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة