ما بعد الحداثة
أليكس كالينيكوس
ترجمة : بشير السباعي
مجلة القاهرة - العدد 124 - مارس 1993 م
وزارة الثقافة - جمهورية مصر العربية
أشارت النيويورك تايمز مؤخراً إلى أن ما بعد الحداثة هي “الموضة الثقافية للثمانينيات و، حتى الآن، للتسعينيات”. فمن الصعب العثور على أي مظهر من مظاهر الحياة الثقافية المعاصرة لا يجري وصفه بأنه “بعد حداثي”.
ويجري تطبيق المصطلح على الكثير جداً من الأمور المتناقضة بحيث أنه يبدو بلا معنى محدد. على أن ما بعد الحداثة يمكن النظر إليها على أنها تداخل لثلاثة عناصر متميزة.
أما العنصر الأول فهو الردة التي تطورت خلال السنوات العشرين الماضية على الحداثة، الثورة الكبرى في الفنون والتي حدثت في بداية هذا القرن.
والردة “ما بعد الحداثية” أوضح ما تكون في رفض لـ “الأسلوب الدولي” – الكتل الصماء المستطيلة التي أخذت تهيمن على مراكز المدن بعد الحرب العالمية الثانية. فالعمارة “مابعد الحداثية” تمثل هرباً من التقشف إلى التزيين، من التجديد إلى التقليد، من العقلانية إلى الهزل – كما في حالة بلوكات المكاتب المزينة بأعمدة كلاسيكية.
وتنطوي ما بعد الحداثة، ثانياً، على تيار فلسفي محدد – ما أصبخ يعرف بما بعد البنيوية، عبرت عنه مجموعة الفلاسفة الفرنسيين الذين برزوا على المسرح في الستينيات، خاصة دولوز وجاك دريدا وميشيل فوكوه.
وقد طوروا أفكاراً معينة، تتمثل أولاها وأكثرها أساسية في رفض التنوير. وكان (التنوير) هو المشروع الذي صاغه عدد من المفكرين الاسكتلانديين والفرنسيين في القرن الثامن عشر استناداً إلى فكرة أن العقل البشري قادر على فهم العالم الطبيعي والاجتماعي والسيطرة عليه في آن واحد، وهو مشروع حاول ماركس تطويره، بشكل انتقادي.
ويرى دعاة ما بعد الحداثة أن العقل والحقيقة ليسا غير وهْمَين. فالنظريات العلمية هي منظورات تعبر عن مصالح اجتماعية خاصة. وكما قال فوكوه فإن إرادة المعرفة هي مجرد شكل واحد من أشكال إرادة السلطة.
والواقع نفسه لا يعدو أن يكون مجموعة غير منتظمة من الجزيئات التي يهيمن عليها صراع لا ينتهي من أجل السلطة يصوغ الطبيعة والمجتمع على حد سواء. والبشر، بوصفهم جزءاً من هذا الواقع، إنما يفتقرون إلى أي تماسك أو سيطرة على أنفسهم. وهكذا اعتبر فوكوه الذات الإنسانية الفردية كتلة من الدوافع والرغبات التي تصوغها علاقات السلطة السائدة داخل المجتمع.
أما العنصر الثالث من عناصر ما بعد الحداثة فهو نظرية المجتمع بعد الصناعي التي طورها علماء اجتماع مثل دانييل بل في أوائل السبعينيات. فقد ذهب بل إلى أن العالم يدخل عصراً تاريخياً جديداً سوف يصبح الإنتاج المادي فيه أقل أهمية بينما تصبح المعرفة فيه هي القوة الدافعة الرئيسية للتطور الاقتصادي.
وقد تبنى الفيلسوف الفرنسي جان ليوتار هذه الفكرة وذهب إلى أن المعرفة، في “الوضع بعد الحداثي”، تتخذ شكلاً مُجَزَّأً بشكل متزايد، متخلية عن كل دعاوي الحقيقة أو المعقولية.
وهذا التحول يترجم ما يصفه ليوتار بـ “انهيار المرويات الكبرى”. فمشروع التنوير – كما واصله هيجل وماركس، سعياً إلى تقديم تفسيرات لمجمل مسار التطور التاريخي كمدخل لتوضيح الشروط التي يمكن في ظلها تحقيق التحرر الإنساني – لم تعد له مصداقية بعد كارثتي النازية والستالينية.
وهكذا فإن الفكرة التي تتحدث عن تغيير منهجي شامل وجديد للغاية هي فكرة محورية بالنسبة لما بعد الحداثة. فقد دخل العالم عصراً اجتماعياً واقتصادياً جديداً، مصحوباً بتحول ثقافي – الفن ما بعد الحداثي، وبثورة فلسفية – ما بعد البنيوية. ومن هنا زعم مجلة ماركسيزم توداي بأننا نحيا في “أزمنة جديدة”.
لكن شيئاً من ذلك لا يصمد للفحص الجدي.
والحال أن فكرة أننا نحيا في عصر جديد إنما تجد أفضل فضح لها في من خلال النظر في الادعاء القائل بأن هناك فناً بعد حداثي بشكل مميز.
ولعل أشهر تعريف للفن بعد الحداثي هو التعريف الذي قدمه كريستوفر جينكس، مؤرخ فن العمارة. فهو يقول أن ما بعد الحداثة تتألف من “التشفير المزدوج”، أي الجمع بين أساليب مختلفة في العمل الفني الواحد، كالجمع، مثلاً، بين الكلاسيكية والأسلوب الدولي في المبنى الواحد.
وهذا ادعاء غريب، لأن ما يصفه جينكس بـ “التشفير المزدوج” هو سمة جد واضحة من سمات الحداثة. وهكذا فإن جيمس جويس يخلط في عوليس بين أصوات وأساليب ولغات مختلفة – وهو وقع أدرجه في الشعر ت. س. إليوت في الأرض الخراب. إن الفكرة التي تتحدث عن فن بعد حداثي مميز إنما تستند إلى كاريكاتور للحداثة.
وأفضل تعريف للحداثة يقدمه يوجين لان في “الماركسية والحداثة”. فهو يميز أربع سمات. أولاً “الوعي الذاتي الجمالي” :فالفن الحديث يميل إلى أن يكون خاصاً بالإبداع الفني نفسه – وهكذا فإن رواية “ذكرى الأشياء الماضية” لمارسيل بروست إنما تعيد بناء التجارب التي قادت إلى اتخاذ القرار الخاص بكتابة الرواية. ثانياً، “التزامنية، التجاور، أو المونتاج”: فالفن الحديث يهشم عالم التجربة اليومية ثم يعيد تجميعه في توليفات جديدة وغير متوقعة. ثالثاً، “المفارقة، الغموض وانعدام اليقين”: فالفن الحديث يعرض عالماً ليست له بعد معالم واضحة أو بنية مرئية. وأخيراً، “نزع الطابع الإنساني”: فالفرد في الفن الحديث لا يسيطر بعد على دوافعه ناهيك عن العالم نفسه.
والحال أن الأمر الغريب هو أن كل هذه السمات المميزة للحداثة كثيراً ما يجري الادعاء بأنها مميزة للفن بعد الحداثي. فروايات سلمان رشدي، على سبيل المثال، توصف بأنها بعد حداثية في حين أنها في واقع الأمر حداثية بشكل نموذجي وفقاً لتعريف لان للحداثة.
وكثيراً ما يقال أن الفارق يكمن في واقع أن الحداثة كانت نخبوية ومتفائلة بشكل فج في حين أن ما بعد الحداثة شعبوية ومتشائمة في نهجها. لكن ذلك ينطوي على سوء فهم كامل للحداثة بوصفها ظاهرة تاريخية.
لقد برزت الحداثة في أواخر القرن التاسع عشر خاصة في تلك البلدان التي تحسست الأثر السريع والمتفاوت لتطور الرأسمالية الصناعية – روسيا، ألمانيا، إيطاليا، النمسا – المجر. ويمكن اعتبارها رداً على تغلغل العلاقات السلعية في جميع جوانب الحياة الاجتماعية. وقد أدى التجزيء العام الذي انطوى عليه ذلك إلى عزل الفن بوصفه ممارسة اجتماعية متميزة، مستقلة من الناحية الظاهرية.
وتمثلت نتيجة ذلك في ظهور ميل لدى الفنانين، المغتربين عن بقية الحياة الاجتماعية، الى التركيز على الفن نفسه، إلى أن تصبح عملية الإبداع الفني هي موضوع الفن. وعادة ما انطوى ذلك على موقف هازئ ومنفصل عن الواقع. وصار الفن ملاذاً من عالم اجتماعي تسيطر عليه الفيتيشية السلعية.
وكان هذا الموقف يتمشى مع كافة ضروب الالتزامات السياسية، من ماركسية برتولت بريشت إلى فاشية عزرا باوند. على أن المزاج السائد كان مزاج تشاؤم لخصه ت. س. إليوت عندما كتب في عام 1923 عن “البانوراما الواسعة للعبث والفوضى والتي يمثلها التاريخ المعاصر”.
لكن الحداثة كانت تتضمن إمكانية جذرية. فابتكارها التقني الرئيسي هو المونتاج، الجمع بين عناصر متمايزة ومتنافرة من الناحية الظاهرية في العمل الواحد.
وقد وصلت التركيبات التكعيبية بذلك إلى حد إدماج الفنانين التكعيبيين لأجزاء من العالم الواقعي – قطع من الخشب أو الجرائد – في رسومهم. وتوقف الفن عن أن يكون نافذة على العالم ليصبح، من ناحية الإمكان على الأقل، جزءاً من العالم. وكان معنى ذلك هو تحطيم الانفصال بين الفن والحياة الاجتماعية والذي كان ينبوع الحداثة في بادئ الأمر.
والحال أن هذه الإمكانية قد أصبحت إمكانية واعية في الحركات الطليعية التي انبثقت في أواخر الحرب العالمية الأولى – الدادا، السوريالية، البنائية. فقد كان هدف هذه الحركات هو هدم الفن من حيث هو مؤسسة منفصلة وذلك كجزء من نضال أعم يهدف إلى تثوير المجتمع.
وقد قال ريتشارد هويلزينبك “أن الدادا هي بلشفية ألمانية”. أو، كما قال أندريه بريتون الشاعر والفيلسوف السوريالي، في عام 1935: “لقد قال ماركس‘فلنحول العالم’ وقال رامبو (الشاعر الفرنسي) ‘فلنغير الحياة’، وهذان الشعاران هما بالنسبة لنا شعار واحد”.
والحال أن ما سمح بهذا الربط بين الثورة الاجتماعية والثورة الفنية إنما يتمثل في ظروف تاريخية محددة. فقد ازدهرت الحركات الطليعية الفنية في فترة ثورة 1917 الروسية وثورة 1918 – 1923 الألمانية. وبوجه خاص فإن البنائيين الروس – ماياكوفسكي، آيزنشتين، رودتشينكو، تاتلين وآخرين كثيرين – قد وضعوا فنهم ليس في خدمة الدعاية الثورية وحدها، بل وفي خدمة تحويل الحياة اليومية.
على أن هزيمة الثورة الألمانية أولاً ثم هزيمة الثورة الروسية قد ضعضعتا قاعدة الحركات الطليعية الفنية. وتمكنت الفاشية والستالينية من القضاء عليها، ليس فقط من خلال القمع، بل ومن خلال تبديد آمال الثورة الاجتماعية التي كان تحقيق المشروع الطليعي متوقفاً عليها.
وهكذا تواجدت ظروف احتواء الحداثة من جانب الرأسمالية منذ الحرب العالمية الثانية.
والحال أن الأسلوب الدولي الذي أخذ يملأ الأفق الحضري بعد عام 1945 قد طوره فنانون معماريون مثل ميس فان دير روهه، الموجه الأخير لحركة البَاوْهاوس، التي كانت قد تكونت بعد ثورة 1918 الألمانية لبناء “كاتدرائيات الاشتراكية”.
والتطورات التي جرت في مختلف الفنون على مدار السنوات العشرين الماضية والتي صارت تعرف بما بعد الحداثة لا يجمع بينها أكثر من ردة على “الحداثة المتأخرة” المستوعَبَة والتي أصبحت الأسلوب الثقافي السائد بعد الحرب العالمية الثانية.
ومن الأنسب النظر إلى هذه التطورات بوصفها أشكالاً مختلف من الحداثة لا بوصفها قطيعة معها. فعلى سبيل المثال، ليس في فيلم ديفيد لينش “المخمل الأزرق” الرائع، بإحساسه القوي بعالم لا عقلاني من العنف والرغبة يكمن تحت السطح العادي للحياة اليومية، ما يمكن أن يشكل مفاجأة للسورياليين.
وكما أنه لا وجود هناك لفن بعد حداثي بشكل مميز، فإننا أيضاً لا نحيا في عصر تاريخي جديد. وتميل المحاولات الأكثر جدية لإثبات الادعاء الأخير إلى التركيز على تدويل رأس المال.
إلا أنه في حين أن رأس المال قد أصبح دون شك مندمجاً بشكل عالمي أكثر بكثير على مدار السنوات العشرين الماضية، فإن الدولة القومية لا تزال تواصل لعب دور اقتصادي حيوي. ولتنظروا مثلاً إلى عمليات الإنقاذ التي قامت بها الحكومة الأمريكية أولاً للنظام المصرفي والتي تقوم بها الآن لصناعة المدخرات والقروض. وعلاوة على ذلك، فإن تدويل رأس المال لا يرمز إلى مرحلة جديدة، مستقرة، للتوسع الرأسمالي، فهو بالأحرى عامل رئيسي في جعل الافتصاد العالمي غير مستقر منذ أواخر الستينيات.
وإذا سلمنا بأن ادعاءات ما بعد الحداثة زائفة فما هو مصدرها؟ ماالسبب في ظهور اعتقاد واسع الانتشار بأننا نحيا في عصر اقتصادي وثقافي جديد بشكل أساسي؟
إن تعافي الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة من الكساد العالمي لأعوام 1979 – 1982 قد تضمن توسعاً للطلب، استناداً إلى قروض ائتمانية ميسرة وإنفاق حكومي أعلى، بدأ في الولايات المتحدة في أوائل الثمانينيات وامتد إلى أوروبا.
وكان من بين المستفيدين الرئيسيين من هذا التعافي “الطبقة المتوسطة الجديدة” المؤلفة من المديرين ذوي الرواتب العالية ومن المهنيين. وكانت الثمانينيات هي العقد الذي ازدهر فيه اليوبَّاي.
لكن كثيرين أيضاً من أفراد الطبقة المتوسطة الجديدة الذين استفادوا استفادة جمة من التعافي كانوا جزءاً من جيل 1968.
وكان هؤلاء قد شاركوا في التجذر الواسع للمثقفين الشباب في مختلف أرجاء العالم الغربي خلال الصعود العظيم للنضال الطبقي في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات. كما أنهم كانوا قد تقاسموا انهيار الآمال الثورية الذي حدث في أواسط وأواخر السبعينيات مع إجبار العمال على التراجع إلى مواقف دفاعية ومع تفكك أقصى اليسار.
وقد تمثلت نتيجة ذلك في ظهور شريحة اجتماعية هامة مزدهرة من الناحية الاقتصادية ومحبطة من الناحية السياسية في آن واحد. فهي لم تعد تؤمن بالثورة (إن كانت قد آمنت بها في أي وقت من الأوقات)، لكنها أيضاً لا تؤمن بالرأسمالية إيماناً غير مشروط.
وهذا التوقف يلخصه إعلان ليوتار عن إفلاس جميع “المروايات الكبرى”: فنحن لم نعد بوسعنا الإيمان بأية نظرية شاملة تسمح لنا بتفسير العالم وتغييره في آن واحد.
والأكثر من ذلك أن ما بعد الحداثة تنطوي على “تحويل الموقف الهازئ إلى موقف روتيني”. فالموقف الهازئ، المنفصل، تجاه الواقع والذي كان موقف عدد صغير من المثقفين المخضرمين عندما ظهرت الحداثة في أواخر القرن التاسع عشر، يصبح الآن متاحاً بشكل عام، وينتج على نطاق واسع كطريقة لمواجهة عالم يعتقد ما بعد الحداثيين أنه لا يمكن تغييره كما لا يمكن الموافقة عليه موافقة غير انتقادية.
ويرتبط ذلك بالتبني الواعي لموقف جمالي تجاه الحياة. فقد رأى نيتشه أن الرد المناسب الوحيد على عالم تحكمه الفوضى هو أن يحول المرء حياته الخاصة إلى عمل فني، أن يسعى إلى دمج جميع خبراته في كلٍ له معنى.
وهذه فكرة تبناها فوكوه في كتاباته الأخيرة، حيث يتحدث كثيراً عن “جماليات وجود”. وقد أصبح ذلك أيضاً جزءاً روتينياً من حياة الطبقة المتوسطة في الثمانينيات، خاصة في الجهد المبذول عبر تناول الوجبات وارتداء الملابس وإجراء التمرينات الرياضية لتحويل الجسم إلى علامة من علامات الشباب والعافية والحركية.
أما سياسة ما بعد الحداثة فقد عبر عنها ريتشارد رورتي، الفيلسوف الأمريكي الرائج، أبلغ تعبير، فرورتي يرحب بانبثاق “ثقافة هازئة بشكل متزايد” يهيمن عليها “البحث عن الكمال الخاص”.
وما يتوجب علينا عمله هو الكف عن الانشغال بمعرفة العالم وتغييره والتركيز بدلاً من ذلك على تنمية علاقات شخصية.
فمن الوجوه المحورية لما بعد الحداثة إنكار أن من المرغوب فيه أو حتى من الممكن بعد الانخراط بشكل جماعي في تغيير العالم.
أما كيف يكون لرورتي ولليوتار تفسير تجمع شعوب أوروبا الشرقية لإسقاط حكامها فهو أمر متروك لتخمينات أي إنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق