السبت، 23 أبريل 2016

الصورة الشعرية بين البلاغة التقليدية ومناهج النقد الحديثة ...


الصورة الشعرية بين البلاغة التقليدية ومناهج النقد الحديثة.



مفهوم الصورة لغة:

    جاء في لسان العرب لابن منظور, مادة ( ص .و. ر) والجمع (صور) , وقد صوره فتصور, وتصورت الشيء توهمت صورته وهيئته, والتصاوير: التماثيل
قال ابن الأثير : "الصورة ترد في لسان العرب (لغتهم) على ظاهرها, وعلى معنى حقيقة الشيء وهيئته, وعلى معنى صفته, يقال: صورة الفعل كذا وكذا أي هيئته, وصورة كذا وكذا أي صفته"
  وأما التصوُّر فهو "مرور الفكر بالصورة الطبيعية التي سبق أن شاهدها وانفعل بها ثم اختزنها في مخيلته"
 وأما التصوير فهو "إبراز الصورة إلى الخارج بشكل فني, فالتصوُّر إذا عقلي, أما التصوير فهو شكلــي"


مفهوم الصورة في الاصطلاح :

   إنَّ الدارس للأدب العربي القديم لا يعثر على تعبير الصورة الشعرية في التراث الأدبي بالمفهوم المتداول الآن, وإنَّ كان شعرنا القديم لا يخلو من ضروب التصوير لأن الدرس النقدي العربي كان يحصره – أي التصوير- في مجالات البلاغة المختلفة كالمجاز و التشبيه و الاستعارة.

   والصورة في المجمل وسيلة الشاعر أو الأديب في نقل فكرته وعاطفته معاً إلي قرائه أو سامعيه. ويقاس نجاح الصورة في مدى قدرتها على تأدية هذه المهمة، كما إن حكمنا على جمالها أو دقتها يرجع إلى مدى قدرتها على تحقيق التناسب بين حالة الفنان الداخلية وما يصوّره في الخارج تصويراً دقيقاً خالياً من الجفوة والتعقيد فيه روح الأديب وقلبه.

نشأة الصورة كمفهوم وصلتها بالنقد الأدبي عند العرب:

  الصورة قبل أن تندرج كمفهوم تلوكه الألسن، وتتعاوره الأذهان في ميادين النقد الأدبي والنظرية النقدية كانت قد استحوذت على اهتمام فلاسفة الغرب القدامى على شاكلة ((افلاطون)) التي ابتدأت في عهده، واستقام ذكرها مع ((أرسطو)) ثم انتقلت الصورة من حقل الفلسفة القديمة، إلى حقل ((المعرفة)) وبالأخص في الدراسات الأدبية القديمة سواء ما كان منها بلاغياً أو أسلوبياً، أم كان بنائياً أو دلالياً. وكان النقاد العرب القدماء مثل الجاحظ وقدامة بن جعفر وعبدالقاهر الجرجاني وابن الأثير والقرطاجي قد انصرف جزء كبير من اهتمامهم في أمر الصورة".

فالصورة سقطت للعرب بمعناها الفلسفي عبر الفلسفة الإغريقية"وبالذات الفلسفة الأرسطية؛ حيث دعم الفصل بين الصورة (وهي الشكل) والهيولي (وهي مادة يصعب الإمساك بها) على غرار مثال المنضدة فهيولاها الخشب والغراء، وصورتها هي التركيب المخصوص الذي تألف به الخشب والغراء حتى ظهرا على هذا الشكل.

    ونجد أن طائفة المعتزلة قد استسقت فلسفتها من الفكرة القائمة على الفصل بين اللفظ والمعنى في تفسير القرآن الكريم. وسرعان ما انتقل هذا الفصل بين اللفظ والمعنى إلى ميدان دراسة الشعر، الذي هو رافد من روافد تفسير القرآن. فلم يساووا بين التعبير الشعري والتعبير في غيره من الحديث فحسب، بل ساووا بين فن الشعر نفسه وبين أي صناعة من الصناعات اليدوية، تحت مثال ((المنضدة)) المشهور، الذي ضربه أرسطو مثلاً للفرق بين الصورة والهيولي.
    

  إنّ الشاعر حينما تتدفق شاعريته وتنثال عليه المعاني سهواً ورهواً ويبدأ في نظم القريض إنما يريد أنّ يعبر عن شيء قد استبدّ في ذهنه وربض في دواخله، ولأن الشاعر يتخير تعبيره وينتقي ألفاظه، ويتنزه بها عن التعابير الممجوجة التي يتفوه بها ملايين البشر يأتي تعبيره مغايراً لتلك التعبيرات التي يجود بها الشخص العادي، تعبير أكبر من أن يتسامى في ابتداعه شخص ناضب القريحة، صلد الذهن، تعبير يبهر العيون، ويسحر الأفئدة، كلام فني انسجمت قطعه وحسُن توزيعه، وألفاظ أتأدت حركاتها، واتزنت كلماتها، وجُمل مترعة بالصور الشعرية الخلابة، صور تصور الانفعال وتنقل إحساس المعبّر وذبذبات نفسه نقلاً أميناً؛ فليس الفن سوى التكافؤ الكامل بين العاطفة التي يحسها الفنان وبين الصورة التي يعبر بها عن هذه العاطفة. 

إذن الشعر في كنهه صور تعبر عن مخاض عاشه الشاعر، فنحن حينما نعثر على صورة من تلك الصور، فإننا حتماً نعثر من خلالها على شرخ أدمى قلب الشاعر، أو لوعة أوهت كبده، أو حسرة سحّت جفونه، أو سعادة ردت له الروح، وجددت في أوصاله الحياة.

وترتبط لغة الشاعر بعمق التجربة التي يعيشها. فقد تأتي صريحة يرسم من خلالها الصورة، وقد تتفاوت في مواقع البلاغة، فتختلف بين الإيجاز والإطناب مما يجلب للقارئ اللذة أحياناً، والسآمة أحياناً أخرى. 

على ضوء ما تقدم نستطيع أن نجزم بيقين لا يخالجه شك أو تخامره ريبة أن الصورة الشعرية هي (جوهر الشعر وأداته القادرة على الخلق والابتكار، والتحوير والتعديل لأجزاء الواقع، بل اللغة القادرة على استكناه جوهر التجربة الشعرية وتشكيل موقف الشاعر من الواقع،وفق إدراكه الجمالي الخاص).

ولعل مما لا يند عن ذهن أو يغيب عن خاطر أن الصورة الشعرية ليست شيئاً طارئاً، بل وجدت منذ أن وجد الشعر على ظهر البسيطة ولكنها تختلف وتتفاوت بين شاعر وآخر، كما أن ملامح الصورة تتنوع بتنوع اللغات والمجتمعات. وراضة الشعر أصحاب الملكات الشعرية هم الذين لم يتركوا شيئاً إلا وسددوا إليه سهامهم وأضفوا إليه قبساً من حمم قريحتهم الملتهبة، وخلعوا عليه من أحاسيسهم المرهفة وخيالهم الخصب وميضاً يبدد عتمة الحياة، "فكثير من الأشياء المألوفة تناولها الشعراء فصوروها بأقلامهم تصويراً يجعلنا نحس بجدة هذه الأشياء كلما قرأنا صورهم، وكأن هذه الأشياء المألوفة نعرفها لأول مرة، الأمر الذي قاد النقاد للقول بأن أكثر الصور إمتاعاً هي التي تكون الصورة الشعرية فيها حاضرة في أذهان معظم الناس. و رغم أن المعاني عامة لدى جميع الناس ومنهم الشعراء، ولكن العبرة في مدى قدرة الشاعر على صوغ هذه المعاني في ألفاظ وقدرته على تصويرها". 

كما إن بناء الصورة الفنية لا يتم فقط بإدراك المشابهة القائمة بين بعض الأشياء كما يحدث للإنسان العادي، بل لا بد من عبقرية الشاعر التي تتعمق في إدراك هذه العلاقة، فلا يكتفي بالنظرة المجملة، بل يلحُّ على النظرة المفصلة التي تتجاوز المألوف، سعياً وراء النادر والغريب، فالصورة المجملة العجلى هي نظرة الإنسان العادي التي غالباً ما تتسم بالبلادة والإهمال، في حين أن النظرة المفصلة هي نظرة الإنسان التي تتسم بالذكاء المستيقظ للأفكار والصور. ولذلك نجد الشاعر، بخلاف الإنسان العادي، يدقق ويتأمل، ويقدم التشبيهات والاستعارات والتمثيلات الدقيقة، ويوقع الائتلاف بين المختلفات. وتكمن براعته في توظيف صوره الشعرية لفظيا ومعنويا للتأثير بها في المتلقين.

وللصور الشعرية أشكال متباينة، ونماذج متعددة،وهي تختلف من فترة إلى أخرى فلقد تطورت عبر القرون وفق التطور العام لنظرية الفن السائدة، ويظهر هذا التطور في علاقة طرفي الصورة، فقد تكون علاقة تهتم بالشكل الخارجي والعلاقات المنطقية بين الأشياء كما يقول الشاعر:


      انظر إليه كزورق من فضة قد أثقلته حمولة من عنبر..
   فالعلاقة تهتم بالشكل الخارجي للقمر وتأتي بصورة شعرية تشابهه في المظهر.

  وقد تهتم الصورة الشعرية بعلاقة الانصهار بين طرفيها، فتنحت من الطرفين صورة واحدة متكاملة, ويتجلى ذلك في علاقة التشخيص مثلاً كما يقول الشابي عن الشعر:
             أنت يا شعر فلذة من فؤادي تتغنى وقطعة من وجودي..
    والصورة الشعرية الناجحة يتبادل طرفاها التأثير والتأثر حتى يخلق معنى جديداً ليس معنى كل طرف على حدة.


الصورة الشعرية عند البلاغيين والعلماء العرب القدامى:

    نحن إذا بحثنا عن هذا المصطلح في أمهات الكتب القديمة الجامعة لشتيت الفؤائد، وأمعنّا في البحث بكل ما تدخره قوانا هذا من جهد لذهب مجهودنا أدراج الرياح، وخرجنا صُفر اليدين نجرجر أذيال الخيبة، فمصطلح الصورة بهذه الصياغة الحديثة، لا وجود له في"الموروث البلاغي والنقدي عند العرب، ولكن المشاكل والقضايا التي يثيرها المصطلح الحديث ويطرحها موجودة في الموروث، وإن اختلفت طريقة العرض والتناول، أو تميزت جوانب التركيز ودرجات الاهتمام".

     ولعل أبرز النصوص التراثية التي يقترب مفهومها من مفهوم الصورة في عصرنا الحديث، هو النص الذي أدلى به أمير البيان، وعميد كُتاب الضاد على مر العصور، الجاحظ أمضى الكُتّاب سليقة، وأعذبهم لفظاً، وأغزرهم مادة، فلقد قال:"إنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير". فلقد قرن الجاحظ القصيدة في هذا النص بالصورة وهو تشبيه شائع في عصور مختلفة، منذ هوارس، حتى قيل: الرسم شعر صامت والشعر صورة ناطقة. ويبدو أن الجاحظ يقصد بالتصوير صياغة الألفاظ صياغة حاذقة تهدف إلي تقديم المعنى تقديماً حسياً وتشكيله على نحو صوري أو تصويري، ويعد تصوير الجاحظ خطوة نحو التحديد الدلالي لمصطلح الصورة لا سيّما أن الجاحظ لم يقرن مصطلحه بنصوص عملية تضئ دلالته فضلاً عن تعلق مفهومه بالثنائية الحادة التي شغلت نقادنا القدامى القائمة على المفاضلة بين اللفظ والمعنى طبقاً للمفهوم الصياغي، أو الصناعي، للشعر". 

وسعى الناقد أبي هلال العسكري الخبير في محاسن الكلام ومساوئه أن يحدد معالم الصورة ومكانتها في الصياغة الإبداعية بين اللفظ والمعنى، أو الصورة والمادة، ومن ثم الوصول إلي رؤية ثابتة في مقياس التمييز بين أساليب الصياغة الجمالية.

    كما ذهب قدامة بن جعفر محاولا إجلاء مفهوم الصورة حين قال: "إن المعاني كلها معروضة للشاعر، وله أن يتكلم فيما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة، من أنه لا بدّ فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصورة فيها، مثل الخشب للنجارة، والفضة للصياغة".

     فالصورة -إذاً- طبقاً لتحديده هي الوسيلة أو السبيل لتشكيل المادة وصوغها شأنها في ذلك شأن غيرها من الصناعات، وهي أيضاً نقل حرفي للمادة الموضوعة (المعنى) يحسنها ويزينها ويظهرها حلية تؤكد براعة الصائغ من دون أن يسهم في تغيير هذه المادة أو تجاوز صلاتها أو علائقها الوضعية المألوفة. وقيل إن هذا الفصل بين المادة والصورة ناشئ من تأثير الفلسفة اليونانية. وما حدده قدامة من مفهوم للصورة لا يخرج عن الإطار الذي وضعه الجاحظ بل يعتبر امتداداً له ولم يضف إليه ما يقربه من حدود المصطلح".


     إنّ النقاد العرب في حقيقة الأمر لم يكن جهدهم منصرفاً لوضع المصطلحات الأدبية، ولكن السعي لتأطير ذلك الفن الراقي (الشعر) بتقويم أخطاء الشعراء، وتبصيرهم بمواطن الزلل والهفوات في أشعارهم، ولكن النقاد القدامى الذين لا يصوبون سهام التجريح إلا لمن حاد عن المنهج الذي وضعوه، وافياً في موضوعه، مقنعاً في أدلته في ذلك العهد، نجد أننا الآن رغم إكبارنا إياهم، وهيامنا بمؤلفاتهم التي ما هانت أو ذلت يوماً علينا، رغم كل هذا الحب والتبجيل نضعهم مكرهين خلف أقفاص الاتهام، ونوجه لهم التهم الفواجر تهمة تلو أخرى، رغم أن جلنا يود أن يعيش في سجية الماضي. أول هذه التهم هي تعطيلهم لخاصية الخيال الذي يسمو به العمل الفني ويحلق به في مدارات شاسعة ورحبة للمتلقي.
    لقد كان أسلافنا القدامى لا يحفلون بالخيال ويسيئون الظن به؛ إذ كانوا يعدونه صنعة من الصناعات ينبغي أن تخضع لقوانين العرض والطلب كأي سلعة أخرى، فراحوا يقيدونه بقوانين صارمة تضمن للشاعر عدم كساد سلعته.  كما أنهم جعلوا أساس التفاضل بين الشعراء في شرف المعنى وصحته وجزالة الألفاظ واستقامته، وسلموا قصب السبق لمن وصف فأصاب، وشبه فقارب، ولمن كثرت سوائر أمثاله، وشوارد أبياته ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة ولا تحفل بالإبداع والاستعارة". وهكذا كان اهتمام نقاد العرب القدماء موجهاً إلي صحة المعنى وقوة اللفظ ووضوح التشبيه وتحديده، وإلى الشعر الذي يحوي حكماً، أما الاستعارة والخيال فندر أن وجهوا عنايتهم لها، وقد قال ابن رشيق القيرواني:"والعرب لا تنظر في أعطاف شعرها بأن تجنس أو تطابق أو تقابل فتترك لفظة للفظة، أو معنى للمعنى، كما يفعل المحدثون، ولكن نظرها في فصاحة الكلام وجزالته، وبسط المعنى، وإبرازه وإتقان بنية الشعر وإحكام القوافي، وتلاحم الكلام بعضه ببعض" وحتى في الحالات التي يستخدم فيها الشاعر الاستعارة، اشترطوا القرب والمداناة والشبه بين المستعار والمستعار له. كما اهتم نقاد العرب بوضوح التشبيه اهتماماً كبيراً، كما اهتموا بوضوح المعنى ولزوم بعده عن الغموض والإبهام.

       ويمكن توضيح ماسبق من آراء أسلافنا القدامى حول مفهوم الصورة فيما يلي:

أولا: الجاحظ والصورة الشعرية:

  
   يعدّ نصّ (الجاحظ) في طليعة النصوص التي يقترب فيها لفظ (صورة) بما نحن بصدد البحث عنه حديثا؛ إذ يقول: «... والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجميّ والعربي، والقرويّ والبدوي، وإنّما الشأن في إقامة الوزن، وتخيّر اللّفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحّة الّطبع، وجودة السّبك. فإنّما الشعر صناعة، وضرب من النَّسج، وجنس من التصوير».

وعلى الرّغم من أنّ (الجاحظ) لم يُبيّن لنا كيف أنّ الشعر ضرب من التصوير، فإنّه بالإمكان إماطة اللثام عن الدلالة التي يكتسبها مصطلح (التصوير) عنده متمثلا في التجسيم وطرح فكرة التقّديم الحسّي للمعنى، وتشكيله على نحو تصويري. وبهذا يمكننا اعتبار مفهوم التصوير عند الجاحظ مرحلة أولية للتحديد الدلالي لمصطلح (الصورة)، خاصة أنّ (الجاحظ) لم يربط المصطلح بنصوص وشواهد عينية توضح مضمونه وفحواه، زيادة عن اقتران مفهومه بثنائية اللّفظ والمعنى التي شغلت نقادنا القدامى ردحا من الزمن.

ثانيا: قدامة بن جعفر والصورة الشعرية:

يقول قدامة في نقد الشعر حول قضية (اللفظ والمعنى): «إنّ المعاني كلّها معرَّضة للشاعر، وله أن يتكلّم منها فيما أحبّ وآثر، من غير أن يحضر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كلّ صناعة من أنّه لابدّ فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصورة منها، مثل الخشب للنجارة، والفضّة للصياغة».

لقد جعل (قدامة) الشعر صورة للمعاني، فالمعاني كالمادة الخام للشعر، ومقدرة الشاعر الحاذق تبرز في اللفظ والشكل لا في المعنى والفكرة. وبالتالي فإنّ الصورة عند (قدامة)، المتأثر بالمنطق والفلسفة اليونانية تتحدّد من كونها الوسيلة التي يُستعان بها في تشكيل المادة وصوغها، شأنها في هذا شأن باقي الصناعات، وهي أيضا محاكاة حرفية للمادة الموضوعة؛ فالمعنى يزّينها و يحسّنها، ويبرزها في شكل حلية تبرهن على براعة الصائغ، من غير أن يعمل في تغيير هذه المادة، أو تسور روابطها، أو علائقها الوضعية المعروفة.

وكما هو واضح هنا، أنّ (قدامة) لم يضف شيئا ذا بال على نحو ما أقرّه (الجاحظ) وحدّده، وبهذا يكون تحديده لمفهوم المصطلح امتدادا لمفهوم التصوير عند الجاحظ.

ثالثا: القاضي علي الجرجاني في الوساطة ومفهوم الصورة:

يمضي (القاضي علي الجرجاني) في (وساطته) بالصورة قُدُما فيربطها بروابط شعورية تصلها بالنّفس، وتمزجها بالقلـب، حينما دافـع عن شعر المتنبي فيقول: «وإنما الكلام أصوات محلّها من الأسماع محّل النواظر من الأبصار، وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفس كلّ مذهب، وتقف من التّمام بكلّ طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن، والتئام الخلقة، وتناصف الأجزاء، وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول، وأعلق بالنّفس، وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم - وإن قايست واعتبرت، ونظرت وفكّرت - لهذه المزيّة سببا، ولما خصّت به مقتضى».

وإذا كان (القاضي الجرجاني) قد ربط لفظ (الصورة) بوشائج شعورية، تصلها بالنفس، وتمزجها بالقلب – كما سبق وأن ذكرنا – فإنّه مع هذا لم يحدّدها، أو يصف جوانبها؛ إذ بقي الأمر لديه مجرّد إحساس إلى أن جاء (عبد القاهر الجرجاني) فاقترب به من المفهوم المعاصر، وارتبط هذا بنظريته المشهورة في (النّظـم).

رابعا: الصورة الشعريةعند عبد القاهر:

لم ينظر عبد القاهر الجرجانيإلى الشعر على أنّه معنى أو مبنى يسبق أحدهما الآخر، بل نظر إليه على أنّه معنى ومبنى ينتظمان في الصورة، لا سبق ولا فضل ولا مزّية لأحدهما عن الآخر. يقول (عبد القاهر): «وأعلم أنّ قولنا (الصورة) إنّما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا، فلمّا رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة، فكان بين إنسان من إنسان، وفرس من فرس بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك، وكذلك كان الأمر في المصنوعات، فكان بين خاتم من خاتم، وسوار من سوار بذلك، ثمّ وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرْقا، عبّرنا عن ذلك الفرق، وتلك البينونة بأن قلنا: للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك، وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء، ويكفيك قول (الجاحظ): "وإنّما الشعر صناعة وضرب من التصوير».

والذي يمكن أن نستخلصه من هذا النّص بعد أن أقرّ عبد القاهر الجرجاني أنّ لفظ (الصورة) كان مستعملا قبله، ولم يكن من ابتداعه أنّ (الصورة) تمثيل وقيـاس؛ فإذا كان الاختلاف بين الأشياء الموجودة في الطبيعة والتباين الواضح بين المعاني في أبيات الشعر المختلفة راجع إلى الاختلاف بين الصور، فمناط الفضيلة في الكلام راجع إلى (الصورة) التي يرسمها النّظم.

كما أقام عبد القاهر في كتابه (أسرار البلاغة) موازنة بين عمل الشاعر وعمل الرسّام في كيفية تشكيل مادتيهما، وطريقتهما في إثارة المتلقي، فلاحظ أنّ كليهما يهدف إلى إحداث التآزر والتآلف بين عناصر مادتهما؛ فالشاعر يحدث هذا عن طريق أحرفه وكلامه في القصيدة، أمّا الرسّام فيحدث هذا عن طريق ألوانه وخطوطه على اللوحة، كما لاحظ أنّ كلاًّ منهما يحدث تأثيرا خاصا في نفوس المتلقين بطريقة تجعلهم ينفعلون أشد الانفعال بطريقته الحسّية في التقديم، ونجاحه في صياغة مادته.

إنّ لجوء عبد القاهر الجرجاني في (أسراره)، إلى المقابلة بين الشعر والرّسم جعله يركزّ على الجانب البصري في التصوير الشعري، وبهذا يكون قد اقترب من طروحات الفلاسفة المسلمين القدامى الذين رأوا في الشعر، بما يقوم عليه من تخييل،أنّه « يمثّل لمخيّلة المتلقي مشاهـد بصرية واضحة، وإنّ أفضل الوصف الشعري هو ما قلب السّمع، وجعل المتلقي يتمثّل مشهدا منظورا كأنه يراه ويعانيه».

ليس من شكّ أنّ الصورة الفنية نتاج ملكة الخيال، ودينامية الخيال لا تعني محاكاة العالم الخارجي، وإنّما تعني الابتكار والإبداع، وإبراز علاقات جديدة بين عناصر متضادّة، أو متنافرة، أو متباعدة، وعلى هذا الأساس لا يمكننا قصر الصورة الفنية في الأنماط البصرية فقط، بل إنها تتجاوز هذا إلى إثارة صور لها صلة بكلّ الإحساسات الممكنة التي يتكوّن منها الإدراك الإنساني ذاته.
     ولقد أقرّ علماء النّفس المحدثون هذا الأمر، إذ قدّموا للدارسين والباحثين أنماطا متعدّدة من الصور في الشعر، أهمّها: النمط الذوقي، والنمط الشميّ، والنّمط اللمسي، والنمط السمعي.. وهكذا.
الصورة الشعرية في العصر الحديث:

    هي جميع الطرق الممكنة لصناعة نوع التعبير الذي يُرى عليه الشيء مشابهاً أو متفقاً مع آخر، ويمكن أن يتركز ذلك في ثلاثة أصناف هي التشبيه والمجاز والرمز.

    ويهتم النقد الحديث بالخيال اهتماماً كبيراً بل يجعله الأساس لكل صورة أدبية، ويترك للشاعر الحرية في الانطلاق كيف يشاء دون تقييد أو حصر. كما يهتم النقد الحديث بالعمل الأدبي الذي يتكون من صور جزئية متماسكة متكاملة (الوحدة العضوية)، ويعتمد في تقييم هذه الصور على مقاييس نفسية ووجدانية. ويكثر الشاعر الحديث من تتابع الصور كثرة تفوق ما هو مشاهد في الشعر القديم، وجميع هذه الصور تشرئب لنيل غاية بعينها وهي التأثير في نفس المتلقي وتمكين المعنى الذي يرومه الشاعر في نفسه، وأن يترك في نفسه انطباعاً جميلاً لا يمحوه تعاقب السنون؛ فالصورة في الشعر الحديث هي مناجاة للنفس، ومحاورة للضمير، وتأثير في الحواس، ويجب أن يحرص كل شاعر أن تصاحب قصيدته متعة تحبب إليها الأسماع ولا تكون مجرد كلمات جوفاء، ولا تعتبر القصيدة ناجحة إلا إذا كانت مترعة بالشحن العاطفية في كل جزئية من جزئياتها، فالعاطفة هي التي تهب للحدس تماسكه ووحدته، ولا يعتبر الحدس حدساً إلا لأنه يمثل عاطفة ملتهبة، كما أن نقاد العصر الحديث اجتمعت كلمتهم على أن جمال الصور ليس دقتها أو مطابقتها للواقع، ولكن بمقدار الانفعال الطاغي الذي يربض هائجاً في داخلها، وإذا كانت الصورة لا قيمة لها بدون عاطفة فالعاطفة لا معنى لها بدون صورة، حيث إن العاطفة بدون صورة ضريرة عمياء، والصورة بدون عاطفة خالية جوفاء، كما ينبغي أن تكون العاطفة صادقة وليست زائفة وأن يكون دافع هذه العاطفة صحيحاً وليس أمراً مصطنعاً، كما يشترط في العاطفة ثباتها وعدم تقلصها.
   
ولأن العاطفة تعتبر أهم ما في الصور الأدبية يجب على الشاعر أن يشرح خواصها وينقل تأثيرها وروعتها بلفظ يأسر القلوب، ويفتن الوجدان؛ لأن اللفظ هو البنية الأساسية لأي عمل أدبي، وبمقدار ما ينجح الشاعر في تخير اللفظ المناسب الملائم للمعنى بقدر ما يقدم فناً أدبياً يسمو به فوق ذرى المجد.

والظاهرة الأخرى التي يشترط النقد الحديث توافرها في الصورة هي الإيحاء؛ فالصور الايحائية أبعد تأثيراً في النفس وأكثر علوقاً في القلب من الصور التقريرية الوصفية، وهي أبعث بالتالي على المتعة والإحساس بالجمال.
     كما يشترط النقد الحديث على توفر الوحدة المهيمنة على جميع الصور التي تبدت في القصيدة، فصور الشاعر ينبغي أن تتم في نطاق وحدة معينة لا تكون متنافرة لا رابط بينها.

إتجاهات النقاد في العصر الحديث حول مفهوم الصورة:
أولا: النقاد الغربيين:
حصر النقاد الغربيون الصورة في ثلاث دلالات هي:
1- الصورة بوصفها نتاجا لعمل الذهن الإنساني أو (الصورة الذهنية):
    

وهذه الدلالة منبثقة من طروحات الدراسات السيكولوجية التي فتح أبوابها (فرويد) بمباحثه عن العقل الباطن متجهة في هذا اتجاها سلوكيا من حيث الاهتمام بالصورة الذهنية كنتيجة لدينامية الذهن الإنساني في تأثيره بالإبداع الفني، ويكون التّركيز في هذه الدلالة موجّها نحو ما يحدث في ذهن القارئ، أوبعبارة أخرى: نتيجة الاستجابة التي تولّدها الصورة في ذهن المتلقي، وهي محدّدة بالحسّية، تصف العلاقة بين «العبارة المكتوبة في الصفحة، والإحساس الذي تولّده في الذهن، ويتضمّن بحث مشكلتين متوازيتين، تتصل أولهما بوصف القدرات الحسّية لذهن الشاعر بطريقة موضوعية وتحليلية، وتتصل ثانيتها بفحص واختيار وربما تحسين قدرة القرّاء على تقدير قيمة الصورة في الشعر، والمنهج المستخدم في ظلّ هذا التعريف منهج (إحصائي)؛ بمعنى أن يقرأ الدارس القصيدة التي يحلّلها، ثم يسجّل بطريقة إحصائية وتصنيفية الصور المختلفة التي يمكن أن تثيرها القصيدة في ذهنه».

وتولي هذه الدلالة العنصر الحسّي في الصورة الفنية أهمية بالغة،اذ تصنف الصور بحسب مادتها الى صور بصرية و ذوقية و شمية و سمعية و...أي الصور المستمدة من عمل الحواس، ولا فرق عندها بين الحقيقي والمجازي من الصور، وقد تركّز أحيانا على أحدهما، وغالبا على كليهما.

2- الصورة بوصفها نمطا يجسّد رؤية رمزية أو (الصورة الرامزة):

تشترك هذه الدلالة مع الدلالة السابقة في كونها نتاج مباحث الدراسات النفسية، وهي تهتم بوظيفة الصورة الفنية، «سواء كانت حقيقية أو مجازية، او كليهما معا باعتبارها رموزا تستمد فعاليتها من التداعي السيكولوجي.. وبالتالي يهتم التحليل بتحديد وظيفة الصور المتكرّرة في القصيدة، باعتبار هذه الصور بمثابة لوازم نغمية، ووسائل بنائية، ورموز، تكشف عن دلالة القصيدة وما تشير إليه، كما يهتمّ التحليل بفحص العلاقة بين أنماط صور الشاعر ككلّ، وبين الأنماط المشابهة لها في الشعائر والأساطير».

والصورة في رحابها تدرس من زاوية كونها تعبيرا رمزيا، فيركز على الأنماط المتكررة التي تدعى بـ(عناقيد الصورة)، وقد توسعت (كارولين سبريجن) بدراستها حول صور شكسبير في هذا المجال, وقيمة الصورة في تلك الدراسات يكمن في كونها تساعد على الكشف على المعاني العميقة التى توحي اليها القصيدة.

3- الصورة بوصفها مجازا أو (الصورة المجازية):

تنطوي تحت هذه الدلالة جميع التعابير والأساليب غير الحقيقية، من استعارة ومجاز وكناية، أو الأساليب البلاغية المعروفة.

إنّ ارتباط الصورة الفنية بالجانب الحسّي الذي تقدّمه الرؤية البصرية -كما سبق الإشارة إليه- هو أبسط هذه الدلالات وأقربها إلى الذّهن، ويعدّ تعريف الناقد والشاعر الإنجليزي (سيسل دي لويس) للصورة الفنية، بأنها « رسم قوامه الكلمات» التعريف الأقرب إلى الدلالة الحرفية لمصطلح الصورة التي تهتمّ بالنمط البصري.

حقاّ، إنّه ليس بالإمكان إهمال الدّور الذي يمثله الجانب الحسّي في مجال مدركاتنا كونه من أهمّ وسائل التأثير بالصورة، وتَمْكينها في النّفس، وتقوية جانب المدركات فينا. فالتقديم الحسّي يساعدنا كثيرا على فهم الصورة الفنية، وإظهار مجال الجمال والإبداع فيها خاصة فيما ارتبط بتصوير المعنويات أو الأمور المجرّدة التي لا تخضع إلى المشاهدة ولا تدرك بالمعاينة, وهذا الذي يعتمده الفن والأدب.

بيد أن هذا الأمر ليس حكرا على الفنانين والأدباء وحدهم، بل قد يشمل جميع الناس؛ فالناس في أحاديثهم اليومية عادة ما يستعينون بهذا التجسيد الحسي في تقريب واقعهم الخارجي، أو تقرير عالمهم الداخلي، قصد توضح حقيقة غير مرئية أو غير مشاهدة.. ويبقى السؤال: هل الصورة الفنية هي نتاج رؤية بصرية دوما؟

إنّ الصورة ليست نتاج رؤية بصرية دائما؛ إذ إنّ هناك صورا تتكوّن من عناصر تجريدية بحتة لا علاقة لها بالبصر مطلقّا، ولعلّ هذا ما جعل أغلب النقاد الغربيين المعاصرين يتجاوزون المفهوم البصري للصورة، لأنّ الناس كما قال (أوستن وويليك) يختلفون اختلافا شديدا في درجة تبصّرهم، وهاهو (إزرا باوند) -منّظر الحركات الشعرية المعاصرة-، يتسوّر في تعريفه الذي صاغه للصورة الفنية الدلالة التجسمية التي اعتنقها أصحاب الاتجاه المادي أو(التصويري) في الشعر، إذ يقول عنها: هي «تلك التي تقدّم عقدة فكرية أو عاطفية في برهة من الزمن». ومن هنا، اكتسبت الصورة الفنية مفهوما جديدا، لتصبح كلاّ متكاملاّ، تمتزج فيها المصادر الخارجية من حسّية وموضوعية بالذات الشاعرة.

وثمّة ملاحظة وجب ذكرها هاهنا، ذلك أنّ الدلالة الحسّية التي ارتبطت بالصورة الفنية جعلت بعض النقاد والدارسين المحدثين والمعاصرين يميلون إلى الأخذ بمصطلح (الاستعارة) بدلا من مصطلح (الصورة)، خاصة عند (ريتشاردز) الذي يقول: «والصورة نفسها مضلّلة، إذ إننا لولم نحذرها، لانتهينا إلى أنّ الصورة تقدّم إدراكا حرفيا لشيء موجود بالفعل» ويقول جون مدلتون مري «كلّ ما يقال عن الصورة في الشعر، يمكن أن يصب في الاستعارة».

والظاهر عند هؤلاء النقاد، أنّ مصطلح (استعارة) أعمّ وأشمل من مصطلح (صورة)، هذا الذي لا نجده عند بعضهم الآخر من النقاد والدارسين المحدثين. فـ (كارولين سبرجن) –مثلا– ترى أنّ الصورة مصطلح عام ينضوي تحته الأسلوب التشبيهي والاستعاري والمجازي بوجه عام. تقـول: «إنني أستعمل مصطلح صورة هنا بحيث يشمل كل من (التشبيه) و (التشبيه المضغوط المركّز)، وأقصد به (الاستعارة)». 

إنّ مصطلح (صورة) يجب أن نفهمه على أنّه يتضمّن كلّ صورة خيالية يعبّر عنها الشاعر بواسطة انفعاله وتفكيره، سواء أكانت هذه الصورة الخيالية تشبيها أم استعارة بما تحمله الكلمات من معنى رحيب، لذا ينبغي أن نبعد عن قولنا الإيحاء الذي يجعل المصطلح معبّرا عن الصورة البصرية فقط.

ثانيا: النقاد العرب المحدثين:

يمكننا حصر اتجاهات النقاد العرب المحدثين حول مفهومهم للصورة في ثلاث اتجاهات هي:

1- إتجاه تبنى طروحات النقاد الأوربيين الغربيين، ونفى عن العرب معرفتهم للصورة الفنية إذ التفت بعضهم إلى النقد الغربي، واقتبس منه الكثير من الدراسات وراح يطبق ما نهل من معارف وأفكار على نصوص شعرية قديمة، فتراءت له صورة المرأة رمزا للمعبودة الشمس، وصورة الثور الوحشي رمزا للمعبود القمر...، وهذا الذي اعتنقه كلّ من علي البطل في دراسته الموسومة بـ(الصورة في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها) ونصرت عبد الرحمن في كتابه (الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث).
   

أما الدكتور مصطفى ناصف في (الصورة الأدبية)، ونعيم اليافي في (مقدمة
لدراسة الصورة الفنية) و( تطور دراسة الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث) فلم يبعدا عن سابقيهم في الاعتماد على النقد الأوربي، وتبني طروحاتهم في حقل الصورة. فها هو ناصف -متأثرا بالفكر الغربي- يرى أن مصطلح الاستعارة أهدى من مصطلح الصورة, و أنّ كلمة (صورة) تستعمل –عادة– للدلالة على «كل ماله صلة بالتعبير الحسّي، وتطلق أحيانا مرادفة للاستعمال الاستعاري للكلمات، ذلك أنّ لفظ (الاستعارة) إذا حسن إدراكه، قد يكون أهدى من لفظ (الصورة)، وأنّ (الصورة) –إن جاز الحديث المفرد عنها- لن تستقلّ بحال عن الإدراك الاستعاري»

2- وإتجاه ثان – على قلّته – تشبّث بالقديم وأعلى من شأنه، فلم يلتفت إلاّ لما أفرزه الفكر العربي القديم من أفكار ونظريات. ويمثّل هذا الاتجاه الدكتور كمال حسن البصير بكتابه (بناء الصورة الفنية في البيان العربي).

3- وإتجاه أخير معتدل قرأ بعين الناقد البصير فأقرّ فضل القديم وبيّن ميزة الجديد الملائم وأوضحه، ومن هؤلاء علي إبراهيم أبو زيد في (الصورة الفنية في شعر دعبل الخزاعي)، وعبد الله صالح نافع في (الصورة الشعرية في شعر بشار بن برد) و بشرى موسى صالح في (الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث)، وجابر عصفور في (الصورة الفنية في التراث العربي القديم).

وإذا انتقلنا إلى تعاريفهم المصاغة للصورة وجدناها كثيرة لا يمكن حصرها في مبحث كهذا، ونكتفي باستعراض بعضها، فأحمد الشايب يقول عنها: «هي المادة التي تتركب من اللغة بدلالتها اللغوية والموسيقية، ومن الخيال الذي يجمع بين عناصر التشبيه والاستعارة والطباق وحسن التعليل»، أمّا الدكتور علي صبح قيقول عنها: «هي التركيب القائم على الإصابة في التنسيق الفني الحي لوسائل التعبير التي ينتقيها وجود الشاعر –أعني خواطره ومشاعره وعواطفه- المطلق لعالم المحسّات؛ ليكتشف عن حقيقة المشهد أوالمعنى في إطار قوي نام محس مؤثّر، على نحو يوقظ الخواطر والمشاعر في الآخرين», وعبد القادر القط يرى فيها: «الشّكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينّظمها الشاعر في سياق بياني خاص ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكاملة في القصيدة مستخدما طاقات اللغة وإمكانيتها في الدلالة والتركيب والايقاع والحقيقة والمجاز والترادف والتضاد والمقابلة والمجانسة وغيرها من وسائل التعبير الفني»، أمّا عبد الفتاح صالح نافع فيرى فيها: «الصيغة اللفظية التي يقدّم فيها الأديب فكرته ويصوّر تجربته ويتضمّن اصطلاح الصورة الشعرية جميع الطرق الممكنة لصناعة نوع التعبير الذي يرى عليـه الشيء مشابها أو متفقا مع آخر، ويمكن أن يتركز في ثلاثة أصناف هي: التشبيه والمجاز والرمز».

لم يعد مفهوم الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث ضيِّقًا أو قاصرا على الجانب البلاغي فقط بل اتسع مفهومها، و امتد إلى الجانب الشعوري الوجداني فهي عند الدكتور الحداثي نعيم اليافي: "واسطة الشعر وجوهره, وكل قصيدة من القصائد وحدة كاملة, تَنْتَظِمُ في داخلها وحدات متعددة هي لَبِنَات بنائها العام، وكل لَبِنَة من هذه اللبنات تشكِّل مع أخواتها الصورة الكلية التي هي العمل الفني نفسه"

أهمية الصورة فنيا ودورها في البناء الشعري:

بالرغم من اختلاف النقاد والبلاغيين –قديما وحديثا- في تعريف الصورة الشعرية وتحديد مكوناتها وعناصرها إلا إنهم يتفقون على جعلها السمة المميزة للخطاب الشعري، والحد الفاصل بين لغة الشعر ولغة النثر؛ ذلك أن كثيرا من مكونات اللغة الشعرية قابلة للتغير والتطور، ولكن الصورة تبقى المبدأ الثابت في القول الشعري، فالصورة هي لب الشعر، بل هي الشعر ذاته، وليست شيئا يضاف لتزيين المعنى، بل هي جزء أصيل منه.

نماذج تطبيقية:

سنقوم بتحليل مجموعة من النماذج الشعرية نبرز من خلالها أهمية الصورة الشعرية في الشعر العربي القديم، وموقف المنجز النقدي منها. ومن ذلك قول أبي تمام:

فضربت الشتاء في أخدعيه ضربة غادرته عودا ركوبا

لقد تحققت الصورة الشعرية في المركب الفعلي (فضربت الشتاء) حيث ينشأ مبدأ اللا تناسق بين الفعل (ضرب) والمفعول به (الشتاء). فالفعل (ضرب) يستدعي أن يكون المفعول به كائنا حسيا على الأقل، وهي سمة لا تدخل ضمن السمات المميزة (للشتاء)، وهذه المنافرة الدلالية بين الفعل والمفعول أو بين المسند والمسند إليه، هي التي تساهم في خلق الفاعلية الشعرية لهذه الصورة الاستعارية؛ حيث يتبدى الشتاء في قساوة برده ووعوثة ثلوجه فرسا جامحا صعب الانقياد، ولكن الممدوح قضى على جموحه وشراسته بضربة نافذة على أخدعيه لم تترك له مجالا للانفلات. ولما جاز أن يضرب الفرس في أخدعيه للقضاء على جموحه وشراسته وجعله ذلولا سهل الانقياد جاز مقارنة الشتاء بالفرس الجامح. ولم يكتف الشاعر بذلك،فجعل له أخدعين كما لو أنه فرس جامح في الحقيقة. والواقع ان هذه الصورة الشعرية لا تكتسب قيمتها الفنية إلا من خلال الموقف الشعري المتكامل الذي ينبغي أن تحلل في إطاره، وهكذا يمكن إعادة صياغة هذه الصورة الاستعارية عبر الخطاطة الآتية:

المشبه المشبه به

الشتاء الفرس المحذوف

الحرب (الفرس) (سياق القصيدة)

وبذلك يتحول التراسل السابق القائم بين الشتاء والفرس إلى تراسل جديد يفرضه السياق الأكبر للقصيدة، ويتحقق بين الحرب والفرس الجامح، فقد شبه انتصار الممدوح في الحرب بضربة سددت إلى فرس جامح فقضت على جموحه وشراسته. وطبيعي أن يتصدر هذا البيت قائمة الاستعارات المستكرهة عند الآمدي؛ لأن مثل هذه الاستعارات المكنية في رأيه خارجة عن الذوق الفني السليم وعن عمود الشعر العربي. ولذلك صنف هذا النوع من الصور الاستعارية ضمن مرذول الألفاظ وقبيح الاستعارات. ولم يقدم الآمدي علة جمالية أو فنية تقلل من أهمية هذه الاستعارة المكنية، وتبعه في ذلك علي بن عبد العزيز الجرجاني، أما ابن رشيق وابن سنان فقد تحدثا عن هذا النوع من الصور الاستعارية بشيء من الاضطراب والحيرة انتهى بهما الأمر إلى استبعادها من مجال الاستعارة الجيدة.

والواقع أن هذا الاضطراب الذي وقع فيه كثير من الدارسين العرب إزاء الاستعارات المكنية عند أبي تمام له ما يسوغه، ذلك أن كثيرا من استعاراته المكنية تقوم عادة على نوع من التشخيص والتجسيد يصعب معالجته من خلال العلاقة المحدودة المفترضة بين المستعار والمستعار له، فكثير من استعاراته المكنية ينبغي أن تعالج من خلال رؤية شعرية جديدة تقدر طبيعة الفعالية الخاصة التي يمارسها الخيال الشعري في عملية الخلق الفني،وقدرة العمليات الاستعارية على بث الحياة في الأشياء الجامدة. ونجد هذه الرؤية الجديدة عند الناقد عبد القاهر الجرجاني الذي وسع دائرة المشابهة المفترضة بين طرفي العملية الاستعارية، وجعلها تشمل الاستعارات المكنية عند أبي تمام والتي تقوم على تشخيص الجامد وتجسيد المعنوي، بل إن تصوره جعل كل الاستعارات المكنية من قبيل الاستعارات الجيدة التي تحتل مكانة الصدارة ومرتبة أعلى من مرتبة الاستعارات التصريحية. وفي هذا الصدد يقول: "إن أردت أن تزداد علما بالذي ذكرت لك من أمره فانظر إلى قوله: سقته كف الليل كؤوس الكرى.

وذلك أنه ليس يخفى على عاقل أنه لم يرد أن يشبه شيئا بالكف، ولا أراد ذلك في الأكواس، ولكن لما كان يقال (سكر الكرى، وسكر النوم) استعار للكرى الأكواس".

ويصل الانزياح إلى أقصى درجاته عندما تكون الصورة الاستعارية مركبة من استعارتين أي بناء استعارة على أخرى، أو الجمع بين عدة استعارات في وقت واحد، كقول أبي تمام:

بلوناك أما كعب عرضك في العلا فعال ولكن خد مالك أسفـــل

يتميز هذا البيت بإقامة علاقة تقابل بين صورتين استعاريتين، هما: (كعب عرضك في العلى) و(خد مالك أسفل)، فكل عنصر في الصورة الاستعارية الأولى له ما يقابله في الصورة الاستعارية الثانية مما جعل المعنى أكثر بروزا ووضوحا إلى درجة الغموض؛ فهو واضح لأن مبدأ التوازي عمل على إبراز مضمون الصورتين الاستعاريتين، وغامض لأن الشاعر يصف قيمتين معنويتين هما العرض والمال ويسند إليهما قيمتين ماديتين حسيتين هما الكعب والخد, وهذا الغموض هو الذي يشكل سر جمال هاتين الصورتين وفنيتهما. وقد كان من المفروض أن يختار للعرض ما يدل على العلو وللمال ما يدل على الدنو، ولكن الشاعر قلب المعادلة فجعل للعرض كعبا وللمال خدا. وقد يعتقد البعض أن مبدأ التوازي هو الذي جره إلى هذه المعادلة غير المنطقية بين الصورة الاستعارية الأولى والصورة الاستعارية الثانية ولكن سياق القصيدة يظهر أن البيت يعكس موقفا شعريا متميزا لا يمكن فهمه إلا في سياق القصيدة بأكملها؛ فالممدوح لا ينظر إلى المال نظرة الكثير من الناس، فهو يصرف ماله ويجود به على المحتاجين، أما عامة الناس فتقدسه وتجعله بمثابة الخد من الجسد.

وقد عجز الآمدي عن فهم هذا التشابك المستمر والتداخل الدائم بين العوالم، لأنه يبحث عن صفة مشتركة واضحة بين الطرفين وعن معنى سطحي مباشر. ويمكن القول إن الصور الاستعارية التي استهجنها الآمدي تشكل زمرة واحدة، وهي الاستعارات المكنية التي تلغي الحدود المنطقية بين الأشياء من خلال إقامة تلاؤم تام بين الأطراف المتنافرة، وعبر تشخيص المجرد، وتجريد الحسي، من قبيل أن يكون للشتاء والدهر أخادع وللمعروف كبد، وللأيام ظهر وللمدح يد، وللقصائد مزامر، وجعل المعروف مسلما تارة ومرتدا تارة أخرى، فكل هذه الأنماط الاستعارية في رأي الآمدي "في غاية القباحة والهجانة والبعد عن الصواب". وطبيعي أن ينعت تلك الاستعارات المكنية بالقبح والهجانة والخروج عن الذوق السائد، لأن كثيرا من تلك الاستعارات تحتاج إلى تأويلات خفية للوصول إلى سر جمالها وشعريتها. وتصل الصورة الشعرية إلى "غاية القباحة والهجانة،في تصور الآمدي عندما تتفاعل القوافي في مخيلة الشاعر مع الأشياء الإنسانية الطبيعية والحيوانية, ومن ذلك قول الشاعر أبي تمام:

خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى والليل أسود رقعة الجلبـــــاب

بكرا تورث في الحياة وتنثنــــــــي في السلم وهي كثيرة الأســلاب

يتضمن البيتان صورة ممتدة تعبر عن موضوع واحد هو القصيدة، وذلك عبر صور جزئية تنتمي إلى حقل دلالي واحد هو عالم المرأة. فالقصيدة التمامية تبدت في ذهن الشاعر بنتا في أوج نشاطها وحيويتها، لأن قصيدته هي نتيجة جهد فكري متكرر، ولذلك وصفها في البيت الثاني بالبكر للدلالة على أن شعره إبداع وابتكار لا على مثال، ولذلك يصعب تقليده والنسج على منواله، ومن هنا تأكيده الدائم على أن قصيدته امرأة عذراء، لا من حيث تقليدها فحسب، ولكن من حيث تذوقها وتفكيك رموزها وفهم أسرارها. ذلك أن تذوق إبداعه شكل من أشكال افتراع العذرية.

ويضيف الشاعر أن هذه المرأة "القصيدة" لم تعد مجالا للخصب واللذة، بل تحولت إلى إنسان قوي قادر على قهر الممدوح وسلب أمواله وعطاياه. وبطبيعة الحال فإن هذه القصيدة التي تآلفت مع هذه العذراء الغريبة ليس في الواقع إلا الشاعر نفسه حين يدخل في صراع مع الممدوح ويخرج منتصرا بسلب عطاياه وانتزاع أمواله.

والواقع أن تشبيه القصيدة بالمرأة خاصة في جانبها الجنسي ظاهرة تتكرر في شعره، فهو يتصور أن تفاعل الذات الشاعرة مع الكلمة الشعرية تماثل لقاء زوجين عاشقين، ومن هنا إلحاحه المستمر على أن القصيدة والعذرية شيء واحد، فإبداعه مثل النساء العذارى لا يستطيع أن يفترعها غير الشاعر نفسه.

وإذا كانت الصورة السابقة تقوم على تداخل وتفاعل تامين بين القصيدة باعتبارها عملية إبداعية تثير المتعة الفنية، والمرأة باعتبارها كائنا حيا للذة والمتعة، فإن العملية الفنية في الصورة التالية تتحول إلى عملية جنسية تثير المتعة نفسها عند المبدع كما تثيرها عند المتلقي:

والشعر فرج ليست خصيصته طول الليالي إلا لمفترعــه

تقوم هذه الصورة الشعرية على نوع من التراسل الطبيعي يؤمن به الشاعر بين عالمين مختلفين عالم الروح وعالم الجسد، وهذا النوع من التراسل يندرج ضمن ما يسميه أمنموس بالصورة الحدسية، وهي "أساطير حقيقية يُخيل أنها تنبجس مما تحت الشعور وتحصر واقعا لا يوصف"

إن بنية هذه الصورة القائمة على ذكر طرفي العملية التشبيهية والاستغناء عن الأداة توحي بالتداخل الشديد بين الطرفين، ولكن هذا التداخل لا يصل إلى درجة التطابق؛ لأن صورة التشبيه البليغ توجد في المنطقة الوسطى بين التشبيه والاستعارة. ومن هنا فإن الصورة السابقة توحي بدلالة واحدة هي الإحساس باللذة والمتعة من افتراع العذرية واختراق النص الإبداعي. غير أن التعبير عن التراسل بين تذوق الشعر والعملية الجنسية بواسطة التشبيه البليغ يطرح اختلافا في درجة الإحساس باللذة الفنية والمتعة الجنسية. ومع ذلك فإن أبا تمام ظل يؤمن بالتطابق التام بين بكارة الكلمة وبكارة المرأة، لأنه يريد أن يعطي للكلمة الشعرية معاني متعددة، ومن هنا اهتزت الصورة الثابتة في ذهن المتلقي لعلاقة الدال بالمدلول، وهو اهتزاز أعطى للآمدي والقاضي الجرجاني انطباعا بأن أبا تمام أفسد ما كان صالحا، ودعا إلى الفوضى وإلى ما لا يفهم.



ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة