ظواهر لغوية في شعر نزار قباني ـــ د. شوقي المعري
قد يكون نزار قباني من أكثر الشعراء إثارة، منذ بدأ يكتب الشعر حتى مماته، والإثارة كانت منذ أن كسر بعض القيود التي وضعها هو، فحاول أن يخرج على الأصول التقليدية التي كانت سائدة في الشعر وكانت عند كثيرين أو برأيهم جرأة كبيرة لكنها لم تصل إلى جرأة الشاعر نزار قباني في الألفاظ، والجمل، والرسم بالكلمات التي أجاد صناعة لوحاتها، فكان أن قام الناس فريقين مؤيداً ومعارضاً، فشابه المتنبي في "مالئ الدنيا وشاغل الناس"..... وهذا ما دفع الكثيرين للكتابة عنه، فقامت دراسات كثيرة وأبحاث، ومقالات من ديوانه الأول حتى آرائه في كتاباته النثرية السياسية.
لست مختصاً بالشعر الحديث، لكنني أقرؤه كما أقرأ الشعر القديم وأستمتع بقراءة كل شعر جميل عذب، وشعر نزار من هذا العذب الجميل، وأعتبره كغيري من أهم شعراء هذا العصر سواءٌ في غزله أم السياسي منه، ولست الوحيد الذي قرأ شعر نزار غير مرة، واكتشف في كل قراءة جديدة شيئاً جديداً يُضاف إلى أشياء لكنّ قراءتي هذه المرّة تختلف عن سابقاتها؛ لأنها لغوية نحوية لقسم من شعره، لا كلّه، أقصد الشعر التقليدي ولاحظت أمرين اثنين يتصل الأول بالآخر، الأول التوكيد الذي أدى إلى المبالغة، أو المبالغة التي عبّر عنها بالتوكيد، الذي كان نوعين، الأول: التوكيد اللفظي، والثاني التوكيد بالتكرار، وهما يؤيدان المعنى الذي أراده، والثاني: التقديم والتأخير في تركيب الجملة....
أولاً التوكيد:
للتوكيد أساليب متعدّدة في اللفظ، أو الحرف، أو تركيب الجملة، غير التوكيد بنوعيه اللفظي والمعنوي، وغير التوكيد بتكرار الأسلوب غير مرّة،. وما وقفت عليه في شعر نزار التقليدي النوعان التاليان:
1ً ـ التوكيد اللفظي: المعروف أنّ التوكيد اللفظي يكون بالحرف، أو الاسم أو الفعل.
1ً/ 1ً ـ التوكيد بالحرف:
ورد بيتان اثنان فيهما توكيد لفظي، الأول فيه تكرار لحرف النفي (لا) ولا شكّ في أنَّ النفي يكفيه حرف، فإذا ما تكرّر كان فيه التأكيد على نفي ما يريد قوله، وكان جمال التعبير في استعمال هذا ا لحرف لمّا أورده الشاعر بعد الأمر، وطلب الكلام، قال:(1/ 268)
وقل لي بأنَّك لا لا تقل لي
| ||
وأبحرْ بشعري الذي ظَلَّلَكْ
| ||
وزاد في جمال التعبير حذف خبر (أنَّ) فكأنّه طلب أمراً ما، وقبل أن يكمل الكلام، طَلبَ عَدمَ الجواب والكلام بتركيب لا لا تقل لي.
والبيت الثاني تكرر فيه الحرف المشبه بالفعل (علّ) الذي أورده على أصله قال:(2/ 86)
فامنحني ولو إجازة يوم
| ||
علّني علّني أفكّر فيك
| ||
فالترجي تكفيه كلمة واحدة، لأنَّ فيه ضعفاً وسؤالاً بلُطْف لكن استعماله مكرراً يُلمح فيه السخرية.
1ً/ 2 الاسم:
يبدو من الأبيات التي ورد فيها الاسم توكيداً لفظياً أنًّ الشاعر لم يقصد إلى التوكيد الذي إذا حذف لا يتأثر المعنى، بل إنَّ في تكرار أي لفظ ممّا استعمله إضافة غير التوكيد كقوله:(1/ 39)
كقطيع من المواويل حطَّتْ
| ||
في ذرى موطني الأنيق الأنيق
| ||
واقرأ قوله (1/ 261):
من أين يا غاليتي أبتدي
| ||
وكلُّ ما فيك أميرٌ أميرُ
| ||
تجد أنّ كلمة أمير الثانية ما قصد إلى تكرارها لمجرد التوكيد، بل كأنَّ فيها تفصيلاً لكلمة (كلّ ما) التي تدلُّ على الكثرة.
أما قوله (1/ 268):
لأصغرُ أصغرُ نقطةِ عطرٍ
| ||
ذراعٌ تُمَدُّ لتستقبلكْ
| ||
فإن التوكيد بدا أولاً في لام الابتداء (لأصغر) التي تفيد التوكيد، ثم في تكرار لفظ أصغر، ويبدو ـ كما في البيت السابق ـ أنّ الشاعر استعمل (أصغر) مرة ثانية وهو لا يريد حذفها، وإلا لما استعملها، فكأنّ الشاعر أراد أن يعبر عن الشيء الصغير جداً، فنقطة عطر هي نقطة فكيف إذا كانت أصغرها؟!
وما يدلّ على أنّ القصد من التوكيد المبالغة أو الدقة جواز ضبط أصغر الثانية بالجر مضافاً إليه. وأما قوله (1/ 469):
إذا جئتني ذاتَ يوم بثوبٍ
| ||
كعشب البُحيرات أخضَر أخضرْ
| ||
فإنّ المعنى هو ما يستعمله كلّ من يكرر اللون، إنه يريد كثافة اللون أو صفاءه، أو نصاعته إذا كان من الألوان القاتمة لا الغامقة، واستعمال نزار هنا للّون الأخضر إنما هو لصفاء اللون ونصاعته ورقّته، وهذا هو لون الماء في البحيرة، وماء البحيرة دائماً ـ رائقٌ، وصافٍ، يشفّ عمّا فيه، وهذا غير اللون الأخضر الذي في الغابة والذي يميل ـ دائماً ـ إلى السواد... إنه أراد أن يقول أخضر واضح جداً.... وما يؤيد كلامنا هذا قولُه في البيت التالي له مباشرة:
ونهدك تحت ارتفاف القميص
| ||
شهيٌّ شهيٌّ كَطَعنة خنجرْ
| ||
فاللون الفاتح يكشف عمّا تحته، وهذا ما قصد إليه نزار وصوّره عندما يرفّ القميص، وإلا لما أكَّده بقوله شهيٌّ شهيٌّ!!
ومن هذا الباب قوله (2/ 798):
مرحباً يا عراقُ جئتُ أغنيكَ
| ||
وبعضٌ من الغناءِ بكاءُ
| ||
مرحباً مرحباً أتعرفُ وجهاً
| ||
حفرته الأيامُ والأنواء؟!
| ||
فقد ألقى نزار التحية على العراق بكلمة (مرحباً) في البيت الأول معللاً سبب إلقاء التحية، لينتقل في البيت الثاني وليكرر الكلمة (مرحباً) مرتين، وهذا التوكيد كان خشية الشاعر من ألاَّ يعرفه العراق وشعب العراق فكرر التحية غير مرّة!!
وقريب منه ما قاله في الشام (2/ 960):
شام يا شام يا أميرةَ حبّي
| ||
كيف ينسى غرامه المجنونُ
| ||
ويشعر القارئ أنَّ الشاعر لمّا كرّر النداء بأداء النداء (يا) في المرة الثانية كان يخاف ألا تسمعه،وهي قريبة لمّا حذف حرف النداء؟ لأنّ حذف أداة النداء ـ هو كثير ـ يكون للقريب لا للبعيد، فكرّر النداء، وأضاف إلى هذا التكرار النداء بـ (يا أميرة حبّي) وهذا ما زاد في جمال العبارة.
ولم يبتعد نزار قباني في كل ما أورده من التوكيد اللفظي عن القصد من هذا التوكيد، وهنا لا أجد مرادفاً إلا المبالغة، كقوله (2/ 975):
إنّ أقسى الأشياء للنفس ظلماً
| ||
قلمٌ في يد الجبان الجبان
| ||
فالجبان لا يجيد شيئاً، فكيف إذا قُدِّر لـه أن يمسك القلم. إنه أراد أنَّ هذا من أشدّ أنواع الظلم، لأنّ الجبان الذي لا يقدر على عمل أي شيء، لا يجوز أن يمسك بالقلم خوفاً من أن يدوّن عكس ما يطلب منه.
ومن هذه المبالغة ما ورد مخاطباً فيه مصر (2/ 978):
آه يا مصر كم تعانين منهم
| ||
والكبير الكبير دوماً يعاني
| ||
فقد أراد أن يصوّر معاناة مصر الكبيرة باستعماله (كم) التكثيرية، وهي الأخ الكبير للعرب، والكبير يعاني دوماً، لكن لمّا استعمل الكبير مرّتين زاد المبالغة كما زاد لمّا استعمل أصغر أصغر.
1/ 3 ـ الفعل:
نوّع نزار قباني في استعمال التوكيد اللفظي في الفعل وكان قاصداً له، لأن هذا الاستعمال يتغيّر عمّا استعمله غيره من الأدباء، ومنهم الشعراء، وهذا ما اتّضح لي من قراءة تلك الأبيات التي فرضت تعليقاً على كل بيت، لأنّ كل بيت اختلف عن غيره في التراكيب.
قال (1/ 302):
لو كنت هذا المَشْرَب المُنتقى
| ||
أختار هذا الثغر أختار
| ||
وكأنَّ تكرار الفعل (أختار) مرة ثانية ليس تالياً للفعل السابق قصد منه لا أختار إلا هذا الثغر، وربّما عاد هذا إلى أنّ جواب (لو) قليلاً ما ورد بصيغة المضارع، وربما لو أراد أن يكرر اللفظ مباشرة لما استساغ التركيب.
وقال (1/ 328):
لا تسأليني كيف قصّتُنا
| ||
انتهت، لا تسأليني
| ||
أورد الشاعر الفعل (لا تسأليني) في أول البيت وكرّره في آخره، علماً بأنه بيت مؤلف من عدد قليل من المفردات، لكنّه أراد أن يؤكد النهي الذي أضاف إليه أيضاً اسم الاستفهام (كيف) لزيادة التأكيد.
وقال (2/ 84):
سافري سافري إلى جُزُر الحلم
| ||
فإنّ الرحيل قد يُدنيك
| ||
إن التوكيد في الفعل سافري قُصد منه السفر إلى أماكن بعيدة، وهو أبعد من جُزر الحلم، هذا إذا وُجدت؟! يُطلق لها العنان كي تسافر بعيداً ولكنّه السفر الذي يقرّب صاحبه.
وقال: (2/ 360):
كل ما يطلبه لبنان منكم
| ||
أن تحبّوه تحبّوه قليلا
| ||
إنّ من يقرأ هذا البيت يلحظ فيه أموراً، أن الفعل كرره بلا حرف النصب (أن) كما فعل قبل في (لا تسأليني). وأنَّ المعنى فيه الأمر، كأنه يريد أن يقول (أحبّوه)، وهذا ما أفاده التكرار، وأنّ ثمة تناقضاً من استعمال التوكيد وما يفيده، ومن استعمال كلمة (قليلاً).
وقال (2/ 802):
لم نزل لم نزل نمصمصِ قشراً
| ||
وفلسطين خضبتها الدماء
| ||
قد يكون تكرار الفعل الناقص من القليل، وقد يكون تكرار الفعل الناقص المسبوق بـ (ما) النافية من النادر، لكن النفي في هذا الفعل إثبات لأنه مؤلّف من (ما) و(زال) كأنه قال وما زلنا، لكنّ استعمال (مازلنا) لا يؤدي المعنى الذي استُعمل للمستقبل، تأنيباً وحثاً، وحضاً، وسخرية.... وهذا واضح من السياق العام للبيت.
تتمة:
يُعد التوكيد اللفظي بالفعل توكيداً بالجملة الفعلية ما دام الفعل جملة، ونزار لم يكتف بالفعل سواءٌ كان مجرداً أم اتصل به الضمير المتصل، بل استعمل الجملة المؤلفة من الفعل، ومعموله.
قال (1/132):
يلذّ لي يلذّ لي أن أرى
| ||
خضرة عينيّ على دفتري
| ||
وقال (1/ 139):
كل حرف فيه طِيْب
| ||
يا لـه عطرك النسائي يا لـه
| ||
فقد استعمل (يا) التي تفيد التعجب، مكررة مع شبه الجملة (له).
1/ 4 ـ الجملة الاسمية:
إن ورود التكرار اللفظي جملة اسمية قليل بل نادر في الشعر؛ لأنَّ فيه إطالة في الكلام فإذا ما وقعت جملة من عدد الكلمات مكررة مرتين في بيت شعري فإنها ستأخذ أكثر من نصف البيت، فقد يضعف البيت، ولا يؤدي المعنى إلا إذا وقع عفو الخاطر أو مُصادفة،
وهذا ما لم نقع عليه في دواوين القدماء، ووقعت عليه في ديوان نزار قباني.
قال (1/ 261):
حبيبتي لدي شيء كثير
| ||
أقولـه لدي شيء كثير
| ||
هذا أحد الأبيات الأربعة التي وقع فيها التوكيد اللفظي جملة اسمية، وثمة بيتان اثنان وردَتْ فيهما الجملة الاسمية مؤكّدة باسم الاستفهام وشبه الجملة، الأول قوله (1/ 61):
وتخطيط أكوان وتعمير أنجم
| ||
ورسم زمان ما لـه شكلُ
| ||
فقد عطف في هذا البيت على كلام سابق قال فيه:
أنا الحبُّ عندي جدّة وتطرفٌ
| ||
وتكسير أبعاد ونارٌ لها أَكْلُ
| ||
وعظيمُ أسوار الثواني بلمحة
| ||
وفتح سماء كلّها أعين شُهْلُ
| ||
فقد بدا استعمال التوكيد اللفظي جميلاً بعد كل ما أخبر به عن حبّه حتى قال: ليس له شكل...
والبيت الثاني قوله (2/ 806):
مالنا مالنا نلوم حزيران
| ||
وفي الإثم كلُّنا شُركاء
| ||
إنّ في البيت تأنيباً للنفس فنحن نلوم الهزيمة، ونحن الذي اشتركنا في الإثم والخطأ؟! أما البيت الرابع الذي فيه التوكيد اللفظي جملة اسمية فقوله
(2/ 85):
أنت أحلى تأكّدي أنت أحلى
| ||
حين في عالم الرؤى ألتقيك
| ||
لقد كرر (أنت أحلى) وفصل بينهما بما يزيد من التوكيد، وهو الفعل تأكدي، وكأنّ الشاعر قصد إلى التوكيد قصداً إذا لم تصدّق المحبوبة أنها الأحلى، وهو اقترب في هذا من القسم!!
1ً/ 5 تتمة:
يقرب ممّا تقدم قوله (1/ 45)
ولا شالٌ يشيل على ذرانا
| ||
ولا خبرٌ ولا خبرٌ يشيع
| ||
إنه يقصد باستعمال (لا) نفي الجنس، وإنْ لم يُعْمِلْها، لكنّ تكرار النفي أكّده. يضاف إلى هذا أنّ ضمير الرفع المنفصل قد يأتي ضمير فصل يفيد التوكيد، بل هو توكيد لفظي ورد كثيراً في الشعر والنثر، لكنّ الملاحظ ندرة الأبيات في شعر نزار التقليدي، إذ لم أقع إلا على بيت واحد، قال (2/ 83):
أنتِ في القرب تخسرين كثيراً
| ||
فاذهبي أنت واتركي لي شكوكي
| ||
إنّ في استعمال الضمير أنت توكيداً للياء المؤنثة المخاطبة جمالاً بدا من مقارنة الكلام عندما قال واتركي لي....
2ً ـ التوكيد بالتكرار:
يختلف هذا النوع عن النوع السابق، فهو توكيد بتكرار كلمة، لكنّها ليست توكيداً لفظياً يمكن حذفه، وإن كنا وجدنا أنَّ التوكيد اللفظي المستعمل كان فيه من القوة، ودقة التعبير مالا نستطيع أن نحذفه، وهذا مثله، لكنّ الخلاف أنَّ ذاك اللفظ إعرابه توكيد لفظي، وهذا لا.... وقد قَصَد إليه نزار قباني كما قصد ذاك النوع... قال (1/ 301):
كتبت عن عينيك ألف شيء
| ||
كتبت بالضوء وبالعبير
| ||
كتبت أشياء بدون معنى
| ||
جميعها مكتوبة بنور
| ||
من أنت من رماك في طريقي
| ||
من حرّك المياه في جذوري
| ||
فقد كرر الفعل (كتبت) ثلاث مرات، واسم الاستفهام (من) ثلاثاً أخرى.... ويلحظ القارئ في استعمال (كتبت) المبالغة والكثرة التي أراد التعبير عنها، فهو (كتبت ألف شيء) وكتب أشياء، ثم زاد في المبالغة في كلمة جميعها.. وكلّها تدل على المبالغة التي مرّت في التوكيد اللفظي...
أما استعمال اسم الاستفهام (مَن) فإنه إلحاح في السؤال، تلحظ معه السرعة ولا سيما في الشطر الأول.....
وقال في قصيدته المشهورة "ترصيع بالذهب على سيف دمشقي" (2/ 952 ـ 953):
يا زماناً في الصالحية سمحاً
| ||
أين مني الغوى أين الفتونُ
| ||
يا سريري ويا شراشف أمّي
| ||
يا عصافير يا شذا يا غصونُ
| ||
يا زواريب حاراتي خبئيني
| ||
بين جفنيك فالزمان ضنينُ
| ||
هذا الإصرار على النداء بعدد من الألفاظ وصل إلى سبعة ألفاظ يدلّ على التعمّد في النداء، يضاف إليه التنويع، مرّة للزمن، ومرات لأدوات، وللعصافير، والشذا والغصون.....
يريد أن ينادي كل شيء يعرفه ويستطيع أن يحتمي به من الزمان البخيل.. لأنّ جواب النداء للبيت الثاني لم يُلحظ، ولا نستطيع إلا اعتبار (خبئيني) هو الجواب عن كل النداء في البيتين الثاني والثالث، لأنّ جواب النداء في البيت الأول هو (أين مني...) الذي كرر في الشطر الثاني استعمال اسم الاستفهام (أين)، وكل واحد خبر للمبتدأ بعده.
وقال من القصيدة نفسها (2/ 954 ـ 955):
يا دمشق التي تقمَّصت فيها
| ||
هل أنا من السّرُو أم أنا الشّربين
| ||
أم أنا الفل في أباريق أمّي
| ||
أم أنا العشب والسّحاب الهَتون
| ||
أم أنا القطة الأثيرة في الدار
| ||
تلبّي إذا دعاها الحنين
| ||
فقد كرر حرف العطف (أم) الذي غالباً ما يلي همزة التسوية، ولا يلي (هل)، والذي غالباً ـ ما يستعمل مرة واحدة، أما نزار فقد قصد إليه أربع مرات، ورد اثنان منها في بدايات البيتين الثاني والثالث، وهذا يعني أنه أراد استعماله غير مرّة...
إنّ هذين الشاهدين اللذين أثبتناهما هما من الشواهد التي كثر فيها التكرار في البيت الواحد، أو البيتين المتتاليين، أو الثلاثة، لكنّ من يقرأ القصيدة كلّها، أو قصيدة أخرى فإنه يجد أن الشاعر قد أكثر من تكرار الألفاظ لكن في أبيات متباعدة قليلاً.
ومن طريف ما استعمله في التوكيد قوله (1/ 60):
أحبُّ بأعصابي، أحبُّ بريشتي
| ||
أحبُّ بكلّي لا اعتدالٌ ولا عقلُ
| ||
فقد كرر لفظ (أحبُّ) ثلاث مرات للتوكيد الذي زاده توكيداً استعماله (كلّ) مضافة إلى ياء المتكلم وهذا لم نعهده عند القدماء ولا المحدثين، وربّما أصرّ على استعمال هذا اللفظ مضافاً إلى ياء المتكلم، ليختصر كلّ الأشياء وكل ما فيه بقول (بكلّي)، ولذلك قطع التكرار ولم يستعمل لفظ أحبُّ مرة أخرى من بعد.
ثانياً ـ التقديم والتأخير
1ًَ ـ الجملة الفعلية: كثر التقديم والتأخير في شعر الشعراء وفي نثر الأدباء والمعروف أن التقديم في الجملة الاسمية له أحكام وشروط وخصائص، يكون واجباً أو جائزاً، أما إذا أراد الشاعر أن يقدّم على الفعل فلا يقدّم إلا ما يريد أن يبرزه ويهتم به، ويكون معمولَ الفعل، وليس وجوباً هذا التقديم، وقد يكون فيه من الضرورة الشعرية. وقد وقع التقديم والتأخير في الجملة الفعلية في عدد من الأبيات نستطيع أن نصنّفها على النحو التالي:
آ ـ كان معظم ما ورد مقدماً على الفعل هو الجار والمجرور، فقد وقع هذا في (19) تسعة عشر بيتاً من أصل واحد وعشرين، وكان كلّه للاهتمام به، قال (1/ 40)
شقراء هل أحيا على صورة
| ||
ومَن على الألوان والظل عاش
| ||
وقال (2/ 803):
يا عصور المعلّقات ملَلنا
| ||
ومن الجسم قد يملُّ الرداء
| ||
تعبير جميل في الشطر الثاني أضفاه الحرف (قد) الذي يحتمل تأويله التقليل والتحقيق، وأجد أنه أراد التحقيق ولو وليه المضارع. وقال (2/ 808):
يا فلسطين لا تزالين عَطْشى
| ||
وعلى الزيت نامت الصحراء
| ||
قدّم على الزيت/ النفط، وما فيه من غنى مال نامت عليه الصحراء، وفلسطين عطشى لكل شيء، وهذا ما رمى إليه من تقديم شبه الجملة (على الزيت) وقال (2/ 812):
من شحوب الخريف من وجع الأرض
| ||
تلوح السنابلُ الخضراء
| ||
أكّد تقديم شبه الجملة مرتين في الشطر الأول، بلا حرف العطف، مقدمتين على الفعل تلوح وقال (2/ 812):
إن أكن قد كويت لحم بلادي
| ||
فمن الكيّ قد يجيء الشفاء
| ||
إنه يتمنى آخر الطبّ و وهو الكيّ، لأنه الحالة الأخيرة التي تُرجى عندما يُعْدم الدواء. وإذا ما علمنا أنَّ هذه الأبيات من قصيدة واحدة فإننا نتأكد من قصد الشاعر في تكرار تركيب الجملة أو البيت عنده. وقال (2/ 831) مخاطباً جمال عبد الناصر:
ملأنا الأقداح يا من بحبّه
| ||
سكرنا كما الصُّوفي بالله يسكر
| ||
بدا التقديم في الشطر الثاني (بالله يسكر) جميلاً، ولا سيما أنه استعمل (ما) المصدرية وما بعدها اسمٌ وهذا من القليل.
وقال من القصيدة نفسها (2/ 833):
تأخرْتَ، فالسّاعات تأكلُ نفسها
| ||
وأيامنا في بعضها تتعثر
| ||
وقال (2/ 836):
أنا شَجرُ الأحزان أنزف دائماً
| ||
وفي الثلج والأنواء أعطي وأُثْمر
| ||
وقال (2/ 836):
وأذبحُ أهلَ الكهف فوقَ فراشهم
| ||
جميعاً ومن بوّابة الموت أعبرُ
| ||
فلو قال أعبر، لظن القارئ أن عبوره قد يكون من مكان لا يعرفه، والأماكن التي يُعبر منها كثيرة، فلذلك قدَّم (من بوابة الموت) على الفعل أعبر، لما في هذا من رمز.
إنّ ثمّة إصراراً على استعمال التقديم والتأخير كثيراً، كأنّه من قبيل التوكيد، إذا ما علمنا أنّ هذه الأبيات من قصيدة واحدة أيضاً، يضاف إليها بيتان آخران سيرددان بعد قليل.
وقال من قصيدته المشهورة "ترصيع بالذهب...." (2/ 963)
إنّ عمرو بن العاص يزحف للشرق
| ||
وللغرب يزحف المأمون
| ||
كتب الله أن تكوني دمشقاً
| ||
بك يبدا وينتهي التكوين
| ||
البيتان متتاليان قدّم في الأول (للغرب) على الفعل يزحف، وهو في الشطر الأول يقدّم، أهي الضرورة الشعرية التي أرغمت الشاعر لتأخير كلمة المأمون إلى نهاية البيت؟
أما البيت الثاني فقد قدّم (بك) على الفعلين المتناقضين يبدأ وينتهي، والكاف هي دمشق التي أراد أن يقول لها في الشطر الثاني ما قدّمه!!
ب ـ يُلحظ أن الشاعر نزار قدّم الضمير المتصل (ياء المتكلم) مع حرف الجر على الفعل، وهل أفضل من نفسه يقدّمها على سواها أياً كان قال: (1/ 26 ـ 27)
إليّ اكتبي ما شئت إني أحبّه
| ||
وأتلوه شعراً ذلك الأدب الحلوا
| ||
عليّ اقصُصي أنباء نفسك وابعثي
| ||
بشكواك مَنْ مثلي يشاركك الشكوى
| ||
إليّ اكتبي إمّا وُجدْتِة وحيدةً
| ||
تُدَغْدِغكِ الأحلام في ذلك المأوى
| ||
أهو التقديم الذي فيه نرجسية الشاعر، ربّما؟! وربّما كان التكرار هذا يؤيّد ما نقول.
ج ـ تكرّر تقديم شبه الجملة على الفعل المبني للمجهول، ويبدو أنّه لم يقع مصادفة، بل كان يتمّ عن تركيبٍ قد لا يصحّ معه إلا المبني للمجهول، قال (2/ 804):
نرفض الشعر مسرحاً ملكياً
| ||
من كراسيه يُحرم البسطاء
| ||
وأظن أن الفعل (حُرِم) بالبناء للمجهول يؤدي معنى أقوى ممّا لو استعمل للمعلوم، ولا سيما أنه أخذ نائب فاعل هو البسطاء، وكلنا يعلم أنّ البسطاء والفقراء محرومون، والشاعر رفض أنْ يُحرم الفقير بما يحصده الغني المالك.
وقال (2/ 813):
من جراح المناضلين وُلِدنا
| ||
ومن الجراح تُولد الكبرياءُ
| ||
إنني رافض زماني وعصري
| ||
ومن الرفض تُولد الأشياءُ
| ||
وكذا الفعل (وُلد) إذا استعمل بالبناء للمجهول يعطي جمالاً غير القوة في الاستعمال؛ لأنّ الخَلْق والولادة لا يدَ للإنسان فيهما ولكن أي ولادة يتحدث عنها نزار؟!
إن قراءة ثانية للبيتين تكشف لنا مرة أخرى التأكيد على التكرار بأساليب متبدّلة متغيرة، فهو استعمل الفعل (وُلِدنا) في الشطر الأول وكرّر بالمضارع في البيت الثاني، وكذا اسم الفاعل رافض والمصدر الرفض في البيت الثاني.... ويكتشف القارئ أنَّ الشطر الثاني من البيتين فيهما حكمة، أو ما يشبه الحكمة.
وقد استعمل الفعل نفسه بالبناء للمجهول مرتين. مقدماً عليه شبه الجملة التي أدّت دوراً قبل الولادة وهذا ما قَصَد إليه.
د ـ كرّر تقديم شبه الجملة على الفعل، وقد تقدّم عليها الظرف "حين" وكأنَّ فيه شيئاً من التكرار والتأكيد على الاستعمال، قال (2/ 85):
أنت أحلى تأكدي أنت أحلى
| ||
حين في عالم الرؤى ألتقيك
| ||
وقال (2/ 832):
تعاودني ذكراك كلَّ عشيّة
| ||
ويورق فكري حين فيك أفكّر
| ||
وقال (2/ 954):
هل دمشق كما يقولون كانت
| ||
حين في الليل فكّر الياسمين
| ||
تتمة:
رأينا أن نزار قباني كان يعمد إلى التقديم والتأخير في الجملة الفعلية ورأينا أن كل الشواهد كان التقديم فيها لشبه الجملة على الفعل، وذلك للاهتمام بما تقدَّم كما في أي تقديم، وهذا التقديم جائز، والصناعة النّحوية لا تتأثر، إنما ما يتأثر هو التركيب الذي حاول صنعه الشاعر، والغريب أن يفعل العكس لمّا استعمل اسم الاستفهام مؤخراً على الفعل وحقّه التقديم، وقد نعيد هذا إلى ما قلناه، من أن الشاعر خرج على التقاليد المألوفة، قال (2/ 832):
أحبُّك لا تفسير عندي لصوتي
| ||
أفسِّر ماذا؟ والهوى لا يُفَسِّر
| ||
2ً ـ الجملة الاسمية:
يختلف التقديم والتأخير في الجملة الاسمية عمّا تقدّم في الجملة الفعلية، فذاك من الجائز الذي يقدّم فيه الشاعر متممات الفعل على الفعل أو معمولاته، أما التقديم والتأخير في الجملة الاسمية فبعضه جائزٌ للاهتمام، وبعضه واجب للحكم النحوي أو القاعدة، ولا نستطيع أن نعتبر الواجب ظاهرة لأنها قاعدة نحوية، وأما الجائز فهو ما يستحق القراءة ثم الحكم، أقصد ما يتصل بتركيب الجملة.
ـ لقد كان لتقديم الخبر على المبتدأ أثرٌ جميل في تركيب الجملة الشعرية عند نزار، ولا سيما ما استعمله مع ضمير الرفع المنفصل، من هذا قوله (1/ 16)
شراعٌ أنا لا يطيق الوصولْ
| ||
ضياعٌ أنا لا يريد الهوى
| ||
وقوله (2/ 802):
يا حزيران أنت أكبر منّا
| ||
وأبٌ أنت ماله أبناء
| ||
فقدم "أب" على المبتدأ أنا، مع أنه قال في الشطر الأول "أنت أكبر"، بلا تقديم وتأخير، وفي البيت تقديم شبه الجملة (له) على المبتدأ أبناء، أو اسم (ما) إذا شئنا.
وقوله (2/ 816)
حبيبتي أنت فاستلقي كأغنية
| ||
على ذراعي ولا تستوضحي السببا
| ||
ومن الجائز أيضاً في التقديم والتأخير قوله (2/ 805):
ما هو الشعر حين يصبح فأراً
| ||
كسرةُ الخبز همُّه والغذاء
| ||
فكسرة وهمُّه معرفتان، وقال (1/ 161):
أقسى من الشقاء حبّي لها
| ||
فيا لها من دَفق أمطاري
| ||
فالإخبار بأقسى أجمل، لكنّ الابتداء جائز لأنَّ شبه الجملة من الشقاء متعلقان بأقسى، فصار كأنه معرفة.
وقال (1/ 166):
أعيديني إلى أصلي جميلاً
| ||
فمهما كنت أجمل منك نفسي
| ||
والتقدير، نفسي أجمل منك..
وقال (1/ 56):
أنت على المنحنى تقعدين
| ||
لها رئتي هذه القاعدة
| ||
وتقديم الخبر (لها) على المبتدأ (رئتي) جائز، لأن رئتي معرفة.
وممّا قدمه جوازاً كلمة مُحالٌ في قوله (2/ 966):
كل ليمونة ستنجب طفلاً
| ||
ومحالٌ أن ينتهي الليمون
| ||
وقوله (2/ 799):
وأنا الحزن من زمان صديقي
| ||
وقليلٌ في عصرنا الأصدقاء
| ||
وقوله (2/ 804):
نرفض العاطلين في قهوة الشعر
| ||
دخانٌ أيامُهم وارتخاء
| ||
وقوله (2/ 955):
سامحيني إذا اضطربت فإني
| ||
لا مُقَفَىً حبّي ولا موزون
| ||
وقوله (2/ 960):
أوقدي النار فالحديث طويل
| ||
وطويلٌ لمن نحبّ الحنينُ
| ||
تتمة:
قدّم نزار قباني شبه الجملة المعلّقة بالاسم الظاهر بعدها في عدد من الأبيات، والملاحظ أنَّ هذا الاسم وقع خبراً في هذه الأبيات، قال (1/ 37)
هي من فنجانها شاربةٌ
| ||
وأنا أشربُ من أجفانها
| ||
فشبه الجملة (من فنجانها) متعلقة باسم الفاعل شاربة، وأكّد هذا الشطر الثاني، واسم الفاعل ـ كما تعلم ـ يحلّ محل الفعل المضارع.
وقال (2/ 808):
لا يمين يجبرنا ولا يسار
| ||
تحت حدّ السكين نحن سواء
| ||
فالظرف تحت متعلق بالخبر سواءٌ.
وقال (2/ 966):
اركبي الشمس يا دمشق حصاناً
| ||
ولك الله حافظ وأمين
| ||
والتقدير الله حافظ لك.
وبعد فقد تبيّن أن التقديم والتأخير كغيرهما من الظواهر التي كانت في شعر نزار قباني قصد إليها، ولم تأتِ عفو الخاطر، ولم تكن متكلفة، بل كان فيها جمالٌ في التعبير لا يختلف عن جمال شعره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق