الأحد، 19 أبريل 2015

الطين - عبده خال - للقراءة والتحميل ...


الطين



عبده خال


  • تعريف الناشر

  •    طبيعة العالم الذي تجوس هذه الرواية فضاءه غريبة: بطل الرواية إنسان غريب كالطين تماماً؛ غريب في لزوجته وصلابته، تشكله وثباته، وجوده وعدمه. ولد من رحم الموت، ولم يأت من نطفة، ولم يعايش رحم أمه.

      يعيش حياتين معاً: حياة واقعه وقريته، وحياة أخرى يصر - بطل الرواية - على وجودها في تزامن واحد يجعلنا نجزم أن الرواية تقدم سراً جديداً من أسرار الحياة، وتطرق باباً مهملاً لتنقب من خلفه عن سر الوجود. رواية تخلط بين عوالم متعددة يشارك في سردها علماء نفس وإجتماع وتاريخ وفيزياء وشعراء وسحرة ودجالون. وتهزأ من التغيرات السياسية وما تحدثه من مواقف عصيبة في حياة البسطاء والهامشيين. كما تسلط الضوء على جوانب مثيرة من شبق الحياة الجنسية، وتظهر بطل الرواية نموذجاً لهذا الشبق، وتكشف لنا كيف شب ورأى نفسه رجلاً تعبث برجولته بنات قريته ونساؤها.

      الرواية بحث مضن في كثير من مفردات حياتنا اليومية لتتحول إلى كابوس يجعلنا نعيد التفكير في حقيقة وجودنا البشري. 

        مودي بيطار - الحيـاة تتوزّع رواية عبده خال (الطين) بين الواقعية السحرية والتحليل النفسي وكان يمكن ان تكون أكبر اثراً لو كانت أقصر.

      الرواية الصادرة عن دار الساقي, بيروت, في أربعمئة صفحة تجمع السرد والرسائل والتحليل والحواشي لكي تؤكد في المقطع الأخير ما يدركه القارئ (النجيب ربما) منذ البداية. السلاسة والعفوية ليستا صفتين مفضلتين لدى الكاتب السعودي الذي يقع من حين الى آخر في شرك الصنعة الواضحة.

       وهو يشترك مع عدد من الكتّاب والكاتبات الخليجيين في انتقاء تعابير جنسية غير ضرورية قد تكشف حصار مجتمعاتهم وتتحداها في آن واحد.

       يبدأ خال روايته بنفس مسرحي خالص عندما يدخل رجل ضخم طويل القامة عيادة الطبيب النفسي في المستشفى العسكري.

       (كنت أبحث عنك منذ زمن بعيد (...) للتو عدت من الموت) يقول المريض في حين يهجس الطبيب به: (غدوت أنا المريض (...) كان يتحدث عني في شكل ما).

     عندما يبدأ البوح لا نعرف اذا انتقل الخطاب الى شخص آخر, ونتعرف الى طفولة معذبة لفتى خامل لا يثير انتباه احد. واجه هامشيته باحتقار (كل هذه الكائنات الحقيرة) واعلاء شأنه, وتحدث بلغة تصدم عن الفتاة المجهولة الوحيدة التي كسرته: (كان علي ان أخرجها مع بقية الفضلات التي اتبرزها يومياً إلا أنها (...) نبتت في أعلى صدري). كان فتى ضعيفاً مريضاً على رغم ضخامته لكن (هذا الجسد الضخم المثير للفزع لا ينتمي اليّ البتة, فأنا أشعر بأن في داخله عصفوراً صغيراً) 128.

      لا ظل له كالمريض الذي قصد الطبيب, وهذا ما أكسبه مستوى آخر من الوجود: (هم جازمون بأنني جني أعيش بينهم) 132.

      وعلى المستوى الواقعي تختصر عقدة قتل الأب العلاقة بين الفتى ووالده. الأب التركي الأصل أتى من سلالة ينجب افرادها طفلاً واحداً ولم ينجُ من اللعنة, لكن ابنه كان منذ ولادته (نبتة مصغرة لا يمكنها ان تثمر). لا يمر يوم الا ويضربه حتى يسيل دمه وعندما طال مرضه فكّر في حرقه خشية ان تنتقل العدوى الى الآخرين.

       أب اسبارطي لا يريد ولداً ذكراً اذا لم يكن صالحاً للحياة ابتلت عائلته وقريته بجنون العظمة لديه. يظن أنه (نعمة مهداة وبركة من الله) ويتهمه الآخرون أنه بكذبه وسرقاته ومكائده أصل البلاء. يسعى إلى الزعامة بفضل علمه وقتاله في فلسطين الذي نال عنه وساماً, ويتسبب لأسرته بالتسيّب معه والعيش في الاحراج كلما هرب من عقاب على مكيدة دبرها. ولا تخلو قرية من مثيل للأب أو أكثر, وعبده خال لا يستطيع خلع هالة اسطورية عليه على الرغم من انه يحتل نصف الكتاب. يتسلل إلى غرفة عروسه ليلة الزفاف ويتركها ليقاتل في فلسطين بينما تحمل فوراً وتواجه التشكيك في عفتها. يكره الفتى (كل شيء) في الأب الذي يضطهده وأمه (وتجنب إي تصرف يقوم به) ومع ذلك تقتنع هذه أنه يشبه أباه تماماً. لا شيء يبرر احتلال الأب كل هذه المساحة من الرواية, ولا تخدم الكراهية المتبادلة مع ابنه العقدة الرئيسة. عوّض الاخير بافتتانه بذاته وشعوره انه (موعود بقدر عظيم). والتخيل انه كان سابقاً قائد جيش وملكاً واميراً, لكن الغموض في (الطين) يتسبب بانفصال السياق احياناً فيضعف الرابط بين الواقع والاسطورة. يركّز الراوي على لعنة الموت التي حلت على قريته الفقيرة. اجتاحها وباء نفقت معه الدواب, وأصيب أحد أبنائها بمرض غريب ومات فخرج الدود من جسمه باحثاً عن ضحايا آخرين ثم هجم الجراد فالتهم ما تبقى من الأخضر والأمل. (كل شيء ميت هنا: الحقول والمراعي ولحاء الاشجار والآبار والعيون المنطفئة) يقول الراوي في ص131. وفي 216: (... أنا وأبي نتبادل الموت. هو ميت خارج حلم لم يتحقق) والراوي مات وعاد كما يكرر مراراً. تضيق القرية بمؤامرات الأب فيقطع لسانه الصديق الذي أمل بالزعامة على يده, وتأتي المفاجأة القاتمة الجميلة من الأم التي تجهز عليه طعناً عندما تعجز عن التحمل: (فلينته كل شيء). مثل هذا التحوّل في الشخص الضعيف وتفاصيل الحياة (والموت) في القرية أكثر جاذبية من المستوى السحري. لا يتعلق ذلك بالتفصيل الفني وحده بل بتحدي الحدود الضيقة للتعبير, ومعرفة الحقائق بعيداً عن الخطاب الرسمي.

    في الصفحة 106 يناقش احد سكان القرية إمام المسجد فيؤدي تحدي السلطة الدينية الى الدعاء عليه بالموت.

    139: انباء عن سقوط السلطة السياسية والثورة التي (تعني الحرية وأخذ أموال الاغنياء اللصوص).

    164: يعود الأب من فلسطين مع الجيش المنهزم وهو يبصق على الزعماء.

    166: يتهم بأنه زيدي (اخطر من اليهود والنصارى على الاسلام) .

    195: يقبض على نصراني يبول في مكان علني ويتهم بأنه العين الشريرة التي لعنت القرية.

       (الخالة) مسعدة مثال التمرد على ضرورات الادعاء والتظاهر لكن عبده خال يحصر تحديها بالجنس. لسانها (قذر) صريح والحياة عندها رجل وامرأة ولقاء حميم. شفت الفتى من الجنية التي أسقمته بواسطة حيضها وخبأته تحت ثيابها لتخلصه من دفنه حياً على يد والده. دشنت رجولته ورأت ان (الحياة تبدأ حينما تكبر فينا, تبدأ عندما نشعر بأنها على وشك الهرب من أجسادنا).

       ينقل الكاتب تعابيرها الصريحة كما هي, ويميل الى اللغة الموحية. يقول الأب لابنه ومن يختنه انهما يهمسان (كجاريتين طفح شبقهما) 119, ونقرأ في 133: (مقذوفان في أماكننا) وفي 147 (تناسل) بدلاً من (انسل).

    وفي الصفحة 52 يدعو مسكن العروسين (بيت افراغ الرغبات). ويبالغ خال في الاهتمام باللغة فتقوى على المضمون وتنفصل عنه.

    64: الحياة ظل عابر يتكرر تقيؤنا به.

    94: عيناها تلمعان كنجمتين ارسلتا ضوءهما في خَبَت عار من الاشجار فبقي وميضهما مرتهناً للتراب يردد ذلك الوهج الابدي.

    177: عيون الفلاحين الذابلة ترف كعيني حداءة ولت بعد ان اختطفت لحماً نيئاً من جزور ألقيت على أرضية مذبح متسخ بدم ملبد وبقايا ذبائح تناثرت جلودها وأطرافها وتيبست دماؤها كمأدبة تلعقها الكلاب ويحوم حولها الذباب.

       نضيع بعد موت الأب ونتساءل اذا كان الراوي هو العاشق الذي قتله والد حبيبته انقاذاً لشرفه أو الجندي أو غيرهما. من الأجوبة انه مصاب بتعدد الشخصيات ومن هنا ترديده انه مات وعاد, أو انه مسكون بالجن وفي هذه الحال يعالج بالدين.

      وماذا عن هند حبيبة الطبيب التي تيّمته وتركته? على القارئ ان يعبر قسم (ملاحق) الذي يفوق مئة صفحة لكي يعرف الحقيقة في بعض السطور والمقطع الاخير من الرواية.

    الطين (مقتطفات من الرواية) - عبده خال

    من فصل "أحداثٌ ضبابية" الطين

      "حواجزُ و أشكال هندسية تضيقُ و تتّسع و نحن أسرى تلك الأشكال. من منا يعرف سر هذا الشهيق والزفير؟ هذا الهواء الذي يمنحنا الحركة، و الأحلامَ، و الجبروت، فإذا ركد في دواخلنا غدونا كأواني الفخّار المهشّمة.

      نحنُ نعيشُ في نقطة الغياب، نُمنعُ من زيارة الماضي بحاجز الماضي،ولا نقدرُ على تخطّي الأيام لرؤية المستقبل. حتى اللحظة المعيشة تمنعك من معرفة خبر علق هناك، تمنعك من معرفة الأحداث التي تجاورك في حيك أو مدينتك أو قريتك. تمنعك بحاجز المكان. نحن نقومُ طوال حياتنا بحركةٍ واحدة: السّير للأمام و كأننا علبٌ في مصنع كبير وُضعت في دورها، تُعبّأ، و تُختم، و تسيرُ آلياً،ليس لها أن تتقدّم أو تتأخّر و في حركتها تلك تأخذ معنى وجودها. هذهِ هي الحركة الوحيدة التي نُفكّر فيها، نفكّرُ في أننا نسيرُ في خط مُستقيم، و لو تركنا أماكننا لما احتجنا لقدْح أذهاننا، سنرى أننا كنا نسيرُ في حركةٍ دائريّة و لكبر الدائرة توهّمنا أننا كنّا نتحركُ في خط مستقيم. إن رؤية القاعدة التي وُضعنا عليها داخل المصنع هي قاعدة دائريّة و ارتباطنا بها بالضّرورةِ يولّد حركة دائرية.

    الخطّ التصاعدي نظرة مُختالة. أسّسنا وجودنا على هذا المفهوم الخاطئ. إن رؤيتنا لأعالي الأشياء لا تُلغي وجود أسافلها. تلك اللحظة المعيشة هي خارج هذه الجدر التي نتمترس داخلها."
    ---------------------------

    من فصل "الرسائل" الطين

       "..نحنُ حين نتصنّمُ في قالب واحد تألفنا الروائح، تلتصقُ بنا و نغدو كلّ البشَر، لا يُميّزُنا إلا انتصابُ قاماتنا ووهمٌ حقيقي أننا نقفُ ضد الفناء بينما نحن نقفُ أمواتاً. نحنُ نُغنّي في زمنٍ مُتحرّك، نُغنّي للفراشات في زمن الديناصورات. هل تَعِينَ الفرق؟
    ماذا يضيرُ لو سرقتُ أناملك و سرت بك كأميرة نائمة أو قروية ساذجة تبحثُ عن الطريق، فظهر لها عاشقٌ أضاعَ الدنيا من عينيهِ، وحين سايرك اكتشف أن كل الطرقات تؤدّي إليك، فقطَفَ قُبلة عشوائيه، و علّقَ موالهُ بشحمةِ أذنيك و تَرككِ علّكِ تقتفينَ أثره.

      أكان مُخطئاً! و ماذا حدَث؟ هل مادت الأرضُ و ذابت الجبال بصخورها الصّلدة بين سهوب و منحدرات السهول المرتوية بأشجارها المُخضرّة؟ (...).

       نحن قواريرُ ترجّ فيتقلّب الكون، و تغدو أماكن قرع النعل فضاءً، و الفضاءُ بركةُ ماءٍ آسنة!!

       ماذا يُضيرُ لوْ أنني وجدتك صُدفةً في شبابي، و خرجنا في نزهةِ حبٍّ و لم نعُد إلا للحودنا، و ينتهي الأمر و العمر في نزهةٍ قصيرة ربّما كنا خلالها قطفنا العالم و لهونا به قليلاً و عدنا للأرض لنكون سنبلتين متجاورتين. بالله عليكِ ماذا يُضير؟
    إنّ قلوبنا حين نقطفها تغدو صدورنا مظلمة موحشة و في وحشتنا نتخيل نفقاً صغيراً سوف تصله أقدامنا .. ربما نرتكب حماقة عظيمة حين لا نكون مجهّزين بمعرفة حقيقية قريبه قرب روائحنا منا، تلك الحقيقة أن أقدامنا عمياء لن تصِل للنفق. ..".

    ----------------------------
    من فصل "مفكرة" الطين

    " العلم ضد الحرية المُتخيّلة (ضد الخيال)."

      ".. إننا نكتشفُ - في كل لحظة - عجزنا عن اختراق حجب مُسدَلة كالليل المظلم. وبين نشوة الانتصار و هزيمة الأعماق نتمزق، و نبحثُ عما يُطمئننا إلى مضي مقدرتنا المهولة في هزيمة ذلك الخوف. نحملُ في حقائبنا إجابات محتملة، لكنها لا تحمل اليقين الصارخ.

      إن كل إجابةٍ ثابته هي جريمة تخبئ خلفها كوارث يستعصي علينا إطفاء حرائقها التي نمسكُ لهبها بأطراف عقولنا و تقودنا الى التزييف و التضليل اللذين لا ينتهيان.
    و الموت هو حقيقة عجزنا الى الآن عن الوصول لتشكلاته، فهو واقع بصور متعددة لا نعرف منها إلا النوم أو حوداث غريبة لم نعترف بها الى الآن."

    "نحنُ بهذا مشروعاً لوسوسة زمنية ربما حدثت و ربما لم تحدث بعد. .."

    "كلّ شيء يمكن حدوثه."

    " للتو عدت من الموت...

    أذكرُ هذا جيداً..

    لستُ واهماً البتّه".

    -------------------------

    مقتطفات من رواية (الطين) عبده خال - دار الساقي 2002 | المسيرة الالكتروني

        عبده خال روائي وكاتب سعودي من مواليد إحدى قرى منطقة جازان(المجنة ) عام 1962 حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية جامعة الملك عبد العزيز عام 1982، واشتغل بالصحافة منذ عام 1982 وهو حاليا يشغل مدير تحرير جريدة عكاظ السعودية يعتبر أحد أبرز الأسماء في المشهد العربي للرواية الحديثه . المسيرة الالكتروني.

       له العديد من المؤلفات منها (لا أحد: مجموعة قصصية صادرة عن مركز الحضارة العربية بالقاهرة 1992, الموت يمر من هنا: رواية صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1995,مدن تأكل العشب: رواية صدرت عن دار الساقي بلندن 1998 , والعديد من المؤلفات الأخرى ) وقد فاز بالجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” في عام 2010 عن روايته “ترمي بشرر ,فازت رواية لوعة الغاوية بجائزة أفضل رواية في معرض الكتاب لعام 2013 وقد نال العديد من الجوائز وتم تكريم فى اكثر من ملتقى ادبي وثقافي وفى عدة بلدان منها الكويت والجزائر وأمريكا وسوريا والبحرين وقطر.


    الكتابة والحكاية

    موجات تصورات الحياة والموت في رواية 'الطين'


    جريدة الرياض - مقالات اليوم - عالي القرشي

      اصطحبني اواخر الأسبوع الفائت عبده خال في عوالمه الروائية عبر روايته "الطين"؛ حيث أبحرت مع عوالم هذه الرواية إلى عالمه الروائي في "الموت يمرُّ من هنا" "مدن تأكل العشب"، حيث في ذلك العالم جميعه عالم الشقاء، وتتبع منافذ الضوء عبر الشوك، والاحراش، ومضائق الحياة، وستور الظلام، ومدافن الأحياء.

       وإذا كان الموت متربصاً بكل أمل، وكل مقاومة للجبروت في قلعة الوادي، واليأس في لقاء القربى، والتئام أواصر الرمم يتجاسر ويتطاول في عوالم "مدن تأكل العشب" فإن الموت في هذه الرواية يأتي مهاداً لعوالمها، وحياة أحداثها، فهو قرين الطين الذي تنبع منه الحياة، فكان تتبع سيرة هذا الذي قذفت به الأفكار والرؤى إلى رأس الدكتور حسين مشرف أستاذ علم النفس بالمستشفى العسكري، كان ذلك قراءة لوجه الحياة من وجه عالم الموت، وقراءة لعالم الموت في عالم الحياة، ووقوفاً على الحيوات المتوهجة، والرغبات المشتعلة وهي تحاصر بسياج الغناء والموت، وقراءة للحياة وهي تتجسد من رحم الموت..

      كان ذلك التقلب بين حالين استدناء لتقلبات الحقائق، واستبصاراً بالأسرار، والمدافن التي تحيط بالإنسان.. وقراءة لتبسيط الحقيقة الظاهرة في ضوء الأسئلة والبحث..

    تبدأ الرواية بهذا الاهداء:

    أمي:

    منذ أن رحلتي لم أرك بتاتاً..

    أنا وحيد من غيرك..

      كلهم يقفون للنباح في طريقي، وابنك الصغير،نسي الدمع، وهو ينتظرك فكيف يتخلص من كل هذا النباح؟.

      ولقد ألفنا ان يكون الاهداء من الكاتب، فهل هذا الاهداء كذلك أو أنه اهداء البطل؟..

      لو كان اهداء البطل لكان اهداء مختلفاً، ولكان تقمصاً من الكاتب لحياة شخوصه وعوالمهم الروائية، واظهاراً لحالة الكتابة وهي مدينة في انجازها لتلك الحيوان التي أطاعته، وتشكله في منجزه الكتابي..

       إذ أن المؤلف في العادة يهدي مؤلفه، بينما هنا جاء الكاتب متماهيا مع أحداث الكتابة، تاركاً الكلمة لها، تاركاً القارىء يقف على فعل الإنسان المكتوب، الذي نعايش تصوراته وأحلامه، وانكساراته في هذا الأفق الكتابي..

       ويؤكد هذا الاحتمال قول البطل ص 171"آه! الخسران المبين لمن يكون وحيداً في قوم يتجمعون كخلايا النمل ويقرضونك واقفاً.. لو نفذ أخي قبل ان تلفظ أمي أنفاسها لربما استطعت ان أقف متوازنا".

       يأتي هذا المريض المنبعث من عالم الموت ليسرد الحكايات المتداخلة على طبيبه الذي يتجاوز الأعراف السائدة في نظرياته الطبية ليمعن في الانصات إلى هذه السرديات التي تداخل تصورات البطل عن حياته، أسرته، قريته، أحداثها، أحداث عالمها.. لتكون عالم هذا السرد الذي يواجهنا باكتشافاته من واد لا يجد أذناً صاغية في عالم الحياة المبرمج في اطار العقل والحياة، والمنغلق عن عالم الجنون والموت.. حيث يأتي هذا السرد ليفتح بوابة العقل على ذلك العالم، ويدين الحياة بمقولات الموت.

      حين يواجهنا سارد الطبيب النفسي حسين مشرف بما واجه به طبيبه قائلاً: الرواية (ص 15).

    للتو عدت من الموت

    أذكر هذا جيداً..

    ولست واهماً البتة..

      فإن الرواية تحمل انقلاب الحياة، لتصبح الموت الحياة، لنصبح في هذه القراءة التي تجلس الحيّ الميت مع الطبيب، وتجلسنا مع متابعة هذه الحكايات التي تداخل انقلاباً تواجهنا به.. ليكون ذلك سراً يؤرق البطل، وقائداً إلى معرفة الحقائق في وجهها الآخر عبر تنامي ذلك الخيط الفلسفي الذي يشهد انكسار الحقيقة في عالم الواقع.. فهو يعيد هذه الحقيقة في ص 215قائلا: للتو عدت من الموت.

    أذكر هذا جيداً..

       لست واهماً البتة. ليقول بعد ذلك، بعد ان أعجز في ملاءمة ذلك لواقعه وحركته ومع من يعايشه "لم يدع أحد أنه مات وعاد، أنا ادعي هذا، ولست كاذباً في ذلك" ويمضي في قوله وكأنه يأتي ليقنعنا نحن الذين نتلقى حكايته؛ بالوجه الآخر للحقائق، وباختلاف الحقائق وفق صنع الحقيقة، التي تغيب عنها الحيادية بفعل الموروثات التي تؤثر في رؤيتنا، يقول: "فنحن نتباعد في فهم الحقائق، ولكل منا مفهومه للحقيقة المجمع عليها، قد نختلف في أمور طفيفة أو عظيمة، حول تلك الاختلافات التي نصنعها، نحن نصنع حقائقنا وفق موروثات تؤثر في رؤيتنا، وتثبيت دعائم الحقائق المطلقة".

      ثم يأتي ليرى الموت في حركة توهج الحياة، في العشق، وفي البحث عن الجاه والمال ليقول: ص 216"أنا وأبي نتبادل الموت"ثم يشرح معنى ذلك الموت قائلاً:

    "هو ميت خارج حلم لم يتحقق.. وفي كل محاولاته للوصول للوهم الذي عشعش في مخيلته يسقط من حياته غير المستطابة ويواصل حياة ميتة خارج أحلامه"

    ليقول بعد ذلك متعالياً مع هذه الرؤية للموت:

    نحن لا نحيا في الحياة بل نموت فيها.

      ليشرح هذه الجملة بشواهد من حركة العشق، في المرأة، في المال، في العادة، في الأبناء.. "حيث يتحول المعشوق إلى بؤرة نفني ذواتنا فيها، وخارج هذه البؤرة نشعر بمرارة الحياة وعدميتها، وتتحول حياتنا إلى نفس يصعد ويهبط من صدورنا بينما الذات مقبورة في المفقود الذي يمثل الحياة لنا، وهذا موت لا نعترف به كالموت الذي يذوب فيه الجسد" ص 216، 217وحين يستمر السرد إلى هذه الصفحات التي تجاوز نصف السرد، وهو لا يزال يردد جملته، ومقولاته في سبيل الاقناع بهذا الانقلاب الذي تبدأ منه الرواية "الحياة من الموت"، وظلها الذي يضحي فيه أبوه بقيم الحياة في سبيل الوصول إلى حياة من النمط الذي يتصوره في الجاه والمال.. حين يكون ذلك تكون الحكايات التي استدعتها الذاكرة، وتقلبت بها بين حركة القرية في علاقاتها الاجتماعية، في مواجهتها للكوارث، في سوقها، في علاقتها مع متغيرات الاحداث السياسية.. عاجزة عن ان تقدم ذلك في حركتها، وفي وجودها الحدثي، وهنا تأتي التقريرات النابعة من الرؤى لتعرض هذه الحقائق وتشرحها.. بل ان الكاتب بعد ذلك ينقلب عن السرد الذي انداح في خروج القرية بغير هدى، ومن حكاية السارد عن أمه وأبيه، وحالة الموت التي يتصور انه انبعث منها.. ليختصر ذلك ويعود به إلى البدء الذي انطلقت منه حركة السرد المتمثل في حالة مرضية تعرض على طبيب نفسي.. لا يتعامل معها وفق منطق المرض والعلاج الجاهز، بل انه يتماهى مع الحالة ليكون هذا السرد، الذي تأتي بعد ذلك الاستشارة حوله وتلقى الردود على ان ذلك حالة مرضية، وحالة استثنائية، بينما السرد كان يجاهد على ان يرينا في ذلك وجهاً آخر للحقيقة.




    أو 



    أو 



    أو


    أو


    أو



    أو



    أو

    ليست هناك تعليقات:

    الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

    الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

    تنبيه

    إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


    نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


    مرحباً

    Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

    مواقيت الصلاة