خلف عربة الشعر : دراسات في الشعر العربي المعاصر
ثائر زين الدين
من منشورات اتحاد الكتاب العرب

(( الشعر عربة يجرُّها حصانان
هما العاطفة والخيال
ويسوسُها حوذيٌ حكيمٌ
هو العقل )) اليونان
مقدمة
يُسعدني في هذا الكتاب أن أضَعَ بين يدي القارئ الكريم ثلاث دراساتٍ تتناولُ ثلاث ظواهر على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية؛ في الشعر العربي الحديث بعامة، وفي قصيدة التفعيلة بخاصة.
الدراسةُ الأولى ـ وعنوانها "تجلّيات ديك الجن الحمصي في الشعر العربي المُعاصر" ـ تناولتْ بالبحثِ ظاهرةَ استلهام الشخصيات التُراثية في الشِعرِ العربي المُعاصر؛ من خلالِ رصدِ تجليات شخصيةٍ قدمت من التراث الأدبي العربي إلى واحةِ الشعر الحديث.
وقد أصَبَحَ معروفاً أن هذهِ الظاهرة التي شاعت في الثلثِ الأخيرِ من القرنِ الماضي في شعرنا وما كانت معروفةً من قبلُ، تُعدُّ اليوم ميزةً أو سمةً بارزةً من سمات الشعر العربي الحديث.
في هذهِ الدراسة حاولتُ تحديدَ بواعث استرفادِ شخصيّة تراثيةٍ لتصبحَ أداةً تعبيريةً في نصٍ شعري مُعاصر، ثمّ درستُ أشكال استحضارِ تلك الشخصيّة، سواء كان الاستحضارُ "عابراً" أو "سريعاً" يتمثّلُ باستدعاء اسم الشخصيّة أو موقفٍ من مواقفها، أو الدخول في تناصٍ مع نتاجها أو غير ذلك ـ أم كان الاستدعاءُ شاملاً؛ وهو ما أسميتُهُ "استغراقاً كلياً في الشخصية" اقتداءً بالناقد عبد السلام المساوي في كتابِهِ "البنيات الدالة في شعر أمل دُنقل"(1)، وقد وجدتُ أن الاستدعاء الشامِلِ أو "الاستغراق الكلي" يمكن أن يتمّ وفق تقنيتين مختلفتين: الأولى تحدُثُ عندما يتحدُ الشاعرُ المنشئُ بالشخصية التي يستدعيها اتحاداً تاماً؛ فيتقمصها، ويتحدّثُ بلسانِها، أو يتركها هي تتحدثُ بلسانه حسبما تدعو الضرورة المعنوية أو الفنيّة، وقد يستعيرُ ملامحها ومواقفها، وربما أسبَغَ عليها من صفاتِهِ وما إلى ذلك، فإذا هما شخصٌ واحد لا يمكن أن نفصل أحدهما عن الآخر.
والتقنية الثانية تقوم على تواتر الانفصال عن الشخصية والاتحاد بها تبعاً للغايات المتعددة التي يسعى الشاعرُ إلى بلوغها، وقد يفضل الشاعرُ موقفَ الانفصال عن الشخصية، والتحدّث إليها أو عنها أو الدخول في حوارٍ معها، على أن تشكل الشخصيّة محورَ العملِ الفنيِ كله سواء كان قصيدةً أم كتاباً.
ولقد استطعتُ بشيءٍ من الإيجاز أن أدرسَ قصائد مجموعة من الشعراء؛ ممن استدعوا شخصية ديك الجن ومنهم: عمر أبو ريشة، نزار قباني، عبد الوهاب البيّاتي، شوقي بزيع، عبد القادر الحصني، عبد الكريم الناعم، علي كنعان، إبراهيم ياسين، مظهر الحجي، عبد النبي التلاوي.
ثُمّ أشرتُ في نهاية البحثِ باختصارٍ إلى بعض العثرات التي شابت هذه التجارب، مستفيداً في ذلك ـ بشكلٍ أو بآخر ـ من مساهمةٍ رائدة في دراسةِ استدعاء الشخصيات التراثية قدمها الناقد د. علي عشري زايد، وحملت عنوان: "استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر"(2).
الدراسة الثانية: حملت عنوان "الشعر الحديث يستعير تقنيات السرد" وانطلقت من بذور الحكاية في شعرنا القديم، من المشهديّة التي امتاز بها كثيرٌ من نصوصه، ومن الصلة الوثيقة التي يحسّها القارئ والدارسُ معاً بين الشعر والكثير من الفنون، وعلى رأسها: الدراما من خلالِ ما فيهِ من توتّر
وتنامٍ وصراع داخلي بين العناصر والمكوّنات، والقصة القصيرة من حيث تجسيد الشخصية، وتصوير الأحداثِ وسردها وبناء الحواراتِ والمنولوجات وسوى ذلك.
وعليه فقد تناولتِ الدراسةُ الشعر المحض حينَ يستطيعُ صاحبه أن يفيدَ من خصائص جنسٍ أدبيٍ آخر هو القصة القصيرة، متمثلاً أساليبها وتقنياتها لتطوير الشعر نفسه دون الذوبانِ أو الضياع فيها، بقصد التخلص من الغنائية المفرطة، والخروجِ من الذاتية الشديدة فيه والميوعة العاطفية في بعض نماذجه، من خلالِ "موضعة" عواطف الشاعر، سواء بخلقِ شخصيّة منفصلةٍ عن الشاعر تبني النص من الداخل، أو تتحرك فيهِ على غرار ما يحدث في القصّة، أو بتوسلِ السردِ والحكي والحوار والخبر وتصوير الجزئيات، واعتماد المفارقات وما إلى ذلك.
ومثّلتِ الدراسةُ لما سبق بقصيدتين للشاعر محمود درويش هما: "الحديقة النائمة" من مجموعتهِ "أعراس" و"اللقاء الأخير في باريس ـ لذكرى عز الدين قلق" من مجموعتهِ "حصار لمدائح البحر"؛ وقامت بدراستهما من هذا المنظار.
أمّا الدراسةُ الثالثة: فقد تصدّت لظاهرةِ تطوّر جماليات البنية الإيقاعية للقصيدة خلال انتقالها من نمط البيت، إلى النمط المبني على التفعيلة، واقتصرت على دراسة نماذج مختلفة للشعراء السوريين، وقد قُسّمت الدراسةُ ـ لغاياتٍ تحليليّة فحسب ـ إلى ثلاثة فصول؛ ضمّ الأوّل ـ وعنوانه: "في الإيقاع الخارجي لشعر التفعيلة" ـ الإيقاع العروضي، وأنماط التقفية المختلفة، والمزج الموسيقي: بين البحور والتفعيلات المختلفة، بين نظامي التفعيلة والبيت الشعري، وبينَ نظامي التفعيلة وقصيدة النثر.
وتناول الفصل الثاني: "الإيقاع الداخلي في قصيدة التفعيلة" في محاولةٍ لرصد الوسائل والأساليب المختلفة التي استطاع الشاعرُ العربي السوريُ استخدامها لإغناء نصّه موسيقياً من الداخلِ بغض النظر عن الموسيقى الجاهزة؛ أو الخارجية، ومن ذلك مختلف الوسائل ذات المصدر الصوتي التي تتأتى من إيقاع الحروف، في حالِ تشابهها أو اجتماعها أو تكرارها أو افتراقها، من حالات حركات المد المختلفة المتكرّرة، من وضع المفردات نفسها داخل الجملة الواحدة وعلاقاتها المتبادلة تجانساً أو تضاداً أو تكراراً إلى غير ذلك من الطرق.
أما الفصل الثالث فقد تحدّث عن "الإيقاع الناجم عن التشكيل البصري" بشيءٍ من الإيجاز والاختصار، فتناولَ أشكالَ توضع الكلام على الأسطر، وعلاقة السوادِ بالبياض في الصفحة، واستخدام تقنية الأيقونة أو الإطار داخل الصفحة، وتقسيمها أحياناً إلى عدّة أحياز لغاياتٍ محددة كما رأينا في عمل أدونيس الأخير "الكتاب"، بالإضافة إلى تقطيع الكلمة الواحدة، ونثر حروفها على سطورٍ عدة، واستخدام إشارات هندسيّة في النص وما إلى ذلك.
وأخيراً...
إذا قُدّرَ لهذهِ الدراسات الثلاث أن تشكل إسهاماً متواضعاً في رصد جملة من سماتِ قصيدة التفعيلة، فسوفَ يكون هذا جزاءً وافياً لما بذلتُ فيها من جهد.
ثائر زين الدين
الإحالات
1) عبد السلام المسّاوي. البنيات الدالة في شعر أمل دنقل، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1994، 443صفحة.
2) د. علي عشري زايد، استدعاء الشخصيات التُراثية في الشعر العربي المعاصر، منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ليبيا، ط1، 1978، 406 صفحات.
تجلّيات ديك الجن الحمصي في نماذج من الشعر العربي المعاصر
إن الحديث عن تجلّيات هذه الشخصية التراثية أو تلك في الأدب العربي بعامة والشعر بخاصة، لابُدّ أن يُفضي بشكلٍ أو بآخر إلى موضوع علاقة الأدب العربي الحديث والمعاصر بالتُراث؛ وهي علاقة وطيدة ومتنوعة وإشكاليّة، وقد اجتهدَ عددٌ كبيرٌ من الباحثين في دراسةِ هذا الموضوع، في مشرق الوطن العربي ومغربه، وأدلى الشعراءُ أيضاً بدلائهم في هذهِ البئر السحيقة.
ولعل استخدامَ الشخصيات التُراثية ـ وهو يُظهرُ شكلاً من أشكال علاقة الشاعر العربي المُعاصر بتراث أمّته ـ أحدُ الأطوار المتقدّمةِ من أطوار هذهِ العلاقة، التي حددها الدكتور نعيم اليافي بأربعة مواقف هي(1):
ـ موقف الهرب إلى التراث.
ـ موقف الهرب من التراث.
ـ موقف الهرب بالتُراث.
ـ موقف استلهام التراث أو استدعائه.
واختصر د. علي عشري زايد هذه المواقف ـ من الناحية الفنيّة ـ إلى موقفين أو مرحلتين(2) هما: "مرحلة التعبير عن الشخصيّة" أو "تسجيلها"؛ بمعنى أن يتخذ الشاعر المعاصر من سيرة حياة الشخصيّة مادةً يعيد نظمها و صياغتها متقيداً تماماً بما جاء عنها في المصادر التُراثيّة، دون أن يحملها أي دلالات معاصرة، ودون أن يحاول قراءتها بطريقةٍ جديدةٍ أو معاصرة؛ كما فعل مثلاً أحمد شوقي في منظومته التاريخية "دول العرب وعظماء الإسلام"، وهو كتابٌ نظم فيه شوقي شيئاً من السيرة النبويّة الشريفة، وسيرة الخلفاء الراشدين وغيرهم، وكما فعل أحمد محرّم في ديوان "مجد الإسلام أو الإلياذة الإسلاميّة"، وعزيز أباظة في مسرحيّاته الشعريّة: "قيس ولبنى" و "الناصر" و"شجرة الدر"، وحافظ إبراهيم في قصيدته "العُمريّة"؛ التي أعادَ فيها نظم حياة الخليفة عمر بن الخطاب(ر).
أمّا المرحلة الثانية فهي "مرحلة توظيف الشخصيّة التُراثية" أو "التعبير بها"؛ وهي مرحلة تختلف كليّاً عن الأولى، فقد أدركَ الشاعرُ أن دورهُ ليس فقط العودة إلى التراث بهدف نبشه وإحيائه، بل "لينطلقَ منه من جديد في مرحلة جديدة، مزوّداً بالقيم الباقية والخالدة في هذا التراث، بعد تجريدها من آنيتها وارتباطها بعصرٍ معين"(3)، عندها فقط يستطيع أن ينفث الروح في شخصياتِهِ الميتة، فتصبح قادرة على تجاوز حقبتها الزمنيّة، وترفرف في قصائده رموزاً خالدة؛ ذات دلالات حيّة متجددة، قادرة على تقديم قضايانا المعُاصرة والتعبير عنها دون قسرٍ أو تعسّف.
استغرقَ الانتقالُ من المرحلة الأولى إلى الثانية نصفَ قرنٍ تقريباً؛ وهي مدّة زمنية قصيرة جداً، إذا ما قورنت بنظيرتها في الأدب الأوروبي، حيث بدأت حركة إحياء التُراث الإغريقي واللاتيني القديم في القرن الخامس عشر الميلادي؛ مع بداية عصر النهضة، وفي أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل التاسع عشر؛ أي مع الرومانسيّة بدأت مفرداتُ ذلك التُراث الأسطوري توظف وتُستلهم بطرق مُعاصرة(4).
استخدم الشعراءُ العرب ـ ضمن الصيغتين السابقتين ـ عشرات الشخصيات التُراثية، التي استلّوها من مختلف المصادر التُراثيّة؛ دينيةً وتاريخيةّ وأسطوريّةً وأدبيّة وغيرها، فاكتسبت جملةً من الدلالات المتنّوعة، وغدا بعضها رمزاً شاملاً لهذه الفكرة أو تلك، وقد كان حَظُ ديك الجن الحمصي ـ وهو شاعرٌ قادمٌ من التراث الأدبي إلى الشعر المعاصر ـ من التوظيف والاستلهام قليلاً قياساً إلى غيرهِ من الشخصيات: كالنبي محمّد (ص) وعيسى ومريم (عليهما السلام) والخضر والحلاّج والعازر وأيوب وموسى وابن عربي، والمتنبي والحجاج وصالح بن عبد القدوس، وإن انطوى هذا التوظيف على الكثير من الخصوصيّة.
· ديك الجن الحمصي (161 ـ 235هـ)
هو عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن عبد الله بن يزيد بن تميم، وديك الجن لقبٌ غلبَ عليه واشتُهر به، وقد ذكرت الكتبُ جملةً من الأسباب لغلبة هذا اللقب؛ منها أن (ديك الجن) دويبّة صغيرة تعيشُ في البساتين، وكان الشاعرُ يدمن الخروج إلى البساتين في ظاهر حمص. ومنها أن سبب التسمية هو لون عينيه الأخضر، أو ذكرُهُ الديك في شعره، أو جنونه وتقليدُهُ صوت الديك(5)، وما إلى ذلك من الروايات التي قد يرجح الدارسون إحداها، ولكن الأقرب إلى المنطق ـ على ما يبدو لي ـ هو رأي أحدهم حين يقولُ: "ولستُ أردُّ هذا اللقبَ إلى الدويبة المعروفة بديك الجن، وإنما أردّهُ إلى عبث عبد السلام ولهوه.
أكبر الظن أن عبد السلام كان يرفعُ عقيرتَهُ بالغناء وإنشاد الشعر في أخريات الليالي، وهو عائدٌ مع أصحابهِ في سهراته الطويلة، ومجالس الأنس والخمر وغياض العاصي، فيجرح سكون الطبيعة والمدينة الهاجعة"(6).
تعودُ أصولُ أسرة الشاعر إلى قرية مؤتة، وهي قرية من قرى البلقاء في حدود الشام، وقد اشتهرت بالغزوة الإسلاميّة المعروفة. استقرّت أسرتُهُ بعد ذلك في سلمية، ثم انتقلت منها إلى حمص، وفيها ولد ابن رغبان (161هـ = 778م) وتوفي فيها سنة (235هـ = 850م) زمن خلافة المتوكل.
"كان الشاعرُ في حياته قليل التنقل، فكان يقيمُ في حمص أبداً، ولا يغادرها إلا ليذهبَ إلى سلمية، حيثُ يقيمُ صديقاه أحمد وجعفر ابنا علي الهاشمي، فكانا يتوافران على خدمته، وإعطائه ما يحتاج إليه، ولكن الصداقة في هذه العلاقة كانت أقوى وأصح، وهو على الرغم من انزوائه الشديد كان معروفاً بشعره وحياته الخاصة التي تبعثُ على الريبة؛ فهو شاربٌ مدمن للخمر، محب للنساء، بل محب للجمال في النساء والغلمان"(7).
ولم يعرف عن الشاعر أنه عاش حُباً عميقاً إنساني الملامح، مبنياً على المشاعر النبيلة والعواطف الصادقة، لكنه ظل منكباً على ملذاته الجسديّة الحسيّة.
ولعل الأمر الأشهر في حياة هذا الرجل هو حبّه لورد، الشخصية الخلافية التي يحوطها الشك؛ فبعضهم جعلها جارية نصرانية، أسلمت على يديه فتزوجها، والبعض الآخر جعلها جاريةً نصرانية من حمص تجيد الغناء مع فصاحةٍ وبراعة(8) لكن الأهم أن هذه العلاقة تنتهي بمصرع ورد بسيف الشاعر الغيور بعد أن عادَ من سلمية التي قصدها مسترفداً أو مادحاً أحمدَ بن علي الهاشمي.
يقولُ صاحب الأغاني: "وقدّر ابن عمه وقت قدومه، فأرصد لـه قوماً يعلمونه بموافاته باب حمص، فلما وافاه خرج إليه مستقبلاً ومعنفاً على تمسّكه بهذه المرأة، بعد ما شاع من ذكرها بالفساد، وأشار عليه بطلاقها، وأعلمهُ أنها قد أحدثت في مغيبه حادثة لا يجمل به معها المقام عليها، ودس الرجل الذي رماها، وقال لـه: إذا قدم عبد السلام ودخل بيته، فقف على بابه كأنك لم تعلم بقدومه ونادِ باسم ورد، فإذا قال: من أنت؟ فقلْ:
أنا فلان. فلما نزلَ عبد السلام منزله، وألقى ثيابه، سألها عن الخبر وأغلظ عليها، فأجابته جواب من لم يعرف من القصة شيئاً. فبينما هو في ذلك إذ قرعَ الرجل الباب، فقال: من هذا؟ فقال: أنا فلان. فقال لها عبد السلام: يا زانية، زعمتِ أنك لا تعرفين من هذا الأمر شيئاً! ثم اخترطَ سيفه فضربها به حتى قتلها(9).
ومن الجدير ذكره هنا أن عبد السلام كان متشيّعاً لآل علي بن أبي طالب(ك)، وكان يرى هذا البيت أحق بالخلافة، وقد صرح برأيه هذا، وهو على الأرجح ما أثار عليه نقمة الدولة العباسية، أو على الأقل جعله مهملاً مقيماً في حمص وسلمية. ولم ينتقل الشاعر إلى دمشق إلا في آخر أيامه ولسبب قاهر، ولعل ذلك ما يفسر ضياع الكثير من آثار الرجل وتاريخه!
· بواعث استدعاء ديك الجن
أشرتُ فيما سبق إلى قلّة استدعاء هذه الشخصيّة في الشعر العربي المعُاصر، قياساً إلى غيرها من الشخصيات المهمة؛ أو التي أصبحت مهمّةً (شعرياً) من خلال جملة من السمات الدالة التي تتمتع بها الشخصية بذاتها، فتجعلها قادرة على التراسل مع موضوعات مُعاصرة، أو هموم سياسيّة أو اجتماعية أو شخصيّة، فتلتقي تلك السمات الدالة والخاصة بالشخصيّة مع مجموعة من البواعث أو الدوافع المختلفة الكامنة في نفس الشاعر، فإذا بالشخصية التُراثية قادرة على النهوض بما يريد لها الشاعر فكرياً وفنياً.
وبالنظر إلى سيرة حياة عبد السلام، وما وصلنا من شعره؛ فلن نتخيلَ أن الباعث القومي ـ على سبيل المثال ـ قد يكمنُ خلف استدعائه في الشعر المعاصر؛ كما كان الأمر بالنسبة لشخصيّة زرقاء اليمامة وعنترة في قصيدة أمل دنقل "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، المنشورة بعد النكسة بقليل، ولشخصية المتنبي في قصيدة "من مذكرات المتنبي في مصر" للشاعر نفسه، وقد كتبها سنة 1968، مديناً من خلالها عجز المؤسسة العسكرية عن حماية البلاد، وانشغال الحكام بالصغائر، وتجابنهم في رد الأعداء، وكما هي الحال بالنسبة لشخصيات تُراثية أخرى: كسيف الدولة، وخالد بن الوليد والمعتصم وعبد الرحمن الداخل في الكثير من القصائد؛ لأن مثل هذا الاستخدام للشخصيّة يجب أن يتكئ على ما علق في وجدان المتلقّي العربي من صفات هذه الشخصيّة وملامحها وشعرها وأقوالها ومواقفها. وسنستثني على الأغلب البواعث السياسيّة ـ الاجتماعيّة؛ لأن الشاعر المعاصر الذي لجأ إلى استعارة أصوات بعض الشخصيات التراثية ليعبر من خلالها عن همومه السياسية والاجتماعية، في أزمنة القهر السياسي وغياب الحريات، دون أن يجد نفسه في صدام مع السلطات، ودون أن يتحمل تبعات ذلك استطاعَ أن يقع على عددٍ من الأصوات التراثية التي شكلت في زمنها صرخة في وجه الطغيان والقمع منها شخصيات: أبي ذر الغفاري، صالح بن عبد القدوس، الحسين، الحلاج، عنترة، أبي العلاء المعري، دعبل الخزاعي وغيرها.
وإذا كنت قد استثنيتُ أن تكمن البواعث السابقة خلف حضور شخصية ديك الجن في الشعر العربي المعاصر، فإنني أؤكد أهمية البواعث النفسيّة ـ العاطفيّة:
فمعظم الشعراء الذين وظفوا هذه الشخصية؛ فعلوا ذلك بدوافع نفسية
/عاطفيّة، وقد اختاروا الملامح الأبرز من ملامح عبد السلام وهي مثلاً: الغيرة العمياء ـ الشك القاتل ـ الرجل المخدوع ـ القسوة ـ حب الانتقام؛ وما إلى ذلك، انطلاقاً من حكاية عشقه لورد ثّم قتله إياها حين خانته؛ أو حين صوّرواً لـه ذلك، وبعض الشعراء ستلهب مخيلاتهم تلك المبالغة التي دخلت على هذه الرواية، من أن عبد السلام قتل ورداً وغلامه، الذي كان شريكاً في الخيانة، وأحرقَ جثتيهما وصنعَ من رماد كل منهما كأساً، يشرب الخمرَ منها(10).
وعليهِ فقد استخدمَ شعراؤنا هذه الشخصية انطلاقاً من ملامحها التي كانت تلتقي أو تتلاءم في لحظةٍ ما مع طبيعة تجاربهم المعيشة في الحب والشك والغيرة والخيانة والانتقام، أو مع طبائع التجارب التي يريدون التعبير عنها، وقد عمل هؤلاء الشعراء ـ كما سنرى ـ على تأويل هذه الملامح بأشكال خاصة لتلائم تماماً طبيعة تجاربهم العاطفيّة، أو تجارب شخوصهم، التي يجعلونها تتقمص ديك الجن، وتعبر من خلاله، بعد إضفاء جملة من الأبعاد المعاصرة على تلك الملامح.. أمّا البواعث الأخرى، التي تُعدّ على غاية كبيرة من الأهمية فهي البواعث الفنية، وهي بواعث لابد أن تكون سبباً دائماً لكل استدعاءٍ أو استرفادٍ لأية شخصية تراثية، بل لأي عنصرٍ تراثي سواء كان شخصيةً أو حدثاً أو مدينةً أو نصاً أو سوى ذلك، وقد بين الدكتور علي عشري زايد أن هذه البواعث الفنية ـ أو العوامل كما يسميها ـ يمكن حصرها في عاملين: الأوّل يتعلقُ "بإحساس الشاعر المُعاصر بمدى عُمق التُراث وثرائه بالإمكانات الفنية، والنماذج التي تستطيع أن تمنح القصيدةَ المعاصرةَ طاقاتٍ تعبيريةً لا حدودَ لها فيما لو وصلت أسبابها بها، ولقد أدرك الشاعر المعاصر أنه باستغلاله لهذه الإمكاناتِ يكون قد وصلَ تجربته بمعين لا ينضب من القدرة على الإيحاء والتأثير، وذلك لأن المعطيات التُراثية تكتسب لوناً خاصاً من القداسة في نفوس الأمّة، ونوعاً من اللصوق بوجداناتها(11)، وعليه فاسترفاد ديك الجن الحمصي في قصيدة معاصرة يكفي لاستدعاء كل تلك الإيحاءات والدلالات التي ارتبطت بهذه الشخصية في ذاكرة المتلقي ومن ثم وجدانه، وأصبحت كلها عوناً للشاعر في التعبير عما يريده، واكتسبت تجربته الجديدة بُعداً تاريخياً حضارياً، ونوعاً من الأصالة الفنية، وقد عبر بعض شعراء الحداثة العرب عن ذلك في أكثر من مكان(12).
وأشار خليل حاوي إلى أن هذا الاستخدام للعناصر التراثيّة يمكّن الشاعر من الخروج من إسار ذاتيته الضيقة المغلقة إلى تجربة الإنسان في كل عصر(13)، ممّا يكسب التجربة كليّةً وشمولاً ما كان لها دون ذلك أن تكتسبهما.
والعامل الثاني كما عبر زايد "يتمثل في نزعة الشاعر المُعاصر إلى إضفاء نوع من الموضوعيّة والدراميّة على عاطفته الغنائيّة(14)". فاتخذ الشخصيات التراثية أقنعةً أو مرايا أو رموزاً، ساعياً إلى خلق وجودٍ مستقلٍ عن ذاته ـ كما عبرّ البياتي ـ مبتعداً عن طغيان الرومانسية (الذاتية) والغنائية على نصّه (15)، ولعل استعارة بعض التقنيات التي تتميز بها الفنون الموضوعيّة كالمسرح والقصّة والسينما إلى الشعر محاولة على هذه الطريق(16).
والبواعث الأخيرة التي يمكن ذكرُها، هي بواعث ثقافية سببها تأثر شعرائنا المعاصرين، والرواد منهم بخاصة بتجارب الشعراء الأوربيين في هذا المجال، وعلى رأسهم الشاعر والناقد الإنكليزي ت.س. إليوت "الذي كان يصر على وحدة التراث الأوروبي في مختلف عصوره، ويرى أن عملية الفصل بين الماضي والحاضر ليست إلا حالة عقلية في أذهان أبناء الجيل الجديد، وهي ليست من الحقيقة في شيء" وقد تغلب إليوت على هذه المشكلة في فنه عن طريق "الجمع بين الماضي والحاضر في قصائده التي حشد فيها الأساطير والاقتباسات ليخلق من هذا التقابل صورة الانسجام الذي يراه" (17).
وتميّز إليوت بجمعه بين الإحساس العميق بالتراث الإنساني الذي يعود إليه مقتبساً مسترفداً والإحساس العميق بعصره، وأخذ عنه شعراء العربية عودته تلك إلى التراث واستدعاءه، بهدف "إخصاب التجربة العاطفية عند الشاعر بمعادلات موضوعية تمكنه من التعبير عن نفسه بصورةٍ أفضل(18).
ورأينا صدى نظريته المعروفة "بالمعادل الموضوعي" يتردد على ألسنة بعض شعرائنا كصلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي وأدونيس وغيرهم.
وقبل أن أبدأ بدراسة أشكال تجلي شخصية ديك الجن في الشعر العربي المعاصر، عليَّ أن أشير إلى أن النماذج، التي بين يدي نماذج تنتمي إلى المرحلة الثانية "التعبير بالشخصية" ولعل الشعراء العرب لم يفطنوا إلى أهمية هذه الشخصية تعبيريّاً، إلا بعد أن تطورت أساليبهم وتقنياتهم، وتجاوزوا مرحلة تسجيل الشخصية أو نبشها من التراث وإحيائها.
أولاً تجليات ديك الجن العابرة (19)
أقصد بذلك تلك الاستدعاءات العابرة العرضية أو الجزئية التي تتم من خلال الإشارة إلى اسم الشاعر أو موقف من مواقفه، أو الدخول في علاقة تناصٍ محدودةٍ مع نتاجه الشعري، بحيث لا يتجاوز الأمر إفراد فقرة لـه في القصيدة، "ويكون نجاح الشاعر حينئذٍ مرهوناً بقوة الإيحاء وقدرته على شحن جزء من القصيدة بالدلالة التي يشع بها اسم تلك الشخصية المستخدمة، كي تنتقل تلك الشحنة عبر أطراف القصيدة كلها، وتغذيها كما تغذي الكهرباء أجزاء الأسلاك التي تسري فيها"(20).
ومثلُ هذا التجلي نجدهُ عند علي كنعان في قصيدةٍ طويلة عنوانها "غربة صوفي آخر". وهي قصيدة كتبها بين عامي 1993 ـ 1994 ويوحي الاستهلال الذي صدّر به الشاعر قصيدته بعقد مقارنة بين تجربة الشاعر عبد الباسط الصوفي في مستهل الستينيات إلى إفريقيا، وغربته هو إلى اليابان، وتوحي كثرة العناصر والمكونات التراثية في القصيدة (بلغ عددها أحد عشر عنصراً) بأن الشاعر أراد أن يتشبث بكل ما يخطر بباله من رموز عربية وإسلامية، كحبلٍ طويل ومتين يشدّه ـ وهو في اليابان ـ إلى بلاده، ويعكس بصورةٍ شعرية حجم الحنين إلى الوطن، وقد جاء بين تلك الشخصيات التي وردت في القصيدة كـ (هارون الرشيد وشيخ المعرة وعلاء الدين والسندباد) ديك الجن الحمصي، حيثُ وضعه الشاعر قبالة شخصية أخرى امتازت بصفات تناقض ما عُرف عن عبد السلام، لنقرأ هذا المقطع:
"يلبسُ الزلزالُ في الحاناتِ
شكل امرأةٍ
تعتصرُ الروحَ مع الأنفاسِ
في حشرجة النزع الأخيرْ
فإذا الأرضُ تمورْ
وأرى الأشياء والناس سكارى
كيفَ قاومت نداء الجسد الناريَّ
لم تلمس من الرمان في أشهى تجلّيهِ...
ولم تحفل بديك الجن
يا شيخَ المعّرة؟
هاتِ زودني بما أوتيتَ من صبرٍ وحكمهْ
كيف تروي مارجَ الجمر الذي
يزدادُ في الليلِ استعارا؟
ووراء الشعر والخمرةِ والزلزالِ
نجمٌ
يشبهُ الشامَ.. ولكنْ
كُلما حوّشتُهُ في لهفة القلب توارى"(21)
في هذا المقبوس نلاحظ أن المكان حانة من حانات طوكيو في اليابان، وفي مثل تلك الحانات يلبسُ الزلزال جسد امرأة.. ذلك الزلزال الذي يفرض نفسه على أهل البلادِ في الخارج يوميّاً، يتخذ هنا في الحانة شكل امرأة فاتنة، ومن الملاحظ أن الشاعر قلبَ الصورة؛ التي أفاد في تشكيلها من المعرفة الجيولوجية للبلاد؛ فعوضاً عن أن يقول: "تلبسُ المرأة زلزالاً" أو "امرأة زلزال" أو ما شابه، قالَ ما قاله إمعاناً في المبالغة والإثارة.
وفي مثل ذلك المكان، وفي أقصى الشرق ما الشخصيات التي ستستحضرها ذاكرة شاعرٍ كعلي كنعان؟! لابد أن تكون شخصيات مثل: بشار بن برد، أبي نواس، ديك الجن وأمثالها.
في المقبوس السابق يبدلُ الشاعر صيغة الخطاب ثلاث مرات، مبتدئاً بضمير المتكلم، منتقلاً إلى ضمير المخاطب، وعائداً إلى ضمير المتكلم، وعلى الرغم من كل ذلك فهو لا يتحدث إلا عن ذاته وإلى ذاته، فحين ينتقل في السطر السادس إلى ضمير المتكلّم، مخاطباً شيخَ العرة، لن يطول بنا الأمر حتى نكتشف أنه يخاطب نفسه في المعري، مستغرباً أو مستنكراً على نفسه، ألا تحفل بديك الجن في مثل جو الحانةِ ومغرياتها كنايةً بذلك عما يعنيه ديك الجن من انصرافٍ إلى الملذات، مرحاً وخمرةً ونساءً أو كنايةً عما دعا إليه عبد السلام في شعره من مثل قولـه:
بها غيرُ معذولٍ فداو خُمارها
وصل بعشيّات الغبوق ابتكارها
ونلْ من عظيم الرِّدفِ كُلّ عظيمةٍ
إذا ذكرتْ خافَ الحفيظان نارها(22)
وفي كلتا الحالتين تبقى الدلالة ذاتها. وسنكتشف في نهاية المقطع الأسباب التي جعلت الشاعر لا يحفل بديك الجن شأنه شأن المعرّي؛ فهناك وراء كل ما يدور حوله من شراب ونساء طيف امرأة شاميّة، وربما كان طيفُ الشام نفسها؛ طيفٌ يحاول الشاعر أن يلم أجزاءَهُ لكنه يذوب ويختفي.
وهكذا فقد تم استدعاء ديك الجن هنا بهدف استدعاء ما اتصفت به مما ذكرتُه، أو ما قاله من شعرٍ يعكسُ موقفهُ من اللذاذاتِ واقتناصها، وسينتهي الأمرُ عند هذه النقطة، بينما تستمر القصيدة في مقاطعها التالية متصاعدةً قدماً إلى غاياتها
وفي قصيدة "مفردٌ مثل قلبي" لعبد القادر الحصني يأتي ابنُ رغبان كأحد المكوّنات التاريخية لمدينة حمص، وأحد مفردات الذاكرة الشخصية للشاعر:
"ألكني" إلى (الوعرِ):
أنسامه الزرق
أحجاره السودُ...
سوسنه... بالسلام
وَخلِّ البساتينَ
غلّ الشتاءُ عصافيرها
في سقوفِ البيوتِ
وأصحابها في ضلوع الحواري
القديماتِ
تنشرُ أطياف (وردٍ)
على مقلتي (ابن رغبانَ)
زخّات نارٍ
تسحّ دماً في المرايا (23)
لكن عبد القادر سرعان ما يوجّه طاقات هذه الشخصية الإيحائية باتجاه هدفه في التعبير عن الوحدة والانفراد وطعم الموت، الذي يتسرب من كل شيء:
"ترى يا ابن رغبانَ: لم يبقَ غير الفراغ
وطاغٍ على الخمرِ طعم الرماد"(24)
ويعودُ الشاعرُ إلى استدعاء ديك الجن في المقطع التالي للمقبوس السابق لاعباً على إيحاءات الاسم:
"فقلْ يا ابن رغبانَ:
عن أي شيءٍ رغبت
وفي أي شيءٍ رغبتَ؟
هل الأمرُ أوسعُ من رغبتين
وأضيقُ من رغبةٍ لا تريدُ سواها
احتملْ مُرّ عتبي
أنا مفردٌ مثل قلبي
احتملْ ليلةً يُصحلُ الشربُ صوتَ المغنينَ فيها،
وتسهرُ أنتَ المعَّطش وحدكَ
في ليلةٍ قربها!
واحتمل لغةً تستضيفُ المنى في سواء المنايا" (25)"
ونلاحظ أن الشاعر آثر العتب المر على ابن رغبان ـ المفرد والوحيد مثله ـ وكان بإمكانه لو أراد أن يجعل الحالتين تلتقيان، وأن ترفد عزلة ديك الجن (بعد قتلهِ ورداً) وحدةَ الشاعر وتعمقها؛ من خلال تقمص تجربته؛ التي كان يمكن أن تشع بدلالات على جانب كبير من الغنى والعُمق في هذا المقام.
وسيختم عبد القادر نصّه محاكماً عبد السلام وتجربته بشكل عام، متابعاً أسلوبه نفسه، ومفضلاً الخطاب الخارجي مع الشخصيّة:
"... ويا ابن رغبانُ منكسرٌ أنتَ
ها.. (وردُ) والسيفُ
لم يمنحاكَ الأمانْ
ويا أصدقاء الطفولةِ:
هل تذكرونَ حنانْ"(26)
ولعبد الكريم الناعم قصيدة عنوانها "صباحاً طيباً... مساءً ميتاً"، يلجأ الشاعرُ فيها إلى استدعاء (ديك الجن) و (ورد) استدعاءً جزئياً، النص مكتوب في حمص عام 1980، وفيه يعرضُ الشاعر صورتين متناقضتين: الأولى تقدم فئة من الناس تحب الحياة وتعيشها فرحاً ونضالاً، فئة تبدأ يومها بتمني الخير للجميع فتنشر البهجة مع عبارة: "صباحاً طيباً".
"جاؤوا مع الصباح في الصباح
ثلاثةٌ،
قهوتهم، أن الحياة تبتدي برفّةِ الجناح، واستقامة الجراحْ
قلنا: (صباحاً طيباً)، تألق الهواءُ
ألقت الشوارعُ ابتسامةً للشجرِ الممشوق
أطلق العاصي المياه، والعصافير البريئة العيون
ارتحلتْ أحلامُنا مع المياهِ
كان (ديك الجنِ) بيننا شرقيًّ ماء النهرِ
(ورد) كانت تستريح فوق عشب القلبِ،
الكؤوسُ سوسَنٌ مسافرٌ في الروح..."(27)
أمّا الفئة الثانية فهي على النقيض من الأولى، إنها فئة ظلاميّة ولهذا فقد جعل الشاعر حضورها مع حضور الظلام، عكس الأولى، التي ربط الحديث عنها بالحديث عن الصباح:
"أطلقَ المساءُ صرخةً محزونةً
قلنا: مساءً ميتاً؛
تسممَ الهواءُ
كان (ديك الجن) يختنقْ
كان عدُّهم ثلاثةٌ، مثقوبةٌ رؤوسهم
دمٌ على الجدرانِ،والعُنُقْ
كان الدمُ الريفيُ يدخُلُ الجسورَ
يعبُرُ الحارات من وراء طاقةِ البلدْ"(28).
وإذا كانَ عبد الكريم الناعم قد تمكن من دمج القيمة التي تمثلها (ورد)؛ المرأة المحبّة المقتولة غدراً في الدلالة التي أراد التعبير عنها، إلا أنه لم يستطع ذلك فيما يتعلق بديك الجن؛ فالغالبُ على هذه الشخصية، والعالقُ في وجدان المتلقي العربي، أن عبد السلام بن رغبان قاتلٌ سفحَ دم المرأة، التي أحب، بغض النظر عن الأسباب والملابسات التي دعته إلى ذلك؛ وعليه فلن يقبل هذا المتلقي من الشاعر أن يستخدم ديك الجن للتعبير عن مدلول يناقض ما هو معروف عنه؛ وكان الأقرب إلى ملامح هذه الشخصية أن تنسب إلى فئة القتلة؛ فئة "المساء الميت" وليس إلى فئة "الصباح الطيب" ولا شك عندي أن عبد الكريم الناعم لا يمكن أن يقع في خطأ تأويل الشخصية، لكنها مشاعره! ومشاعر شعراء حمص عموماً تجاه هذا الجد الخاطئ!
وفي قصيدة بعنوان "خسوف في القلب" لعلاء الدين عبد المولى، وهي قصيدة يهديها الشاعر إلى محبوبته، يتلامح طيفُ ديك الجن بشكل بعيدٍ جداً وشفيف في ركنين من أركان القصيدة... وقد يبدو للكثيرين ممن قرؤوا القصيدة أن اجتهادي ذهبَ بعيداً هذه المرّة، وأنني أبالغ برأيي هذا، ولكنه إحساسُ الشاعر حين يقرأ شاعراً آخر.. إن القصيدة تنشرُ روحاً أقرب إلى روح المراثي منها إلى سواها، إنها تبدأ هكذا:
"يا وردةً طلعت من الماء الكريم
هي الطفولةُ جمعتنا بعد ليلٍ حلّ فينا
يا أمّ حلمي ـ والليالي مقفراتٌ ـ
إن ضرعَ الفجر أمسحُهُ فيخذلني
وكنت لوحيه الهادي أمينا"(30)
وسنلاحظ في هذا المقبوس ما تثيرهُ مفردتا (وردة) و(طلعت) في أذهاننا؟ من صلة قُربى بمرثية ديك الجن الشهيرة:
يا طلعةً طلعَ الحمامُ عليها
وجنى لها ثمر الردى بيديها
بخاصة حين نضيفُ إلى ذلك إيقاع (الكامل) المشترك بين القصيدتين.
ثم يقول علاء بعد قليل:
"كم ذبحَ الهواءُ قرنفلي
والثلجُ نبضُ حدائقي
والقلبُ كهلٌ كم يحبُ الياسمينا
مُرّي أمامَ المعبدِ المهجورِ
وابتهلي لهذا الكهلِ ينأى في الضبابْ
عكازه شعرٌ
ولحيتُهُ دمٌ يهوى على عطش التُرابْ" (31)
وستخيمّ هذه الروح الحزينة المكسورة على جسد القصيدة كلها؛ وسيبدو حديث الشاعر عن محبوبته أقرب إلى الرثاء... رثاء يذكّر بشكل ما برثاء ديك الجن ورداً، وإن كان ديك الجن قد قتل ورداً فيزيائياً، فيبدو لي أن الشاعر يشعرُ ـ سواء كان في ذهنه ديك الجن لحظة الكتابة أم لا ـ أنه بارتباطِهِ بهذهِ المرأة المحبوبة، وبالعوز الذي فرضه عليها قد قتلها معنوياً:
"نصفي يشيّعُ في المدى العريان نصفي
وعلى جناح الفقر تمضي وحدتي
حُلماً يداري عُريَهُ
أعدو وراء نشيدهِ فيضيعُ خلفي
أختار من رئتيكِ نافذةً تطلُّ عليّ
يشرقُ داخلي بستانيَ الخاوي
وهذا الموتُ يسقطُ كالثمار
من الغبار إلى جدار النار
داري مدفن الأزهار...."(32)
ولن يطول الأمر بالشاعر حتى يعترفَ بأن ما يحيطُ به وببلاده، جعل كل الأحلام تموت، وجعل العشاق يوشكون على ابتياع المقابر لدفن معشوقاتهم:
"وأخافُ أن نمشي وراءَ جنازة الأحلام
في صُبح تُردُّ به الصلاةُ إلى مُصليها
ويرجعُ كلُّ منفيٍ فيملؤه يباسُ الأرض
والعشّاق يبتاعون مقبرةً لدفن العاشقات"(33)
إن علاء لم يستخدم اسماً، أو فكرةً مباشرةً يمكن أن تشي برغبته في استحضار ديك الجن، وربما لم يخطر بباله الأمر، ولكن رغم ذلك فقد أطلت هيئة الرجل "الكهل ينأى في الضبابْ/ عكازُهُ شعرٌ ولحيته دمٌ..." وأطلت روحهُ ـ التي ما زالت تحوّم فوق أحياء حمص ـ من بعض أركان القصيدة، ومنحتها عمقاً نفسياً وروحياً غير قليل.
ثانياً ـ الاستغراق الكلي في شخصية ديك الجن:
في هذا الموقف المهم من موقفي التعامل مع الشخصية التّراثية، نلاحظ أن الشاعر لا يستدعي الشخصيّة في فقرة، أو مقطع أو ركن من أركان القصيدة فحسب، بل يشغل استحضارها قصيدةً كامل، أو حتى مجموعة شعرية أو كتاباً مثلما فعل أدونيس ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ في عمله الأخير (الكتاب) حين استحضر المتنبيّ على امتداد الكتاب كله(34).
سندرسُ في هذا الباب عدة قصائد استغرقَ أصحابُها في شخصية ديك الجن، من خلال موقفهم من هذه الشخصية متحدين بها ومتحدثين من خلالها وفق تقنية القناع، أو منفصلين عنها، ومتحدثين إليها أو عنها وما إلى ذلك.
آ ـ الاتحاد بشخصية ديك الجن (تقنية القناع):
يلجأ الشاعر إلى هذه التقنية حين يشعر أن علاقته بهذه الشخصية بلغت ذروتها، و"أن الشخصية قادرة بملامحها التراثية أن تحمل أبعاد تجربته الخاصة، ومن ثم يتحد بها، ويتحدث بلسانها، أو يدعها هي تتحدث بلسانه، مضيفاً عليها من ملامحه، ومستعيراً لنفسه من ملامحها، بحيث يصبح الشاعر والشخصية كياناً جديداً ليس هو الشاعر، وليس هو الشخصية، وهو في الوقت نفسه ـ الشاعر والشخصية معاً"(35).
ربّما بدأ استخدامُ القناع في الشعر العربي مع حركة الشعراء التموزيين (أدونيس، يوسف الخال، خليل حاوي، السياب) وعند بعض الروّاد كصلاح عبد الصبور، والبياتي، ولكن في كل الأحوال فقد كانت ولادة هذه التقنية في شعرنا نتاج علاقة مثاقفة، وتأثر بالشعر الأنكلو سكسوني في نماذجه المبكرّة كما في قصائد روبرت براوننغ وييتس، ثمّ قصائد عزرا باوند، التي أفاد فيها من طريقة المنولوج الدرامي عند براوننغ وطوّرها إلى ما أسماه "الناطقون personae" وهي تقنية "ينتحلُ فيها باوند شخصية شاعر قديم، فيغدو شاعرين في وقت واحد، ومن خلال هذا الأمر يتحدّث فكرٌ أعظم من أي منهما"(36)، ثمّ جاء التأثر بإليوت، ونظريته في "المعادل الموضوعي"؛ كوسيلةٍ وحيدةٍ للتعبير عن عواطف الشاعر بشكل فني، لينضج تجربة القناع في الشعر العربي؟ حيثُ بدأنا بعد ذلك نرى شاعرنا "يلجأ إلى موضعة عواطفه؟ أي جعلها موضوعية، وكان سبيله إلى ذلك إيجاد تمييز بين أنا الشاعر والأنا الفنيّة، وهكذا فقد وجد نفسه يتحدّث من وراء قناع شخصيّة فنيّة قادتهُ إلى المونولوج الدرامي"(37)، ومن الطريف أن أذكر هنا إن إحدى أقدم القصائد التي استخدمت القناع في الشعر العربي، كانت قصيدة مبنية على قناع ديك الجن الحمصي.
· عمر أبو ريشة([1]) وقناع ديك الجن
يقول الناقد خلدون الشمعة: "ينتمي النموذج المبكّر نسبياً لاستخدام القناع في الشعر العربي الحديث إلى مرحلة تحوّل الحساسيّة الفنيّة، كان الشاعر عمر أبو ريشة قد دشنها في قصيدته (كأس)، التي نشرت في عام 1940، واستعاد فيها عبر علاقة تناصٍ وتماهٍ أسطورة ديك الجن الحمصي؛ الشاعر الذي قتل جاريته الحسناء حُباً بها وغيرةً عليها، قبل أن يجبل كأسَهُ من جثتها المحروقة"(38)
ويرد خلدون الشمعة سبب الريادة هذه إلى "معرفة أبي ريشة المباشرة بمصادر الشعر الإنكليزي، وبخاصة أعمال براوننع وتنيسون"، التي نبهّت الشاعر ـ على حد تعبير الشمعة ـ إلى ارتباط تقنية القناع بالمنولوج الدرامي.
تبدأ القصيدة باستهلالٍ نثري يروي فيه الشاعر بإيجاز قصة قتل ديك الجن ورداً، ثم يعقب ذلك بإيراد البيتين الشهيرين من مرثية ابن رغبان لورد: "أجريتُ سيفي في مجال عناقها..."، وبعد ذلك تبدأ قصيدة أبي ريشة:
مَرّتْ على شفتي نديمِ
دعها فهذي الكأسُ ما
الله في ظل الجحيمِ(39)
لي وقفةٌ معها أمامَ
ونشعر أن القصيدة كلها ستكون استمراراً لصوت ديك الجن في بيتيه اللذين استهل عمر قصيدته بهما، وقد بدأ الشاعر متقمصاً قناعه ومتخيلاً نديماً يجالسه ويمد يده إلى الكأس المصنوعة من رماد ورد ـ على ما يبدو ـ ليشاركه الشراب وقد رأينا كيف نصحَ القناعُ نديمه ألا يشرب من تلك الكأس فهي كأسٌ "ما مرت على شفتي نديم" بمعنى أنها كأسه الخاصة التي لا يريد لأحد أن يشاركه فيها؛ وكأن المشاركة في هذه الكأس وجهٌ من وجوه المشاركة في المرأة التي صُنعت الكأسُ من رمادها. أو أن الشاعر أراد أن يقول إن الحكاية التي تقف وراء الكأس ما مَرت على أحد من قبل، والكأس هذه ستنتصبُ شاهدةً على فعلةِ القناع أمام الله، حيث يكون قد أودعَ جهنم بفعلته تلك.
ويبيّن القناعُ لنديمه أنه يقول لـه ذلك إشفاقاً عليه مما يمكن أن تمثله الكأس:
لفحة البغي الرجيم
دعها فقد تُشقيكَ فيها
على جُذى حبٍ أثيمٍ(40)
وتنفس الشبحِ الشقي
فإذا استغربَ النديم الأمر وظنّ بوعيه الظنون، فنظر إليه مشفقاً، راحَ القناع يروي قصته:
أحسُ بالنُعمى تغنّي!
كانت تغنيني، وكنتُ
إغرائها وهمي وظني
هيفاء، لم يبلغ مدى
كيف ارتضت دنياي دُنياها على قلق وأمنِ (41)
وسنلاحظ أن تقنية القناع عند عمر أبي ريشة ـ وعند غيره بدرجات متفاوتة تتكئ بشكل مباشر على تقنيات السرد المختلفة، فتجعل التواصل مع المتلقي على أشدّه، من خلال كل ما لهذا الأسلوب من ترغيب وتشويق، وسنعلم على لسان القناع أن المرأة أحبته حباً جماً، وألقت كل أمانيها جانباً لقاء أن تبقى إلى جواره، مع أنه لم يكن من عمرها؛ فقد غلبت عليه الكهولة بكل ملامحها:
وأقامَ في عجزي ووهني
الشيب مَرّ بلمتي
تموت وراء جفني (42)
والشوق أحلامٌ مخضّبةٌ
وسينتقل الشاعرُ مستخدماً تقنية سردية ًمعروفة بالقطع (وهي أن يتجاوز الراوي بعض مراحل القصة، أو أن يسكت عن أجزاء من الحكاية لأنها غير مهمة) ليصل مباشرةً إلى جوهر المشكلة:
وما رددتُ لـه جوابا
نادى هواها، فالتفتُ
يدي يستجدي السرابا
وشبابُها الظمآن بينَ
أخفض الطرفَ اكتئاباً (43)
فوجمتُ مجروحَ الرجولةِ
وأمامَ هذا الإخفاق في إرواء ظمأ المرأة يرجعُ الراوي إلى الخمرة، التي لا تخفف عنه، بقدر ما تجعل دمه متوهجاً كالجمر، ثم يروي لنديمه دقائق إخفاقه في الفعل الجنسي، وكأنّه يخشى ألا تصل الأمور على حقيقتها إلى الرجل، أو كأنّه يريد أن يعذّب نفسه باستعادة المشهد:
في يأسِهِ يتضرّعُ
مالت عليّ وطرفُها
صدر الربيع وأمتعُ
وعبيرُها ما سالَ من
غصصٌ، وصكتْ أضلُعُ
فضممتُها، فتنهدتْ
من بعدها ما يطمع
هي نشوةٌ لم يبقَ لي
جراحِها تتوجّع (44)
كم ظبيةٍ قعدتْ بعبءِ
وسيبدو الراوي هنا شديد الرقة، عطوفاً، حين يقارن حاله مع امرأته بحال الظبية التي ترتمي متوجعة من جراحها وهي ترى خشفها جائعاً مروّعاً، فتزحف إليه لترضعه، وتموتُ وضرعُها في فمه وهو لا يشعر.
بعد ذلك ينتقل بنا الراوي إلى مقطع جديد تتغير فيه القافية للمرّة الثالثة، لنرى خلف أجفان المرأة النديّة حياةً تضجُ بالأحلام، وعلى شفاهها ارتعاشات؛ ارتعاشات البسمة تارةً، والبوح المبهم أخرى، فيتحرك الفضول ونهم المعرفة في أعماق القناع ويوشك أن يدنو ليُصغي.. لكنه يتراجع فجأة مُرتجفاً؛ خوف أن يسمع ما يكره! خوف أن تطالعه المرأة بما لا يحب:
تطالعني بما لا أعلمُ
ورجفتُ خشيةُ أن
وجوانحي تتضرّمُ
ورجعتُ أمشي القهقرى
سلوتي تتحطّم(45)
وعلى خُطايَ أرى بقايا
ويسترسلُ القناع في حديثه واصفاً مشاعره وهواجسه ـ التي راحت تزدادُ اضطراباً ويأساً ـ وهو يراقب نوم المرأة، ويتحسس عجزه عن أن يوفّر لها الحب والمتعة في الأيام القادمة؛ وتبلغ الغيرة والأنانيّة أوجهما في نهاية القصيدة حين يأبى على خياله أن يتصوّر مشهد المرأة وقد ضمّها غيره بعد أن وسّد هو التُّراب، مسوّغاً لنفسه ما سيرويه لنديمه؛ من إقدام على قتل هذهِ الصبيّة، وسنرى أن الشاعر عاد إلى قافية المقطع الأوّل، وكأن دائرة السرد قد آن لها أن تقفل، ولأوّل مرّة سيستخدم جملة من جمل ديك الجن التي عرفناها في الاستهلال:
عنهُ أسرابَ النجوم
قبلّتُها! والليل ينفضُ
فوق خنجريَ الأثيمِ
ومدامعي تجري، وكفّي
بهولها حُلمُ الحليمِ
هي وقفةٌ رعناءُ ضاقَ
والنار حمراء الأديمِ
فحملتُ شلوَ ضحيّتي
كأسي ومن تلك الكلومِ
وجبلتُ من تلك الجُذى
الله في ظلِ الجحيمِ
وغداً أحطِّمُها، أمامَ
مَرّتْ على شفتيَ نديمِ (46)
فاشرب ودعها؛ فهي ما
وبنظرةٍ عامة على القصيدة التي عرضتُها أعلاه سنتبيّن أن الشاعر لم يذكر اسم (ديك الجن) أو (ورد) في متن النص، وإن جاءا في الاستهلال، كما أنّه لم يحافظ على قصّة عبد السلام كما عرفناها في الأدب، فقد اشتغل عليها من جديد، وشهدت لديه انزياحيات لا تخفى على القارئ، منها فارق السن الكبير بين ديك الجن وورد، وعجز الرجل جنسيّاً بسبب الشيخوخة، وبراءة امرأة القصيدة من الخيانة؛ التي لا وجود لها إلا في مخيلة الرجل، لقد تجوّل عمر أبو ريشة بحريّة فنيّة واسعة نسبيّاً، ولم يتقيّد بضوابط الحكاية ممّا يدفعني إلى القول إنّه تعامل مع الحكاية بطريقة الامتصاص والتمثّل وإعادة الإنتاج من جديد.
لقد استخدم عمر تقنيّة القناع باقتدارٍ ونجاح قبل أن يستخدمها شعراء الحداثة بعشرين عاماً تقريباً، ولاحظنا أن ضمير المتكلّم الذي استمر يروي من بداية النص حتى نهايته، لم يُحل ولو للحظةٍ واحدة إلى شخصية ديك الجن التُراثيّة، وهو بظنّي لم يُحل إلى شخصيّة الشاعر المعُاصر المنشئ للنص، بقدر ما كان يمثّل (الأنا) الشعرية المنفصلة عن الشاعر، والتي يمكن أن نشبهها (بالأنا) في الرواية أو في القصّة، التي يخلقها الروائي لتقوم بدورِهِ في السرد والبناء، وهذا ما مكّن الشاعر من موضَعَةِ عواطفه ـ وفق تعبير إليوت ـ من خلال هذهِ القصّة التي نسجها، وتلك الشخصيّة التي قامت بالدور الرئيس فيها، وذلك الحوار الذي قادَهُ بين الشخصيّة ونديمها المفترض.
استخدمَ عمر أبو ريشة الملمّح الأكثر طغياناً على شخصية ديك الجن، وهو الغيرة الشديدة، والأنانيّة القاتلة، وحب امتلاك المرأة، التي لا يجوز أن تكون لغيره، وأضاف إلى هذهِ الشخصيّة ملامح جديدة لم تكن لها من قبل، كي تستطيع أن تنهض بحملِ أبعاد التجربة الجديدة التي يُريدها أن تحملها.. وهو من خلالِ هذهِ الشخصيّة، يدين الرجولة الكاذبة؛ الرجولة التي لا تفهم أنها قادرة على تحقيق ذاتِها إلا من خلال الفعل الجنسي، الرجولة الأنانيّة؛ التي تكون مستعدّة لتحطيم الأنوثة، ككأسٍ زجاجيّة، إن تخيَّلت أنها ستكون من نصيب طرفٍ آخر، وكأني بأبي ريشة قد تذكّر ذلك الموقف الرائع بإنسانيّته، المذهل في عمقه، على لسان الشاعر الجاهلي ـ الإسلامي النمر بن تولب يتحدّث عن زوجته:
أوكّل بدعدٍ من يهتم بها بعدي(47)
أهيمُ بدعدٍ ما حييتُ فإن أمت
فقدّمَ في قصيدته نقيضَهُ، لإبرازِهِ وإظهارِهِ للناس!
· نزار قبّاني وقناعُ ديك الجن:
اهتدى نزار قبّاني إلى هذهِ الشخصيّة مبكّراً أيضاً، ولكن بعد أبي ريشة بعشرينَ عاماً، وكانَ من البدهي أن يجد نزار ـ وهو من هو ـ في قناع ديك الجن ضالته الفنيّة التي يستطيعُ من خلالها أن يعبّر عن طيفٍ عريضٍ من مشاعر فريق من الرجال تجاه نموذجٍ معيّن من النساء.
يستخدمُ الشاعر ضمير المتكلم في القصيدة، ونحس ـ نحن القراء ـ أن الضمير هُنا لا يعودُ إلى الشخصيّة التاريخيّة، بقدر ما يعود إلى الشاعر الذي تلبس الشخصيّة، وقد أرادَ نزار منا أن نصلَ إلى هذهِ الفكرة من خلال عنوان قصيدته "ديك الجن الدمشقي"، مع العلم أن الشاعر ـ في قصيدة القناع ـ غالباً "كالروائي ليست لديه أناه الشخصيّة، إنّه مضطرٌ إلى استخدام ضمير المتكلّم لكي يتحدّث إلى القارئ بلغة تدخل في روعِه أو توهمه بأن العمل الفني أشبه بالتجربة التسجيليّة أو التجربة التي يتحققُ فيها عنصر الإمكان" (48).
لقد التقط نزار قبّاني أبرز ما يمكن توقّعه من مشاعر ملتهبة ثارت في أعماق ديك الجن، وجعلته يشعر ـ وهو العاشق المخذول والمخدوع ـ أنه في حالة دفاع عن النفس، وأن من حقّه ـ وقد سفحتِ هذه المرأة الرخيصةُ كرامَتَه ـ أن يثأر لنفسه ـ وأن يكونَ ثأرُهُ تدميريّاً ساحقاً:
يا أرخصَ امرأةٍ عرفتُ
إني قتلتُكِ واسترحتُ
وفي دمكِ اغتسلتُ (49)
أغمدتُ في نهديكِ سكيني
ويشير الدكتور خريستو نجم في كتابه "النرجسيّة في شعر نزار قبّاني"، حين يعّلق، على هذه القصيدة: إن الهجوم ـ عند الشاعر ـ قد يبلغ "حد السادّية الواضحة عن طريق شرعنة العدوان، خلال تأثيم الآخر ووضع الملامة عليه، وتحميله مسؤوليّة المأزق الذاتي أو المأزق العلائقي. فالآخر هو المذنب لأنّه جَرّد الشاعر العاشق من إنسانيّته، وحط من قدره، وحوّله بعمليّة تبخيس إلى عقبة وجوديّة في وجه السعادة وتحقيق الذات المتكاملة" (50)، وعندها لابدّ للشاعر أن يقوم "برد فعل براءة تجاه الذات، التي تبدو ضحيّة يقع عليها الغرم من خارج، ومع رد فعلِ البراءة هذا يفتح السبيل أمام إطلاق العنان للعدوانيّة الذاتيّة في فعل تهجّمي تدميري ضد الآخر المسؤول" (51)، والذي كان سبباً في كل ما يحدث لـه:
طعنتهُ حتى شبعتُ
وطعنتُ حُبّكِ في الوريدِ
ـلَ الدخانُ ولا انفعلتُ
ولفافتي بفمي فلا انفعَـ
ومسحتُ سكيني ونمتُ (52)
نفذتُ فيكِ جريمتي
والحقيقة أن القناع ـ ولا أقول الشاعر كالدكتور نجم ـ كان واهماً بالنصر الذي حققه، وهو هنا كقابيل؛ الذي حَمَلَ جريمته على كتفيه وسار بها، لا يستطيع منها خلاصاً:
طي أعماقي وسرتُ
وحملتُ جثّتك الصغيرةَ
تحت الظلام فما وجدتُ
وبحثتُ عن قبرٍ لها..
أني إليكِ أنا هربتُ (53)
وهربتُ منك وراعني
وتفسير ذلك ـ كما عبر د. نجم ـ "أنه اتحدّ بعمليّة تماهٍ بالموضوع، وعانى مثلما كان يُعاني بودلير من اندماج الضحيّة بالجلاّد، وهذهِ المعاناة تُظهر مدى ساديّة النرجسي ومازوشيّته في الوقت نفسه. وربّما يعود ذلك إلى أساس من التجاذب الوجداني بين ميلين متعارضين متعايشين معاً. فمن المعروف أن كل عاطفة تتضّمن نقيضها، بالرغم أنه في الحالات العاديّة لا يبرز إلا وجه واحد منهما" (54)، ولهذا بالتأكيد كان القناعُ يرى قتيلته في كل شيء من حوله، حتى شعر أنه إنّما قتلَ نفسه ولم يقتلها هي:
وكل فاصلةٍ كتبتُ
في كلِ زاويةٍ أراكِ
في الشراب إذا شربتُ
في الطيبِ في غيم السجائر
حتى بموتكِ ما استرحتُ
أنتِ القتيلةُ أم أنا
وإنّما نفسي قتلتُ (55)
حسناء لم أقتلكِ أنتِ
لقد استنتج الدكتور خريستو نجم ـ من خلال منهج التحليل النفسي الذي اتبعَهُ في دراسة القصيدة ـ جملةً من النتائج المهمّة، لكنّه حمّلها لشخصيّة الشاعر، غير عابئٍ بأن ضمير المتكلّم في قصيدة القناع لا يُحيلُ بالضرورة إلى (أنا) الشاعر، بل إلى (أنا) أخرى مُنفصلة عنها؛ وإلاّ كان علينا مثلاً أن نعتبرَ "سبارتاكوس" في قصيدة "الكلمات الأخيرة لسبارتاكوس" هو أمل دُنقل نفسه، والخيّام في ديوان "الموت في الحياة" هو البياتي وما إلى ذلك.
أما د. علي عشري زايد فقد رأى أن عملية القتل في هذه القصيدة ليست فعليّة (56)، وذلكَ من خلال الدلالات الجنسيّة لمعظم كلمات النص وجمله: "أَغمدتُ، نهديكِ، سكيني، في دمك اغتسلت، طعنتُ، لفافتي بفمي، النزيف، مسحتُ سكيني ونمتُ.. الخ"، وبالتالي ففعلُ القتل في النص كناية عن العملية الجنسيّة، لقد حاول القناع الخلاص عن طريق الفعل الجنسي، ولم يكن يقتل بذلك إلا نفسه، والحقيقة أن النصَ قد يقبل مثل هذهِ القراءة دونَ تعسّف لكثرةِ ما يحيل فيه من المفردات إلى الفعل الجنسي، وبخاصة المفردات التي تمثّل رموزاً ذات مدلولات جنسيّة واضحة.
· شوقي بزيع وقناع ديك الجن:
قصيدة شوقي بزيع عنوانها "ليلة ديك الجن الأخيرة"، ونحن لم نعرف من التاريخ الأدبي خصوصيّة ما لهذهِ الليلة. وسيقوم العنوان بدورٍ كبيرٍ في فهمنا القصيدة، وفي انطلاقنا للتعامل معها؛ منتبهين إلى إلغاء أي افتراض لوجود مصادر تُراثيّة يمكن للشاعر العودة إليها، والدخول في علاقات تناصٍ وتعالقٍ معها تسهمُ في إضاءةِ شيء من حقيقة هذهِ الليلة الأخيرة، وسيتمكن شوقي من الاندماج بقناعه، والذوبان فيه، لنشعر ـ إلى حد بعيد ـ أن هذا الذوبان خلقَ شخصيّةً جديدة، هي مزيج من أنا الشاعر والشخصيّة، وسنرى بعد قليل أن النصَ لن يعيدَ على أسماعنا إنتاج تجربة قديمة معروفة، بقدر ما سيطرح بين أيدينا تجربة قديمة/جديدة، وسيصل الشاعر من خلالها إلى خلقِ نموذجٍ رمزيٍ كلي، يواصلُ حضورَهُ وتجدده في الحياة ما عاشَ الإنسان!
تبدأ القصيدة ـ كما يوحي العنوان ـ من الليلة الأخيرة في حياة ديك الجن؛ حيثُ نراهُ عائداً إلى حمص من مكانٍ ما، مكان صحراوي، لعلّه سلمية:
"مطرٌ يهمي على الصحراءِ أم تخدعني عيناي
قلبي مرجلٌ يغلي
وفي أعضائيَ الهوجاء
تصرخُ ريح رخوةٌ(*)
والأرضُ بستاني البعيد
تتراءى حمصُ لي
مثلَ تآليلَ على الرملِ
كأني نجمها الضائعُ في الأيام
أو ذئبُ صحاريها الوحيد" (57)
وسنفهم أن هذهِ العودة؛ هي عودة يريدُ منها أن يودّعَ حمص، أو أن يزور مواطنَ لهوهِ وحبوره وشقاواته، التي لا تُنسى، لكن الطريق ومنذ البداية لا تقدّم لـه إلا الخوف والقلق والرعب، وأطياف جريمته التي تتراءى بعشرات الوجوه!:
"مطرٌ يهمي على الصحراء
أم ليلٌ بآلافِ السكاكينِ يغطي عورةَ الكثبان" (58)
وفي موقع آخر:
"صائحاً مثلَ غرابينِ على قبرٍ
أريدُ الماءَ، لكني أرى الماء دماً
يقطرُ في جوف النواعير و(ورد) غيمةً بيضاء
يعوي قمرٌ أحمرُ في أعشاب نهديها
وتهتاجُ مناقيرُ دمٍ كاسرة
في ثغرها النائي" (59)
أو نقرأ:
"عائداً نحو ثرى حمصَ
على رأسي جيوشٌ من كوابيسي.." (60)
ويقول:
"هذه الأرضُ لا تنشقّْ(*)
إلا عن ذبابٍ ميّتٍ في برك الوحشةِ" (61)
إلى آخر ذلك من الطيوف المرعبة التي لا يرى سواها، والتي ستلاحقُهُ طوال الطريق؛ حتى إذا بدت حمصُ من بعيد، لم يستطع القناع أن يرى فيها إلا دموعه، التي سفحها، وتجليّات أحزانه، أينَ غابت كل ليالي المرح والصخب وندمان الكأس؟! أين اختفت كل أفراحه، وأيّامه الجميلة؟ التي كانت حمص وعاء لها:
"هي ذي حمص التي أحببتُ
تغفو تحت جفن العين كالدمعةِ
* * * *
حمص النجمة الخضراءُ في مخدعها؛
أرملة العاصي
وفأس المطر الصلب
النواقيسُ وأوجاع الأغاني
كل ما ضاعَ من العمرِ.." (62)
ولن يفهم ديك الجن العائد؛ حين يبحث عن (ورد) والبيت، والباب والنوافذ والأرض... كيف اختفى كل ذلك؟ وأين؟
"لا شيءَ سوى الأصداء
والأيدي التي تنهَضُ كالصّبار
من قلب الدخان" (63)
عندها سيفهم أن الأمور ليست على ما يرام! أيكون مريضاً؟ ممسوساً؟ أم أنّه أخطأ المدينة؟ ولماذا لا يكون الشاعر الذي تماهى مع هذا القناع يريدُ لـه أن يعودَ شبحاً إلى حمص أخرى جديدة؟ شبحاً لا لحم عليه ولا عظم، وهل هجعت روحُ ذلك الشاعر العاثر منذ "حكّمَ سيفَهُ في مجال خناق" المرأة التي عشقها؟ لعلّها ما زالت ترفرفُ فوق بساتين حمص وعاصيها دون أن تجدَ مستقّراً لها:
"أتوارى في وجوهِ الناس كالمخبر
أبحثُ عن عينيَ في أحداقهم
لا أحدٌ يعرفُ من كنتُ
ومن أقصدُ
أحفرُ في الأمكنةِ الصّماءِ كالخلدِ،
ولكن لا أرى (ورداً)
ولا حمص تراني" (64)
بعدَ هذهِ الحالة التي وصل إليها القناع من التشتت والضياع تبدأ أنا الشاعر المنشئ بالحضور شيئاً فشيئاً، مخترقةً وجه القناع ومصعّدةً حالته السابقة:
"من أنا؟
لا أحدٌ يسمعني في ذلكَ القفر
كأن لا أرضَ لي
لا امرأة" (65)
ثمّ تعمل أنا الشاعر على تقديم القناع ـ الذي ارتدته وتماهت به ـ من وجهة نظرها، ومن خلال رؤياها لـه، بصورةٍ تبدو مع ذلك وكأن القناع يفعل ذلك بنفسه:
"كل أنثى امرأتي
وأنا في كل أرضٍ ناشبٌ كالفطر
أو كالجنِ أو كالسمِ
في كل زمان
أنا ديك الشبهات
المتخّفي في الشرايينِ" (66)
وستتابعُ أنا الشاعر هذهِ الغاية، التي ربّما تقّمصت القناع لأجلها؛ حتى تصل إلى تجريد ديك الجن من لحمِهِ ودمه، وأصلةً بهِ إلى مجموعة من الصفات والخصائص، كما يفعل المخبري، أو الكيميائي الذي يقطّر المواد، ويستخلص منها جواهرها، فيكتب معادلاتِها بجملةِ رموز قليلة.. فإذا هذا القناع يصبُحُ رمزاً للشك والغدر:
"أنا الثالثُ في كل سرير
وفي كل عناقٍ بين زوجينِ
أنا الطعنة في الظهرِ" (67).
وإذا به يصبحُ صنو الغيرة والخوف:
"وفي غرفِ النومِ أنا لهبُ الغيرةِ
ريشي جَمْرَةُ الخوف
التي يضرمُها للشكُّ
وأعضائي وقودُ" (68)
ثمّ يصبحُ رمزاً لكلِّ سيفٍ مسلط على أعناق العشّاق الغافلين عَمّا ينتظرهم:
"وأنا فزاعة العشّاقِ
فأس الجسدينِ المُتراخي
أتحرّى في لقاء العين بالعين عن المخرزِ" (69)
وقد أفادَ الشاعرُ هنا من قصّة بكر (غلام ديك الجن) وورد، وافترضَ قصّة عشقٍ ينهيها الديك بفأسِه.
وأخيراً يصبحُ هذا القناعُ عنواناً على الخيانة المنتظرة، على رؤية النصف الخائن المخادع من المرأة؛ فكل امرأةٍ مُدانة حتى تثبت عكس ذلك:
"لا يلفتني في العشقِ
إلا ما يلي القبلة من شوكٍ
ولا يظهرُ لي من جسد المرأةِ إلاَّ نصفُهُ الخائنُ
كل امرأةٍ (ورد) إلى أن يثبت العكس" (70)
وهكذا نلاحظ أن عمليةَ التماهي والذوبان لأنا الشاعر في أنا الشخصيّة التُراثيّة ضمن القناع، ثمّ حدوث بعض الاختراقات في الجزء الأخير من القصيدة؛ عندما حضرت أنا الشاعر وغابت أنا الشخصيّة، جعلتنا "إزاء قناعٍ يفكّر الشاعر في رأسه، ويرى بعينيه، ويدرك العالم بحواسِه" (71)
حتى وإن كنّا نختلفُ مع جوهر هذا الإدراك، ونرفض النتيجة التي يصل إليها القناع مُتحداً بذات الشاعر حين يقول في نهاية القصيدة:
"إذنْ
فلترثِ اللعنةُ لا الحبُّ بهاء الأرضِ
ولينتصَب الخنجر لا الوردة
بينَ الفخذِ والفخذِ
ليحيى الوحش لا الإنسان في صدري
مَرحى
أيّها
الذئب
السماوي
الشريدُ
وليكن أن تفتح الآن مصاريعُ الدم الأسودِ في عينيَّ
أن تنغرز الغيرةُ كالأنياب
في أوردتي الثكلى.." (72)
· إبراهيم عبّاس ياسين وقناع ديك الجن:
لإبراهيم ياسين قصيدة عنوانها الرئيس "نشيد الجمر"، ولها عنوان ثانٍ مكتوبٌ بخطٍ صغير ضمن قوسين: (رقصة ديك الجن الأخيرة). في هذه القصيدة لن نجد إلا حضوراً ضئيلاً لملامح ديك الجن، مقابل طغيان شخصيّة الشاعر المنشئ، ولعل وضع العنوان الفرعي، كمساعدٍ ورديف، كان لغاية تمتين الرابط بين طرفي القناع. القصيدة قصيدةُ حبٍ لامرأةٍ من لحمٍ ودم، لكنّ الشاعر كعادتِهِ يسبغ عليها كل صفات الربّات القديمات (عشتار، إنانا، فينوس...) متحدّثاً بضمير المتكلّم متقمّصاً (انطلاقاً من العنوان الفرعي) ديك الجن في غزلهِ المكتوب بالمرأة:
"لجلالِ سيّدة النهارِ
وربّة الأشعارِ
فاتحة الغناء البكر
عذراء المياه
ونجمة الأمل المطارد بالنيازكِ
والورودْ
وبصولجان السحرِ...
ها أنذا أعبّي بانهمار الفجر أغنيتي
وأنسى كل ما قال المحبّ
وانتقي لغتي لأبدأ من جديدْ" (73)
لكن لغة الشاعر بعيدة جداً عن لغة الشخصيّة، إنّها كما يعبّر لغة جديدة؛ تنطلق من الحساسيّة الشعريّة المعاصرة، ودوافع التقنّع ـ كما هو واضح في القصيدة ـ ليست إلا دوافع جمالية بحتة، وما يميّز هذه القصيدة عن سابقاتها، اعتمادها حواراً يبزغ فيه صوت المرأة، التي تبتعدُ كثيراً عن (ورد)، ثُمّ تقترب منها، حين يبزغ طيف ديك الجن:
"وأنا أحاولُ أن أهيئً..
ما استطعتُ من الغناء
ومن نشيد الجمر في شفتي لسيّدتي التي تأتي
ولا تأتي ـ أحبّكِ
ـ لستُ زنبقةَ النهار
وليس لي قمرٌ أعلّقُهُ
على أبواب هذا الليلِ
ـ أنت طفولة الأفراح سيّدتي
وخاتمة الجراح الموسميّةْ
ـ لكنني امرأةٌ من الصفصافِ.. أنثى تشتهي في الماء صورتها..
وآمالي قصيّةْ"
إلى أن يقول:
"وأخاف مني حين يبتدئ الشتاء
وتنبت الأشواق كالأشواك في جسدي
كأن مصارع العِشّاقِ ماثلةٌ أمامي
وأخافُ منكَ..
أخافُ ديك الجن فيكَ
وخنجر الشكِ المرصّع بالتماعات الجنون" (74)
لقد أخذَ إبراهيم عباس ياسين من ديك الجن صفةَ الشكِ بالمرأة، الذي قد يشكّل سبباً للقتل، ولم تجئْ هذه الصفة على لسان القناع، بل على لسان المرأة التي تحاوره، لتكشفَ خوفاً قديماً وخفيّاً يقبع في أعماق المرأة من الرجل.
بعد ذلك سنلاحظُ آلامَ القناع الوجوديّة تكبر... وتمتد لتخرجَ عن حجمه، أي عن صفاته وملامحه وأفكاره التي نعرفها، وهذا ما جعلني أؤكد منذ البداية أن شخصيّة الشاعر المنشئ طاغية على شخصيّة قناعِهِ بشدّة، وسنراه بعد قليل يسحَبُ ديك الجن من عصرهِ إلى عصر آخر؛ تختلفُ فيه طبيعة الأمور والمشكلات والأزمات، بل سيبزغ صوت أوسع بكثير من صوت ديك الجن، ومناقض لـه:
"هل كلّما ازدحمت بنا الدنيا
سندخُلُ في متاهٍ حين نخرجُ من متاه؟
ضاقت بنا مُدنُ الحريرِ
وضاقت الأيام
ضاقَ البَرّ.. ضاقَ البحرُ..
ضاقتْ فسحةُ الأمل الأخير، لنعترفْ
أنّا انتظرنا ـ دونما جدوى ـ
ولادةَ كوكبٍ فوق الدّجى، فلننصَرفْ
نحن الذين نقدّس الأزهار والأشعار
نون النسوة المسكون بالأسرار
* * *
لا سهلَ ترعى فيه غزلان الصبابة بعدُ
لا قمرٌ يضوئ حلكةَ الروحِ الأسيرةَ
لا جبلْ
نأوي إليه
ولا طريق سوى الطريق إلى انكسارات الأملْ" (75)
في هذا المقبوس لم نَرَ ديك الجن؛ وهل كان الرجل يقدّسُ (نونَ النسوةِ المسكونةِ بالأسرار)؟ وهل كان يرقبُ (ولادة كوكبٍ فوق الدجى) إلى آخره...
إن مثل هذا الصوت الطاغي في المقطع وما يليه (باستثناء بعض أركان القصيدة) سيحيلنا إلى رأي الناقد عبد الرحمن بسيسو، الذي مفادُه أن بعض العناوين تغيّب صوت الشاعر عن نصّه منذُ البداية ـ كما رأينا في العنوان الفرعي ـ "غير أنّ هذا لا يُلغي احتمالَ اختراق صوتِ الشاعر صوتَ قناعه، وظهورَ وجهه على سطح النص، وذلك من خلالِ توقّف اشتغال بؤرة التشخيص الغنائي الدرامي الذي تضمَّنُ أنا الشاعر في أنا القناع، لمصلحةِ تشغيل البث الغنائي الذاتوي المباشر، التي تُظْهِر أنا الشاعر، منفردةً ومعزولة" (76)
لكن هذين الصوتين (صوت الشخصيّة التُراثيّة، وصوت الشاعر المنشئ) يعودان في مقطع آخر إلى الاتحاد في القناع الذي يخاطب المرأة، وهي تتقمّصُ (ورداً):
"موتي إذاً
لأراكِ أقربَ من سحابٍ سابحٍ
يبكي على وطنٍ قتيلْ.
موتي.. لأنقشَ في ضمير الليل أغنيتي
ويا.. يا قلبُ هَلْ صدّقتَ ـ كيفَ؟ ـ نداءَ من عشقوا،
لنذهبَ في أقاليم الدموع..." (77)
وتبدو هذهِ الدعوة إلى موت المرأة، غير مسوّغة، للوهلة الأولى، إلا من أجل الاقتراب من ملامح القناع؛ وربّما كي يشير الشاعر إلى حقيقة نفسيّة مفادها أننا نشعر بحبّنا للمحبوب ساعةَ يذهب ويبتعد عنّا...
وقد يتضخّم هذا الحب ويغدو أسطوريّاً، حين يموت المحبوب، لكننا إذْ نوغل في النص قليلاً نلاحظ أن هناك غايات فنيّة أخرى وراء ذلك؛ ومنها رغبة الشاعر في دمج شخصيّات شعريّة تراثيّة، عاشت قصص حب جارفة ـ كالحب الذي تقدّمه القصيدة ـ في قناع ديك الجن نفسه، فمثل الدعوة السابقة إلى موت المرأة المحبوبة نجدهُ عند نُجبة بن جُنادة العذري الذي يقول:
من نحو بلدتها ناعٍ فينعاها
من حبّها أتمنّى أن يلاقيني
وتضمر النفسُ يأساً ثم تسلاها
كيما أقولَ وداعٌ لا لقاء لَهُ
يا بؤس للموتِ ليت الدهر أبقاها
ولو تموتُ لراعتني وقلتُ لها
ويؤكد ما ذهبتُ إليه، من رغبة الشاعر في دمج أصوات أخرى في قناع ديك الجن؛ مجموعةٌ من التناصات التي تحيلنا إلى شعراء آخرين، كقولـه مثلاً:
"أوَ كلّما ناحت مطوّقةٌ
ببابِ الروحِ كنتَ لحزنها الليلي
فاتحةَ العويل" (78)
أو كقولـه في موضع آخر:
" (يا صَاحبيَّ قفا) فإني مُتعب
حتى نهايات النداءِ، تعبتُ منّي
كُلّما آنستُ عشقاً في اغترابِ العُمرِ
يفجؤني الرحيلْ" (79)
إنّه في هذين المقبوسين يحيلُ إلى عددٍ غير قليل من الشعراء الذين بكوا لبكاء حمامةٍ على غصن؛ مذكّرةً بحبيبة أو أهل أو وطن بعيد، وإلى عددٍ أكبر من الشعراء الذين وقفوا واستوقفوا أصحابهم، على أطلال محبوبة، فبكوا واستبكوا، وسألوا وتساءلوا عن الحب وهمومه، وهكذا يُصبح الرجل المتحدّث في القصيدة رجالاً، والشاعر شعراء، بل نصبح أمام روح ذكوريّة عاشقة؛ خالدة، ويصبح الحديث عن حب المرأة في القصيدة، ليس حُبّاً لامرأةٍ بعينها، بقدر ما هو حبٌ للأنوثة الخالدة، للروح السامية، التي تنتقلُ في النساء من زمنٍ إلى زمن، وتبقى معشوقةً ومثيرةً للعشق في عصورها كلها...
ولهذا نجد المرأة التي يتوجّه القناعُ إليها بالخطاب تُبعَثُ بعدَ الموت من جديد! بل من رماد موتها:
"ذهبت لتصعدَ في ابتهالات السماوات
التي اشتعلتْ بأقمار النخيلْ
حتّى إذا انكسرتْ كقافيةٍ
وبللها النداءُ الجارحُ الأصداء..
في شفة التلولْ
نهضت من الموت المقدّس كالصلاة..
كأن من أسمائها الحُسنى "البتولْ"
ومضتْ لتعلن ـ رغم ليل الموت ـ فاتحةَ القيامةِ..
من رماد المستحيلْ" (80)
ب ـ بين الانفصال عن الشخصيّة والاتحاد بها:
في هذا الشكل التكنيكي من التعامل مع شخصيّة ديك الجن، نلاحظ أن الشاعر المعاصر لا يتخذُ موقفاً واحداً منها، كما رأينا في قصيدة القناع، فهنا قد ينتقلُ الشاعرُ بين موقفي الاتحاد بالشخصيّة والانفصال عنها، وقد يفضّل الشاعرُ حالةَ الانفصال فحسب، كل ذلك من خلال تنويعه في أساليب الخطاب فقد يتخذ موقف المتحدّث إلى شخصيّة الديك من خلال ضمير المخاطب، أو يتحدّث عنها مستخدماً ضمير الغائب، وقد يعود إلى الحديث من خلالها باستخدام ضمير المتكلم، مقوداً في كل هذه الحالات بالضرورات الفنيّة والغايات المختلفة التي يسعى إلى تحقيقها في القصيدة، وفي الحالات السابقة كلها تظل الشخصيّة التراثية محوراً للعمل.
· عبد الوهاب البيّاتي وديك الجن:
عبد الوهاب البيّاتي أكثر الشعراء العرب استخداماً للشخصيّات الُتراثيّة؛ فقد وجدنا في قصائده حضوراً لشخصيّة النبي محمد e، وعيسى u، والمتنبي وأبي فراس الحمداني وسيف الدولة، والحلاّج والمعرّي وطرفة بن العبد، والإسكندر المقدوني، والخيّام وعائشة، وديك الجن الحمصي، وغيرها من الشخصيّات القديمة، التي تجاورتْ في قصائده مع شخصيات حديثة: بيكاسو، وهمنغواي، وألبير كامو، وناظم حكمت وجواد سليم، وعبد الله كوران ومالك حدّاد، وقد كتب البيّاتي في كتابه "تجربتي الشعريّة" أنه لجأ إلى استحضار كل تلك الشخصيّات محاولاً تقديم "البطل النموذجي في عصرنا هذا، وفي كل العصور في (موقفه النهائي)، وأن يعبّر عن النهائي واللا نهائي، وعن المحنة الاجتماعيّة والكونيّة التي واجهها هؤلاء، وعن التجاوز والتخطّي لما هو كائن إلى ما سيكون، ولذلك اكتسبت هذه القصائد هذا البعد الجديد الذي يجعلها تولد من جديد، كلّما تقادم بها العهد" (81)
وبين تلك الشخصيّات التي ذكرتُها ينتصَبُ ديك الجن الحمصي، حيث يفرد لـه البيّاتي قصيدةً تحملُ اسمه، من مجموعتِهِ "الموت في الحياة/الوجه الآخر لتأمّلات الخيّام في الوجود والعدم"، الصادر عام 1968، والحقيقة هذه القصيدة لا يمكن أن تُفهم، أو أن يصل قارؤها إلى شيء ممّا أراد الشاعر قولـه فيها، إلا من خلال علاقتها بقصائد المجموعة كافة، ولاسيّما القصائد التي سبقتها، ومن خلال عنوان المجموعة، الذي يشير صراحةً إلى أن القصائد هي الوجه الآخر لتأمّلات الخيّام في الوجود والعدم؛ تأمّلات الخيّام الذي لبسه البياتي قناعاً شاملاً أحياناً، وانفصلَ عنه وحاورَهُ تارةً أخرى.
قصيدةُ "ديك الجن" هي السادسة من حيث الترتيب في المجموعة، وقد رأينا في أربع القصائد الأولى (82) تلكَ الرحلة التي دفَعَ البيّاتي الخيّامَ ليقوم بها إلى العالم السفلي؛ باحثاً عن عائشة، باسطاً أمامنا قصّة الحب التي تربطهما: من وجهة نظر كل منهما، وتحوّلاتهما، عبر عمليات تناسخ يتقمّص خلالها الخيام عدداً من الشخصيّات العاشقة من بينها "لوركا"، وتتقمّص خلالها عائشة نفراً من النسوة العاشقات "عشتار، أوفيليا، ليلى العامريّة، الجارية الروميّة" فنرى أنفسنا ـ كما عَبّر د. محيي الدين صبحي ـ "تجاه جريانٍ روحي، أو سيولة أسطوريّة، أو تدفّق غرامي غير معقول، في عالم الموت والحُمّى والذهول والبحثِ المتواصل عن الحبيب الهارب، في سلسلة من العود الأبدي يتقمّص فيها كل من الأبطال ذاتاً أكثر اكتمالاً، أو ذاتاً تمثّل عصراً من العصور ـ ليس بالضرورة عصرها" (83).
وعلى ضوء ما سبق حين يفتتحُ الشاعرُ قصيدة "ديك الجن" بمقطعٍ حواري على لسان شخصيّةٍ ما تتحدّثُ؛ سيتبادر إلى ذهننا أوّلاً أن المتحدّث هو الخيّام (من خلالِ رحلتِهِ تلك):
"رأيتُ ديكَ الجنِ في الحديقة السريّهْ
يضاجعُ الجنيّهْ
يغمرُها بالقبل النديّهْ
يسحقها بيدهِ الصخريّهْ
ويشعلُ النيرانْ
في جسمها المبتّل العريانْ
لكنّها تفرُّ قبلَ ذروةِ العناقْ
تعودُ للأعماقْ" (84)
وسيخبرنا الراوي أن الجنيّة تموتُ في جزائر المرجان بعد أن تغرقَ إلى القاع، ويسقط الإكليل عن جبينها؛ لتزحفَ جحافل الديدان فوقَ وجهها، مُذكِّراً من خلال صورة سقوط الإكليل وغرق المرأة، بغرق أوفيليا في "هاملت" شكسبير.. بعد ذلك يعودُ الصوت نفسه ليقول لنا:
"رأيتُ ديكَ الجن في القاع بلا أجفان
على جواد عصرِهِ المهزوم
يقاتل الأقزامْ
مُهاجراً في داخل المدينةْ
من شارعٍ لبيتْ
على جواد الموتْ" (85)
وسيحسُ القارئُ ـ ولاشك ـ أن هذا المتحدّث ينحرفُ بشخصيّة ديك الجن كثيراً عن ملامحها التُراثيّة؛ فهي هنا شخصيّة مُناضلة، تقاتلُ من شارعٍ إلى شارع، تقاتل الأقزام؛ كناية عن رجال السلطة؛ في زمنٍ هو أقرب إلى زمن الهزيمة، ولو ربطنا هذهِ القصيدة بسابقتها: "مراثي لوركا" فسنلاحظ علاقة التناص بين الاثنتين؛ فالوصف الذي قرأناه أعلاه لديك الجن، كنّا قد قرأناه للوركا؛ وكأن البياتي أرادَ لعبد السلام بن رغبان أن يتماهى مع لوركا (86)، وسيصبح الأمرُ أكثر وضوحاً في المقاطع التالية حين يعلو صوت لوركا نقيّاً، ثم تبزغُ في القصيدة عِدّة أصوات لا يُعرفُ أصحابُها أو مصدرها على وجه التعيين، منها مثلاً الصوتَ الذي يقول:
" ـ مدينةُ الخناجر الخفيّة!
هاهي ذي الجنيّة
تعودُ بعدَ موتها صبيّهْ
جاريةً روميّهْ" (87)
ويبدو هذا الصوت خارجيّاً؛ لا علاقةَ لـه بالخيّام أو ديك الجن أو لوركا.. مع أن المدينة قد تكون (مدريد) التي سيردُ ذكرُها لاحقاً، ثمّ يعلو صوت جَدّةٍ شخصٍ ما؛ من شخوص القصيدة وهي تقدّم النُصح:
" ـ إياك والوقع في حبائل النساء
تقولُ جَدّتي وتمضي الليلَ في الدُعاء" (88)
وسيعودُ صوتُ الجدّة هذا للظهور فيما بعد ليتحدّثَ عن (علامة الساعة) المرهونة بظهور الأعور الدّجال؛ وموت الرجال بالمجّان في مُدن الدخان، ولكن قبل أن نصل إلى ذلك كان على الخيّام أن يتابع وصف مشاهداته:
" ـ رأيتُ ديكَ الجن في فردوسِهِ مطرود
يصطادُ في قفار ليل موتِهِ الأسود
والكلمات السود
مُلطّخاً بالحبرِ والغُبار
وعرق الأسفار
تنبحُهُ الكلابُ والأصفارْ
وحاجبُ الخليفة" (89)
وهنا يُتابع الشاعر ترسيخ صورةِ ديك الجن مناهضاً للسلطة ممثّلةً بحاجب الخليفة والكلاب والأصفار، وسيزدادُ الصوت السابق غضباً وقسوةً، حين يحاول رسمَ عوامِلِ سقوط الحضارات؛ وعلى رأسها تفشّي الطغيان والجريمة، وقمع الحريّات، وكثرة الدجّالين والانتهازيين والمرائين، وحلول صغار الكَتَبة في مواقع الكتّاب والشعراء الحقيقيين:
" ـ ضفادعٌ تمسك في حافرها الأقلام
تكتبُ ما يقولـه الطغاةُ والأقزام
ـ هاهي ذي الصحائفُ الصفراء
تمجّدُ الطغيانَ والجريمة
تغمرُ في كل صباحٍ هذهِ المدينة
ـ الحاجبُ الأصمّ والبّواقُ والطبّال
فرسانُ جيل العارْ
يلطخّونَ رايةَ الثوّارْ
بالدمِ والأوحالْ" (90)
وبعد ذلك يعلو صوتُ لوركا صافياً من جديد، وكأنّهُ أزاحَ الخيّام الذي قادَ الحديث فيما سبق، أو كأنّهُ قد تماهى فيهِ تماماً ليتحدّثَ من خلاله:
" ـ كنتُ على ظهر جوادي الأخضر الخشب
أقاتل الأقزامَ في (مدريد)
أيتها الجاريةُ الروميّة
لا تطردي الغريب" (91)
بعد ذلك تطغى على هذا الصوت ملامحُ ديك الجن، ليزدادَ حجم التناص مع نصوص الشاعر السابقة مثل "مراثي لوركا" و"مرثية عائشة" لتأكيد فكرة التماهي بين الشخصيات الثلاث (الخيّام، ديك الجن، لوركا)؛ إضافةً لوجود تناص ـ هو أقرب للتأثّر ـ مع قصيدة (كأس) لعمر أبي ريشة:
" ـ أنا أميرُ الليل
قتلتها بالسيفْ
تحتَ سماء الصيفْ
مرنّحاً سكرانْ
أشعلتُ في أشلائها النيرانْ
صنعتُ من رمادها فراشةً ودميهْ
وقدحاً مسحور
لا أرتوي منه، فيا خَمّار حان النور
ماذا لنار بعثها أقول؟
* * * *
غداً ـ أمام الله ـ في الجحيم
أحطّم الدمية والقدح
أتبعها عبر الممّرات إلى الفرات
أبحث في مياهِهِ عن خاتمٍ ضاع وحبٍ مات.. الخ" (92)
لكن القصيدة ـ مع الأسف ـ لا تنتهي عند الصوت السابق، بل يجبرنا البيّاتي على الإصغاء إلى صوت آخر، مجهول، يأتي زائداً ومكرِّراً ما سبق:
"ـ أنا أميرً حلب اليتيمْ
مهاجرٌ في داخل المدينة
من شارعٍ لبيت
على جواد الموت" (93)
لقد أراد البيّاتي في هذهِ القصيدة أن يقدّم صورة الشاعر المناضل العاشق؛ من خلال تداخل الأصوات السابقة وتماهيها معاً في كلٍ واحد، وأراد أن يرصد عوامل اندثار الحضارات الإنسانيّة، من خلال هذا الاختراق الغريب للأزمان منذ عهد الخلفاء والسلاطين، مروراً بأوربّا عصر النهضة، حتى اللحظة الراهنة، ولكن الشاعر وقَعَ في عدّة عثرات فنيّة أذكر منها:
ـ القراءة الخاطئة لشخصيّة ديك الجن الحمصي؛ تلك القراءة التي بدت واضحة في تحميل هذه الشخصيّة ما لا طاقةَ لها بحمله، فالبياتي نفسه الذي أصّر على تميّز الشخصيّة المستدعاة بسمةٍ دالة يستطيع من خلالها الشاعر المعاصر أن يعبّر عن مدلولات معاصرة، والبيّاتي نفسه الذي رأى في بعض الشخصيّات التي استخدمها أدونيس (كبشار بن برد، ومهيار، وعبد الرحمن الداخل) شخصيّات لا تتمتّع بسمات دالة تؤهّلها للاستخدام في قصائد مُعاصرة نجدهُ يستخدم ديك الجن للتعبير عن الثائر العاشق، ويخلقُ ذلك التماهي بين ديك الجن ولوركا؛ فإذا بديك الجن ثائرٌ لا يشقُّ لـه غبار:
"يقاتلُ الأقزام
مُهاجراً في داخل المدينةْ
من شارع لبيتْ
على جواد الموت".
ـ محاولة المزج والتماهي، التي أرادَ البّياتي تحقيقيها بين الخيّام ولوركا وديك الجن، مدفوعاً برؤياه الفكريّة التي أرادَ التعبير عنها لم تستند إلى التطابق المطلوب بين صفات هذهِ الشخصيّات؛ التي لا نكاد نعثر على خيط يربط فيما بينها.
ـ في القصيدة جملة أصوات وتناصات زائدة، تثقلُ كاهل القصيدة، وتشتتها، منها مثلاً صوت (أمير حلب اليتيم) الذي يختم القصيدة، ومنها تلكَ الإحالة التي يقوم بها صوت لوركا إلى حادثة سقوط نصيف المتجرّدة زوج النعمان بن المنذر:
"أقاتلُ الأقزامَ في (مدريد) أيتها الجارية الروميّة
لا تطردي الغريب
قلتُ لها ـ وسقطَ النصيفْ
على بساط العشب في المغيب
تناولته وبكتْ عُريَ سماء ليلةِ الخريفْ"
· مظهر الحجّي وديك الجن
للشاعر السوري مظهر الحجي قصيدة عنوانها "ولديك الجن مآربُ أخرى"، يستخدمُ فيها من الناحية التقنيّة صيغة تعدّد ضمائر الخطاب؛ فالقصيدةُ تبدأ على لسان راوٍ ما بصيغة ضمير الغائب، ثُمّ يخلق الشاعرُ حواراً بين شخصين أحدهما قد يكون الراوي نفسه، والثاني ديك الجن؛ بحيث يستطع أن يتقمص الشخصيتين. يبدأ الراوي حديثه مخاطباً ديك الجن (بضمير المخاطب)، ويردّ الديك دون أن يعبأ كثيراً بالتساؤلات، متحدّثاً وكأنّه يهذي أو يخاطب نفسه من خلال ضمير المتكلّم بالطبع، وسيقطع الراوي الحوار حينما يشاء ليعود إلى ضمير الغائب، مُتحدّثاً عن الشخصيّة أو مُعلّقاً وما إلى ذلك.
تتكوّن القصيدة من مقطعين أولهما قصير قياساً إلى الثاني.. وسنرى الشاعر في المقطع الأوّل شديد الأمانة إلى ملامح شخصيّة ديك الجن:
" من هذا النابتُ في عز الليل الموحش
سيفاً؟!
يستأصلُ شأفةَ عشقٍ غادر
يستأصلُ في هذا الليل المتدّثر بالحزنِ
منابت حُبّه
وشظايا قلبه
من هذا الهالكُ حسراتٍ.. حُبّاً وحبيباً؟!" (95)
وسيركزّ الشاعرُ في هذا المقطع على مأساة ديك الجن في قتل زوجته، وعلى فكرة تطهّر الرجل من فعلتِهِ بالألم والمُعاناة:
"يا وردُ احترقي فيّ فناركِ طُهرٌ
يا وردُ وناركِ غفران
يا وردُ وإنّي ظمآن
ورحيقكِ يا وردُ أمان" (96)
أما المقطع الثاني فيخصصه الشاعر لغايات أخرى أو ـ إن شئنا أن نستلهم العنوان ـ لمآرب ديك الجن الأخرى.. وهي مآربُ تشابه ما رأيناهُ عند البيّاتي؛ لكنها لا تبلُغُ ذلك المبلغ.
يبدأ الأمرُ بتساؤلات يطرحها مُحاور ديك الجن، تأخذ أحياناً صيغة السؤال الاستنكاري:
" ـ ولماذا تتطوّحُ في هذا الدرب
ولماذا تتبطّنُ سيفك؟
ولماذا يقتلك الجوع؟
ولماذا لا تسفَحُ ماء الوجهِ بأعتاب السلطان
فتثري
والمال يكمّمُ أفواه الشعراء ويخنقهم
والمالُ لجام الشعراء المفتونينَ
وما أكثرهم؟" (97)
مظهر الحجّي في المقبوس السابق ينطلقُ ممّا عرفناهُ عن الشاعر من عزوفٍ عن مدح الأمراء والخلفاء، فلم يُعرف عنهُ ـ في هذا الباب ـ إلاَّ مدحُهُ للأميرين الهاشميين في سلمية، لأنّه كان يؤمن بهما، وبنسبهما وحقّهما في السلطة، وكان يرى مدحَهُ لهما شرفاً ورفعةً لـه، بالإضافة إلى صداقته الشخصيّة معهما. في المقطع السابق يحسُّ القارئ أن الشخص الذي يحاور ديك الجن هو الشاعر نفسه، فالخطاب يصدرُ عن وعيٍ حديثٍ لدور الشعر وغايته، ولطبيعة العلاقة بين الشاعر والسلطة.. وسيتأكّد رأيي هذا على مشارف نهاية القصيدة، حين يسحَبُ المحاورُ الزمنَ من زمن ديك الجن حتى اللحظة الراهنة، حيثُ يتخذ مظهر الحجّي من موقف ديك الجن الرافض للمدح والتكسّب عنواناً لإدانة الكثير من شعراء اليوم، الذين يتمسّحون بأعتاب السلطان، ويبيعون كل شيء لقاءَ المكاسب المختلفة، فيصبحونَ أبواقاً ينفخُ فيها السلطان ما يشاء:
" يا ديك الجن تعالَ الآن لتشهدَ نُكراً
حُبّاً قزما
سيفاً قزما
شعراً قزما
بوقاً.. يتمسَّحُ أعتابَ السلطان
ويبيعُ الأرضَ
يبيعُ العرضَ
يبيعُ الله بدينار مثقوبٍ
يا ديكَ الجن تعالَ الآن
لتشهد كيفَ يصيرُ الشاعرُ طبلاً مثقوباً.. الخ" (98)
وإذا كنّا نوافقُ الشاعر أن شخصيّة ديك الجن قد تصلحُ لتُرفَعَ عنواناً على الإدانة السابقة ـ وهذا أمرٌ غير مؤكّد! ـ فهل نوافقُ على جعلها عنواناً على الثورة (كما فعل البيّاتي من قبل)؟:
"ولديك الجن مآربُ أخرى
ولديك الجن بجمر الصحراء أمانٍ مُرّة
ولها ديك الجن يجوعُ ويعرى
ولديك الجن أمانٍ
في أن يورقَ دربُ السلميّةِ
سعفاً.. وسيوفاً
تثّاقلُ فيها الأغصان الحُبلى
بدماء القلبِ المبذول نزيفاً
ترتجُّ قُطوفاً
تمراً.. قمحاً.. حبّاً.. زهراً" (99)
وسيتابع الشاعر العمل على هذه الفكرة، ليجعَلَ من ديك الجن صَاحب قضيّة إنسانيّة كبرى، يدفعُ لقاءَها أغلى الأثمان:
"يا ديكَ الجن ركبتَ طريقاً وعراً
وسفحتَ الأنفاسَ على الرملِ المحروقِ وأحرقتَ العُمرا
ـ لكني أومنُ أن الرملَ المحروقَ سيسطعُ زهرا
ولهذا الإيمان أغنّي الآنَ
وأحرقُ قلبي شعرا" (100)
وعليه؛ فمن الواضح أن البواعث السياسيّة ـ الاجتماعيّة كانت وراء استدعاء شخصيّة ديك الجن في هذهِ القصيدة، وقد حاول الشاعر الاتكاء على ما عُرفَ من تأييد ديك الجن الحمصي للطالبين ورثائه للحسين بن علي؛ وبالتالي على موقفِهِ من العبّاسيين، لكنّ ضياع شعر عبد السلام في هذا الغرض ـ إن افترضنا وجودَه أساساً ـ وانزواء الشاعر في حمص مُنصرفاً إلى ما عرفناه عنه يجعلان مثل هذهِ الصورة عن الشاعر باهتة وغريبة، وغير مقنعة عند توظيفها فنيّاً، قياساً إلى صورتِهِ الأخرى المعروفة للقاصي والداني.
إن مثل هذا التوظيف لشخصيّة ديك الجن في المقطع الثاني من قصيدة مظهر، وفي قصيدة البياتي السابقة يضعنا أمام مشكلة فنيّة في باب استدعاء الشخصيّأت التُراثية، هذه المشكلة تتمثّلُ في اعتقاد بعض الشعراء ـ حتى الكبار منهم ـ أنّ كل شخصيّة رفضت في لحظةٍ ما خليفةً أو سلطاناً لأي سبب، حتى ولو كان الرفض سلبيّاً لم يترافق بموقفٍ فعليٍ معروف للشخصيّة، تصلحُ بالضرورة للتعبير عن الثورة والتوق إلى الحريّة والعدالة الاجتماعية وما إلى ذلك؛ كما حدثَ على سبيل المثال لا الحصر مع أدونيس ونبيل ياسين في استخدامهما شخصية بشار بن برد(101).
· عبد النبي التلاوي وديك الجن:
لعبد النبي التلاوي الشاعر السوري الحمصي قصيدة عنوانها "سهرة مع أحزان ديك الجن"، والقصيدة تبدأ بصورةٍ لا تمتُّ لديك الجن أو غيرهِ من شخصيات الماضي بصلة، إنّه صوتُ الشاعر المنشئ يخاطب نفسه، شاعرٌ جافاه النوم لسبب لن يتأخر الإفصاح عنه طويلاً، فراح يتحدّثُ إلى ذاته:
"نامَ الظلامُ وأنتَ وحدَكَ
تستحمُ بما يخبئُهُ الأرقْ
نامت مصابيحُ البيوتِ
وطيفُ من تهوى يحوّمُ كالفراشةِ
هاهنا نجمٌ...
هنالِك غيمةٌ تغتالُهُ
وهناك قلبٌ راكعٌ"(102)
ويتابعُ الصوتُ تأثيثَ المكان من حول الشاعر مبيّناً بشكلٍ غير مباشر سبب قلق الشاعر وإحساسه بالضياع:
"طيرٌ هنا
وهناكَ نصفُ رسالةٍ
والبابُ...
نصفُ البابِ مفتوحٌ
ونصفكَ ضائِعٌ"(103)
إنّ المرأة المحبوبة، التي كان طيفُها يرفرفُ في المقبوس الأوّل غادرت البيت تاركةً نصف رسالة! لعلّها كتبت لـه شيئاً ما على عجل وخرجت تاركةً نصفَ الباب مفتوحاً... ونصف القلبِ ضائعاً!! وإلى هذا الحد ما كان الصوتُ يفكّر في استدعاء أحد، أو تقمّص هذه الشخصيّة أو تلك، لكن شيئاً فشيئاً ومع ذكر (حمص) و(باب تدمر) يبدأ شبحُ ديك الجن بالمثول في حنايا الصوت نفسه:
"هل (حمصُ) ما زالت تشرّدُ عاشقيها
والطفولةُ دمعتانِ على نوافذها
وخمرتنا يتعتعُها اليفاعُ؟
هل (بابُ تدمر) غصّة العشّاق
أم تنويحةُ الأحجارِ.
إن خطّوا مآسيهم وضاعوا؟"(104)
ولأنّ في تجربةِ الصوتِ وتجربة عبد السلام بن رغبان شيئاً مشتركاً هو (الغيرةُ الحمقاءُ) على المحبوبة، نجدُ عبد السلام يغلبُ على الصوتِ ويجعلُهُ يتوجّه بالحديث إليه... وكأنّه يجالسُ الشاعر أو يعيشُ في أعماقِهِ بانتظار اللحظة السانحة:
"نهرٌ على (الميماس) يدخُلُ من غديرٍ في دماكَ
ولم تجدْ إلا رياح الغيرةِ الحمقاءِ
ترفَعُ موجةً لجنونك العالي
فيغلبك اندفاعُ
(وردٌ) تنامُ على وسادةِ سيفكَ العاري
وتحضنها دماءٌ أو دموعٌ كي يكفّنها الشراعُ"(105)
وها قد سنحت اللحظة فإذا بالصوت الأول؛ الصوت المنفرد، الذي قَدّم لنا الشاعِرَ أو بطلَ القصيدة ينقسِمُ إلى صوتين؛ متحاورين، يتقمّصُ الأوّلَ منهما ديكُ الجن، ويبقى الثاني أقرب إلى صوت الشاعر المعاتب تارةً، المؤنّب أخرى، الساخط ثالثةً:
"ـ أنا (ديكُ) من أهوى يظللُني غناءٌ
كي يُشرّدَني الشقاءْ
*ألأنها امرأةٌ تحبّكَ
لمْ تجدْ في النهر مرآةً لوجهكَ
لمْ تجدْ في الضوءِ إيقاعاَ لظلّكَ
لم تجدْ حتى الهواءْ...؟؟
ـ إنّي هناكَ...
*ومن هُنا...؟!
ـ طيفي وأوراقي وطفلٌ
كنتُ أعرِفُهُ ويعرفُ وجهها
حين الوداعُ امتدّ جسراَ بيننا
والقلبُ نامَ على أظافِرِ دَمْعِها
والبابُ أغلقه الرجاء"(106)
ومع أن الشاعر المنشئ حاولَ كثيراً أن يحافظَ على المسافة بين الصوتين وميّز أحدهما من الآخر حتى بطريقة الكتابة (ـ/*)، إلا أنّه كان يعجز عن فعل ذلك في بعض المواضع، أو لعلّه كان يقصدُ إلى جعل الصوتين يتحدّان، حين يرغب في التعبير عن المشترك بين تجربتهما؛ وهي إحدى أهم غايات القصيدة، لنقرأ مثلاً هذا المقطع الذي يُفترَض أن يكونَ صَاحبه هو ديك الجن:
"ـ للدمعِ صوتٌ
للأصابِعِ غصّة التلويحِ
للصمت احتراقٌ
بين شبّاكين ناما
في متاهات الضياعْ
والبحرُ حين يصيرُ امرأةً
سيسحبني إلى قاع الجنونِ
فأبتني بيتاً لأحزان القصيدةِ
في دمي
وألوبُ منكسراً أفتّش عن شراعْ
لا أستطيعُ سوى احتراقي
لا أمدُّ يدي لأقطفَ من إجاص القلبِ
نزفي
لا أريدُ سوى التي
ضيّعتُها في لحظةِ الطيشِ النبيل
سوى أصابعها لتمسحَ عن شفاهي
حَرّ هذا البوح
تُعطيني مفاتيحاً من القبلاتِ
كأساً من رحيقِ الهمسةِ الأولى
هدوءاً كي أنامْ"(107)
في المقبوس السابق ما رأينا ديك الجن وحيداً، ولا الشاعر المنشئ وحيداً لقد قرأنا شخصيّةً هي مزيج منهما معاً وأحسسنا بما يسوّغ استدعاء ديك الجن من قبل عبد النبي التلاوي، لقد اتّضحت البواعث العاطفيّة الوجدانية الكامنة خلف هذا الاستدعاء.
لكن الشاعر يعودُ بعد ذلك ليفصلَ بين الشخصيتين المتحاورتين، واضعاً على لسان ديك الجن أبياتاً من مرثيتهِ الشهيرة في (ورد) وقد كان في غنىً عن ذلك لحضور القصيدة في ذهن المتلقي، ولأنها ـ وهذا الأهم ـ لم تقدّم شيئاً جديداً؛ فجاء المقطع ليشكّل هبوطاً في الحالة بعد التصاعد الذي شهدناه:
"*روّيتَ أدمعَها الثرى ولطالما
(روّى الهوى شفتيكَ من شفتيها)
ـ حَكّمتُ طيشي في مجال محبّتي
(ومدامعي تجري على خدّيها)
*هل كان قلبُكَ نائماً فهجرتَها؟
ورميت أشواكَ الوردِ إليها!
ـ (ما كان قتليها لأني لمْ أكنْ
أخشى إذا سقطَ الغبارُ عليها
لكن ضننتُ على العيونِ بحسنِها
وأنفتُ من نظرِ الحسودِ إليها)"(108)
لقد اضُطرَ الشاعر إلى شيءٍ من الحشو والافتعال ليجدَ أسئلةً تجيبُ المرثيّة عنها دونَ أن يوفّق إلى ذلك كأن يقول:
*هل كان قلبُكَ نائماً فهجرتَها؟
ورميت أشواك الورودِ إليها؟!....
*وإلامَ أنتَ مُحاصرٌ بهوائِها...؟
ـ حتى يسيل دمي على كفّيها"(109)
ويختمُ الشاعرُ قصيدتَهُ مُحاولاً أن يرتفعَ بها من جديد، تاركاً لنفسِهِ ـ أو للصوتِ الذي رأيناه قبل قليل يحث ديك الجن على نبش مرثيتِهِ ـ أن يوجزَ ما آلت إليه حياة عبد السلام وما ستكون عليه من تشرّدٍ وألمٍ أبديين:
"*حاذر إذاً أن تستريحْ
واشردْ على قصب السواقي
أنتَ موّالٌ جريحْ
واترك دماكَ تسيلُ أنهاراً
وعشْ طيراً كسيحْ
فعسى التي أحببتَها وقتلتها
تأتي لتحمِلَ غَصّةً
عن عاشقٍ يمشي ذبيحْ"(110)
لقد استدعى عبد النبي التّلاوي شخصيّة ديك الجن الحمصي تحتَ تأثير أسبابٍ عاطفيّة نفسيّة، واشتغل على السمةِ الدالة المميّزة لهذهِ الشخصيّة في لحظةٍ أيقنَ فيها أن هذهِ السمة تشكل قاسماً مشتركاً بينَهُ ـ أو بين بطلِهِ ـ وديك الجن؛ إنّها (الغيرة الحمقاء) كما أسماها في القصيدة، وهي التي قادت بطلَهُ إلى (لحظة الطيش النبيل) ليضيّعَ محبوبته، كما كانت قد قادت ديك الجن إلى (لحظة القتل) فسفح دمَ من أحب...
كان عبد النبي أميناً لصفات الشخصيّة وما علقَ في الوجدان السوري والعربي عنها؛ ولم ينحرف بها إلى ما لا طاقة لها بالتعبير عنه... كل ذلك من خلال تقنيّة الاتحاد بالشخصيّة والانفصال عنها؛ وفق الحاجة.
وأخيراً... فإذا كانت تجليّات ديك الجن الحمصي، واستدعاؤه في الشعر العربي المعاصر بهذا التنوّع، وتلكَ الأهميّة الفنيّة والفكريّة، فإن هذهِ الظاهرة الفنية لم تنجُ من العثرات التي قد تحتاجُ بحثاً مستقلاً؛ لكن حسبي هنا أن أشيرَ إليها باختصار:
ـ القراءة الخاطئة لشخصيّة ديك الجن؛ ما استدعى تأويلاً خاطئا، جَعَلَ بعض الشعراء يستخدمها لغاياتٍ لا تناسبُ تاريخها وشعرها وما عَلِقَ في وجدان القارئ العربي عنها، وهناك نماذج حديثة لم تتناولها الدراسة تُؤكد ذلك، كأن تقرأ مثلاً قصيدة عنوانها "ديك الجن الفلسطيني"، فترى ديك الجن مناضلاً ضد المحتل الصهيوني، أو يرمي جنود إسرائيل بالحجارة مع أطفال الانتفاضة، وقد سبق ورأينا بعض أهم شعراء الحداثة يقعُ في هذهِ المغالطة كعبد الوهاب البياتي، في القصيدة التي سبق ودرستُها، وعبد الكريم الناعم في قصيدتِهِ "صباحاً طيّباً... مساءً ميّتاً"؛ ومظهر الحجي في قصيدتِهِ "لديك الجن مآرب أخرى".
ـ طغيان الملامح المُعاصرة والحديثة على شخصيّة ديك الجن، أو العكس، بمعنى أن يسبغ الشاعر على الشخصيّة من الصفات والملامح ما لا قبل لها به وما لم يعرف عنها أو أن تظل الشخصيّة غارقةً في صفاتِها القديمة وتاريخها دونَ أن يستطيع الشاعر الإفادة منها والتعبير بها عن مغازيه المختلفة(111).
ـ استهلاك شخصيّة ديك الجن وجعلها نمطاً مكروراً على أيدي بعض شعراء الجيلين الماضيين ولاسيّما في سوريا؛ فبعد أن اكتشفَ أبو ريشة ونزار هذه الشخصيّة واستخدماها بشكلٍ متميّز، ثم استحضرها البياتي وغيره ممّن تناولتهم الدراسة، فطن إلى أهميتها حشدٌ من الشعراء الشباب، ممّن لم يستطيعوا أن يضيفوا جديداً إلى سابقيهم، فأعادوا استحضارها وفق ما قرؤوهُ عندهم.
ـ لعلّ من البدهي أن على الشاعر حين يستخدم شخصيّة تراثية (أو رمزاً ما) أن يترك لها مجالها الحيوي، فضاءَها الذي تتحرّك فيه، لكن ما حدث أن بعض الشعراء حين استحضروا ديك الجن حشدوا مَعَهُ مجموعة من الشخصيات والرموز الأخرى ممّا أثقَلَ نصوصهم، ولم يمنح الشخصيّة المساحة الكافية لتقدم كل ما لديها من إيحاءٍ وتعبير (قصيدة البياتي السابقة وغيرها)(112).
الإحالات
1 ـ د. نعيم اليافي، أوهاج الحداثة/ دراسة في القصيدة العربية الحديثة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1993، ص51.
2 ـ د. علي عشري زايد، استدعاء الشخصيات التُراثية في الشعر العربي المُعاصر، الشركة العامة للنشر والتوزيع، ليبيا ـ طرابلس 1978، ص15.
3 ـ نفسه، ص75.
4 ـ نفسه، ص74.
5 ـ مظهر الحجّي، ديوان ديك الجن الحمصي، وزارة الثقافة السورية، دمشق 1987، ص(5-8).
6 ـ نفسه، ص8.
7 ـ عبد المعين الملّوحي، محيي الدين درويش، أحمد الجندي، ديوان ديك الجن الحمصي، دمشق، دار طلاس 1984، ص18.
8 ـ راجع تحقيق مظهر الحجّي لديوان ديك الجن (مصدر سابق)، ص14.
9 ـ أبو الفرج الأصبهاني، الأغاني، ج14، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص56.
10 ـ داوود الإنطاكي، تزيين الأشواق بتفصيل أشواق العشّاق، دار حمد ومحيو، بيروت 1972، ط1، ج1، ص292.
11 ـ د. علي عشري زايد، استدعاء الشخصيات التراثية، (سابق)، ص18.
12 ـ يقول عبد الوهاب البياتي في حوار أجراه معه محمّد المبارك في مجلّة (الأقلام)، العدد 11، السنة السابعة: "إنني عندما أختار هذه الشخصيّة التاريخية، أو تلك لأتوحّد معها، إنّما أحاول أن أعبّر عَمّا عبّرت هي عنه، وأن أمنحها قدرةً على تخطّي زمنها التاريخي بإعطائها نوعاً من المعاصرة"، وسيكرر البياتي هذه الأفكار في كتابه "تجربتي الشعريّة" الصادر عن دار العودة في بيروت 1968، وسيشيرُ أدونيس إلى مثل ذلك في أكثر من موقع.
13 ـ انظر مجلة المعرفة السوريّة، دمشق 1962، العدد الخامس، حوار مع خليل حاوي أجراه غسان كنفاني، ص163.
14 ـ علي عشري زايد، (سابق)، ص24.
15 ـ عبد الوهاب البياتي، تجربتي الشعريّة، دار العودة، بيروت 1968.
16 ـ انظر: بحثي "الشعر العربي الحديث يستعير تقنيّات السرد"، مجلة المعرفة السوريّة، دمشق، كانون ثاني، 2002.
17 ـ ت. إس. إليوت. فائدة الشعر فائدة النقد، ترجمة: د. يوسف نور عوض، دار القلم، بيروت 1982، ص14.
18 ـ نفسه، ص75.
19 ـ يختزل الناقد عبد السلام المسّاوي في كتابه "البنيات الدالة في شعر أمل دنقل"، الصادر عن اتحاد الكتاب العربي في دمشق عام 1994، أنماطَ استخدام الشخصيات التُراثية في الشعر العربي الحديث إلى نمطين جامعيين هما: الاستدعاء العرضي، والاستغراق الكلي في الشخصيّة، بينما توسّع د. علي عشري زايد في دراسة هذهِ الظاهرة ورصد خمسة أنماط في كتابه المشار إليه أعلاه.
20 ـ عبد السلام المسّاوي، (سابق)، ص158.
21 ـ علي كنعان، أطياف من لياليها، دار عطيّة، لبنان، 1998، ص75-76.
22 ـ مظهر الحجّي، ديوان ديك الجن، (سابق)، ص25.
23 ـ عبد القادر الحصني، ماء الياقوت، مركز الإنماء الحضاري، حلب 1998، ص10.
24 ـ نفسه، ص10.
25 ـ نفسه، ص12-13.
26 ـ نفسه، ص16.
27 ـ عبد الكريم الناعم، احتراق عبّاد الشمس، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص105-106.
28 ـ نفسه، ص106.
29 ـ نفسه، ص107.
30 ـ علاء الدين عبد المولى، وقتٌ لشهوات المغنّي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1995، ص33.
31 ـ نفسه، ص34.
32 ـ نفسه، ص34-35.
33 ـ نفسه، ص37.
34 ـ انظر كتابي "أبو الطيّب المتنبي في الشعر العربي المُعاصر"، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1999، الصفحات: 86-102.
35 ـ د. علي عشري زايد، (سابق)، ص262.
36 ـ د. محيي الدين صبحي، الرؤيا في شعر البيّاتي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1986، ص156.
37 ـ مجلّة فصول، المجلد 6، العدد1، القاهرة، صيف 1997، بحث خلدون الشمعة "تقنية القناع: دلالات الحضور والغياب"، ص74.
38 ـ نفسه، ص73.
39 ـ عمر أبو ريشة، ديوان عمر أبو ريشة، دار العودة، بيروت 1988، ص134.
40 ـ نفسه، ص134.
41 ـ نفسه، ص135.
42 ـ نفسه، ص136.
43 ـ نفسه، ص137.
44 ـ نفسه، ص138.
45 ـ نفسه، ص140.
46 ـ نفسه، ص142-143.
47 ـ انظر الأغاني، ج22، أخبار النمر بن تولب ونسبه، ص277.
48 ـ مجلّة فصول (سابق) ص81.
49 ـ نزار قبّاني، الرسم بالكلمات، ط1، منشورات نزار قبّاني، بيروت 1967، ص157.
50 ـ د. خريستو نجم، النرجسيّة في شعر نزار قبّاني، دار الرائد العربي، بيروت 1983، ص221.
51 ـ مصطفى حجازي، "سيكيولوجيا الإنسان المقهور" ص264-265/ نقلاً عن د. خريستو نجم، ص221.
52 ـ نزار قباني، الرسم بالكلمات، ص159.
53 ـ نفسه، ص159.
54 ـ د. خريستو نجم، (سابق)، ص223.
55 ـ نزار قبّاني، الرسم بالكلمات، ص159.
56 ـ د. علي عشري زايد، (سابق)، ص183-184.
57 ـ شوقي بزيع، كأني غريبك بين النساء، دار الآداب، بيروت، ص64.
58 ـ نفسه، ص66.
59 ـ نفسه، ص68.
60 ـ نفسه، ص68.
61 ـ نفسه، ص68.
62 ـ نفسه، ص71-72.
63 ـ نفسه، ص72-73.
64 ـ نفسه، ص73.
65 ـ نفسه، ص73.
66 ـ نفسه، ص74.
67 ـ نفسه، ص74.
68 ـ نفسه، ص75.
69 ـ نفسه، ص75.
70 ـ نفسه، ص76.
71 ـ مجلّة فصول، (سابق).
72 ـ شوقي بزيغ، (سابق)، ص77.
73 ـ إبراهيم عباس ياسين، منازل القمر، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000، ص42.
74 ـ نفسه، ص44-45.
75 ـ نفسه، ص46.
76 ـ مجلة فصول، (سابق)، ص106.
77 ـ إبراهيم عباس ياسين (سابق)، ص48.
78 ـ نفسه، ص48.
79 ـ نفسه، ص49.
80 ـ نفسه، ص49-50.
81 ـ عبد الوهاب البياتي، ديوان عبد الوهاب البياتي، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت، 1979، ص38-39.
82 ـ هذه القصائد هي: مرثية عائشة، العنقاء، الموت في غرناطة، الحب في الموت.
83 ـ د. محيي الدين صبحي، الرؤيا في شعر البياتي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1986، ص278.
84 ـ عبد الوهاب البياتي، ديوان عبد الوهاب البياتي، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت، 1979، ص355.
85 ـ نفسه، ص256.
86 ـ يرى د. محيي الدين صبحي هذا الرأي أيضاً: انظر: الرؤيا في شعر البياتي (سابق)، ص280.
87 ـ عبد الوهاب البياتي، الديوان (سابق)، ص356.
88 ـ نفسه، ص356-357.
89 ـ نفسه، ص357.
90 ـ نفسه، ص358.
91 ـ نفسه، ص359.
92 ـ نفسه، ص360.
93 ـ نفسه، ص361.
94 ـ عبّر البياتي عن ذلك في لقاء أجراهُ مَعَهُ محمّد مبارك في مجلّة أقلام، العدد 11، ص86، (سابق)، نقلاً عن د. علي عشري زايد (سابق)، ص371.
95 ـ مظهر الحجّي، نقوش الجلّنار، مطبعة الاتحاد، دمشق 1987، ص99.
96 ـ نفسه، ص101.
97 ـ نفسه، ص102.
98 ـ نفسه، ص104-105.
99 ـ نفسه، ص103.
100 ـ نفسه، ص104.
101 ـ فعل ذلك الشاعر العراقي نبيل ياسين في مجموعته (البكاء على مسلّة الأحزان)، دار الساعة، بغداد 1970، ص73.
102 ـ عبد النبي التلاوي، بابُها مُغلق وخريفي قريب، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001، ص70.
103 ـ نفسه، ص70.
104 ـ نفسه، ص71.
105 ـ نفسه، ص71.
106ـ نفسه، ص72.
107 ـ نفسه، ص73.
108 ـ نفسه، ص74.
109 ـ نفسه، ص74.
110 ـ نفسه، ص74-75.
111 ـ لمزيد من التفصيل أنظر: د. علي عشري زايد، استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، (سابق).
112 ـ نفسه.
الشعر الحديث يستعيرُ تقنيات السرد
ـ 1 ـ لعلَّ تلك الحدود المنظورة، وغير المنظورة، التي أقامها النقد بين الأجناس الأدبيّة المختلفة، حالت ـ حتّى وقتٍ قريب ـ دون تناولها بشكلٍ شامل، فلكلِ جنس ـ من وجهة النظر هذه ـ خصائصه الجماليّة، ولكل جنس لغتُهُ ومنهجُهُ الخاصان، اللذان لا يشاركه فيهما جنس آخر، ومن ثمّ فحتّى وقت قريب كان من غير المرغوب فيه أن تقترب لغة القصّة من لغة الشعر، أو العكس؛ وما إلى ذلك، لكنّ مثل هذهِ الرؤيا للأمور أغلقت ـ برأيي ـ كثيراً من الأبواب أمام الإبداع، الذي كان لابدّ لـه دائماً من تخطّيها عنوةً، حين لا يتاحُ لـه الأمرُ بـ"التراضي".
وعليهِ أصبحنا نقرأ ـ على سبيل التمثيل لا الحصر ـ كتاب إدوار الخرّاط "الكتابة عبر النوعيّة/ دراسة في ظاهرة القصّة ـ القصيدة"(1)، الذي وإن قبلتَ منهُ شيئاً، ورفضت أشياء ـ لكنكَ كقارئٍ مؤمن بالإبداع لن تقفَ ضده لمجرّد محاولته أن يتخطّى تلك الحدود المرسومة بين القصة والقصيدة.
وحتّى لا يُفهَم كلامي هذا على غير ما أريد، أود أن أشير سلفاً، إلى أنني هُنا لا أروّجُ للنصوص، التي قد تتاخم كل جنس أدبي، دون أن تتمكّن من إنجاز واحدٍ منها بشكلٍ جميل، فكم نجد اليوم من أصحاب المواهب المنطفئة، والملكات الضعيفة من يمطرنا بالنصوص الضحلة التي لا تمتُّ لأي جنس أدبيٍ بصلة، رغم أنّها تحاول أن تأخذ من كل شيء، فيسقطُ عنها وسمُ الأدبيّة، ولا تتمكّن الحذلقة وحدها من سترِ عورتها.
الحديث إذاً ليس عن هذا، بل هو عن الشعر المحض، الذي يستطيعُ صَاحبُه أن يفيد من خصائص جنسٍ أدبيٍ آخر هو القصّة، متمثّلاً تقنياته لتطوير الشعر نفسه وصولاً إلى تجاوز الذاتِ والآخر.
والشعرُ ـ كما يؤكد قُرّاؤهُ ودارسوه ـ على صلةٍ وثيقةٍ بالكثير من الفنون؛ فالصورُ البيانيّة تمدُّ قناةً دافقةً ما بينَهُ والتصوير أو الرسم.
والإيقاعُ ـ وهو سمةٌ جوهريّةٌ في الشعر ـ يشدّ أواصره إلى الموسيقى بشكلٍ عام. وبنيتُهُ ـ مهما تنوّعت وقامت على جمالياتِ الوحدة أو التجاور ـ تربطُهُ بالهندسة المعمارية بشكلٍ أو بآخر، و"يصلُهُ توتّرُهُ بالدراما على أساس ما فيه من تصارع داخلي بين العناصر والمكوّنات، فكل قصيدة هي دراما صغيرة فيما يقولُ الناقد كلينث بروكس،، لأنها تقوم على صوتٍ يحاور نفسه، أو (أنا) تحاور العالم في حوارها مع نفسها. ويتضمّن الشعرُ من عناصر السرد ما يصلُهُ بفن القص، على مستوى تجسيد الشخصيّة، أو التصوير الخاطف للأحداث والمشاهد"(2).
وهكذا حين يدور الحديث عن القصّة في الشعر، يبدو الأمرُ طبيعيّاً وبدهيّاً، ومن النادر أن نجدَ اليوم رأياً كرأي د. محمّد مندور، الذي يقول فيه: "الشيء الذي لا نستطيعُ فهمَه، ونرى فيه عبثاً وتبديداً للطاقة الشعريّة، هو أن نرى شاعراً يحاول أن يكتب قصصاً شِعراً، مع أن النثر أكثر طواعيةً ومرونةً وقدرةً على الوصفِ والتحليل، فضلاً عن السرد والقص"(3)، ولكن بالرغم من هذا التأكيد على حضور القصة أو أي شيء من ملامحها في الشعر، نرى أن الدراسات التي اقتربت من هذا الموضوع قليلة جداً، فقد أشارت نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المُعاصر" بشكلٍ عابر إلى حضور النزعة الدرامية في القصيدة الحديثة، وأفردَ د. عز الدين إسماعيل فصلاً لهذهِ الظاهرة في كتابه "الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهرُهُ الفنية والمعنويّة"، ثم غابَ هذا الموضوع ـ على حد علمي ـ حتى ظهر كتاب د. عزيزة مريدن، وعنوانه "القصّة الشعريّة"، وبلغ عدد صفحاته خمسمئة وإحدى عشرة صفحة، درست فيه الباحثة أشكال القصص في الشعر العربي المُعاصر(4): من القصص التاريخيّة (حوادث وشخصيّات)، إلى الأقاصيص الوعظية التعليميّة، إلى العاطفية الوجدانية، فالاجتماعيّة، فالوطنيّة والقوميّة، وختمت ببابٍ خاص بالقصة الشعريّة الطويلة.
ثمّ جاءت دراسة الشاعر العراقي علي جعفر العلاّق "الدلالة المرئيّة"(5)، الذي ميّز بين القصيدة القصصيّة كجنسٍِ أدبي لـه خصائصه (وهو ما درسته د. مريدن)، وذلك الشعر الذي يستعينُ بمجموعة من خصائص السرد، لغايات شعرية محض، ودرس كمثال على ذلك إحدى قصائد الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي. بعد ذلك ظهر مقالٌ بعنوان "إنّما للشعر قصّة"(6)، للشاعر السوري موفق نادر، رصدَ فيه جملةً من قصائد الشعر العربي (قديمه وحديثه)، التي توسلت القصةَ أسلوباً.
فيما بعد خَصّ الباحث الجزائري د. حسين خمري في كتابه "الظاهرة الشعريّة العربيّة ـ الحضور والغياب"(7)، هذهِ الظاهرة بشيءٍ من اهتمامه، ومثّل لذلك بقصيدة الشاعر اللبناني محمّد علي شمس الدين "أغنية كي تنام زينب". ثمّ جاء كتاب الباحث السوري محمّد رضوان "مملكة الجحيم ـ دراسة في الشعر العربي المعاصر/ الحكاية نموذجاً"(8)، ليدرس ظاهرة استخدام الحكاية (الشعبيّة والدينيّة والتاريخيّة) في نماذج من القصائد العربيّة الحديثة.
ولعلّي لا أختلفُ مع أحد الدارسين الذين ذكرتهم في أنَ معظم "القصائد التي فتنتنا، ورسمت مشهدها الجميل وحضورها البهي على الملأ نهلت جميعاً من القصّة أروع ما يُسنِد أرومتها، وما ينسرب مُغذيّاً أفنانها من نُسغٍ معبرٍ دافئ"(9)، وإن الشعر بمختلف تصنيفاته وأقسامه (غنائي، ملحمي، قصصي أو سواه) سعى دائماً إلى الإفادة ممّا تمتلكُهُ القصّة من مشاهد حركيّة، وقدرة على خلبِ لب القارئ، أو السامع بالتشويق، وبحضور الشخصيّات والتفنن في رسمها، ورسم المكان الذي تتحرّك فيه، وتخترقُهُ بالأحداث التي تصنعها، ولقد ذهبَ أحدُ هؤلاء الدارسين إلى أن "وراء كل قصيدة قصّة هي (المثير) أو الدافع لها، ونلاحظ أن عناصر القصّة في قصيدةٍ ما، هي المحرّك الأساسي للشعر، وحتى القصائد المفرطة في الرواية والغنائية، كقصائد عمر بن أبي ربيعة، أو قيس بن الملوّح، أو خمريات أبي نواس، أو زهديّات أبي العتاهية ـ كلها تحكي قصصاً من نوع مختلف؛ هي قصص العشق، وقصص الاجتماع وقصص الدين"(10).
وهذا رأيٌ مهم بالتأكيد، ولكننا انطلاقاً من فكرته، سنجد أن خلف كل عمل أدبي، أو فنّي، مهما كان قصةً ما، وليسَ وراء كل قصيدة فحسب، بينما الذي يعنينا هنا، هو حضور القصّة وتقاناتها ووسائلها التعبيرية في القصيدة، وحسن توظيف الشاعر كل هذه الأنسام التي تهب على حقله من حقول مجاورة في تصنيع عطرهٍ الخاص، وبعبارة أخرى تعنينا تلك الاستعانات التي تتخذ مظاهر سرديّة في الشعر بعد أن تنصهر في بنيته(11)، وهذا يعدينا بشكلٍ ما إلى رأي أدونيس ـ حين تحدّث عن قصيدة النثر ـ ورأى أن الشعر إن استخدمَ عناصر الرواية أو الوصف أو غيرها فذلكَ مشروطٌ بأن يتسامى وتعلو بهِ لغايةٍ شعريةٍ خالصة(12).
ـ 2 ـ وقد استخدمَ الشاعرُ العربي القديم شيئاً من مُعطيات السرد، فاتكأ على الحكاية بوصفها "المواد قبل اللفظيّة في نظامها التاريخي"(13)، أو بوصفها "حدثاً ممثّلاً في تطورِهِ الزمني وعلاقاتِهِ السببيّة"(14)، وقدّم مشاهد باهرة في عشرات القصائد العربيّة، كما فعلَ امرؤ القيس مثلاً في معلّقته يوم وصف مغامرته في "دارة جلجل"، ومعَ "بيضة الخِدر" التي تجاوز أهلها وأحراسها إليها فتبادلا مختلف صنوف الحب واللهو. وكما فعلَ المنخّل اليشكري حين وصف لنا في رائيّته الشهيرة مشهداً بارعاً في دخوله الخدر على فتاته في اليوم المطير. ولم يكن عنترة بن شداد أقل شأناً من صَاحبيه في قص الأخبار عن ابنةِ عمّه التي يحبّها راوياً لها حوادث متفرّقة من بطولاته، واندفاعَهُ في المعركة شاقاً الصفوف، ومتذكراً إيّاها بين ضربات السيوف وطعنات الرماح.
ولو ابتعدنا قليلاً عن العصر الجاهلي وتوغلنا في العصور الإسلاميّة اللاحقة فسنرى أن هذا الشكل من الاتكاء على القص راح يتطوّر، فلو وقفنا قليلاً عند الحطيئة (جَرول بن أوس)؛ وجدنا معظمَ قصائده تفيد من الحكاية، ويبلغ هذا الشكل أوجَه في قصيدتِهِ (قصّة كريم)(15)، التي يمكن عدّها قصة قصيرة ناجحة من حيث بناؤها والشغل على رسم شخصيّاتها وحبكتها، تبدأ القصيدة هكذا:
ببيداءَ لم يعرف بها ساكنٌ رسما
وطاوي ثلاثٍ عاصب البطنُ مُرملٍ
يرى البؤس فيها من شراستِهِ نعمى(16)
أخي جفوةٍ فيهِ من الإنسِ وحشةٌ
فالشاعر يبدأ إذاً بما يمكن أن نسمّيه اليوم العرض؛ فهو يصف الشخصيّة الرئيسيّة في العمل، والمكان الذي تتحرّك فيه وهو شِعب في بيداء قاحلة موحشة، ثمّ يقدّم الشخصيّات الأخرى:
ثلاثةُ أشباحٍ تخالَهُم بُهْما
وأفردَ في شعبٍ عجوزاً إزاءَها
ولا عرفوا للبُرِّ مُذ خُلقوا طعماً
حفاةٌ عُراةٌ ما اغتذوا خبزَ مَلّةٍ
وبينما الأبُ وأسرتُهُ البائسة على تلك الحال تبدأ مشكلتهُم بقدومِ ضيفٍ عليهم.
فلمّا بدا ضيفاً تشمّرَ واهتما
رأى شبحاً وسط الظلامِ فَرَاعَهُ
وسيبدأُ الشاعرُ/ القاص يصعّد الحدث من خلال مشاعر الأب، وخشيته على سمعته حين يعجز عن إكرام ضيفه، وتنتقلُ مشاعر الهم والخوف إلى أحد الأبناء فيدنو من أبيه، ويحاولُ حَلّ الأزمة بطريقةٍ نادرة: "أيّا أبتِ اذبحني ويسّر لـه طُعما"، وحين تبلغ الحبكةُ عقدتَها، وتتفاقم الأمور؛ ويهم الأب بذبح ابنه، يسمَعُ الجمعُ عَدْوَ عانةٍ من حُمُر الوحش تقصدُ ماءً مجاورةً، فينسل الأبُ نحوها، وهو أظمأُ إلى دَمها منها إلى الماء، لكنّه كصحراوي عرفَ العطش وجواه، يتركُ القطيع يشرب حَتى يرتوي، ثمّ يُرسِلُ فيهِ سهماً، تصيبُ أتاناً وحشيّة، قد امتلأت لحماً وطبّقتْ شحما، وهكذا يحلُّ الشاعر/ القاص عقدة قصتِهِ سريعاً، وينجو الولدُ من الذبح، كما نجا إسماعيل من سكين أبيه بكبشٍ أرسله الله فديةً له!
ولن يقفَ استلهام القصة عند الحطيئة، فللشعراء العذريين حكايات كثيرة مع محبوباتهم نظموها شعراً، ولعمر بن أبي ربيعة عدّة قصائد تقومُ على الحوار والسرد، فيبدعُ عمر في إدارة الحوار، وللفرزدقِ والبحتري قصتانِ جملتان ومتباينتان مع ذئبين شرسين، ولأبي نواس قصصٌ طريفة في حاناتِ بغداد رواها شعراً، والسلسلةُ قد لا تنتهي في العصر الحديث عند أحمد شوقي والأخطل الصغير والياس أبي شبكة وخليل مطران وأمين ناصر الدين وإيليا أبي ماضي وغيرهم، إلا لتبدأ عند بعضِ شعراء الحداثة بشكلٍ جديدٍ وبفنيّاتٍ وتقنياتٍ أخرى.
والحق إننا لو استعرضنا عدداً من نماذج الشعراء الذين ذكرتُهم، لوجدنا أن طرائقَ صوغهم السردي لمواد حكاياتهم الخام ـ بالرغم من ذوبان كثير منها بشكل جوهري في بنية الشعر ـ ظلّت بسيطة، بخاصة فيما يتعلّق ببناء الزمن والشخصيّات، وأنماط السرد ومظاهره، وربّما كان هذا الأمرُ طبيعيّاً جداً، فيما لو نظرنا إليه في سياق تطوّر فنون القول عموماً، وفنون السرد بخاصة، مع الزمن.
إنّ مجرّد إلقاء نظرة على بعض النماذج الشعريّة لشاعرٍ كمحمود درويش، أو أمل دنقل أو سواهما من شعراء الحداثة ممّن استخدموا القصة في الشعر، سيجعلنا نلمس ذلك الفرق الكبير في تطوّر أساليبهم عند تعاملهم مع تقنيّات توظيف القصّة في القصيدة.
إن شاعراً مثل سعدي يوسف ـ مثلاً ـ يحاول في كثير من قصائده أن يستخدم لغةًَ سرديّة، مستغنياً بالحكاية عن خلق المجازات المختلفة التي هي خصيصة دائمة للغة الشعر، فيغامر "بالتخلّي عن العناصر التي شكّلت جوهر القصيدة الحديثة، مكتفياً بالعُنصر الموسيقي مُضافاً إليه بعض عناصر السرد والمفارقة"(17)، بالإضافة إلى الإفراط في استخدام التفاصيل الصغيرة.
ـ 3 ـ وقبلَ أن ننتقلَ إلى دراسة بعض النماذج من القصائد الحديثة، نجد أن من حقّنا التساؤل ـ كدارسين وقرّاء ـ لماذا يلجأ الشاعر العربي الحديث إلى استخدام عناصر السرد وتقنياته في قصيدته؟
هل هي ميزةُ الإنسان الذي يميل إلى التعبير عن أفكاره بالحكي والسرد؟ وهل هي الرغبةُ في تعميق هذا النهج الذي سار عليه بعض الشعراء العرب القدامى بشكلٍ أو بآخر؟
أم هي الرغبة المحض بالتجديد والتجريب فحسب؟ ممّا جعلَ القصيدة الحديثة ـ كشكلٍ من أشكال تأكيد حداثتها ـ تستفيدُ من الفنون المجاورة، وتكتسبُ شيئاً من تقنياتها ووظائفها، وعلى رأسها فن القصّة بسردها
وحوارها(18)، أم أنه الشعور بعجزِ الشعر، الذي يعوّل على طبيعتِهِ اللغويّةِ فقط، عن الإحاطة ببعضِ الموضوعات الصعبة أو الكثيفة؟
أم هو شكلٌ من أشكالِ الهروب من الغنائيّة الذاتيّة المنعزلة عن الآخر؟ بخاصّة أن الشاعر "ما عادَ كائناً يتفصّدُ بغناء الذاتِ واستغاثاتِها، بل أخذ يعرض ويقص ويروي"(19)؟ وهل بقيت المسألة عند الاستفادة من القصّة وتقنياتِها؟ ألا يرى بعضُ كبار شُعرائنا، أن هناك فنوناً أكثر شموليّةً واتساعاً (كالسينما) تنصهر فيها معظم فنون البشر الأخرى، ويمكن أن يستفيد منها الشعر كثيراً(20)؟.
إن الإجابة الكاملة عن تلكَ التساؤلات لابُدّ أن تمر من خلال كل هذهِ الاحتمالات وسواها، وهي احتمالاتٌ تمزجُ بين الذاتي والموضوعي بطريقةٍ يصعبُ فصمُ جزأيها بعضهما عن بعض، ولابُدّ من الإشارة هنا إلى أن أحد أنماط القصيدة الحديثة، وأقصد هنا قصيدة النثر تستندُ في بنيتها ـ بشكلٍ جوهري ـ إلى السرد، فهي "بتواطئها باستمرار مع أجناس قريبة منها كالأقصوصة"(21) ـ كما عَبّرت سوزان برنار ـ وتحطيمها للإيقاع الخارجي، وجدت نفسها تعتمد بشكلٍ كبير على السردِ والحكي والحوار والخبر، والاستغراق في تصوير الجزئيات، والتركيز على المفارقة، وهي كلّها من خصائص فن القصّة.
ـ 4 ـ من النماذج الشعريّة الحديثة، التي كان أحد أهم أسباب نجاحها ـ من وجهة نظري ـ الاتكاء على تقنيات السرد؛ مجموعة غير قليلة من قصائد محمود درويش منها: "الحديقة النائمة"(22)، "كان ما سوفَ يكون ـ إلى راشد الحسين"(23)، "الحوار الأخير في باريس/ لذكرى عز الدين قلق"(24)، "قصيدة بيروت"(25)، "شتاء ريتا"(26) وغيرها.
ولندرس قصيدة "الحديقة النائمة"، التي تنطوي بنيتها السرديّة على شيءٍ من البساطة، قياساً إلى زميلاتها.
وإن بدأنا من عتبة النص الثانية، وهي مطلع القصيدة (بعد أن نتجاوز العنوان):
"سرقتُ يدي حين عانقها النومُ
غطّيتُ أحلامَها"(27)
وجدناها تشي مُباشرةً بأننا إزاءَ نصٍ على علاقةٍ وثيقة بفن القص، بل إن المَطْلَع يضعنا سلفاً قبالةَ راوٍ متماهٍ بمرويّهِ، أو بتعبيرٍ آخر "راوٍ جوّاني الحكي" ـ كما يُعبّر سعيد يقطين(28).
وستتالى أفعالُ السرد سريعةً ومتقاربةً:
"نظرتُ إلى عسلٍ يختفي خلفَ جفنينِ
صلّيتُ من أجلِ ساقينِ معجزتينِ
انحنيتُ على نبضها المتواصل
شاهدتُ قمحاً على مرمَرٍ ونعاسْ
بكتْ قطرةٌ من دمي
فارتجفتُ
الحديقةُ نائمةٌ في سريري"(29)
وسنفهم أن الراوي الذي اصطنَعَهُ الشاعر ليس شاهداً على الحدث، بل هو جزءٌ أساسٌ منه، وهاهو ذا في نهاية المقطع الأوّل يكشف لنا أن القصة التي يرويها، تتحدّثُ عن حديقةٍ قاسمته السرير!
أما كان بإمكان هذا الراوي أن ينتظرَ قليلاً؟ وألا يسفح طاقة العنوان الكامنة منذُ السطور الأولى؟! بلى لكن الشاعر/ القاص دفعهُ إلى ذلك لأن لدى القصيدة ـ بعدُ ـ ما تقولـه، ولن تقفَ عند الوصف الأوّل لهذهِ المرأة، بعسلها ومعجزتيها وقمحها ومرمَرها!
ولابُدّ لي أن أؤكد سلفاً أن الشعر الذي خبرناه ـ في كثير من النصوص ـ يتنازل عن شيءٍ من بهاء لغته، وزخم مجازاتِها حين يدخل تخوم القصّة لن يفعل ذلك في قصيدة محمود هذهِ ـ وربّما في غيرها ـ وسيخذل مقولة روبرت شولتز التي يرى فيها "أن الشعرَ كلّما تحركَ صوب السرد قلّت أهميّة لغته الخاصة"(30)، فها هو ذا الشاعر يتابعُ قائلاً (بعد سطرٍ من البياض):
"ذهبتُ إلى البابِ
لم ألتفت نحو روحي التي واصلتْ نومَها
سمعتُ رنين خطاها القديم وأجراسَ قلبي
ذهبتُ إلى البابِ
مفتاحُها في حقيبتها
وهي نائمةٌ كالملاك الذي مارسَ الحُبَّ
ليلٌ على مطرٍ في الطريق، ولا صوتَ يأتي
سوى نبضِها والمطر"(31).
أي أن هذهِ القصيدة تستمدُ غناها الفنّي والجمالي من تضافر عدّة عوامل هي: لغة الشاعر الخاصة الثريّة بانزياحاتها، ومجازاتها المبنيّة ببساطةٍ مُمتنعة، أو سهولة لا تُتاح لغيره، ومهارته في توظيف تقنيات السرد، عاطفته التي سنلمسها واضحةً متأجّجة خلفَ كل عبارة، والتي سيظهر دورها جلياً في التأثير على إيقاعي السرد والحوار في النص، وهي عاطفةُ فقدٍ مُرّ، عاطفة حنينٍ جارف رغم البرود المصطنع الذي يحاول الراوي التقنّع به.
ولن ينوّعَ الشاعرُ في ضمائر الخطاب السردي، بل سيحافظ على ضمير المتكلّم ووضعيّة الراوي المتماهي بمرويّهِ؛ وهل هنالك من ضمير أنسب لسياق هذا النص من ضمير المتكلّم؟
لا أظن، لأسباب كثيرة، منها أن إحدى مزايا استخدام هذا الضمير "هي إقناع القارئ باحتمالات وقوع الحدث"(32)، كما أن الأشياء المرويّة بهذا الضمير تتخذ طابعاً ذاتياً داخليّاً، وأحياناً تحليليّاً، وعندها سينضَحُ هذا الراوي بما في أعماق ضميره ووجدانه، رغم أن ما يقولـه "ليست لـه إلا قيمة نفسيّة"(33)، في كثير من المواضع، لكنه في مثل هذه السياق يظل أكثر حميميّة وإقناعاً للمتلقّي.
في المقطع الآتي يتابع هذا الراوي (الذي قد لا نستطيع أن نفصله عن الشاعر، إلا لضرورة الدراسة) سردَهُ لكيفيّة مغادرته المرأة التي يحب:
"ذهبتُ إلى الباب،
ينفتحُ البابُ
أخرجُ
ينغلقُ البابُ،
يخرجُ ظلّي ورائي
لماذا أقولُ وداعاً
من الآن صرتُ غريباً عن الذكرياتِ وبيتي
هبطتُ السلالِمَ
لا صوت يأتي
سوى نبضها والمطر
وخطوي على درجٍ نازلٍ
من يديها إلى رغبةٍ في السفر"(34).
نلاحظُ في المقاطع الثلاثة السابقة أن إيقاع أسلوب السرد كان سريعاً بالرغم من أن السائد ـ عند الدارسين ـ عكس ذلك، فهم يرون "أن إيقاع أسلوب السرد، ووصف الأمكنة لابُدّ أن يكون أكثر ميلاً إلى الهدوء والبطء من إيقاع أسلوب المحادثة والحوار، الذي يميلُ إلى السرعة لكونه يقوم على عنصر الحديث، الذي يحملُ أسئلةً وإجاباتٍ"(35).
إن إحساسنا بسرعة إيقاع السرد في المقاطع السابقة صحيح، ولهُ ما يسوّغه في بنية النص، وفيما تشي به من مشاعر الشاعر/ الراوي، لقد كثُرت في المقبوسات السابقة الأفعال بشكل غريب، فقد ندرَ أن قرأنا سطراً يخلو من فعل، والأفعال كما نعلم ـ وبخاصة أفعال الحركة ـ تجعل بنية النص ديناميكيّة، متحركة، بينما تسببُ الجمل الاسميّة الاستاتيكيةَ والسكون... إلا
فيما ندر.
كما أن جُمل الشاعر كانت شديدة القِصر، تبتعد عن الاستطراد، والإسهاب، وكل هذا أضفى على المقاطع السابقة إيقاعاً سريعاً؛ مَثّل وجَسّدَ بصورةٍ أو بأخرى حالة الشاعر/ الراوي... لقد سرق يده حين غفت المحبوبة، وألقى على جسدها الغطاء، وطبعَ قبلَةً على وجهها، ثمّ أخرجَ مفتاح الشقّة من حقيبتها وخرج... لقد فَعَلَ كل ذلك بسرعة، ولو أنه تمهّل ـ فيما يبدو لي ـ قليلاً، وتركَ لمشاعِرِه أن تغلبه، لصحت المرأةُ فجأةً، ولما كان لـه أن يغادرها إلى الأبد.
هاهو ذا يهبط السلالم، ولكنّه لا يسمع إلا نبضها الذي كان يملأ أذنيه وقلبه قبلَ قليل، حين كانت تغفو على ذراعه، ألا يعني ذلك أن روحَه واصلت نومها هناك، ألا يعني أنّه انقسم إلى شخصين متصارعين؛ ثمّ يأتي مقطعٌ آخر:
"وصلتُ إلى الشجرة
هُنا قبّلتني
هُنا ضربتني صواعق من فضّةٍ وقرنفل
هنا كان عالمها يبتدي
هنا كان عالمها ينتهي
وقفتُ ثوانيَ من زئبقٍ وشتاءٍ
مشيتُ
ترددتُ
ثمّ مشيتُ
أخذتُ خطاي وذاكرتي المالحة
مشيتُ معي"(36).
إن هذا المقطع الذي يقومُ على الوصف عموماً، والذي يجب أن يكون أكثر هدوءاً وسكوناً ممّا سبقه؛ بسبب بنيته الوصفية على الأقل، لا تبدو عليه أية سماتٍ للهدوء، والسببُ يكمُنُ في تواتر الجمل الاسميّة القصيرة، التي لا تكتفي بالوصف وحده، بل تسردُ وهي تصف، بالإضافة إلى أنها قُدّمت كمشاهد صغيرة مُتتالية يعرضها رَجُلٌ يسيرُ، ثم ينتهي المقطع بأفعال حركة متتابعة "مشيتُ، ترددتُ، ثمّ مشيتُ" ثمّ يجرُّ الشاعر شطرَهُ الآخر، الذي يحاول التشبّث بالمكان، مواصلاً الاستماع إلى نبض المرأة والمطر، ساحباً خلفه خطاه وذاكرته المالحة.
بعد ذلك يهدأ إيقاع القصيدة العجول، قليلاً، حين يبتعد الشاعر/ الراوي عن بيت المحبوبة، وربّما عن حيّها، وحين يلتفتُ بشكلٍ أكبر إلى الوصف، وصف حالة الهروب/ السفر، التي فرضها على نفسه، ووصف حالة المدينة اللامُبالية بالمقابل:
"لا وداع ولا شجرة
فقد نامت الشهواتُ وراءَ الشبابيكِ
نامت جميعُ العلاقاتِ
نامت جميعُ الخياناتِ خلفَ الشبابيكِ
نامَ رجالُ المباحثِ أيضاً(37).
ويزدادُ هذا الهدوءُ في الإيقاع في المقطع التالي، الذي يأتي على شكل حوارٍ داخلي في أعماق الراوي، يعتصرُ الألم جَرّاءَه قلبَهُ لأنّه مبنيٌ على استحالة، إن ما يتخيّله لن يحدث في صباح ريتا الجديد:
"وريتا تنامُ... تنامُ وتوقظُ أحلامَها
في الصباح ستأخذُ قُبلتها
وأيامها
ثمّ تحضِرُ لي قهوتي العربيّة
وقهوتها بالحليب
وتسألُ للمرّةِ الألفِ عن حُبّنا
وأجيبْ
بأني شهيد اليدين اللتينِ
تُعدّان لي قهوتي في الصباحْ(38).
في هذا المقطع والذي سيليه، يلعبُ الشاعرُ بأساليب بناء الزمن بذكاء، فهو يمزجُ بين الاسترجاع أو ما يسمّى (السرد الاستذكاري)، والاستباق أو (السرد الاستشرافي)، وهما تقنيتان معروفتان في بناء الزمن السردي ـ بطريقةٍ بسيطةٍ وجديدة؛ فهاتان التقنيتان تستخدمان عادةً كلاً على حدة، أما هنا فهما تختلطانِ معاً، لقد جاء استرجاعُ إحدى عادات ريتا، على شكل استباق ٍ قام بهِ الراوي حين تخيّل أنها تحلم الآن بأنها ستصحو غداً، وستفعل كذا وكذا كعادتها فيما مضى، ويأتي المقطع الآخر مُراكماً على هذا:
"وريتا تنامُ.. تنامُ وتوقظ أحلامَها
ـ نتزوّجْ؟
ـ نعم
ـ متى؟
حين ينمو البنفسج
على قبّعات الجنود"(39)
ريتا إذاً تغفو الآن بينما يغادرُ هو بيتها، ويغادرُ وطنه، وهي تحلم... وترى نفسها تسأله كعادتها عن زواجهما، ويجيبها كعادته إن هذا ممكنّ فقط حين تضعُ الحربُ أوزارها، وحين تصبحُ قبعاتُ الجنود وخوذاتهم أوانيَ لزراعة الأزهار.
إذاً مزجَ درويش بين هاتين التقنيتين بشكلٍ لافتٍ، وأتى بهما في الوقت نفسه من خلال أسلوب المنولوج الذاتي.
ويتابعُ الراوي بعد ذلك سردَ بقيّة القصّة:
"طويتُ الأزقّة، مبنى البريد، مقاهي الرصيف نوادي الغناء
وأكشاكِ بيع التذاكر
أحبكِ ريتا، أحّبكِ نامي وأرحَلْ
بلا سببٍ كالطيور العنيفةِ أرحلْ
سأسألُ بعدَ ثلاثةَ عشر شتاءً
سأسأل: أمازلتِ نائمةً
أم صحوتِ من النومِ
ريتا أحبّك ريتا
أحّبك"(40)
نلاحظُ في هذا المقطع كيفَ يمعنُ الراوي في تعداد الأماكن التي طواها، وغادرها/ الأزقّة، مبنى البريد، مقاهي الرصيف، نوادي الغناء، أكشاك بيع التذاكر/ ألا يوحي كل ذلك برغبتهِ الهائلة بالتشبث، بكل هذه الأشياء والمواقع، ألا يخفي تعدادُهُ إياها كلها رغبةً في البقاء. و إن افترضنا أنه يروي كل ذلك بعد أن غادرَ فعلاً، ألا يعني ذلك التعداد محاولةً للتشبث بذكرى هذه الأماكن، بأطيافها الباقية في الذاكرة... ليس هذا الإسهاب في تفصيل المواقع عبثياً أو مجانياً، وهو وإن صب في خانة رسم أماكن القصة كفضاء محدد المعالم، إلا أنهُ ـ كما أسلفتُ ـ يجسّدُ رغبةً عارمةً للبقاء في المكان، أو التلبث فيه أكبرَ قدرٍ ممكن، وقد أتضح ذلك في الأسطر التالية حين راح يكيل اللوم فيها لنفسه، بل التقريع: فهو كالطيور العنيفة، التي تهاجر بلا سبب، والتي تترك مواطنها كما تترك أي شيء نافل، وهو كالريح الضعيفة التي لا تملك أن تفعل شيئاً إلا الهجرة، لو كانت ريحاً قوية، إذاً لجرفت كل عائق، واقتلعت كل سد. ولكن هل كانت هجرة الشاعر/ الراوي بلا سببٍ فعلاً؟ كما زعمَ هنا مبالغاً في صبّ اللوم على نفسه؟ ألم تحمل ثنايا هذه القصيدة شيئاً من الإجابة؟ هل كان الارتباطُ، أو البقاء ـ على الأقل ـ إلى جوار الحبيبة ممكناً في ظل الجنود؟ ألم تفصل بينهما عشرات الجُدران.
ويختم الشاعر القصيدة ـ كما رأينا ـ بثلاثة أسطرٍ، جاءت على شكل سردٍ استشرافي، سيحدثُ فعلياً بعد زمن طويل:
"سأسألُ بعد ثلاثةَ عشر شتاءً سأسأل ...الخ"
وكذلك أستطيع أن أقول إن هذا الأمر لم يأتِ عبثاً.. فهو يعكسُ مدى ألم الشاعر/ الراوي وحجم الغصّة.
وهكذا فقد لاحظنا في هذه القصيدة أن العناصر القصصيّة شكّلت إحدى أهم سماتها الجماليّة، فرأينا كيف كان الالتحام مذهلاً بين (أنا) الراوي/ و(أنا) الشاعر، ورأينا كيف قدمَ لنا الراوي أماكن القصة وفضاءاتها (الغرفة ـ السلالم ـ الشجرة ـ الأزقة ـ المقاهي ...الخ) وكيف رسمَ لنا زمن القص، من خلال تحديد زمن الحدث/ ليلة شتائية قبل طلوع الفجر/ ومن خلال التنويع في استخدام تقنيات بناء الزمن ومظاهر السرد.
ـ 5 ـ قصيدة "الحوار الأخير في باريس / لذكرى عز الدين قلق" تمثلُ نموذجاً ساطعاً للنجاحات الفنيّة، التي يمكن أن يحققها الشاعر مسترفداً تقانات القصة وأساليبها: ضاخاً في الشعر العربي دماءً جديدة، ما كان لها أن تتدفق في عروقه لولا تلك المعرفة العميقة بفن القص وفن المسرح؛ بالإضافة ـ بطبيعة الحال ـ إلى موهبةٍ شعرية عالية، لا حاجة للحديث عنها!
القصيدة واحدة من قصائد الرثاء غير التقليدي، التي كتبها الشاعر في أصدقائه من شهداء ثورة التحرير الفلسطينية، وهي لا تأخذُ عنصراً واحداً من عناصر القصّة فقط، ولا تستعير تقنية واحدة فحسب، أو تفيد من ملمحٍ معينٍ من ملامحها دونَ سواه، لا إن الشاعر ينظمها وكأنّه يكتب قصة قصيرة؛ إنها تنهضُ على دعامتين ثابتتين: الحكاية، والطريقة التي ستحكى بها الحكاية وتسمى سرداً (41)، كما أن عناصر القص الرئيسة واضحةُ المعالم: من عرضٍ، ونموٍ، وحوار أو عنصرٍ مسرحي(42).
يستخدم الشاعرُ في النص نمطي السرد المعروفين: الذاتي والموضوعي، مغلّباً الأوّل الذي يقوم على تقديم كل شيءٍ للقارئ من خلال ما يعرفه الراوي ويراه ويحسّهُ، ثم يلجأ في المقطع الأخير من القصيدة إلى استخدام السرد الموضوعي، فيروي حادثة الاغتيال على لسانِ راوٍ مطلعٍ عليمٍ ببواطن الأمور، وغير مشاركٍ في الحدث.
سنرى في هذه القصيدة ـ بعكسِ قصيدته التي درسناها سابقاً ـ تعددَ ضمائر السرد، وتعدد الأصوات التي تستخدم المنولوج والديالوج في انسجامٍ واتساقٍ مذهلين.
تبدأ القصيدة على شكل سردٍ ذاتي، نتلقاهُ عبرَ ذات الشاعر/ الراوي، مُتذكراً لقاءهُ الأخير مع صديقه في باريس:
"... على بابِ غرفتهِ قالَ لي: إنهم يقتلونَ بلا سببٍ
هل تحبّ النبيذَ الفرنسيَّ؟
والمرأةَ الشاردةْ.
تطلعَ خلفَ الجهاتِ، و حاولَ أن يفتَحَ البابَ،
لكنّه خافَ أن يخرجوا من خزانتِهِ
فرجعنا إلى المصعد...."(43)
افتتحَ الشاعرُ/ الراوي نصّه بضمير المفرد المتكلّم، ووضعنا مباشرةً في جوهر المشكلة؛ في أعماق القصّة، متجاوزاً أي تمهيد، وقافزاً فوقَ ما نسميه في القصّة التقليديّة: العرض، وقد سعى بذلك إلى شد انتباه المتلقي إلى أقصى درجة ممكنة، وتحريضه على المتابعة من خلال رسم غرابة سلوك بطله، الذي يخشى أن يفتحَ باب شقته خوفَ أن "يخرجوا من خزانته" فيعودُ وضيفهُ (الراوي) إلى المصعد ثم ينزلان إلى شوارع باريس، ليدعوهُ لشربِ كأسٍ من النبيذ، بعد أن يسأله إن كان يحبُّ النبيذ الفرنسي، فيجيبهُ الشاعر/ الراوي: والمرأةَ الشاردة. ثم يتابعُ سرد قصتّه:
"...الساعةُ الواحدةْ
وباريسُ نائمةٌ. من هنا يبدأ الليلُ
من أينَ؟ من شارعٍ واسعٍ لا يسيرُ عليه سواكَ
ومن شجرٍ لا تراهُ
ومن جسدٍ أبيضٍ يشتهيكَ
ومن طلقةٍ قد تراكَ.
ـ أتقرأُ كافكا وتدخل في الليل؟
كانَ زماناً جميلاً وكان دمشقُ نهايات أحلامنا
ذهبنا إلى بردى وسألناهُ:
هل أنتَ نهرٌ أم امرأةٌ زاهدهْ؟
فلم يخرجونا إلى النهر ثانيةً...
صاحِ هذي زنازيننا تملأ الأرضَ من عهدِ عادٍ،
فأين البياضُ وأين السوادُ؟"(44)
إن الجزء الأوّل من هذا المقبوس يضعنا أمام "قصّة الإنسان الفرد، الذي قذفته ظروف الحياة نحو الانخلاع والعزلة، فابتعد، أو أبعد، لينادي من أقاصي عزلته باقي البشر (إنني أخوكم... فلماذا أتركُ وحيداً)، وهذا النداء نسمعُهُ في كل قصة قصيرة منذ تردد، وبكل هذا الوضوح في "معطف غوغول"(45)، ولعل هذا الشعور هو ما دفعَ الراوي ليسأل صاحبه: "أتقرأ كافكا وتدخل في الليل" لما في أعمال كافكا من أجواء مشابهة لذلك.
أشارَ فرانك أوكونور ـ ذات يوم ـ إلى أن غرابة سلوك الشخصية هي دم حياة القصة القصيرة (46)، وربما من قبيل المصادفة قدم محمود درويش هنا شخصيةً في سلوكها شيءٌ من الغرابة، لكن مصدر هذه الغرابة سيصبح معروفاً تماماً حين يتابعُ القارئ النص، ويدرك أن هذا المناضل المشاكس، الرافض، الذي يحثُ أبناء وطنه على رفض واقعهم المقيت ـ مهددٌ بالتصفية من بعض أبناء قومهِ، وكي لا تظل الشخصية مبهمة لاحظنا أن الشاعر / الراوي، بدأ يقدم لنا نُتَفاً من العرض، الذي أخّره عمداً، فحدثنا عن سلوك تلك الشخصية المشاكسة عندما كانا في دمشق.. ثم دخل في تناصٍ مفاجئٍ مع بيتٍ معروفٍ من شعر المعري:
..بَ فأين القبورُ من عهدِ عادِ
صاحِ هذي قبورنا تملأ الرحـ
فاستبدلَ مفردة (القبور) عنده بـ (الزنازين)، ليعبّر عن كثرة السجون والمعتقلات على سواحل المتوسط، التي تشبهُ بكثرتها، واعتياد وجودها، القبورَ!
وسيتابُعُ الراوي أسلوبَهُ هذا نابذاً جوانب العرض غير الضرورية، وماداً القارئ بالقدر الكافي من المعلومات دونَ زيادة أو نقصان:
"...وباريسُ نائمةٌ في الرسوم على حافةِ السينِ
كلُّ روايات باريسَ غارقةٌ في التلوّث
وحدهُمُ العاشقونَ يظنونَ أن المياه مرايا فينتحرونَ...
ـ أين ننامُ أخيراً؟
على مقعدٍ في الحديقةِ
قلتُ: ألا يقتلونَ هنا؟
قالَ لي: ربّما يقتلونُ، ولكنّهُ تعبٌ لا يخافُ،
وقلتُ: أيوجعك الليلُ؟
قال: وتوجعني الروح والنجمة الباردة"(47)
حتى بعض تلك العبارات، التي قد تبدو زائدة، ولا تضيف شيئاً، نستطيعُ لو تأملنا قليلاً أن نكتشف الغايات الفنية لوجودها... فالحديث عن باريس في الأسطر الثلاثة الأولى من المقبوس، وقد جاءت ضمن حديث الراوي، وفي سياق حوارٍ مع عز الدين قلق، أفادَ بشكلٍ أو بآخر "عرض مسرح الأحداث بشكلٍ حي ومباشر بدلاً من الموجز، الذي ينقُلهُ الراوي العليم ببواطن الأمور.
هذا العرض الممسرحُ من خلال حوارٍ يستدعي الماضي إلى الحاضر كأننا في مسرح"(48)، بل يستدعي أحياناً أسطورة من عمق الزمن الغابر ـ كأسطورة نرسيس ـ فتضيء المكان الجديد، وترسمُ دون مباشرةٍ أو افتعال بعض ما يحدثُ في ليالي باريس، التي هي مسرح جريمة الاغتيال.
بنهاية المقبوس السابق ينتهي المقطع الأوّل من القصيدة، وتأتي مساحة بيضاء فاصلة قبل أن يبدأ المقطع الثاني؛ الذي نحارُ في زمن حدوثِ ما يتضمنه، ثم نكتشفُ ـ بعد استعراض جملة من الاحتمالات ـ أن الراوي نفسه ما يزال يتابع سردَ ما يتذكره من اللقاء الأخير مع صاحبه بضمير المتكلم... ربما استلقى كل من الشاعر وصديقه فوق معقدٍ في الحديقة، خشيةً أن يعودا إلى الشقة فيجدا القتلة بانتظارهما، وراحا يتحدثان:
"لعلّ الفتى حجرٌ...
من بعيدٍ يرى مُدنَ البرتقالِ السياحيِّ
والكاهنِ العسكريِّ
ولكنّهُ يجمَعُ الملصقاتِ ويكتبُ فوق بقايا السجائر آراءَهُ في الغزاةِ
الذين إذا شاهدوا مُدناً هدموها بأسمائهم واستراحوا على العشبِ.
قالَ: لماذا تكونُ الثقافةُ ظلَّ الجنود على ساحلِ الأبيضِ المتوسطِ؟
قلتُ: وخادمةً للبلاطِ وللفئة الزائدة.
....قد اعترفوا أنهم قتلوني
ولكنهم عانقوني طويلاً
ودسّوا مكانَ الرصاصةِ عشرين ألف فرنكٍ مكافأةً للخطاب الذي سوفَ
أقنعُ فيهِ اليسارَ الفرنسي أن السجونَ على ضفةِ النهر مستشفياتٌ
وأنّ دمي مائدة"(49).
افتتحَ الراوي المقطعَ بعبارة: "لعلَّ الفتى حجرٌ...."، التي استحضرت في أذهاننا على الفور بيتَ تميم بن مقبل:
تنبو الحوادثُ عنهُ وهو ملمومُ
ما أطيبَ العيش لو أنّ الفتى حجرٌ
ولم يساعدنا ـ على الإطلاق لا بالكلامِ ولا بالإشارات ـ في معرفة قائل هذه العبارة، هل قالها عز الدين قلق؟ فاستدعت في ذهن الراوي صورة صديقه في دمشق، أو القاهرة أو بيروت أو أي مكان آخر عندما كان لا يستسلم لليأس، فيجمع الملصقات، ويكتب آراءَه في الغزاةِ على عُلب التبغ، أو أعقاب السجائر، إن عزّ إيجاد الورق... أم قالها الشاعر/ الراوي ضمنَ منولوج داخلي بينما كان يتملى وجه صديقه ويتذكرهُ في غابر الأيام، لينقُضَ بيتَ تميم بن مقبل نفسه، مؤكداً أن الفتى قد يكون أحياناً من الثبات على مبادئهِ والإخلاص لأحلامهِ ومواقفه ـ كالحجر الصلد؛ الذي تمر به الحوادث وتعبرُه المصائب دون أن تفعل به شيئاً.
وفي الحالتين فالغايتان: (الفنية والمعنوية) محققتان؛ فمن خلال الأسطر الخمسة الأولى بما فيها من مُناجاة، ثم الحوار بعد ذلك، رأينا القاص ينظم حبكة العمل ويطوّر المضمون الذي ما زال مجهولاً حتى الآن.
إن الأسطر الأخيرة من المقبوس، وقد جاءت على لسان عز الدين، قدّمت بشكل غير مباشر شرحاً وبياناً يفسران ما سيحدث فيما بعد، ووفّرا على الراوي أن يفعل ذلك بلسانه هو فيبدو متطفلاً وغير مقنع.
لقد كان على الشهيد أن يبيع نفسه لقاء مكافأة ما، فيكون مطيعاً للأوامر التي تأتيه من أحد الأمكنة، ويرسم صورةً كاذبة لما يجري في الوطن؛ وإلا فسيدسون الرصاصة في موضع المكافأة!
مع أنهم قد قتلوهُ سلفاً منذ لحظةِ طلبهم هذا؟؟
يأتي بعد ذلك فاصل أبيض، يعقبه مقطع يغلب عليه الوصف... وكأنَ الراوي أرادَ أن يساعدَ الحوار بتقنية أخرى على غاية كبيرة من الأهمية، هي الوصف لقدرة هذا المكون على تحقيق الوظيفة التجسيدية، وسنجدُ الوصفَ بعد قليل في خدمة الحدثِ تماماً، ونجد الشاعر/ الراوي قادراً ـ كأمهر كتّاب القصة القصيرة ـ أن يسردَ من خلال الوصف؛ ليس في المقطع التالي فحسب، بل فيما يليه أيضاً إنه بوصفه الذي سنقرؤه أدناه يقدّمُ ما يشبه مشهداً مسرحياً، لكنّهُ "ليسَ تزامنياً كأنّه لوحة مكانيّة، بل هو تتابعي كأنّه دراما زمنيّة"(49):
"وكانَ صديقي يطيرُ
ويلعَبُ مثلَ الفراشةِ حولَ دمٍ
ظنّهُ زهرةً؛
كان مستسلماً
للعيون التي حفظت ظِلَّهُ،
وكانَ يرى ما تراهُ العيون التي حفظت ظِلَّهُ
كانَ مزدحماً
بالأزقّةِ والذاهبينَ إلى السجنِ والسينما
والليالي التي امتلأت بالليالي
وباللغةِ الفاسدةْ
وكان يودّعني كلما جاءني ضاحكاً
ويراني وراء جنازتِهِ
فيطلُّ من النعشِ:
هل تؤمنُ الآنَ أنهمُ يقتلونَ بلا سببٍ؟
قلتُ: من همْ؟
فقالَ: الذينَ إذا شاهدوا حُلُماً
أعّدوا لـه القبرَ والزهرَ والشاهدة"(50).
في الأسطر السبعة الأخيرة من هذا المقبوس، يضعنا الشاعرُ/ الراوي أمامَ نبوءةٍ كانَ يطلقها عز الدين قلق دائماً وهو يضحك، أما الراوي الذي تقمَّصَهُ الشاعر فقد قدّمَ بذلك ما يسميه بعض النقاد إرصاداً (51) إن هذه التقنية تنازعُ "تنظيم القصة المُسبق، وهي كنبوءة تشوّش المستقبل بأن ترفَعَ عنُه القناع قبلَ الأوان استباقاً"(52) ولكنها مع كل ما تمثله من تمرّدٍ بنيوي من قبل فقرةٍ أو جزءٍ من أجزاء الحكاية على المجموع الذي يحتويها، تغني بنية العمل وتحرّرهُ من الرتابة وتنمي في المحصّلة الدراما التي يثيرها إنجاز الحكاية(53).
ويأتي بعد ذلك فاصل أبيض، يعقبهُ مقطع جديد يتابعُ الراوي في بدايتهِ وصفَ صديقه، ثم بالتفاتهٍ ذكية يلقي نظرة على المكان الذي يضمهما: "ونبقى غريبينِ في مصعدٍ ينظرانِ إلى الساعة الجامدة"
هو لم يقل لنا مثلاً: عدنا من الحديقة صباحاً وركبنا المصعد وتذكرّتُ كذا وكذا! لقد ترك لذكرياته التي تنجسُ فجأةً... أنّ تقدم مشاهد متفرقة... متباعدة، في أماكن متعدّدة، فإذا ما جَمَع القارئ تلك الصور الرائعة معاً وجَدَ نفسه أمام بورتريه كامل لبطلِ القصيدة/ القصّة:
"... وكانَ يحبُّ وينسى
ويسألني دائماً: يا صديقي لماذا أحبُّ وأنسى التي سأحبُّ، ونبقى
غريبين في مصعدٍ ينظرانِ إلى الساعةِ الجامدةْ؟"
وتجرُّ عبارة "يحب وينسى" شريطاً طويلاً من الذكريات المشتركة بين الشخصيتين؛ وباستخدام السرد والوصف والحوار معاً سيضيء الراوي شخصيّةَ بطله بشكل عميق راسماً ملامحها بدقّة.. مرّةً من خلالِ صورتها في عينيه، ومرّةً من خلالِ كلامها نفسه، ومَرّةً من خلالِ مواقفها في هذه اللحظة أو تلك؛ مستدعياً الكثير من الماضي إلى الحاضر، مثيراً فضول القارئ من خلال بعض التحذيراتِ والوعودِ والاستشرافات:
"يحبُّ وينسى
ويذكرُ شكل النباتاتِ حولَ الدروبِ التي خَرَجت من شمالِ فلسطينَ في
شهر مايو ولم ترجعِ
الأغنيات التي ودّعت نازحاً
والأغاني التي استقبلت فاتحاً
تتشابهُ،
قالَ: أفكرّتَ في الانتحار قليلاً؟
نعمْ
ألأنَ الرفاقَ يخونونَ مثلَ الغديرِ
لأنَ الرفاقَ يمرّونَ كالساقيةْ؟
قلتُ: كلا! أينتحرُ المرءُ من أجلِ جميّزةٍ هامدةْ؟ قالَ:كلا.
أأدركتَ أنا نمرُّ على الأرضِ ظلاّ
وجسمُكَ ليسَ نُحاساً ليحملَ هذا الزمانَ
وقالَ: أتذكُرُ منذُ ثلاثينَ عاماً...؟
وأذكرُ كنتُ أمدُّ يدي في بياض النهارِ
وأنتشلُ القلبَ من قطّةٍ تتسلّى
بما يترُكُ الزائرونَ على البابِ: أسرى وقتلى
فقلُت: ومملكةُ الله أحلى
وقالَ: أفكّرت بالانتحارِ كأبناءِ جيلكَ؟
قلتُ: وكنتُ كأبناء جيلي أحبُّ فتاةً من الموجِ
كان المساءُ جريحاً بلا سببٍ واضحٍ تحتَ شُرفتها الواعدةْ"(54)
في المقطع السابق نلاحظ أن شخصيّة الشاعر/ الراوي بدأت تأخذ حيزاً من مساحة النص، في حين كانت غائبة خلال المقاطع السابقة وانحصر دورها في تقديم شخصيّة البطل، ورسم مسرح الحدث وما إلى ذلك.. أما الآن فقد منحها الشاعر شيئاً من اهتمامه، وأولى رسمَ ملامحها هي الأخرى بعض انتباهه.
لقد استطاعت الحوارات الكثيفة في مقاطع القصيدة المختلفة أن توجزَ الكثير من المعلومات والوقائع التي كانت ـ لولاها ـ تحتاجُ إلى مساحات كبيرة لتقديمها كما تمكنّت الحواراتُ أيضاً أن تشعرنا بإيقاعات الأصوات؛ بألوان تلك الإيقاعات المختلفة، التي قدّمت إلى حدٍ بعيد انفعالات هاتين الشخصيتيّن.
ويتابع الراوي في المقطعين اللاحقين سردَ تداعياتِ أفكارهِ، التي أجّجتها عبارة صاحبه:
"أفكرّتَ بالانتحار كأبناء جيلكَ" متحدّثاً خلال ذلك عن نفسه راسماً شيئاً من ملامحها وتجربتها مع الحبِ والسجنِ والانتحار، وكأنّه بذلك يمنحُ قارئهُ فترة استراحة، أو يوقفُ مسيرة الحدث قليلاً.... ليلملم شتات أفكاره، كي يتابعَ بعد ذلك بناء صورة لشخصيّة بطل قصيدته، دافعاً به نحو مصيره المحتوم:
"... ويقفزُ فوقَ بلاط الشوارعِ
مثلَ طيورٍ مبللةٍ بالزوابعِ
والبرقِ
يرمي لنا ذكرياتٍ عن الشرقِ: أمّي تحبُّ دمشقَ.
أبي يتمنّى الرجوعَ إلى حجرٍ نامَ في صدرِهِ
وأختي تظنّ العراقَ بعيداً
وتحسبُ أن السواد ليالي
فأخبرتُها أنّهُ شجرٌ في الغروبِ
وتؤمن أنّ دمي يكسر السيفَ
والقاعدة"(55)
وتتعالى المقاطعُ المشبعة بالحوار، مؤكدّةً ضغط الذاكرة على المخيّلة الشعريّة، بفعل حالةٍ من الانفعال العاطفي، والاحتداد النفسي، حتى تصل القصيدةُ / القصة إلى ذروتها؛ فيصرخ الراوي بصاحبه... وهو في هذهِ اللحظة بعيدٌ عنه:
"ألم تجد امرأةً واحدة
تمشّطُ شعركَ هذا الصباح
فترتاحُ للتعبِ الوثنيِّ
فلا يقتلونكَ حين تمرُّ
بلا حارسٍ أو لغةْ
ألم تجد امرأةً واحدة
تطيلُ الصباح على الجسر؟
قد يتعبونَ من الانتظارِ
وقد يذهبونَ إلى نزهةٍ في حدائقِ فينسانْ
وقد يخجلونَ من الكلماتِ التي ستقول لها عن رحيلٍ بلا فائدةْ"(56)
ويعودُ الراوي في القطعين التاليين إلى الحكي عن الشخصيّة بصيغة الغائب بعد أن خاطبَهُ في مقطعين سابقين بصيغة (أنت)، ليكملَ رسم شخصيّة تشعر بكل ما يحيطُ بها من ظروف شديدة القسوة، لكن رد فعلها على ذلك يعبّر عن هدوئها وثباتها وسيطرتها على زمام نفسها، بحيث ترفض التنازل، هي شخصيّة تكافح، وتمتلك إمكانية الانتصار على القوى المناوئة فيما لو ساعدتها الظروف لكنّها في النهاية تسقط مضرجةً بدمائها:
"يرى موتَهُ واقفاً بيننا فيدخّنُ كي يبعدَ الموت عنّا قليلاً. يصفّرُ لحناً
سريعاً ويطردُ عن معطفي نحلةً، ويتابعُ: في شهر تموز تذهبُ باريسُ نحوَ
الجنوبِ، وقد يذهبُ القتلةْ.
يرى موتَهُ في النبيذ فيهتفُ سيدّتي غيّري قَدَحي. ويتابعُ: كانوا ورائي
في معرض الملصقاتِ، فأسندتُ نافذةً واستدرتُ وصافحتهم واحداً
واحداً.. يلعبُ الموتَ، يألفُهُ، ويباريهِ. يعرفُهُ جيداً ويعرفُ كل مزاياهُ، يشرحُ أنواعَهُ: طلقةٌ في الجبين فاسقطُ كالنسرِ فوقَ السفوحِ.
وقنبلةٌ تحتَ سيّارتي فتطيرُ ذراعٌ إلى الشُرفاتِ وتكسِرُ آنيةَ الزهرِ أو شاشة التلفزيون
قنبلةٌ تحتَ طاولةٍ أو رصاصٌ على الظهر أو طلقةٌ تحتَ حُنجرتي
هكذا الموتُ، أبسطُ ممّا تظنُ"(57)
في المقطع السابق نرى الشاعر يرصفُ الكلام على السطور بطريقة النثر في محاولة إيهاميّة ترمي إلى إقناع القارئ بتماهي جنسين في هذا النص هما الشعر والقصّة، ويمعن في ذلك بأن يلغي القوافي تماماً، ومعَ أنّ النظمَ والاندفاع العاطفي عموماً قد يتراخيان مع استبداد السردِ؛ فإن درويش ينجو من ذلك في المقبوس السابق ـ وغيره على العموم ـ بغزارةِ صورهِ، وبلغتِهِ المجازيّة ذات الخيال الوثّاب.
على مشارف نهاية القصيدة ـ وقد لعبَ السردُ بمكوّناته المختلفة دوراً كبيراً في تصاعد العمل باتجاه الذروة، ونهضَ الحوار الكثيفُ بالغايات المطلوبة فرسَمَ الشخصيتين المتحاورتين من الداخل بعمق ـ على مشارفِ النهاية إذاً يستبدل الشاعر راويه السابق، الذي استخدم حتى هذه اللحظة ضمير المفرد المتكلّم براوٍ آخر هو راوٍ عليم ببواطن الأمور، غير مشارك في الحدث، ليحملَ عبء سرد تفاصيل الاغتيال.... وهذه لحظةٌ على غايةٍ كبيرة من الأهميّة، إنها تثبت أنّ محمود درويش قاصٌ بامتياز؛ فالراوي الأوّل ما كان بإمكانه أن يصوّر لنا تلك التفاصيل، التي سنقرؤها بعد قليل، زد على ذلك أنه لم يكن موجوداً لحظة الاغتيال، لقد التقى الشهيد في باريس في وقتٍ ما قبلَ الاغتيال، ولو أرادَ أن يسرد التفاصيل الأخيرة لهذهِ الجريمة فسيفعل ذلك ناقلاً الخبر عن شخصيّة وسيطة مما يضعف النهاية.
في المقطع هذا يوظفُ الراوي رسالتين ـ برقيتين مع الإشارة إلى مصدرهما، دون أن يسمح للشخصية أن تعقبّ عليهما أو تشرحهما.... وقد نهضتا بدورٍ غير قليل، فبينتا جانباً جديداً من جوانب شخصيّة الشهيد، وقدمتا معلوماتٍ جديدة عنه، وعن أهله، وعن رفاقه في المنظمة، ولا سيما من تبقى منهم في بيروت:
"....على بابِ مكتبهِ شجرُ الكستناءِ
ومقهىً صغيرٌ
وقوسُ حمامْ.
يرى طالباً عربياً فيرمي عليه السلام
يردُّ بطيئاً
ويشربُ قهوتَهُ
يصعَدُ السلمَ الحجريَّ
سريعاً كعادتِه مثل طيرٍ يبللُه البرقُ.
يدخلُ غرفته. يتأمّلُ أوراقَهُ والخريطةَ والشهداءَ الكثيرين فوقَ الجدارِ
ويقرأ برقيةً من دمشقَ: "تعالَ مع الصيفِ يا ابني".
وبرقيّةً من بقيّةِ بيروتَ: "شدّد عليكَ الحراسة".
لم يتساءل لماذا يريدونَ أن يقتلوهُ
ولم يتذكرّ بلاداً تنامُ على صُرّة اللهِ مِثلَ المُسدس،
لكنهم أخبروه
أن صاحبهُ الطالبَ العربيَ يريدُ مقابلةً عاجله
فألقى عليهِ تحيّته الشارده
وردَّ بأقصرَ منها.. وبالطلقةِ القاتِلَه
وعادَ إلى شجر الكستناءِ
ليشربَ قهوتَهُ الباردَه"(58)
لماذا ازدادت حدّة الإيقاع في هذا المقطع على خلافِ سابقه،وجاءت القوافي سريعةً ومتتاليةً ومتنوّعة: (كستناءِ ـ حمامْ ـ سلامْ ـ يقتلوه ـ أخبروه ـ عاجلهْ ـ قاتلهْ ـ شاردهْ ـ كستناءِ ـ باردةْ)؛ ألأنها تقدم حالة الموت؛ وأي موت؟! الموت السريع الغادر... رمياً بالرصاص، الذي لا يكون إيقاعُهُ بطيئاً بأي شكل من الأشكال، وقد استطاع هذا الراوي المحايد أن يبعثَ فينا ألماً مخيفاً سرى كأنه الخدر في أرواحنا، وحقداً مُراً كالعلقم، دون أن يبدو هو متأثراً.. دون أن يبكي أو يولول...الخ، وقد تحقق لـه ذلك حين جعلَ الشهيد ينظرُ قبل ثوانٍ من اغتيالهِ إلى صور الشهداء الكثيرة المعلقة على الجدار، ومن خلال قراءة برقيّة دمشق: "تعالَ مع الصيف يا ابني"، فهناك إذاً أم تنتظر، أم لا يخطر ببالها على الإطلاق أن أخوة السلاح، أو من يفترض بهم أن يكونوا كذلك يصفوّن بعضهم بعضاً.... أمّا ما يثيرُ الحقد، فهو تصرف ذلك القاتل؛ الطالب العربي، الذي يقول الراوي إنه كان صاحب الشهيد، ما يسّر لـه الدخول عليه بكثير من البساطة ـ هو الذي لم يأخذ بنصيحة بيروت، بل لم يتساءل: لماذا يريد أخوانه قتله؟ ـ فقتله دون أدنى ترددٍ، وعادَ يشرب فنجان قهوتهِ في المقهى الصغير قرب باب المكتب وكأن شيئاً لم يكن.
لقد وصلتنا شخصيّة عز الدين قلق، بطل القصيدة ـ القصّة، عن طريق ذكريات الشاعر الخاصة جداً فأصبحت هذه الشخصية على الفور جزءاً من ذكرياتنا نحن؛ إن "الذاكرة هي مفتاح الوصول والاتحاد الذي يقود الناس إلى التعاطف والفن على أنواعه يضيء هذا الوصول ويوسع مداه بكشفه عن التفاصيل الدقيقة لتجارب الآخرين"(59)
الإحالات
1 ـ انظر: إدوار الخرّاط، الكتابة عبر النوعيّة ـ دراسة في ظاهرة القصة القصيدة، دار شرقيّات، القاهرة 1994.
2 ـ د. جابر عصفور، مجلة فصول، المجلد الخامس عشر، العدد الثالث، خريف 1996، القاهرة ، ص 5.
3 ـ د. محمد مندور، محاضرات في الشعر المصري بعد شوقي، معهد الدراسات العربيّة العالية، القاهرة، 1957 ، ص 20.
4 ـ انظر: د. عزيزة مريدن، القصة الشعرية، دار فكر، دمشق 1984، 511 صفحة.
5 ـ انظر: علي جعفر العلاّق، الدلالة المرئية، مجلّة فصول (سابق)، ص (334ـ 345).
6ـ موفق نادر، إنما للشعر قصة، مجلة الكويت، الكويت، العدد 222، 2001،
ص (36 ـ 37).
7ـ د. حسين خمري، الظاهرة الشعرية العربية ـ الحضور والغياب، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001.
8ـ محمد رضوان، مملكة الجحيم، دراسة في الشعر العربي المعاصر (الحكاية نموذجاً)، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001، 99 صفحة.
9ـ موفق نادر، سابق، ص 36.
10ـ د. حسين خمري، سابق، ص 65.
11ـ عن علي جعفر العلاق، (سابق) حاتم الصكر، مالا تجدهُ الصفة، المقتربات اللسانية والأسلوبية والشعرية، دار كتابات، بيروت، 1993، ص 72.
12ـ محمد جمال باروت، الحداثة الأولى، اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، دبي 1991، ص 204.
13ـ نقلاً عن د. نضال الصالح، النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة، اتحاد الكتاب العرب 2001، ص 165/ مارتن الاس، نظريات السرد الحديثة،
ص 139.
14ـ د. نضال الصالح، سابق، ص 165.
15ـ محمد مهدي الجواهري، الجمهرة، الجزء الثاني، القسم الأوّل، وزارة الثقافة السوريّة دمشق، 1990، ص 277 .
16ـ نفسه، ص 277.
17ـ فخري صالح، سعدي يوسف: شعرية قصيدة التفاصيل، مجلة فصول (سابق)، ص 142.
18ـ د. محمد صابر عبيد، القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية والإيقاعية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001، ص 2.
19ـ كمال أبو ديب، في الشعريّة، مؤسسة الأبحاث العربيّة، بيروت 1987،
ص 136.
20ـ يرى أدونيس هذا الرأي في حوار معه أجرته مجلة (عيون)، الصادرة في ألمانيا عن دار الجمل 1998، العدد 6، ص (125 ـ 133) وقد عبر أدونيس في هذا اللقاء عن أنه استفاد من تقنيات السينما ـ التي تشمل ضمناً القص والمسرح معاً ـ في عمله الأخير (الكتاب).
21ـ سوزان برنار، قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة: زهير مجيد مغامس، دار المأمون، بغداد 1993، ص 265.
22 ـ 23ـ محمود درويش، أعراس، دار العودة، بيروت، ط3، 1982.
24 ـ 25ـ محمود درويش، حصار لمدائح البحر، الأعمال الكاملة، المجلد 2، دار العودة، ط1، 1994.
26ـ محمود درويش، حصار لمدائح البحر، الأعمال الكاملة، المجلد2، دار العودة ط1، 1994.
27ـ محمود درويش، أعراس، (سابق) ، ص 109.
28ـ نقلاً عن د. نضال الصالح، (سابق)، ص 170.
29ـ محمود درويش، أعراس، (سابق)، ص 110.
30ـ علي جعفر العلاق، مجلة فصول، (سابق) ص 236/ نقلاً عن روبرت شولتز.
31ـ محمود درويش، أعراس، (سابق)، ص 110.
32ـ إنريكي أندرسون إمبرت، القصة القصيرة / النظرية والتقنية، ترجمة: علي إبراهيم علي منوفي، مراجعة: صلاح فضل، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص 77.
33ـ نفسه، ص 77.
34ـ محمود درويش، أعراس (سابق)، ص (112 ـ 113).
35ـ د. محمد صابر عبيد (سابق)، ص 42.
36ـ درويش أعراس(سابق)، ص 112 ـ 113.
37ـ نفسه، ص 113.
38ـ نفسه، 114.
39ـ نفسه، ص (114 ـ 115).
40ـ نفسه، ص (115 ـ 116).
41ـ د. حميد لحميداني، بنية النص السردي. المركز الثقافي العربي، بيروت 1991، ص 45.
42ـ فرانك أوكونور، الصوت المنفرد، ترجمة د. محمود الربيعي، وزارة الثقافة، الجمهورية العربية المتحدة، الهيئة العامة للتأليف والنشر، 1969، ص 20.
43ـ محمود درويش، الأعمال الكاملة، (سابق)، ص 121.
44ـ نفسه، ص 121 ـ 122.
45ـ محمد كامل الخطيب، أعمال ندوة: القصة القصيرة في سوريا أصالتها وتقنياتها السردية، المعهد الفرنسي للشرق الأوسط، قسم الدراسات العربية 2002 دمشق ، ص 87.
46ـ فرانك أوكونور (سابق)، ص 34.
47ـ محمود درويش، الأعمال الكاملة، (سابق) ص 122.
48ـ إنريكي أندرسون إمبرت، (سابق)، ص 325.
49ـ محمود درويش، (سابق) ص 122 ـ 123.
50ـ نفسه، ص 123 ـ 124.
51ـ انظر: جان ريكاردو قضايا الرواية الحديثة، ترجمة: صياح الجهيم، دمشق وزارة الثقافة 1997، ص 269، وانظر: كتابي (قارب الأغنيات والمياه المختالة)، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص (77 ـ 86).
52ـ نفسه، ص 269.
53ـ نفسه، ص 277.
54ـ محمود درويش، (سابق)، ص 125 ـ 126.
55ـ نفسه، ص 127.
56ـ نفسه، ص 129 ـ 130.
57ـ نفسه، ص 131.
58ـ نفس، ص 132.
59ـ م.ل. روزنتال، الشعر والحياة العامة، ترجمة إبراهيم يحيى الشهابي، وزارة الثقافة دمشق، 1983، ص 43 ـ 44.
جماليات البنية الإيقاعية لقصيدة التفعيلة([2]) الشعر في سوريا ـ نموذجاً
بدأت حركةُ التجديد الشعري أو ما عرف بالشعر الحر في سوريا، في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي؛ أي بعد عشر سنوات تقريباً من انطلاقها في العراق ومصر، هذا إذا أهملنا بعض المبادرات، الفردية في سوريا، كما هي الحال عند علي الناصر في ديوانه (الظمأ)، الصادر في حلب عام 1931، وقد عزا بعض النقاد هذا التأخير إلى انشغال الشاعر السوري ـ أكثر من غيره ـ بالمسالة الفلسطينية؛ التي اتخذت مجرىً جديداً عام 1948، فوجد نفسه يغوص في خضم هذه القضية، وما انبثق عنها من نزوحٍ فلسطينيٍ وأحداث دموية(1).
ولكن الشعراء السوريين سارعوا إلى تبني المولود الجديد ورعايته، فإذا به ينمو عندهم بسرعةٍ، وبثقة، ويكتسب من الصفات والملامح ما لم يكن لـه من قبل، ومردُّ ذلك إلى أن البيئة والتربة السوريتين كانتا جاهزتين وناضجتين لاستقبال هذا الغرس الجديد؛ هذا الغرس الذي سينمو بفعل ثلاثة مؤثرات: "أولها هضم التراث، ثم تجاوزه والإضافة إليه، وثانيها التأثر بالثقافة الوافدة بصفتها ثقافة إنسانية ثم الاستقلال عنها، وإغناؤها، وثالثها: الاستجابة لحاجات الواقع في التصوير والتعبير"(2) والآن وقد تجاوزت التجربة في سوريا عقدها الرابع... أين هي من البداية؟ أين أصبحت القصيدة الحديثة، التي أراد
لها أصحابها ألا تكون مجرد شكل من أشكال التعبير، بل شكلاً من أشكال الوجود(3).. القصيدة الرؤيا... المتمردّة على الأشكال والطرق الشعرية القديمة(4)؟ القصيدة الشبكة، وليست الخيط الواحد.. المتلألئة والثقيلة كذبيحة!... القصيدة الرافضة التي تطرح الأسئلة، ولا تتكلم على العالم، بل تتكلّم العالم(5)؛ انطلاقاً من لغة التساؤل والإشارة والتغيير، تلك اللغة التي يجب أن تقول ما لم تتعود على قولـه كما قال أدونيس؟ .
استطاعت حركةُ الشعر الحديث ـ كما عبّر د. نعيم اليافي ـ أن تبدل وجه النظرية الشعرية النقدية من خلال جملة نتائج هي : "أولاً ـ ليسَ ثمةَ من موضوعات خاصة بالشعر أو بالنثر، فما يكسب الموضوع شعريته أو نثريته هو طريقة رؤيته أو معالجته.
ثانياً ـ ليسَ ثمة مفردات خاصة بالشعر أو بالنثر، فما يجعلها شعرية أو نثرية هو وجودها في علاقة أو نسقٍ. ثالثاً ـ ليس الوزن العروضي التقليدي هو أساس التفريق بين الفنين فحسب، بل هو ـ إلى جانب عناصر أخرى مكونة لشعرية النص ـ الإيقاع الشعوري الداخلي والخارجي بوصفهِ مفهوماً متغيراً يرتبط بالمعيار الزماني (الأذن)، مثلما يرتبط بالمعيار المكاني (البصر)"(6).
غير أن هذه النتائج ـ وغيرها ـ جاءت حصيلة صراعٍ عنيفٍ مع جملة تحديات خاضت حركة الشعر الحديث غمارها؛ منها: تحديات على صعيد البنية الإيقاعية والموسيقية.
وعلى صعيد الصورة الفنية، واللغة، والتراث، ومعمار القصيدة، وتشكيلها وتجديد مضامينها وما إلى ذلك.
في هذا البحث سيقتصر حديثنا على بعض الإنجازات الجمالية في البنية الإيقاعية لقصيدة التفعيلة في القطر العربي السوري، في محاولةٍ لضبط حدود هذا الموضوع الواسع؛ مع علمي أن تناول جماليات قصيدة التفعيلة، لا يمكن أن يكون شاملاً وجامعاً إلا إذا مسح كامل الأرض العربية التي نشأت القصيدة فيها وتطورت وتلونت في أفيائها وتحت شموسها! وتنوعت بتنوعِ بلدانها، ومشارب شعرائها ومواهبهم ومصادرهم!
ممّا لا شك فيه أن مسألة أوزان القصيدة الجديدة، وإيقاعاتها، وموسيقاها على العموم هي إحدى أهم المسائل التي واجهت شعراء التفعيلة ونقادها منذ البداية حتى أن نازك الملائكة اعتبرت الشعر الحر "ظاهرة عروضية قبل كل شيء، ذلك أنه يتناول الشكل الموسيقي للقصيدة، ويتعلق بعدد التفعيلات في السطر، ويعنى بترتيب الأشطر والقوافي، وأسلوب استعمال التدوير والزحاف والوتد وغير ذلك، مما هو قضايا عروضية بحتة"(7).
ولقد قعدت نازك الملائكة الأصول الإيقاعية للشعر الحر، فحصرتها في التفعيلة، وربطت بشدة بين هذه الظاهرة، والشعر العربي القديم، محذرةً من الخديعة، التي ينجر إليها الشعراء الجدد، تحت وهم الحرية، فتسوغ لهم نفوسهم الخروج على ما تقبله الأذن العربية والعروض المعروف... حتى أن الشاعرة حددت البحور، التي يمكن أن يستقيم عليها الشعر الحر، كالبحور الصافية، أي ذات التفعيلة الواحدة المكررة في كل شطر ( الكامل ـ الهزج ـ الرجز) أو البحور الممزوجة، أي التي تتنوع تفعيلاتها، على أن تتكرر إحدى تفعيلاتها (السريع ـ الوافر)؛ وقد أرادت نازك الملائكة من ذلك تأكيد قاعدة عروضية يجب أن تلتزم في الشعر الحر، مفادها عدم تنوع التفعيلات في الوزن الواحد، حتى لا ينتقل الشاعر من بحرٍ إلى آخر، مما يؤدي إلى ضرب "وحدة التفعيلة" التي قام على أساسها الشعر الحر.
وفي كل الأحوال فقد انطلق هذا الشعر الجديد ليكسر رتابة البيت التقليدي، ذي الهندسة الرتيبة المعروفة مسبقاً، وطرح عوضاً عنه مفهوم السطر الشعري، فأصبحت الأسطر مرتبطة ارتباطاً حميمياً بالإيقاع الداخلي لنفس الشاعر، بكل ما فيها من حركاتٍ وسكنات، من فورات وتدفقات عاطفية، أو لحظات هدوءٍ وصفاء، وعليه فقد راحت هذه الأسطر، تقصرُ أو تطول بناءً على ذلك وتم التعامل مع القوافي بصورةٍ جديدة، لا عهد للشعر العربي بها من قبل، ما يجعلنا نتناولها لاحقاً بشيءٍ من التفصيل، وكان من شأن الشعراء السوريين، ألا ينصتوا لتعليمات نازك أو غيرها في مجال موسيقى قصيدة التفعيلة... فقد انطلق مارد الإبداع من قمقمهِ، وأصبحَ من المحال إعادته إليه!
أولاً ـ في الإيقاع الخارجي لشعر التفعيلة:
أضعُ هذا العنوان الفرعي مع علمي أنه من غير الممكن أن نفصل بين الإيقاع الخارجي والداخلي للقصيدة، لأن هذين المفهومين من التداخل والتمازج بمكان، بحيث نعجز موضوعياً عن الفصل بينهما، لكنني أفعل ذلك لتيسير تناول ظاهرة الإيقاع في هذا النمطِ من الشعر.
آ ـ الإيقاع العروضي:
يؤكد د. أحمد بسام ساعي أن لواء هذا الشعر بدأ بحمله في سوريا صنفان من الشعراء:"صنفٌ تمرس بالشعر الخليلي، ثم وجد في هذا الشعر الجديد متنفساً لإيقاعات نفسِهِ الحديثة، وهذا فريقٌ من الشعراء استطاع بعد ذلك ـ على الأغلب ـ أن يمشي بخطى ثابتة أكثر في أرض الشعر الحديث. وصنفٌ آخر من الشعراء فتحوا أعينهم على هذا النوع الجديد (السهل) ـ فيما يظهر لأول وهلة ـ فوفق قلةٌ منهم بالسير فيه، وخبطَ كثيرون في متاهاتهِ من غير تمرسٍ لغوي أو عروضيٍ سابق، فكانَ إسفافٌ وسقوط"(8)
ومع أن الناقد يعود بعد كلامه السابق لرصد جملةٍ من الأخطاء العروضية لعددٍ من شعراء الفريق الأوّل، إلا أن كلامه يبقى صحيحاً ودقيقاً على الأغلب.
حاولَ هؤلاء الشعراء أن يستثمروا الطاقات الإيقاعية الكامنة في بحور الشعر التقليدية، من خلال منح التفعيلة حُرّية الانتشار على مساحة القصيدة، لكنهم ظلوا ـ في البداية ـ مشدودين إلى العروض الخليلي! وبقيت التفعيلة المفردة أسيرة ما قبلها وما بعدها من تفعيلات؛ بمعنى آخر بقيت هذه التفعيلة أو تلك بنت بحرها نفسه، وتخضع في حريتها إلى كثير من قواعده الموسيقية ولقد كان بإمكان الدارس أن يعيد كثيراً من قصائد تلك المرحلة إلى نظام البيت، بإعادة ترتيب الأسطر، وبلا كبير عناء(9).
لنقرأ مثلاً هذا المقطع من قصيدة "طوق الياسمين" للشاعر نزار قباني، وهي على الأرجح مكتوبة عام 1956:
"شكراً... لطوق الياسمينْ
وضحكتِ لي... وظننتُ أنكِ تعرفينْ
معنى سوار الياسمينْ
يأتي به رجلٌ إليك
ظننتُ أنك تدركينْ"(10).
نشاهد في المقطع، بل في القصيدة كلها مدى ارتباط الشاعر بعروض الخليل، القصيدة تسير على (الكامل) بصورةٍ مثلى، وتحافظ على نظام تقفيةٍ صارم، يعتمد قافية واحدة، وروياً واحداً، وحتى ظاهرة التدوير تبدو محدودة جداً، مع المحافظة الشديدة على قانوني "الوقفة الدلالية" و"الوقفة العروضية" مما يعكس تشبثاً شديداً بخصوصيات نظام البيت، وينطبقُ القولُ على عديدٍ من النصوص المكتوبة في تلك المرحلة (وربّما على بعض نصوص شعراء اليوم) لنقرأ هذا المقطع من قصيدة (اللقيا) للشاعر محمد عُمران:
"والبراري صفحاتٌ من كتابْ
قلبّته الريحُ
يقراهُ القمرْ
يتملى، كصبي. بالصورْ
والبراري رقدتْ دون ثيابْ
وحدَهُ يذهِلُهُ العريُ القمرْ
واجماً تصلبُ عيناهُ السحابْ
والبراري صهواتٌ من جيادْ
تمتطيها الريحُ من وادٍ لوادْ(11)
وإلى جوار هذه النماذج تظهر نماذج أخرى يلجأ أصحابها إلى التدوير العروضي في محاولة منهم لتخفيف حّدة إيقاع البحور، ولتحقيق "تلوين البناء الموسيقي للقصيدة العربية الحديثة،ولإحداث شيء من الخضخضة لنبضها الإيقاعي(12) المستقر، وربّما الراكد! وكأنّهم بذلك يكرّسون "السطر الشعري بديلاً مُهيمناً للبيت الشعري التقليدي، ومن ثمّ اقتراح جملة شعرية كبرى تنتظم النص بدل الجملة المتفرقة داخله"(13) ولقد رصَد الباحثون أنماطاً عديدة من التدوير سَمّاها أحدهم(14): التدوير المتقطّع، والتدوير المستمر، وفصّل آخر فحدد منها: التدوير الجُملي والمقطعي والكلي(15)، وقد استعمل الشاعر السوري هذه الأنماط جميعاً.
لنقرأ مقطعاً من قصيدة "هذا هو الدمُ... شخصيّاً" للشاعر مصطفى خضر:
"تلكَ قافلةٌ من بحور الخليلْ
تتحوّل راحلةً من قنابلَ
أم هجرةٌ ثانيةْ
تتقمصُ في خرقةِ الزاويهْ
خنجراً وثنيّاً، كتاباً غريباً، وطيراً أبابيلَ...
هذي الصناديقُ مملوءةً بمتاع الرحيلْ
والعظام التي ارتعشتْ علّها تتحركُ
تنتظرُ الريّ تحت سماء الخليلْ(16)
هُنا نلاحظ التدوير الجُملي بينَ الأسطر: الثاني والثالث ـ الخامس والسادس ـ الثامن والتاسع، وهو تدويرٌ على مستوى الجملة الشعريّة ينتهي بانتهائها، ثمّ يأتي سطرٌ لا يرتبط مع ما يتلوه بهذه العلاقة (الأسطر: 1، 4، 6) لتأتي بعد ذلك جملةٌ شعرية تتطلّب تدويراً يربطُ بين سطرين متتاليين؛ وهكذا تصبُح القصيدة كلها مجموعةً من الجمل التي تخضعُ للتدوير، تتخللها جمل غير مدّورة، وكل ذلك يخضع لضرورات تجربة القصيدة نفسها.
وفي قصيدة محمّد عمران "الدخول بين الوردة والدم"، نجد تدويراً مقطعيّاً يربط جمل المقطع(2) حتى نهايته:
"بين رأسي وبينَ التدليّ على الحبلِ
فسحةُ نضجِ السنابلِ
(يا شمسُ قيظكِ)
يومئ لي الحقلُ: لَم يروني مطرٌ
والسنابلُ تخفضُ أعناقها في اعتذارٍ
هي المقصلهْ"(17)
وقد يستخدم الشاعر العربي السوري التدويرَ الكلّي في مُحاولة منهُ للقضاءِ على إحساسنا بمرجعيّة هذه القصيدة إلى بحرٍ معيّن، أو تفعيلةٍ بعينها، أو يفعل ذلك راغباً في خلق إيقاعات سريعة متدّفقة، ولا سيّما عند استخدام الحوار في القصيدة، وعندما تكون القصيدة ملحميّة، وقد وظّف أدونيس هذا ا لنمطَ من التدوير في بعض نصوصه، وكذلك فعلَ فايز خضّور، لكننا سنجدُ سيطرةً كاملة لهذا النظام على قصائد بمجملها عند الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر (18).
ب ـ أنماط التقفية:
لعلّ من أهم ما يميّز قصيدة التفعيلة، غياب النظام الموحّد للقافية، دون أن ينطوي ذلك على إهمال القافية، أو النزوع إلى الفوضى، صحيحٌ أنها أصبحت متحرّرة من النظام الصارم والثابت، لكنها "أصبحت أكثر ارتباطاً بالمستويين: التعبيري: لأن الشاعر يتصرّف بالقافية، وفقَ طبيعة رؤيته الشعريّة، والدلالي: نظراً لما لها من علاقة وثيقة الصلة بالمعنى"(18).
إن الشاعر الحديث ـ على العموم ـ ظلّ متمسكاً بالقافية، إلا أنه أعادَ توظيفها لتقومَ بمهمّة ليست نغمية فحسب ـ بل بمهمّة دلاليّة وبنائيّة على مستوى القصيدة كلها، وقد أدرك في الآن نفسه أن استخدام القافية لذاتها ولغاية تطريبيّة محضة سيقوده، ككثير من الشعراء القدامى ـ إلى الاخفاقات والعثرات، ولن يسهم الأمر في بناء معمار القصيدة ونسيجها الداخلي، بل سيوقعُه في الإقحام والافتعال؛ وعليه فقد وعى: أن القافية "إذا ما استخدمت استخداماً خلاقاً فإنها لا تُصبح جزءاً لا يتجزأ من بنية القصيدة فحسب، بل مظهراً من مظاهر حداثتها أيضاً، وهي بوضعها المجردّ ليست شرطاً لتوفير فرص نجاح كبيرة للبناء الفني الجديد، كما أن إهمالها ليسَ مدعاةً للحداثة، لأن هذا يتوقف على عناصر بنائية كثيرة أخرى، وما القافية في حالة غيابها أو ضرورة وجودها سوى عنصر واحد من هذه العناصر(19).
ولقد استعمل الشاعر السوري أشكالاً عديدة من القوافي، وأسهم في توليدها وتطويرها، فرأينا عنده؛ ما أسماه فيما بعد: القوافي المتوالية والمتعانقة والمستقلّة(20)
أو ما أطلق عليه بعضهم تسمية: القوافي البسيطة والمركّبة والداخلية والخارجيّة، وما إلى ذلك، وسأتناول أدناه أشكالَ التقفية في قصيدة التفعيلة في سوريا مستفيداً من بعض الأشكال التي رصدها الدكتور محمد صابر عبيد في كتابه "القصيدة العربية الحديثة/ بين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية "الصادر عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق عام 2001 مع أنها ظواهر ليست وقفاً على الشعراء السوريين، ولكن أمثلتي ستكون لهم فقط.
ب ـ 1 ـ التقفية السطرية الموحّدة والمتنوعة:
وهي امتداد لأسلوب التقفية في القصيدة التقليدية، لكن القافية هنا تأتي في نهاية السطر الشعري، وليس البيت، وقد رأينا تجارب كثيرة أصرّ أصحابها على إقفال أسطرها كافةً، أو معظمها بقافيةٍ موحّدة لغايات تطريبيّة محض، أو انقياداً وراء العادة في الشعر التقليدي، ونوّعَ بعضهم في التقفية السطرية هرباً من الرتابة، وسعياً خلفَ إغناء النصِ موسيقيّاً، ومن الأمثلة الكثيرة على هذا النمط من التقفية المقطع التالي من قصيدة نزار قباني "النقاط على الحروف":
"لا تكوني عصبيّة!!
لا تثيريني بتلك الكلمات البربريّهْ
ناقشيني بهدوءٍ ورويّة
من بنا كانَ غبيّاً يا غبيّةْ
انزعي عنك الثياب المسرحيةْ
وأجيبي
من بنا كان جبانا؟
من هو المسؤولُ عن موت هوانا؟"(21)
حيث نلاحظ إصرار الشاعر على قافية سطريّة موحّدة خلال الأسطر الخمسة الأولى من المقطع ثمّ يستخدم في السطرين الأخيرين قافية أخرى بعد أن شعرت أذنه الحساسة برتابةِ النغمة التي خلقها في البداية وضرورة التخفيف منها قليلاً.
وفي قصيدة "لوحة الغيبَة" لمحمّد عمران نجد مثالاً ساطعاً على نظام التقفية السطريّة المتنوعة:
"أسمعُ سيغاتا
تئن تحتَ الخيلْ
تحتَ حطام الليلْ
ألمح سيغاتا
مبتورةَ الساقينْ
تزحَفُ حّدّ العينْ
أشمُّ سيغاتا
مجمرةً للدمعْ
تموت مثل الشَمْعْ"(22)
وقد تأتي التقفية السطريّة متقاطعةً، ومرسومةً بهندسةٍ واعية، كقول محمّد عمران في قصيدة "لوحة الماضي":
"وتحت كآبةِ القمرِ
تعرّتْ خيمةٌ سمراءْ
ووجهٌ من دمِ الزَهرِ
من الحاكورةِ الحمراءْ
سرت عيناهُ في خفرِ
على أرجوحةٍٍ خضراءْ
وقصرُ الضوءِ في سَكَرِ
يتعتِعُ: أينَها "لمياءْ"(23)
ب ـ 2 ـ تقفية الجملة الشعرية الموحّدة والمتنوّعة:
الجملة الشعرية مصطلح قدّمته حركة الشعر الحديث، وأكّدت حضورَه، "والجملةُ الشعرية في دلالتها المصطلحية بنية مكتفية بذاتها، وقد تتكوّن من سطرٍ أو مجموعة سطور شعرية، واستقلاليتها ليست استقلالية دلالية، بل استقلالية موسيقيّة؛ إذ إنها تعتمد على الدفقة الشعوريّة، التي تتناسب في طول موجتها، مع الموقف النفسي والعاطفي والفكري للتجربة الشعرية من جهة، ومع طول نفس الشاعر من جهةٍ أخرى، لذلك فقد تكون الجملة الشعريّة طويلة، وقد تكون قصيرة"(24).
ولنقرأ كمثال على هذا النوع من التقفية قصيدةً قصيرة للشاعر بيان الصفدي بعنوان "الوعل":
"كم مضى!
كم مضى من ليالٍ نعّدُ خرائبها
وتعدِّدُ فينا المنافي
وتقذفنا عبر كل ا لحدودْ!
كم مضى من شميم النهاراتِ!
كنّا نراها مواعيد تبتَل بالوردِ والأغنياتِ
وأشياء كنّا نباركها بالسجودْ
إن كأسي دَمٌ
والموائدُ صخرٌ يكسِّرُ أحلامَنا
والزمانُ الذي بيننا
لم يَعْد غابةً تتلهّبُ فيها مجامِرُ أرواحنا
نحو ذاك الفضاء الودودْ
الحروف سكاكينُ في القلبِ
ذكرى الذي مرَّ سيفٌ
يقطّع أنفاسَ هذا النشيدِ
البعيدِ البعيدِ
...لم يعدْ ذلك الوعلُ مندهشاً
باندلاقِ اللذائذِ والسهلِ والوعرِ
ما عادَ يُطلقُ ساقيهِ للريحِ
ما عادَ يذهبُ للنبعِ معْ رفقةٍ
ها هو الوعلُ
ـ كسّرَ قرينهِ في الدَّغلِ
يطلقُ آخرَ أنفاسِهِ
موحشاً...
ووحيدْ"(25)
إن هذا النمط من التقفية ـ على الأغلب ـ أكثر فنيةً وأعمق أثراً من النوع السابق وهو يقلل من تواتر القافية، ويخففُ من رتابتها، ولا سيما لو جاءَ متنّوعاً ولم يلتزم رويّاً واحداً، كما هي الحالُ مثلاً في قصيدة نزيه أبو عفش "القلعة" التي نقرأ منها:
"لمْ ألوّث يدي بالوحولِ
ولمْ تلوِ قامةَ روحي الكنوزُ
لم تدنّس فمي صلوات الذين يجيزونَ مالا يجوزُ
لم يزلْ سارقو عمرنا
يضرمونَ الحرائقَ في لغتي ويثيرونَ في الكلماتِ القرفْ
لم أزلْ شاعراً يا أبي
لم أزلْ قادراً
أن أقيسَ المسافَةَ بين الرضا والترفْ
لا تنم يا أبي
أو.. فنمْ
أنتَ قلعتنا
أنتَ سور فضائِلنا الباقياتْ
أنتَ عَلّمتنا
أن نحبَّ الحياةَ
ونأكل لقمتنا بشرف"(26)
وقد يمزجُ الشعراء السوريّون بين شكلي التقفيّة: السطريّة ـ والجملة الشعريّة، وهذا ما نجدهُ عند معظمهم، وسينوّع نفرٌ غير قليل منهم في استثمار هذين النمطين فتأتي القوافي: متنوّعةً أو متقاطعةً أو حُرّةً، وما إلى ذلك؛ في مُحاولاتٍ حثيثةٍ
لإضفاء أبعاد دلاليّة هامة على البعدُ الإيقاعي المباشر للقافية.
ب ـ 3 ـ التقفية المقطعيّة:
ممّا لا شكّ فيه أن نظام التقفية في قصيدة التفعيلة ينتقل يوماً بعد يوم من مرحلة معيّنة إلى أخرى أكثر غنى، وربّما تعقيداً.. بفعل تطوّر التجربة النابعِ من عوامل عديدة؛ بعضها داخلي يصدرُ عن عمقِ تجارب الشاعر الحديث الشخصية، وبعضها خارجي يأتي من سعةِ اطلاع هذا الشاعر على شعر الشعوب الأخرى.
استخدم عديدٌ من شعراء الحداثة في سوريا وغيرها من الأقطار العربية نظامَ التقفية المقطعي كخطوة أرقى من الخطوات السابقة، مع أن استخدامها هذا النمط جاءَ بطبيعة الحال متفاوتاً؛ فمنهم من فعل ذلك رغبةً في كسر العادة، وفي إحداثِ تلوين موسيقيٍ جديد، دون كبير تدخّل للوعي، ومنهم من فعلَ ذلك مدركاً أن دور القافية في الشعر أكثر أهميةً وعمقاً وغموضاً من دورها الإيقاعي المباشر، فسعى إلى غرضهِ "بوعيٍ تركيبيٍ واضح، تحققُ به القصيدة مُهمّة شعريةً أكبر من مجرّد كسر جمود ورتابة القافية الموحدّة"(27).
إنّ هذا النمط من التقفية يستخدم في القصائد الطويلة، التي يقسّمها الشاعر إلى مقاطع عديدة؛ مُستخدماً الترقيم أو النقاط أو النجوم أو سواها من الوسائل، ومن خلال نماذج الشعر السوري الحديث،يمكن أن نرصد ثلاثة أشكال تنتمي إلى هذا النمط من التقفية هي:
الشكل الأول: يستفيدُ فيه الشاعر من نمطي التقفية السطرية، وتقفية الجملة الشعرية في كل مقطع على حدة، على أن تنظمَ المقطع الواحد قافية أساسية خاصة به، وربّما أكثر، كما هو الحال عند نزار قبّاني في مجموعة شعريّة كاملة عنوانها "كتاب الحب" منشورة عام 1970 وهي عملياً قصيدة واحدة مؤلّفة من مقاطع صغيرة نسبيّاً مُرقّمة، عددها اثنان وخمسون مقطعاً؛ جاءَ في التاسع منها:
"لو كنتِ يا صديقتي
بمستوى جنوني
رميتِ ما عليكِ من جواهرٍ
وبعتِ ما عليكِ من أساورٍ
ونمتِ في عيوني"(28).
وفي المقطع الثالث عشر يقول:
"أكرهُ أن أحبَّ مثلَ الناسٍْ
أكرهُ أن أكتبَ مثِلَ الناسْ
أودُّ لو أن فمي كنيسةً
وأحرفي أجراسْ"(29).
أمّا في المقطع السادس عشر فيقول:
"حبّك يا عميقةَ العينين
تطرّفٌ
تصوّفٌ
عبادةْ
حبّكِ مثلَ الموتِ والولادةْ
صعبٌ بأن يعادَ مَرّتينْ"(30).
وقد استخدم أدونيس هذا النمط من التقفية في قصيدته "ريشة الغراب" حيثُ قسّم القصيدة إلى أربعة مقاطع مرقّمة بأرقامٍ رومانية؛ نقرأ ثانيها وهو الأقصر:
"في سرطانِ الصمتِ في الحصارِ
أكتبُ أشعاري على التُرابِ
بريشةِ الغُرابِ
أعرفُ لا ضوءَ على جفوني
لا شيء إلا حكمةَ الغبارِ
أجلسُ في المقهى مع النهارِ
مع خشب الكُرسي
وعقب اللفافة المرمي
أجلسُ في انتظارِ
موعديَ المنسي"(31).
وقد استخدم أدونيس في القصيدة كلها عشر قوافٍ، جاءت متواترة مُتراصة وفق المخطط(32):
المقطع الأوّل: أ أ ب ب ج د ح د أ أ هـ ج ج هـ و هـ و.
المقطع الثاني: هـ ز ز هـ هـ ج ج هـ ج.
المقطع الثالث: ح ب ب ح د د ح ط.
المقطع الرابع: ي ي هـ ك ك ك هـ هـ ك.
ما جَعلَ د. محمد صابر عبيد يقول: إنّ ثمّة "كثافة كبيرة للتقفيات في القصيدة بحيث لا تختلف عن (التقفية السطرية الموحدة)؛ إلا بأنها منوّعة، إذ أن التقفية تكاد تتحقق في كل سطر من سطور مقاطع القصيدة الأربعة، فضلاً عن تكرار عدد غير قليل من التقفيات (.....)، وهذا يقود بالضرورة إلى التقليل من فرص نجاح الاستخدام التقفوي المركّب في القصيدة، إذ جاء الكثير من التقفيات زائداً ومقحماً، ولا يمتلك أي مبرّر شعري، سوى تحقيق التوافق الإيقاعي المجرّد مع مثيلاته في القصيدة" (33).
وسنجد عموماً هذا النمط عند فايز خضور في قصائد كثيرة منها "مزارع العّليق"(34)
وعند مصطفى خضر في قصيدة "فرضيات مختلفة، من ديوانه "حجارة الشاعر"(35) وعند غيرهما.
الشكل الثاني:
يتحرّر الشاعر فيه على الأغلب من نمط التقفية السطرية، ولكنّه يبقى ملتزماً بتقفية الجملة الشعريّة، مع عدم الإصرار عليها أو الإكثار من استخدامها ويختمُ الشاعرُ المقطع بقافية خاصة... ستكون هي ذاتها قافية للمقاطع الأخرى من القصيدة... وكأن قافية المقطع في هذا الشكل حلّت محل قافية البيت في القصيدة التقليديّة، وهذا ما يفعله عبد القادر الحصني في قصيدة "الضجيج" المكوّنة من خمسة مقاطع تفصل بينها نجوم (* * * * ) وتربطها جميعاً خمس قوافٍ بعضها مُكرّر (الخروج ـ الضجيجُ ـ الضجيجُ ـ خليجُ ـ الضجيجُ). يقولُ الشاعر في المقطع الأول:
"ثقيلاً يمرُّ الضجيجُ
يرجُّ النوافذَ والعتباتِ
ويلقي بكلكِلهِ فوقَ صدر الهواءِ
ويرمي بأنقاضهِ في المكان
فيصعبُ فيه الدخولُ
ويصعبُ فيه الخروجُ"(36).
وقد نلتمس للشاعر العذر في تكرار كلمة (الضجيج) قافيةً لثلاثة مقاطع من أصل خمسة، إذا حملنا ذلك على محمل التكرار الفنيّ، ضمن ما يمكن اعتباره تكراراً للازمة معينّة لتشكل بمستوياتها الإيقاعية والدلالية محوراً رئيساً من محاور القصيدة، وعنصر ارتكازٍ وتمحور بصورةٍ أو بأخرى يعكسُ حالةً نفسيّة وجدانية للشاعر نفسه!
ويمكن أن أقولَ ما يشبه ذلك عن قصيدة "الشَبَه ـ مرثية النفس" للشاعر نزيه أبو عفش، المكوّنة من عدّة مقاطع، تارةً يفصل بينها بنقاط (.. .. ..) وأخرى بنجم(*)، غير أن الشاعر في هذا النص لا يحافظ على قافية واحدة لمقاطع القصيدة كلها، فهو، يستخدم على التتالي القوافي التالية (أهلي ـ أتيتْ ـ البيتْ ـ يشبهني ـ مشيتْ ـ بميتْ ـ ميتْ ـ بكيتْ)، ويكرر لازمتين تتواتران في القصيدة كلها ـ الأولى: "حيثُ مشيتْ"، والثانية ـ "شخص يشبهني"، ولكنّه يبدو حراً تماماً في استخدام القوافي، عازفاً في الوقت نفسه عن استخدام التقفية السطرية تماماً... بل ينسى ـ إلى حدٍ بعيدٍ ـ تقفية الجملة الشعرية ليستعيض عنهما بتقفية المقطع؛ كما هي الحال في هذا المقطع:
"شخصٌ يشبهني...
قالَ: اتبعني، فمشيتْ
وجعلتُ أعدُّ خطاهُ
كي أنسى خوفي
فالتفتَ إليّ على عجلٍ
وتفرسَ في كان صياحاً يخرجُ منّي
قلتُ: فهل تسْمَعُ شيئاً؟
قال: أنينكَ
قلتُ: فماذا تبصِرُ
قالَ: شقاءَك في الأرضِ، وخوفكَ من نسياني
ثُمّ توقفَ قُدّامي...
وتنهّدَ
قلتُ: لعلّكَ تشكو من ألمٍ؟
قالَ: أنا لا أشكو بل أنتْ
قلتُ: لعلّك ترغبُ أن أحملَ عنكَ إذاً بعضاً ممّا تحملُ.
قال: احملني.. (....)
قلت: ضعيفٌ.. (وأشرتُ إلى رأسي، كي يَعرفَ أني مصدوعٌ كالعادة)
قال: احملني بالله عليكْ
فهممتُ بهِ أحملُهُ
فتبّخر من بين يديّ كخيطِ دخانٍ أبيض..
فشممتُ روائحَ نفسيَ فيهِ...
صحتُ بهِ: يا هذا
يا أنتَ
أنا
يا ابنَ أبي
يا صاحبَ قلبي وثيابي وفمي.. يا أنتَ
توقّف حُبّاً باللهِ.. لكي
أُبصرني أكثرَ فيكَ
توقّف يا صاحبَ نفسي كي أعرفَ أنَي لستُ بميتْ"(37)
الشكل الثالث
يقومُ على الحريّة الكاملة من تقفية السطر الشعري، وتقفية الجملة الشعريّة، مع الإبقاء فقط على قافية تختم المقطع الشعري، وقد تكون القوافي موحّدة أو متنوّعة، وكمثالٍ على هذا النوع يمكن أن أشير إلى قصيدة (قبل المطر) لنزار بريك هنيدي، وهي مكوّنة من خمسة مقاطع جاءت قوافيها على التتالي: (القمر، الشررْ، الصورْ، الوترْ، المطرْ)، وسوى ذلك لن نجد في القصيدة كلها قافية أخرى. لنقرأ المقطع الأوّل من هذه القصيدة:
"لابدّ من همسٍ يفوحُ
على ضفاف الصمتِ
فلنفتح نوافذنا قليلاً
هَلْ بردتِ؟
تدّثري بردائنا المرميِّ
فوقَ رصيفِ قلبينا
ألا تتذكّرينَ سطوعَ شمسِ العُريِ
قولي أيّ شيءٍ
ليسَ لي أن أُشعِلَ الفجرَ
الذي يغفو على شفتيكِ
لكنّي
أصبُّ على جذوع الليلِ أسئلتي
لينفطرَ القمرْ"(38)
ويستخدمُ ثائر زين الدين النمط نفسه في قصيدة " هذا الصباح" (39)، ويفعل بيان الصفدي الأمر ذاته في قصيدته " عشبٌ أخضر" (40).. وسنجد نماذج تنتمي إلى هذا النمط عند عددٍ محدودٍ من شعراء العقدين الماضيين في سورية.
ب ـ 4 ـ غياب القافية:
انقسَم الشعراءُ الرّواد فريقين بشأن حضور القافية وغيابها في قصيدة التفعيلة؛ فوجدنا نازك الملائكة مثلاً تصرّ على وجود القافية، لأن هذا الشكل من الشعر ، من وجهة نظرها ـ يعتمدُ في بنائهِ الإيقاعي عليها بشكلٍ خاص، ويجعل الجمهور قادراً على التقاط النغم، الذي يعدّ خفيفاً قياساً لنغم القصيدة التقليدية (41)، ورأى آخرون أن بالإمكان التخليّ عنها، لأنها ليست شرطاً جامعاً مانعاً لنجاح البناء الفنيّ لقصيدة التفعيلة، وفي كل الأحوال لا ريبَ أنّ على الشاعر أن يعوضّ غياب القافية، ولا سيمّا أننا نتعامل مع أذن اعتادت وجود القوافي خلال مئات السنين، بل لعلّ التخليّ عن القافية لا يعني بأية صورة من الصور "توفير السبيل الأسهل للشعر، بل على العكس؛ إنه يعني إيجاد شروط أدنى وأصعب؛ إيجاد اللغة الشعريّة المطلوبة، لغة الإيقاع والموسيقى الداخلية للقصيدة، وهذه اللغة الجديدة للشعر تقضي على التلهّي بالاحتفال الموسيقي الخارجي لتنكبّ على البناء المحكم للقصيدة بعد أن تتعطّل ازدواجية الشكل والمضمون، ليتحدَ الاثنان في وحدةٍ عضوية متكاملة"(42).
أدركَ الشاعر العربي السوري كل ذلك منذ أواخر السّتينيات، فقرأنا لشعراء ذلك الجيل قصائد تغيبُ فيها القافية أو في جزءٍ كبير منها، كما هو الحال عند فايز خضّور في المقطع الأوّل من قصيدة "بثور على خارطة
القلب(43)، وعند محمّد عمران في "الحركة الثانية" من قصيدة "مرفأ الذاكرة الجديد"، أو في قصيدة "الدخول بين الوردة والدم"(44)... ومع أن شعراء التفعيلة السوريين قد عادوا في عشر السنوات الأخيرة إلى التمسّك بالقافية، وبعضهم راح ينظم القصيدة التقليدية، ويرصّع بنماذجها مجموعاته التي تقوم على التفعيلة... إلا أن إيقاعَ غياب التفعيلة ظلّ يغري عدداً غير قليل من شُعرائنا؛ فها هو نزيه أبو عفش في قصيدته "ما يشبه كلاماً أخيراً" ـ وهي قصيدة يمزجُ فيها بين نمطي: التفعيلة والنثر ـ يورد مقاطع كاملة مُفعّلة دون قافية(45).. وتأتي عدة قصائد في مجموعة وفيق سليطين الأخيرة "معاكسة لأوابد الضوء" خالية من القوافي (46)، والحالة ليست خاصة بهذين الشاعرين، بل هي أعم من ذلك.
ج ـ في المزج الموسيقي:
كنتُ قد أشرتُ سابقاً إلى أنّ مارد التجديد في الشعر العربي الحديث قد خَرَجَ من قمقم التقليد والتبعيّة، وما عادَ بإمكان الوصايا والتعليمات، التي حاولَ بعض الشعراء الروّاد أو النقّاد إطلاقها أن تعيده إلى موضعه... فالشاعر العربي الحديث بعامة، والسوري بخاصة راحَ يعمل بشكلٍ دؤوب في خلق إيقاعاتٍ جديدة لنصوصه، هاجسه الجمال ـ على الأغلب ـ وقد رأى بعض الشعراء المغامرين أن التفعيلة ـ في هذا الشكل الجديد من الشعر ـ وإن تحرّرت من قيد البيت التقليدي، إلا أنها ظلّت أسيرةَ علاقاتهِ وقوانينه، فسعى إلى فصم هذه العلاقات، واستبدال تلك القوانين، والإتيان بأخرى تكسر الرتابة، وتقوم على حُريّة خاصة بالنص نفسه، فتأخذ مشروعيتها من حساسيّة الشاعر، ومن خصوصيّة التجربة في كل نصٍ على حدةٍ...
وقد أكّد د. أحمد بسّام ساعي إن أول نموذج من الشعر السوري المعاصر يقوم على ما ذكرتهُ هو قصيدة "ميسلون" لعلي الناصر،وقد صدرت في ديوانه "الظمأ" عام 1931 في حلب. في هذه القصيدة يستخدم الشاعر تفعيلتي (فاعلاتن ـ فاعلن)، من غير أن يتقيد بعددٍ معين أو مكان مُحدّد لأي ٍ منهما؛ فهو يكرّر (فاعلن) في الشطر الواحد أكثر من مرّة، فيأتي بها أول الشطر أو آخره أو وسطه، وكذلك الأمر مع (فاعلاتن)"(47).
وبالتالي يجد القارئ نفسه أمام نصٍ لا علاقة لـه ببحر الرمل، الذي أخذت منه التفعيلتان السابقتان، إلا إذا مررنا بسطرٍ أو اكثر مما يخضع لتكرار هاتين التفعيلتين كما عهدناهما في الرمل، لكن التجربة الأكثر وعياً وقصداً ستأتي عام 1973، حين يُصدر فايز خضّور ديوانه "أمطار في حريق المدينة"، ويقدّم لـه داعياً إلى تحرير التفعيلة الواحدة دون الوقوع في قصيدة النثر، وإلى الدخولِ في عمقِ "لغز التفعيلة المربوط، والتركيب الذريّ لها"(48)، ثمّ يرفد المقدّمة ببعض النصوص التي استطاع فيها أن يحقق ما دعا إليه "أصداف البحر الميت ـ بثور على خارطة القلب".
وعليه يمكننا أن ننظرَ إلى ظاهرة المزج الموسيقي عند الشعراء السوريين المعاصرين انطلاقاً من فهمنا السابق لهاجس كلٍ منهم في خلقِ قيم موسيقية جديدة مواكبة لتنوع التجارب الجديدة على الصعيد الشخصي والوطني والقومي...
ومن خلال النصوص التي بين يديّ يمكن أن أصنّف هذه الظاهرة في ثلاثة أصناف:
ج ـ 1 المزج العروضي:
يقوم هذا النوعُ من المزج على تداخلٍ عروضيٍ بين بحرين أو أكثر، ولعلّ من أهم المسوّغات الفنية لهذا المزج "انتقال الشاعر ـ بخاصة في القصيدة الطويلة ـ من موقفٍ شعوريٍ إلى آخر"(49)، ومن حالةٍ وجدانية أو نفسية أو معنويةٍ ما إلى سواها، ولقد عملَ بعضهم على تقنين هذا الانتقال، وتقعيده؛ فرأى د. عز الدين إسماعيل إن "الانتقال من سطرٍ مؤسسٍ على تفعيلةٍ، إلى سطر آخر مؤسسٍ على تفعيلةٍ أخرى، لا يمكن تحققهُ وقبوله إلا في الحالات التالية:
1 ـ أن يكون السطر الجديدُ لمقطع جديدٍ من القصيدة،
2 ـ أو أن يعبر هذا السطر عن انتقال في الموقف الشعوري،
3 ـ فإن لم يكن هذا ولا ذاك، فيتحتّم عندئذٍ أن تكون هناك (علاقة تداخلٍ) بينَ التفعيلة المستخدمة في السطر الأوّل، والتفعيلة المستخدمة في السطر الثاني الذي يليه، على أن يدخل في اعتبار الشاعر استغلال هذه العلاقة فنياً"(50).
وظل معظم الشعراء السوريين أمناء لهذا القانون؛ سواء قرؤوه عند د. عز الدين إسماعيل أم لا، فها هو ذا ممدوح عدوان في قصيدته "هواجس الحوت الصحراوي"(51)
المؤلفة من ثمانية مقاطع بينهَا نجوم (* * *) يستعمل المتدارك والمتقارب على التتالي، في مقاطع القصيدة، كما يلي:
المتقارب ـ المتقارب ـ المتدارك ـ المتدارك ـ المتقارب ـ المتدارك ـ المتدارك ـ المتدارك.
ويفعل علي كنعان الأمر ذاته في كثير من قصائده، ففي "أعراس ماجنة" (52) المكوّنة من ستة مقاطع مرقّمة ينتقل على التتالي بين البحور التالية:
المتدارك ـ المتقارب ـ الرجز ـ المتدارك ـ الرمل ـ المتدارك.
أما فؤاد كحل فيبدأ قصيدته "باقةٌ للوداع الأخير"(53) على الرجز، في المقطع الأوّل، ثم ينتقل إلى المتقارب؛ الذي تبقى تفعيلتهُ مستمرةً خلال أحدَ عشر مقطعاً ويفعل فؤاد نعيسه الأمر نفسه مستخدماً الرَمل والهزج في قصيدةٍ من مقطعين عنوانها "وجها الغربة"(54) فيحمل كل بحرٍ وجهاً من وجهي الغربة.
ويمزجُ فايز خضّور، بين الرمل والمتدارك في قصيدةٍ واحدة عنوانها "إيقاعان في صرخة واحدة"، لكن المزج يأتي منسجماً مع ما طرحهُ الدكتور عز الدين إسماعيل بل لقد مهد الشاعر لفعلتهِ هذهِ من خلال العنوان نفسه، ثم جاء الانتقال من الرمل إلى المتدارك مدروساً، فابتدأ من أوّل سطرٍ شعري جديد وعلى شكل مقول القول:
"لا تلومي القافلهْ
إخلعي لونَ الحدادْ
حلمُكِ المأمولُ، مقتولٌ، وقتّالوه يغزونَ البلادْ
شيّعي الجرحى بوردٍ، لا زوردٍ، أي عشبٍ، عنبرٍ، رملٍ، رمادْ
واستشيري السابلهْ:
(إنها الحربُ لا تسألي الأمكنهْ
باطئي خطوكِ الفاجعيِّ
المسافات موءودة،
والمحطّاتُ نائية والدموعُ جمارٌ، يهونُ حيالَ لظاها العمى
إنّها الحربُ، لا تُحرجي العائدينَ
الطريقُ إلى الوطن الأمِ
تبدأ من آخر الكونِ، حبواً
وذاكرةُ المنهكينَ، كمعجزةٍ، لم تعدْ ممكنهْ..!
كفنّي اللهفة المسرحيّةَ
لم يبقَ من راحلاتٍ، لدى الخائبينَ،
سوى نافقِ الخيل، والجثث المنتنهْ...
إنها فرصةٌ لن تتاحَ لغيرِ الحريم ـ الدُمى..) !! ـ الديوان ص 335.
أمّا أدونيس فلا يخضع لناظمٍ أو ضابط في عملية المزج، الذي قد يتبعه في المقطع نفسه، وربّما في الجملة الشعريّة الواحدة، والسطر الشعري الواحد، كما هو الحال في قصيدته الشهيرة "مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف" والتي ألقاها في الملتقى الشعري الأول في بيروت عام 1971، في هذه القصيدة تأتي اللازمة: "وجهُ يافا طفلٌ ـ هل الشجرُ الذابل يزهو؟ هل تدخلُ/ الأرضُ في صورة عذراءَ؟ من هناكَ يرجُّ الشرقَ/ جاء العصف الجميلُ ولم يأتِ الخرابُ الجميلُ صوتٌ/ شريدٌ..."(55)، وفقَ الخفيف التام، ثمّ يتم المزجُ بين المتدارك والمتقارب، ثم يأتي مقطع يلتزمُ الرجز، فالرمل، ثم عودة إلى المتدارك، فالمتدارك ممزوجاً مع المتقارب، ثم عودة إلى المتدارك، فالرجز، فالرمل(56)، فالخفيف فالسريع وهكذا. ومما لا شكّ فيه أن تعدد هذه البحور في القصيدة الملحميّة الطويلة وتمازجها بهذه الصورة إنّما يعني بشكل من الأشكال "تعدد وسائل التعبير عن التجربة المعقّدة المتشابكة، التي يعيشها شاعرنا المُعاصر، إذ أن أولى موجبات هذا التعدد هو الاتجاه الذي تشهده القصيدة العربية الحديثة نحو البنية الدراميّة، وما يتطلّبه ذلك من حركات موسيقية مختلفة ومتباينة، قادرة على التعبير عن طبيعة الصراع والتعقيد الذي تنطوي عليه تجارب الشاعر"(57).
مع أن علينا بالتأكيد ـ ونحن نتحدّث في هذا الموضوع ـ أن نميّز بين حالات المزج العروضي، التي تنبعُ من داخل تجربة الشاعر، من ضرورات القصيدة الفنية نفسها، من ديناميكيّة مشاعر المبدع وأفكاره ورؤاه وتصارعها فيما بينها وما إلى ذلك، والحالات التي يأتي فيها المزجُ كنوع من تقليد شاعر لآخر، أو كنوعٍ من التزيين، أو انسياقاً وراء "موضة" معيّنة، أو عجزاً عن ضبط زمام العروض.. فإذا بفرس الشاعر تخبط خبط عشواء.
ج ـ 2 ـ مزج نظامي التفعيلة والبيت
لعلّ الأمر بدأ عفوياً... فالشاعر الذي أرادَ أن يتخلص من النظام التقليدي، لم يستطع أن ينزع من قصيدتهِ المبنية على أساس السطر الشعري كل مظاهر النظام القديم، ولم يستطع أن يجبرَ أذنه المدرّبة لأكثر من ألفي عام على إلقاء كل متاعِها في بضع سنوات، ولهذا كنّا نجدَ في قصائد التفعيلة للشعراء الرّواد وشعراء المنعطف الأول هذا البيت أو ذاك... كما نجد ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ عند ممدوح عدوان في ديوانه الأوّل "الظل الأخضر" ـ قصيدة "في الطريق"(58)، أو عند غيره من شعراء الستينيّات، لكنَ الشاعر السوري في غمرة بحثهِ الدائم عن سبلِ تطوير نصّه وإغنائه موسيقياً انتبهَ أنّ نظام البيت ـ من خلال غنائيته العالية ـ يمكن أن يكونَ أداةً موسيقية من أدواتهِ في بناء نصّه الجديد، القائم على الموسيقى المركّبة غير البسيطة، تقودُهُ في ذلك بعض التجارب السابقة في العراق ومصر(59).
ومن ذلك تجربة أدونيس في قصيدته "مجنون بين الموتى"(60)، وفايز خضّور في مجموعة قصائد منها: "بثور على خارطة القلب ـ المقطع(2)" و"انكسارات قاتمة ـ مقطع الشهيد"(61)، و"إنجيل النهار ـ المقطع(29)"(61)، وحتى في ديوانه الأخير "عشبها من ذهب" ـ المقطع السادس من قصيدة تحمل العنوان ذاته، لكن خضور ـ وفي كل مرّة ـ استخدمَ فيها نمطي الشعر ـ المذكورين ـ رأيناهُ يفصل بينهما ضمن قصيدة مؤلفة من مقاطع مُرقّمة، أو بلا ترقيم، ولم يعمل أبداً على خلقِ تداخلٍ بينهما في جسدٍ واحد، وهذه مسألة سنجدها عند شعراء الأجيال الثلاثة التالية ومنهم: فؤاد كحل، عبد القادر الحصني، ثائر زين الدين، نزار بريك هنيدي، علاء الدين عبد المولى، إبراهيم عبّاس ياسين، محمّد وليد المصري، عبد النبي التلاوي، كمال جمال بيك، سامر رضوان، (62). بعضهم سيأخذ التقنيّة كما هي وبعضهم سيطوّرها ويرتقي بها؛ ولا بأسَ من استعراضٍ سريع لبعض تلك ا لتجارب.
في مجموعة "تراجيديا عربيّة" لعلاء الدين عبد المولى. المنشورة عام 1998 يستخدم الشاعرُ هذا المزج، لكنّه يفصِلُ بين مقاطع التفعيلة والأبيات التقليدية مستخدماً نقاطاً فاصلة (.. .. ..)، ففي الفصل الثاني من هذه التراجيديا تبدأ القصيدة متبعةً نظام التفعيلة:
"سيسافرونَ غداً وبعدَ غدٍ، وأبقى خلفَ ظلّي
كجنازةٍ يقفُ الصقيعُ على رؤوس مشيّعيها
أستقبل الديدانَ منذ الفجرِ، تنبئني الجرائدُ
أنّ مَخزونَ القصائدِ فوقَ أخشابِ الموائد قد يجفُّ...
فقلتُ: منْ شمسٍ تخونُ ذرى بنيها
فارت ضلوعُ البرق في رئتيَّ
أنثايَ الصغيرة لم تقلْ هجرتْ طيورُ الخبزِ
لكن الصغيرَ بكى، فكوّرتُ الجريدةَ قلتُ نعجنُها رغيفاً...(63).
ويستمرُ هذا النظام على امتدادِ ستة مقاطع، ثمّ يجيء مقطع يتبِعُ نظام البيت نقرأ منهُ:
"طوفي بنا يا ريحْ
فاضت مواجدُنا
شفقُ الزمانِ ذبيحْ
والشيبُ سيّدنا
وفضاؤنا تلويحْ
لغدٍ يبددُنا
ما زال كلّ كسيحْ
يحبو وينشدنا..."(64).
بعد ذلك تمرّ ثلاثة مقاطع مُفعَّلة، يتلوها مقطع عمودي:
"للشعرِ حنجرةٌ، وللحربِ
للموتِ حنجرةٌ، وللحبِّ
بجنودِ أحلامي سأهبطُ في
أرض التلاشي خالقاً ربي
أرضُ النبوءة تلك مثقلةٌ
من كاهناتٍ لم تعدْ تُنبي
أرضٌ من التيجان ضائعةٌُ
في جوفِ طاغوتٍ بلا شعبِ"(65).
ثم يختمُ الشاعر قصيدته بمقطع يتبع التفعيلة
"هربت قوافلنا، قريشُ مشت على جثمانِها
واستلهمتْ عُكّاز قاتِلها،
على الباب المذهبّ كان فحْلُ الحلفِ ينتظرُ النبيّ..الخ"(66).
بنى علاء الدين قصيدته على تفعيلة الكامل (متفاعلن)، فطالت السطور أحياناً حتى اتسعت لستِ تفعيلات أو سبعة، وقصرت أحياناً لتضم تفعيلةً واحدة، وأحسّ الشاعر في مواقع أخرى بضرورة استخدام نظام البيت، ولا سيمّا عندما تتصاعدُ الحالة إلى ذروتها، ويشعر أن ما يريدُ قولـه لا يناسبه إلا إيقاعٌ صارم.. محدد.. وثابت، وعندها وجدناهُ يستخدم منهوك الكامل في المقطع السابع من القصيدة... ثم يعود في المقطع الحادي عشر من القصيدة، إلى نظام البيت ليستخدم الكامل أيضاً، ولكن هذه المرّة بتفعيلاته الست، بعد أن يُسقِطَ من تفعيلتي العروض والضرب (علنٌ) مُبقياً على (متفا)، التي يمكن أن ننقلها إلى (فعلن).
والحقيقة أن علاء يحقق تنويعاً موسيقياً جميلاً في نصّه هذا، ويبلغ الغاية نفسها في قصيدتهِ "مراثي عائلة القلب" من المجموعة نفسها، لكن هذا الاستخدام لا يقدمُ جديداً عمّا رأيناه عند شعراء جيل الستينيات.
ويستخدم عبد القادر الحصني هذا الشكل من المزج في قصيدتهِ "لها كل هذا الغناء".
وهي قصيدة مكونة من ثلاث مقاطع يبدؤها هكذا:
"لها كلّ هذا ا لغناءْ
فلمْ لا تسرّحُ آهاتِها في الجبالِ
شذا عطرها في الرجالِ
ذؤاباتِها نحوَ (أروادَ)
شوقَ أنامِلها الشاردات إلى "جبلِ الشيخ"
زرقة أنهارِها في رمالِ البوادي
فهذي البلادُ بلادي:
بلادي التي ينهدُ الله من قلبِها يانعاً في الصباحِ
وينهدّ في قلبِها مُتعباً في المساء
لها كل هذا الغناءْ"(67)
ويتغزّل الشاعر في قصيدته ببلادهِ كما يتغزل عاشقُ أمضّهُ العشق بمحبوبتهِِ ويحشِدُ خلال ذلك كل ما أنجزته هذهِ البلاد وقدّمته للآخرين، ثمّ يعرض بعضَ ما لاقته جَرّاء حبّها وعطائِها:
"وتقعدُ في أوجِ زينتِِها بانتظارِ الغُزاةِ
غزاةٌ
غزاةٌ
غزاةٌ
فتدميرُ قرطاجَ
تدميرُ صورَ
وتدمير تدمرَ
تدميرُ بغدادَ
تدمير أغلى مدائننا في الجنوب...(68).
ويقع في المباشرة حين يغلبهُ التدفق العاطفي؛ ومشاعر الغضب على أعداء الإنسانية، لينجو منها في المقطع التالي؛ حتى إذا استحضرَ في المقطع الثالث مجد بني أميّة، وفتوحاتِ الجيوش العربيّة رأيناه يستحضر شكل الكتابةِ السائدِ يوم ذاك...
قصيدة العمود ـ ربّما دونَ أن يقصد ذلك ـ فيتحققُ صدقٌ فني، ويناسب الشكل المضمون، ويصبحُ النص أكثر إقناعاً فيما يقولـه:
"لها الخيلُ والليلُ: حمحمةُ الصافناتِ
احتراقُ المسافاتِ
و(العادياتُ) بفرسان ابن الوليد
بأحداقها تنهبُ الليلَ نحو الجنوبِ
وتحتَ السنابلِ رملُ "الحَمْادْ"
فخَضْ غمرةً بالكتائبِ تترى
وخض غمرةً بالسيوفِ الحِدادْ
وضمَّ الجناحينَ ضمّةَ نسرِ
أرادتهُ شمُّ الذرا وأرادْ
رماها بعينيهِ ثمّ استدارَ
يلمَّ على القلبِ شملَ البلادْ
لها "المورياتُ" اشتهاء الشهادةِ
طقساً يحارُ بهِ الموتُ:
كيفَ تكونُ الولادةُ بعدَ الولادة؟
كيفَ تفضُّ القصيدة حتم الإرادةِ
عن فرسٍ قلبُهُ في "دمشقَ"
وتعدو قوائمهُ في قلوبِ الأعادي"(69).
القصيدة تسير بشكل كاملٍ على المتقارب "فعولن"، ويجيء الانتقال سلساً جداً بين نظامي الكتابة الشعرية "التفعيلة ـ نظام البيت" ثمّ بالعكس في نهاية المقبوس السابق "نظام البيت ـ التفعيلة" وتساعد في ذلك طبيعة هذا البحر، واستخدام تفعيلته الوحيدة بشكلها الصافي الكامل على الأغلب،دون أيّة جوازات تذكر، ويستخدم ثائر زين الدين هذا النوعَ من المزج دونَ أن يفصلَ بين شكلي الكتابة الشعريّة المذكورين، وذلك في أكثر من قصيدة، منها " أنشودة الفقر" وقصيدة "عيناك" من مجموعة "ورد". في القصيدة الأولى يأتي الجزء العمودي وكأنه صوت قلبِ الشاعر تلتقطهُ أدناه:
"هيّا استفق الصحبُ في المتراسْ،
فيهبٌّ ملءَ الدارْ،
من مارجٍ من نارْ
وجهٌ تعاورُهُ الخطوبُ، فتنثني كلمى
وتتركُ فوقهُ الأقمارْ،
خشناً كملح الأرضْ
ومكللاً بالرفضْ.
ما ارتدّ عن متراسهِ، حتى تكفّ الشمسُ عن إضرابها
وتقصّ عندَ جفونِه الأسرارْ.
ها أنتَ تنصتُ لاختلاج القلب:
ووريثُ بؤسكَ يا وطنْ
أنا سيّد الفقرِِ العظيمْ
أمشي ويكسرني الزمنْ
وأنا سليلكِ يا همومْ
ومضتْ تعدّ لي الكفنْ
هزئت بآمالي سدومْ
وأعيدُ تحطيمَ الوثنْ(70)".
سأجرّعُ البغي السمومُ
وفي المقطع الثاني من القصيدة يجيء الجزء العمودي كصرخة تطلقها الروح جراء الواقعِ المحيط بصاحبها:
"ـ لِمْ يا أحيلى الأمّهاتْ؟!
لِمْ يا أُحيلى من ندى الصُبحِ الشفيفِ على عروق الداليهْ؟
أتراهمُ بذلوا لهذي الأرضِ اكثرَ منكِ أو منّي!؟
من كان يسقيها على عطشِ؟
من كان يطعمُها على سَغَبِ؟
من نامَ مجنوناً بحنطتها على البيدرْ
من فرحةٍ حيناً، ومن تَعبِ
من كان سَيّجَ حقلها والكرمَ بالأجساد في الخُطبِ؟
لم يا ملاكي الغاليهْ؟
أتُراهمُ ـ أصحابَ هاتيكَ القصور العاليهْ ـ
كانوا على حقٍ، وكنّا نسلك الدربَ الضلالْ
وتروحُ تصرُخُ في فضاء الروحِ جراء السؤالْ:
والفقرُ منذ ولدتُ من نُدمائي
الأرض أرضي والسماءُ سمائي
ما كنتُ أمضَغُ مُضغةً بهناءِ
ما كنتُ أشربُ شربةً من دونِهِ
يختار لي بيتي وصحبي والحبيبة والشراب ومأكلي وكسائي...الخ (71)
ج ـ 3 ـ مزج شعر التفعيلة بالنثر:
سنفهم هذه الخطوة أيضاً من منظار بحث الشاعر العربي المعاصر عن نظم جديدة الكتابة الشعرية، فهو ضد كل ما يستقر ويصبح مألوفاً؛ ألم يقلْ أدونيس منذ زمن: "الشعر التجريبي العربي هو وحده الشعر الجديد، إنّه أولاً ليسَ متابعةً ولا انسجاماً ولا ائتلافاً، وإنّما هو على العكس، اختلافٌ(....)
وتحرّكٌ دائم في أفق الإبداع: لا منهجيّة مسبقة، بل مفاجآت مستمرة"(72)،
وانطلاقاً من هذا البحث الدائم، والتجريب، وجدنا شاعرنا يهتدي إلى شكل جديد من أشكال المزاوجة الموسيقية، شكلٍ يقوم على مزج الشعر بالنثر في النص الواحد، شكلٍ يحاول أن يقدم بنية إيقاعية فسيفسائية، ويكسر في الوقت نفسه هيمنة الإيقاع العروضي الواضح في النص القائم على التفعيلة.. وسنجد لكل شاعرٍ ممن ذهبوا هذا المذهب مسوّغاته الفنية والمعنوية،" إذْ إنّ لكل تجربة في ذلك قانونها الخاص، فقد يأتي في بعض الأحيان مُعادلاً موضوعياً لحالة نفسية معينة تهيمن على التجربة، وقد يأتي انسياباً لتداعي المعاني، محققاً في ذلك هدفي القطع والوصل في بنية القصيدة الإيقاعية، أو تعبيراً عن الدراميّة والخطابية المباشرة(73)،" وقد يعكس رغبةً خالصةً في التجريب لأجل التجريب، وقد ينطوي على إخفاق شعريٍ لا ريب فيه.
عددٌ غير قليل من شعراء العربية المعاصرين استخدمَ هذا الأسلوب ومنهم: فدوى طوقان وسعدي يوسف، ومحمود درويش، وسميح القاسم، ومحمّد عفيفي مطر وآخرون.
ومن الشعراء السوريين: أدونيس ونزيه أبو عفش، ومحمد عمران، وعبد الكريم الناعم، وإبراهيم جرادي، وكمال جمال بك، وآخرون، لكن هؤلاء ـ على الأغلب ـ فصلوا الجزء الموزون عن المنثور بطريقةٍ أو بأخرى (التقطيع، الأقواس، السطر الشعري، النقاط، الخط المائل/ الخ).
فنزيه أبو عفش في قصيدته الطويلة "ما يشبه كلاماً أخيراً" ـ المكوّنة من تسعة مقاطع يطغى عليها النثر ـ نراهُ يلجأ إلى التفعيلة في الجزء الثاني من المقطع الرابع، ويأتي المقطع الثامن موزوناً.. ثم يتلوه التاسع نثراً، وقد ميّز الشاعر الجزء الموزون من المنثور بوسيلتين؛ الأولى: بالفصل بينهما.
بنجم (*)، والثانية: بأن جَعَل نوعيّة الخط مختلفة؛ ممهّداً بذلك للانتقال من شكلٍ إلى آخر كي لا يأتي الأمرُ مفاجئاً أو صادماً.. وسنجد فنيّاً ما يبّرر هذا الانتقال، فالجزء الأول من المقطع الرابع يطغى عليه السرد والتفسير دون الإخلال بأدبيّته:
"ولأنني كنتُ وحدي... فلقد تأمّلتُ في الظلام كأنني
أصلّي، وبما يكفي لأعرفَ أن كل شيء قد صارَ ورائي
ولم يعدْ لي ما آملُ فيه غير النوم والنسيان
صرت أعدُّ على أصابعي مقدار ما فاتَ من جنونٍ، وما بقي
من آفاتِ قلب، فيما الأصدقاء يُعاتبونني على يأسٍ لم يكن
من صُنعي... إلخ"(74)
وحينَ ينتهي هذا المقطع النثري، الذي يوصل الشاعر إلى حالةٍ تستدعي إيقاعاً أكثر وضوحاً وقوّة، إلى حالةٍ غير وصفيّة أو سرديّة، بل مشحونة عاطفياً، ومبنيّة على وضعٍ نفسيٍ قلق، نجدُ الشاعر ينتقل إلى "التوقيع"، فيقول:
"قلتُ يا ربُّ أينَ قميصي
وأينَ حذائي، وسلّةَ خبزي
وما وُعِدَ الودعاءُ بهِ من نبيذٍ وقمحٍ؟
قلتُ: أينَ طريقي.. لأعبرَ منهُ إلى مُدنٍ غير هذي
وأهل سوى هؤلاء
وقبرٍ أقل ظلاما... إلخ"(75)
بعد ذلك تأتي مقاطع نثرية تُراكمُ على الحالة، وترتفعُ بالقصيدة وصولاً إلى ذروتها؛ فإذا بالشاعر يرجعُ هنا إلى نظام التفعيلة, ليحقق غنائيةً عالية وعذبة في المقطع الثامن؛ غنائية تنادي بالحياة، بكل ما فيها حتى جحيمها، تمجّد الحياة، وتلعن اليأس والقنوط:
"سنحبُّ الحياةَ إذاً.. سنحبُّ الحياةْ
وسنعلنُها حينَ نقنطُ..
ثم نتوقُ إليها مؤبّدةً كظلام الطواغيتِ
خادعةً كالعدالةِ
عمياءَ كالحبِّ,
فاتكةً كقلوبِ النساءِ...
ومالحةً كالنشيجِ.
سنرجُمُ أبراجها بالدموع إذا أخلفت موعداً
ثُمّ نركَعُ تحتَ شبابيكها كالمجانينِ نسألها الصفحَ.
: يا للحياةْ
كيفَ تفلتُ مِنّا...
فلا يتبقّى لنا من فضائلها غير لسعةِ خيباتِها
والدخان الذي يتصاعد من ثكناتِ الطُغاةْ"(76)
إن هذا التنوّع الإيقاعي أكسبَ القصيدة حيّويةً من خلال التباطؤ والتسارع النابعين من عِدّة مصادر أهمّها اختلاف إيقاع شعر التوقيع، عن إيقاع النثر.. وتباين إيقاعات السرد والحوار الوصف في القصيدة، وما يشبه جدل الموقف الفكري، والصراع بين اليأس والتفاؤل، والموت والحياة في المقاطع المختلفة، وهو ما يمكن أن نسمّيه (إيقاع الأفكار) إن صَحّ التعبير! كل ذلك سما بالقصيدة موسيقياً إلى غاياتها السامقة.
واستعمل محمّد عمران هذا الأسلوب بكثرة وفي مجموعاتٍ مختلفة، ففي ديوانه "الأزرق والأحمر" مَزجَ بين الشعر والنثر في القصيدة الواحدة؛ مَرّةً دونَ أن يفصل بينهما، ودون أن يمّهد لذلك، ومَرّةً باستخدام أقواس كبيرة [...] تفصل الشعرَ عن النثر وهكذا(77).
وأخذ شعراء الأجيال التالية هذا الأسلوب فاستخدموه, فقد رأينا كمال جمال بك ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ يمزجُ بين الشعر والنثر في قصيدتين: "أصداء جهات الخراب"(78)، و"كائنات قصب السكّر"(79) فيفصل بين الجنسين باستخدام خطٍ مائل ونقاطٍ تتلوه (/..)، ويبدأ دائماً من بداية السطر الشعري.
ثانياً ـ في الإيقاع الداخلي لقصيدة التفعيلة:
يؤكد الشاعر العربي الحديث مفهومَ الإيقاع الداخلي في الشعر، وإن كانَ يربط هذا المفهوم بقصيدة النثر أكثر من غيرها... "إن التعبير الشعري الجديد ـ كما يرى هذا الشاعر ـ تعبيرٌ بمعاني الكلماتِ وخصائصها الصوتيّة أو الموسيقيّة"، والشكل الشعري الجديد هو "عودة إلى الكلمة العربيّة ـ إلى سحرها الأصلي، ,إيقاعها وغناها الموسيقي والصوتي"، فالشاعرُ الحديثُ إذاً يتجاوز القريض بوصفِهِ "قواعد ومقاييس، كانت جميلة وضروريّة في حينها، إلى الأساس الذي انبثقَ منه" أي إلى "الكلمة العربيّة وإيقاعها، فالشكل الشعري الجديد يتكوّن الآن بدءاً من الكلمة العربيّة وإيقاعها، لا بدءاً من القريض"(80)، فالموسيقى وفق هذا الرأي تتأتّى من "إيقاع الجملة، وعلائق الأصوات والمعاني والصور، وطاقة الكلام الإيحائيّة، والذيول التي تجرّها الإيحاءات وراءَها من الأصداء الملوّنة المتعدّدة"(81).
وسيذهبُ بعضهم إلى أن مصدر الموسيقى في الشعر ليسَ التفعيلة وأنواع تشكيلها فحسب "بل أجزاء أخرى تبدو بالنسبة لقصيدة النثر أكثر أهميّة منها لقصيدة التفعيلة، ومن هذه الأجزاء التي يجري توقيع الموسيقى بها:
1 ـ التركيب اللغوي حين ينتظم في أنساق من الموازنات والتقطيع.
2 ـ التكرار وفق أشكال موّظفة لتأدية دلالتها.
3 ـ التوزيع والتقسيم على مستوى جسم القصيدة، بهدف دلالي مُحدّد.
4 ـ التوقيع على جرس بعض الألفاظ المعجميّة والموازاة بين
الحروف"(82)
وعليه فمن الواضح أن الإيقاع الداخلي في الشعر الجديد، يقومُ على خلقِ "التناسق بين أجزاء القصيدة في حركة بنائها نحو التكامل، وهذا الانسجام يكون بين الألفاظ من حيث تجانس حروفها، وبين الصور التي يخلقها الشاعر، ممّا يعطي تفّرداً. وهذه الألفاظ وهذهِ الصور تنمو في القصيدة بتكنيك خاص، بحيث تكون متجاوبة مع المعنى الذي يريدهُ الشاعر، والتجربة التي يريد الإفصاح عنها"(83).
والحقيقة إن نظرة شاملة إلى هذا المفهوم تجعلنا ندرك أنه حصيلة تركيبيّة ائتلافيّة من جملة مكوّنات؛ بعضها ذو مصدر صوتي يتأتّى من إيقاع الحروف، في حال تشابهها أو اجتماعها أو تكرارها أو افتراقها، وحالات حركات المد المختلفة المتكرّرة، وعلاقة المفردات نفسها داخل الجملة الواحدة تجانساً أو تضاداً أو تكراراً, والتركيب اللغوي والصياغات ضمن النص، وبعضُها الآخر، ليسَ صوتياً ولكنه يقوم على الإيقاع المتوّلد من طريقة بناء الصورة الشعرية والرمز، وتوارد الأفكار، وأساليب بناء النص، وأدواته وتنوّعها من استفهامٍ وتعجبٍ ونداءٍ وتمنٍ وما إلى ذلك، بالإضافة إلى المزج بين الشعر والنثر في النص الواحد وما يترتّب عن ذلك من إيقاعات داخليّة متباينة تفرضها خصوصيّة هذين الجنسين.
لقد أولى الباحثونَ مفهوم "الإيقاع الداخلي" في الشعر الحديث اهتماماً كبيراً، وصدرت في ذلك دراسات كثيرة, لكنّها "ما زالت بعيدة بعض الشيء عن تحقيق إنجازات واضحة ومتميّزة، وذلك لأن الإيقاع الداخلي خلوٌ من المعياريّة، لكونه يعتمد على قوانين النفس الفرديّة، لا الجماعيّة، أي أنه شخصيّ ومتغيّر"(84) ولعلَّ من الظلم بمكان أن ننسب للشعر الحديث توظيف الإيقاع الداخلي، ونعدّه واحداً من إنجازاته الجماليّة الخاصة، دون أن ننتبه إلى أن الكثير من نصوص شِعرنا القديم الباهرة انطوت على تعالقٍ وامتزاجٍ مذهلين بين الموسيقى الجاهزة (موسيقى البحر)، والموسيقى الداخليّة(85)، مع أن أصحاب هذهِ النصوص ما كان يخطر ببالهم أنهم يؤسسون لما نسمّيه إيقاعاً داخلياً أو موسيقى داخلية. وسنجد من النصوص المُعاصرة ما يحقق موسيقى داخليّة عفويّة لافتة، لم يقصد الشاعر إلى خلقها.. لكنها جاءت انطلاقاً من طبيعتِهِ الخاصة، وطريقة تعامُله مع المفردات الأقرب إلى نفسه وشخصيّته. لنقرأ كمثالٍ على ذلك مقطعاً للشاعر عبد القادر الحصني يحمل عنوان "الوردة":
"صديقتي الوردةُ في أصيصها الجميلْ
تسألُني عن اسم من أحبُّ، ثمّ تستحي،
فيستحي ندىً على أوراقِها، يكادُ من سؤالها يسيلْ
سمّيتُ باسم من أحبُّ، واستدرتُ نحوها
أودُ لو أستر بالهدبين عُريَ قلبها
وبوحها بأنني أقرب من بقربها
حدّثتُها عن ظلِّها الظليلْ
وعن أريجِ أسمرٍ يميلُ إذْ تميلْ
وحينما غضَضتُ طرفي، شفَّ من بحيرتي عينيَّ
ظلٌ أحْمَر,
كأنّهُ تُرابُها البليلْ"(86)
حين نقرأ المقطع السابق نشعرُ بوجود أنغام خفيّة، ليس مصدرها موسيقى الرجز الخارجيّة، وحين نبحثُ عن ذلك المصدر نجدهُ في تكرار مجموعة من الحروف بشكلٍ كثيف قياساً إلى بقيّة حروف العربيّة، التي يتكوّن منها النص: السين والصاد تتكرّران أربعَ عشرة مَرّة(14)، واللام ـ 17 مَرّة، والراء ـ 12 مَرّة، والهاء ـ 11 مَرّة، والحاء ـ 10 مَرّات، وبالتالي لو رسمنا خارطة لتواتر هذهِ الحروف، في سطور النص فستبدو كما يلي:
" ص ـ ر ـ ص ـ ص ـ هـ ـ ل
س ـ س ـ ح ـ س ـ ح
س ـ ح ـ ر ـ هـ ـ س ـ هـ ـ س ـ ل
س ـ س ـ ح ـ س ـ ر ـ ح ـ هـ
س ـ ر ـ ل ـ هـ ـ ر ـ ل ـ هـ
ح ـ هـ ـ ر ـ ر ـ هـ
ح ـ هـ ـ ل ـ هـ ـ ل ـ ل
ر ـ س ـ ل ـ ل
ح ـ ر ـ ح ـ ر
ل ـ ح ـ ر
ر ـ هـ ـ ل ـ ل"
إن تكرار هذه الحروف الذي جاءَ عفوياً، وخلال مسافاتٍ زمنيّة قريبة جداً، على مستوى السطر الشعري الواحد من جهة، وضمنَ النص كله من جهة أخرى، نتجَ عنه تكثيف صوتي أغنى الإيقاع، وحين ننتبه إلى أن الحروف التي تواتر تكرارها: بعضها شديد الهمس كالهاء، وبعضها حلقي لهوي هامس أيضاً كالحاء، بالإضافة إلى حرفي السين والصاد وهما حرفانِ مهموسان، ثُمّ تأتي الميم، وهي تنضوي تحت ما يسمّى أحرف اللين.. نلاحظ الطبيعة الموسيقيّة الهامسة الليّنة الهادئة, التي تسيطر على النص، والتي لا يعكّرها إلا قليلاً حرف الراء المجهور، الذي يتكرّر اثنتي عشرة مَرّة، والذي أفاد هنا فكرة تواصل الحالة واستمرارها وصولاً إلى خاتمتها؛ هذا إذا أخذنا بنظريّة ابن جنّي في القيمة التعبيريّة للحرف الواحد.
وليسَ مثل هذا الانسجام الموسيقي وقفاً على عبد القادر الحصني، لكننا نجدهُ عند عددٍ قليلٍ آخر من الشعراء السوريين(87)، وضمن هذا السياق لا بُدّ من التأكيد على تجربة الشاعر فايز خضّور، الذي احتفى بشكلٍ لافت بموسيقى النص الداخليّة، ولا شكَ عندي أن الأمرَ بدأ عفويّاً ونابعاً من خصوصيّة الشاعر، وطبيعتِهِ الجوّانيّة بإيقاعاتِها الخاصة، وهذا ما نلمسُهُ ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ في المقطع الأوّل من قصيدةٍ مُبكّرة "بثورٌ على خارطة القلب"، بالرغم من غياب القافية تماماً، وتنضيد الكلام بطريقة النثر:
"هيئي لغةَ النومِ: أقبلتُ أحبو على قصبِ الموتِ ـ خاصرتي هشّةٌ ـ
والعظامُ خواءٌ مُريحٌ لذبحكِ.. ظهري ندوبٌ من السعي...
صدري خناجرُ للخدشِ.. كوني نياشينَ للفتحِ.. مُدّي
السريرَ احتفاءً بتشريفِ كونٍ هشيمٍ،تمرّسَ بالدفنِ. أتلفتُ إرثَ الطفولةِ.. حُبّي
ولاءكِ نبعاً أجاجاً "هو الملحُ، ذرّةُ
لونٍ أليفٍ" معي كفن الصلبِ, خزاً دمقساً، وشاهدةً نبّهتْ
خلسةً، من نحيب العشيّاتِ.. إلخ"(88)
أما سببُ هذا الإيقاع الخبيء في النص فهو تكرار مجموعة من الحروف بشكلٍ متواتر، حتى لا يكاد سطرٌ يخلو من بضعة حروفٍ مُتشابهة: الهاء تكرّرت 19 مَرّة، وافتتحت النص وقفلته من خلال مفردتين: (هيئي) و(ولولَهْ). التاء تكرّرت 36 مَرّة، والشين 11 مَرّة، السين والصاد 22 مَرّة، الخاء 14 مَرّة، والحاء 12 مَرّة.
ولو أخذنا مقطعاً آخر لخضّور من قصيدة "حصار الجهات العشر"، وهي حديثة نسبيّاً (1991 ـ 1992) قياساً للقصيدة السابقة، لرأينا إصرار الشاعر السابق نفسه على خلقِ إيقاعٍ داخلي قوي في النص، لكن المسألة هنا تصبح أكثر وعياً وتصميماً مسبقين، لنقرأ:
"مهمومةٌ كانت بأكفان الزفافْ:
رتقاً وفتقاً، واستشاراتٍ لمنطوق المرايا،
والشقيقات الحيارى، والرفيقاتِ الغيارى
والرضا النبويِ من شيخ السكارى:
كُلّما أغضى، وأغلقَ راعشاً بالقهرِ، ساقيةَ العفافْ..!"(89)
في هذا المقطع الذي لا يزيد عددُ كلماته على 24 كلمة، ثمّة طرق متعدّدة لخلق إيقاعات إضافيّة، ترتفع بالحالة الموسيقيّة للنص، بالتعاون مع تفعيلة الكامل، التي لم تأتِ صحيحةً إلا مَرّة واحدة أو اثنتين.
في هذا المقطع يتم تكرار الحروف: الفاء ـ 7 مَرّات، القاف ـ 9 مَرّات، الميم ـ 7 مَرّات، الراء ـ 10 مَرّات. ثُمّ تأتي مجموعة من المفردات المتجانسة صرفيّاً وصوتيّاً: (شقيقات ـ رفيقات ـ استشارات)، (حيارى، غيارى، سكارى)، (زفاف، عفاف)، وهناك بعض المفردات التي تجمع إلى التجانس الصوتي تضاداً في المعنى (رتقاً، فتقاً)، ثُمّ ننتبه أن بعض الجُمل بنيت صوتياً بصورة متناظرة، وعلى شيء من التوازي (أكفان الزفاف، ساقية العفاف)، (الشقيقات الحيارى، الرفيقات الغيارى)، ثُمّ تأتي حروف المد الكثيفة في هذا المقطع.
إن كل هذه الوسائل في البناء الموسيقي الصوتي والمعنوي لهذا المقطع تفسّرُ لنا إحساسنا الجميل والغريب بالانسجام الموجود فيه، ويمكننا أن نعمم ما قلناه على شطرٍ كبيرٍ من شعرِ فايز خضّور، ويبقى الأمرُ على هذهِ الحال حتى نصل إلى تجربته المعروفة بـ (الجيميّة)، أو (الحلم الثاني) من "حصار الجهات العشر"، التي سأقتطفُ منها مقطعاً صغيراً:
"جبلٌ رجيمٌ وجهُها. اسفنجها جللٌ على جوع البنفسجِ. صولجان جريمةٍ
جهّارةٍ الأجراسِ. فرجُ جحيمها لجبٌ. لجوجٌ لُجّهُ الجمريُّ
جبارٌ، جمامُ الجور، جائحُ موجها جعدٌ لجين جُمانِها
وجمالها جرفٌ جهيمٌ. والجنايةُ جُبّها المجهولُ: سنجقُ جؤذرٍ
جلفٍ، وجبّاناتُ أجيالٍ، من الجوريِّ والجُرذانِ والمرجانِ
جناتٌ جَرى (جنّانُها) جنبي: تجرأ واجتنى من جامحِ
الخلجانِ جوهَرها ومعجمها الجنين، جرايَة للتاجِ، جاريةً..."(90)
وهنا لن نختلفَ مع من رأى أن إبداع خضّور قائمٌ على بُعدي الجمالية الشعريّة: ـ الموسيقى/ والعمارة الدقيقة، مُضافاً إليهما خصُوصيّة نوعيّة هي التنامي دَمجاً للوصف السكوني بالوصف الحركي(91)، بل لعلّنا أشرنا إلى بعض ذلك في أكثر من موضع، لكن من يقرأ هذا النهر الهادر من الجيمات المتلاحقة والمرصوصة خلفَ بعضها، وفي كل كلمة على امتداد القصيدة كلها، ما عدا المقطعين الصغيرين في بداية القصيدة وخاتمتها يُدرك مقدار القصد والاصطناع والتعمّل في اجتلاب المفردات، حتى لقد أصبحَ إيقاع الجيم يثقل على أذن القارئ كالطبل الذي ـ بدل أن يضبط إيقاع المعزوفة ـ ينفردُ بالعزف ويسكت العود والكمان والقانون وما إلى ذلك.. بل لقد أجبرت الجيم الشاعر على استخدام بعض المفردات والعبارات، التي ما كان لـه أن يستخدمها في الحالة العاديّة: لوحشيتها وعدم مُلاءمتها السياق؛ كمفردتي "سنجق، جؤذر"، و كقولـه: "جمّعت جهودَ جمجمتي"، فلولا الجيم لما استخدم الشاعرُ كلمة جمجمتي هنا، ولاستبدالها بمفردة أكثر دلالة, وأقرب إلى ما يريد التعبير عنه، والأمر نفسه يصدقُ في قولـه: "أجبن من جراء جزيرةٍ عجميّة"...
إن هذهِ التجربة تعكس بصورةٍ واضحة رغبة خضّور بخاصة، والشاعر السوري بعامة في تطوير البنية الموسيقيّة لقصيدة التفعيلة؛ سواء كانت التجربة ناجحة، أم خانها النجاح بنسبةٍ أو بأخرى.
ومن التجارب الطريفة في هذا السياق قصيدة "أبجدّيات"(92) للشاعر موفق نادر، المكوّنة من أحدَ عشرَ مقطعاً، والتي اتخذ الشاعر فيها من الأحرف الأبجديّة عناوين للمقاطع فجاءت كما يلي: (أ ـ ب ـ ب ـ ج ـ د ـ هـ ـ و ـ ز ـ ح ـ ط ـ ي).
افتتحَ الشاعر القصيدة بمقطع صغير لا عنوان لـه، أرادَ لـه أن يكون مدخلاً يفضي إلى المقاطع التي ذكرتها:
"طالعٌ من مساءٍ حزينٍ
ومن لغةٍ مقفلةْ
أعدُّ أصابع أحبابيَ النائمينَ
على شفةِ المقصلةْ
أهجّي لهم دَمَهم أغنياتٍ
وأتلو دموعَهُمُ المُرسلةْ.."
إذاً فالمقاطع القادمة هي من قبيل تهجئةِ دم الأحبّاء أغنياتٍ.. ومن قبيل تلاوةِ دموعهم وقد ندبَ الشاعرُ نفسه لهذهِ المهمّة الصعبة.. فراحَ في بعض المقاطع يتحدّث بلسانِ راوٍ يصفُ واحداً من أولئكَ الأحباب، وتارةً تقمّص هذهِ الشخصيّة أو تلك، وتحدّثَ من داخلها وبلسانها، لكن ما يعنينا هنا أكثر من غيره هو موسيقى القصيدة اللافتة؛ التي حققت شيئاً من الهارموني بوسيلتين مهمّتين:
أولاً ـ وجود قافية واحدة ربطت المقاطع كلها ما عدا الأوّل الذي قرأناه أعلاه، فجاءت القوافي: (الضيّقِ، النقيْ، المطبقِ، المورقِ، المقلقِ، نلتقي، الأزرقِ، ترتقي، نقي، المطلقِ، مونقِ، المورقِ، الشقي، المرهَقِ، جَلّقِ، الأخرقِ)، وكنّا نرى الشاعر يقفل المقطع بواحدةٍ من القوافي السابقة، وقد لا يكتفي بها فتأتي هذهِ القوافي الموحّدة، داخل المقطع نفسه إلى جوار غيرها من القوافي الخاصة بكل مقطعٍ على حدة، والتي تشكل أنغاماً خاصة بالمقطع ذاته، ستصوغُ مع الوسيلة الثانية التي اتبعها الشاعر ما يشبه ـ في الموسيقى ـ معزوفةً جانبيّة، أو تقسيماتٍ، أو ربّما عزفاً منفرداً على آلةٍ ما.. لفترةٍ زمنيةٍ مُحدّدة يتلوها التحامٌ بجسد السيمفونيّة الكُبرى.
ثانياً ـ الوسيلة الثانية التي اتبعها الشاعر تقومُ على اعتماد عنوان المقطع ـ وهو أحد الحروف الأبجديّة ـ وحدةً نغميّة تتكرّر بكثافة، في جسدِ المقطع المعني، على غرار "الجيم" عند فايز خضوّر، ولكن بكثافةٍ أقل بكثير، لنقرأ المقطع ذا العنوان (ز):
"زجاجاتُ خمرٍ عتيقٍ
تصفُّ على المائدةْ
زفير الزبائِِنِ
زغرودةٌ كسرتْ حَاجزاً من رذاذٍ كثيفٍ
وحطّت على جبهةٍ باردةْ
ثياب النساء اللواتي صَعِدنَ
إلى حلبةِ الرقصِ
زادت بياضَ اليقينِ
وزلزلت الفئةَ القاعدةْ.
قليلٌ من الخمرِ يكفي
لتهتزَّ أردافُ هذا الزمانِ الزنيمِ
ويدخُلَ في حُلُمٍ مونقِ"
لقد تكرّر ورودُ (الزاي) إحدى عشرة مَرّة في هذا المقطع الصغير، وتكرّر حرفُ (الألف) اثنتين وثلاثين مَرّة في المقطع المعنون بـ (أ)، وتكرّرت (الباء)، ستَ عشرةَ مَرّة في المقطع (ب)، وهكذا ممّا منحَ هذهِ المقاطع حالةً موسيقيّة تبعثُ على الانسجام والراحة في كل مقطعٍ على حدة.. ثمّ تأتي القافية الموحّدة، التي تربط المقاطع كلها في جسد القصيدة الواحدة... التجربةُ من الناحية الموسيقيّة جميلة وتحتاجُ إلى وقفةٍ أطول، لكنك قد تجد في هذا المقطع أو ذاك مفردةً واحدة (أو جملة) اضطُرَّ الشاعِرُ لاستخدامِها طمعاً بمزيدٍ من النغم على حساب المعنى.. كأن يقول في المقطع (ج):
"جفا ودُّهُ،
فاستعاذَ بجيشِ الجوى كي ينامْ
جبالٌ تراخت على حُلمِهِ فاستفاقَ
يجرجرُ رجلينِ من حَجرٍ وعظامْ..."
أرادَ الشاعر أن يعبّر عن خيبةِ هذا العاشق؛ الذي يستعيذُ بجيش الجوى "كي ينامْ" فإذا بحلمِهِ يغدو كابوساً ويستفيق!، والحقيقة أن جملة "كي ينام" التفسيريّة قد أفسدت على الشاعر صورتَه, فمن ذا الذي يمكن أن يخطر بباله أن يستعيذَ "بجيش الجوى"، كباعثٍ على النوم، أو مساعدٍ على الكرى، ومن معاني الجوى ـ كما لا يخفى على الشاعر ـ: ضيقُ الصدر ومرضه، أو اشتداد الوجد من العشق أو الحزنِ.. إلخ، وهو بالتالي يبعثُ على السهرِ والقلق والتوتر، وكان بإمكان الشاعر أن ينجو من كل هذا بحذف جملة "كي ينام"، ولا يتبَّدل في المقطع شيء من ناحية الوزن.
ومن ذلكَ أيضاً جملة جاءت في المقطع (ب):
"وبقايا سرابٍ من الحُلمِ
قطرّها تحتَ خابيةٍ من دموع الكلابْ"
ففي حالةٍ أخرى ما كان لموفّق نادر أن يسمحَ لمفردةٍ أن تقودَه طمعاً بنغمتها على حساب أشياء أخرى قد لا تقل أهميّةً عن الموسيقى.
ولقد استخدمَ الشاعر السوري المُعاصر وسائل كثيرة لإغناءِ نصّه موسيقيّاً، منها ما ذكرناهُ أعلاه، ومنها القوافي الداخليّة، وضروب التكرار المختلفة: من تكرار مفردة بعينها، إلى تكرار جملة كلازمة تبدأ مع بداية النص وتستمر في جوانبه، إلى التكرار الدائري أو الهرمي المتدرّج(93) وما إلى ذلك ممّا لا يتّسع المقام لبحثه.
ثالثاً ـ في الإيقاع الناجم عن التشكيل البصري:
أولت قصيدةُ التفعيلة اهتماماً كبيراً لشكلِ توضّح الكلمات على الورق، ولعلاقة هذهِ الكلمات ـ بألوان حبرها المختلفة ـ مع بياض الصفحة المحيط بها، بل لعلّ نفراً غير قليل قد انتبهَ إلى تأثير لا يمكن إهمالُهُ يضطلع به تنضيدُ الكلام ورسمه على "حركة الدلالة التي يسعى إليها الشاعر ويريد أن يؤكَّدها في العين والأُذن"(94).
لننظر على سبيل المثال إلى مقطع صغير من قصيدة "لهب الجنون" للشاعر فؤاد كحل:
"* .... فالأفئدة:/
ولَهٌ يحطِّمُ في المدى
بالموت شكلَ وجودهِ
ويعودُ يبحَثُ عن صدى
خلفَ اكتمال حدودِهِ
ويظلُّ
فيض
الروحِ
يسبَحُ
في
النصوص
الموجزةْ"(95)
إن طريقة التدرّج الانسيابي الهابط إلى أسفل, للكلمات الواصفة لحالة فيض الروح السابح في النصوص إنّما جاءت لتصوّر بصريّاً تلك السباحة، ويعرف من مارسَ السباحةَ والغطس كيفَ ينسابُ السّباح في الماء؛ تماماً كما رسمت الكلمات، وصولاً إلى عمقٍ ما، ثُمّ يرتفعُ الجسدُ إلى أعلى الماء.
لقد حاولَ الشاعر أن يَصُفَّ الكلمات بصورةٍ تخدم المعنى.. وهو بتوزيعها على النحو السابق، وعدم وضعها على سطرٍ واحدٍ؛ إنَّما فرضَ على قارئه طريقةً من القراءة تمتاز بالبطء نسبيّاً؛ البطء الذي تسببهُ حركة العين في الانتقال من سطرٍ إلى آخر.. وعليه فقد فرضت علينا هذه الكتابة رتماً انسيابياً هادئاً.. كالسباحة الهادئة ذاتها.
ومن الشعراء من يتصرّفُ بطريقة كتابة الكلمات لتخدمَ غاياتٍ موسيقيّة ودلاليّة يسعى إليها؛ من ذلك قطع الكلمة ومطّها.. أو فصل أحرفِها عن بعضها بنقاطٍ، ممّا يفرض علينا طريقةَ قراءةٍ مختلفة، عَمّا لو كانت الكلمة موصولة الأحرف؛ لننظر إلى المقطع التالي للشاعر عبد الكريم الناعم، من قصيدة "قراءة في عيني أمّي":
"... (إني أذكُرُ
عينا أمي سربُ يمامْ
إني أكتبُ..
تحرسني عيناها حينَ أنامْ
عينا أمّي سربُ يمامْ,
سربُ يما..... مٍ
سر... بُ... يـ... ـمـ...ـا...مْ"(96)
إن تقطيع كلمتي "سرب يمام" بالصورة السابقة لم يذكّرني ـ ضمن سياق النص ـ إلا بترديد الطفل الذي تنوّمه الأم عبارةً ما (غالباً تتعلّق بها)، إنّهُ يذكر العبارة في البداية كاملةً متصلةً، ولكنهُ شيئاً فشيئاً يمط حروفها.. ويقطّعُها، حتى لا يبقى منها إلا الحرفين الأوّل والأخير، ثُمّ الأخير فقط... ثُمّ يغفو، وظني أن الشاعر أرادَ أن ينقل إلينا هذه الفكرة.. فهو كالطفل هنا يردد "عينا أمي سربُ يمام".. ثم يكتبُها... وبعد ذلك يوحي إلينا أن عينا الأم تعويذة تحرسه خلال النوم ونفهم بعد قليل ـ من طريقة الكتابة: التي تفرض علينا طريقة قراءةٍ مشابهة ـ أن الشاعر هنا يتقمّص ذلك الطفل (الذي كانَهُ ذات يوم) ويردد العبارة بطريقتِهِ وسلطان النوم يغلق أجفانَهُ شيئاً.. فشيئاً.
ومن الشعراء السوريين المُعاصرين من يعمَدُ إلى التأكيد على جملةٍ ما أو أكثر بتمييزها؛ من خلالِ كتابتها بخطٍ عريضٍ، أو كثيف لغايات فنيّة مختلفة؛ إحداها إيقاعيّة... كما فَعَل علاء الدين عبد المولى في قصيدتِهِ "يوميّات ليست نسبيّة، لكائن ليسَ مُطلقاً"(97)، التي يفتتحها باللازمة: "أنا كائنٌ لا يطاقْ" المكتوبة بخطٍ عريض، على السطر الأوّل، ثُمّ تتالى السطور بخطٍ أقل عرضاً، حتى يختم المقطع الأوّل باللازمة نفسها، لكنّه يوزّعها هذهِ المرّة على ثلاثة أسطر وبخطٍ عريض.. ونلاحظ أن الشاعر سيؤكدّ هذه الجملة أينما جاءت في القصيدة، وكأنها خلاصة ما يريد قولـه، خلال سيرة ذاتّة شعريّة تمتد على مساحة أكثر من خمس وعشرين صفحة؛ وبالتالي نرى هذه اللازمة كلما وصلنا إليها فرضت علينا صوتاً أعلى.. وتأكيداً على الحروف أشد، وفي المحصلة إيقاعاً أكثر قوّةً ودويّاً.. وتأكيداً معنويّاً على الفكرة!
وممّا تجبُ الإشارة إليه في هذا السياق، أن لعبة الأبيض والأسود، أو الأبيض والأزرق(98) قد استهوت شاعرنا الحديث؛ فأمعن في الإفادة منها، ومن وجود البياض "كمساحة من الصمت الدال، والموقّع في الآن ذاته"، وحتى لو كان البياضُ صمتاً "فإن الصمت ليس مُحايداً، ولا يدلُ على مطلقيّته، إنّه صمتٌ واردٌ في سياق شعري، سواء أكان هذا البياض مؤكّداً بنقاط، أو مفروضاً من خلال تموقع النص على الصفحة"(99).
استخدمَ الشاعرُ البياضُ فاصلاً بين فضاءٍ معنويٍ وآخر، أو بين فضاءٍ موسيقي وآخر، أو في آخر السطر الشعري، أو في الجملة الشعريّة الواحدة ليقصي عُنصراً منها عن الآخر، ويضع القارئ في حالة استفهام وبحث عن الأسباب.. وما إلى ذلك؛ ويعدُّ أدونيس أحد الأساتذة في استخدام البياض والسواد والتشكيل البصري للنص من خلال جملة أساليب منها:
ـ التأكيد على مفردةٍ أو جملةٍ معيّنة (أو أكثر) بتمييزها من حيث مقياس الخط، وهذا ما يفعله في الكثير من نصوصه، وكمثال على ذلك نأخذ قصيدته "هذا هو اسمي" من مجموعة تحمل العنوان نفسه، فنجدهُ يؤكد جملة يُسمّيها لافتة تتكرّر على امتدادِ القصيدة:
"قادرٌ أن أغيَّر: لغم الحضارةِ ـ هذا هو اسمي"(100)
كما سيكتبُ مجموعة من الأسماء بخط غامقٍ تاركاً النصَ كله يكتبُ بخط عادي من هذهِ الأسماء: "روما ـ نيرون ـ علي (عشر مَرّات أو أكثر) ـ دمشق ـ الشام ـ بغداد ـ المتنبي ـ امرؤ القيس ـ الحّلاج"؛ ممّا يستوجب منّا التوقف والانتباه والتأمّل. وقد أخذَ عنهُ بعض شعراء الأجيال اللاحقة هذهِ الطريقة، كما شاهدنا عند علاء الدين عبد المولى.
ـ يستخدم أدونيس البياض بطرق عديدة: منها أن يأتي في النص نفسه وبينَ مفرداته، وكأنّه نقطة أو فاصلة؛ تقضي التوقّف القصير أو الطويل، كما جاءَ في المقطع الأوّل من القصيدة التي أشرتُ إليها؛ وهي قائمة على المزج بين التفعيلة والنثر:
"ماحياً كلَ حكمةٍ هذهِ ناريََ
لم تبقَ آيةٌ ـ دميَ الآيةُ
هذا بدئي
دخلتُ إلى حوضكِ أرضٌ تدور حوليَ أعضاؤكِ
نيل يجري طفونا ترسّبْنا تقاطعتِ في دمي قطعَتْ
صدركِ أمواجيَ انصهرتِ لنبدأْ: نسيَ الحبُّ شفرةَ الليلِ
هل أصرُخُ أنّ الطوفان يأتي؟ لنبدأْ: صرخةٌ تعرّج المدينةَ
والناسُ مرايا تمشي إذا عَبَرَ الملحُ التقينا هل أنتِ؟"(101)
وقد يأتي البياضُ فاصلاً كبيراً بين مقطع وآخر في القصيدة. وأحياناً بين جملةٍ مستقلةٍ وأخرى؛ ما يجعلنا على ثقةٍ من رغبة الشاعر في تحطيم التقاليد البصريّة، التي ألفها سواء في الشعر التقليدي، أم في قصيدة التفعيلة، التي استكانت إلى شكلِ كتابةٍ محددٍ مألوف.
ـ وقد يوزّعُ أدونيس في نصوصه الموقّعة والنثريّة الكلمة على السطر حروفاً، مما يعني ـ ضمن ما يعنيه ـ نغماً مختلفاً عند قراءتها، نغماً يميلُ إلى البطءِ والانسيابِ والهدوء(102)، وقد يملأ المساحة البيضاء بين مفردةٍ وأخرى بإشاراتٍ دالة كأن يكتب:
"كانَ
بيننا

يمحوها اللهبُ الذي نسمّيه حبّاً"(103)
فالسهم هنا، الذي يشيرُ إلى المسافة نفسها، زادَ المساحة البيضاء دلالةً وربطَ بين المسافةِ من جهة وزعمِ الشاعر ومن يخاطبه بأنها يمكن أن تمحى بالحب.
ـ وقد يستخدمُ أدونيس ما يمكن أن نسمّيه تقنيّة الإطار، أو الأيقونة: بحيث يؤطّر نصاً صغيراً ما.. داخل نص أكبر؛ فيبرزهُ بصورةٍ ما لأهميّتِهِ المعنويّة أو سوى ذلك؛ وهذا ما نراهُ في قصيدة "إسماعيل"، من مجموعتِهِ "كتاب الحصار ـ (حزيران 82 ـ حزيران 85)"، لنقرأ منها المقطع التالي ولننظر كيف استخدم الأيقونة:
"من أنتَ؟ يصرُخُ بي حُطامي
ويكاد ينكرُني كلامي
نارٌ تجيءُ إليهِ من أرضٍ تعومُ، تنامُ تحتَ وسادِهِ
نارٌ تجيءُ إليهِ من أرضٍ تعوم على رؤوس
حُشيت بألسنةٍ ـ خليقةِ خالقٍ يُملي الدماءْ
كُتباً، ويثبتُ ما يشاءُ لها، ويمحو ما يشاءْ
نارٌ تجيءُ إليهِ من أرضٍ تعومُ ـ يكاد يأخذهُ الشرارْ
من أينَ يخرجُ ـ كيفَ يخترق الحصارْ؟
ودّعتُ/ أذكُرُ قاعداً
في بيت إسماعيلَ، ـ يربطُ صخرةً
بسحابةٍ
ويشجّ بالحجرِ النجومَ، ـ يعيشُ بينَ سلاحفٍ
شطحت، ونامَتْ"(104)
وسيرتقي أدونيس بهذهِ الطريقة إلى تقسيم الصفحة إلى عدّة مساحات، كما فعَلَ في "الكتاب"(105)؛ حيث رأينا الصفحة مقسومة إلى أربعة أحياز, أوّلها في الوسط وهو مستطيل على طول الصفحة؛ يضمُّ المتن الرئيس للنص؛ ويقسم بدوره إلى جزئين علوي وسفلي، الكلامُ في ثانيهما مكتوبٌ بخطٍ أعرض منهُ في أولهما والخطُ في الجزء العلوي أعرضُ بدورهِ من سائر الكلام خارج المستطيل كُلَّه. النصُ ضمن المتن الرئيس ـ أي داخل المستطيل بجزأيه ـ موقّعٌ. الحيّز الأيمنُ من الصفحة يضمُ نصاً موزوناً أيضاً، ولكنه كما قلتُ سابقاً مكتوبٌ بخطٍ أرقُ ممّا هو في المتن الرئيس، ويحتوي كلام الرواة، الذين يضخّونَ وقائع من التاريخ العربي الإسلامي لإضاءة المتن الرئيس. الحيّز الأيسر من الصفحة مكتوبٌ بخطٍ أصغر من سابقيه، ممّا يوحي بأنه الأقل أهميّة في الصفحة، وهو يضمُّ كلاماً نثريّاً، ويقدّم هامشاً يحوي شروحاتٍ عن هذهِ الشخصيّة التاريخيّة أو تلك؛ ممّن يردُ ذكرهم في الحيّز الأيمن من الصفحة.
إن تقسيم الصفحة بالصورة السابقة، إلى أربعة فضاءات، يقتضي قراءةً جديدة تقوم ُعلى ترتيبٍ خاص في تقديم وتأخير هذا الحيّز عن ذاك، وفي قراءة هذا الجزء والقفز إلى الهامش أحياناً، ثمّ العودة إلى الراوي... وما إلى ذلك ممّا يلغي الاطمئنان والهدوء عند القارئ، ويدخلُهُ في حالةٍ من القلق والانتباه المتوقّد ويفرضُ عليهِ إيقاعاً جديداً في التعامل مع النص الجديد.
وقد بدأ قُرّاء الشِعر يلاحظون في الفترة الأخيرة أن البياضَ أصبَحَ نهماً جداً في نصوص عديدٍ من شُعرائنا؛ إنه يلتهم السواد بشراهة، حتى أصبحتَ أحياناً ترى الشاعر يترك الصفحة كلها، ويسطّرُ جملةً أو سطراً أو اثنين في أسفلها... وتحاول أن تجد سبباً لذلك فلا تجد إلا لعبةً شكلانيّةً؛ لا قبلها ولا بعدها..، ومن هنا تأتي ضرورة التأكيد على أن "الاهتمام بالشكل البصري يبقى منقوصاً، ما لم يقترن بالكلام وعلاقتِهِ بالسياق"(106).
الإحالات
(1) انظر: حنّا عبّود، النحل البري والعسل المُر، وزارة الثقافة السوريّة 1982،
ص 202.
(2) د. نعيم اليافي، معجم البابطين للشعراء العرب المُعاصرين، المجلّد 6، الكويت، 1995، ص 285.
(3) أدونيس، زمن الشعر، ط 2، دار العودة، بيروت 1978، ص 147.
(4) نفسه، ص 9.
(5) نفسه، ص (148 ـ 149).
(6) د. نعيم اليافي، سابق، ص 286.
(79 نازك الملائكة، قضايا الشعر المُعاصر، ط 5، بيروت، 1978، ص 69.
(8) د. أحمد بسام ساعي، حركة الشعر الحديث في سوريا ـ من خلال أعلامه، دار المأمون، دمشق 1978، 55.
(9) د. أحمد بسام ساعي، سابق، ص 57.
(10) نزار قبّاني، الأعمال الشعريّة الكاملة، ج 2، دار العودة، بيروت، 2000، ص؟؟؟
(11) محمّد عمران، الأعمال الشعريّة الكاملة، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 2000، ص (51 ـ 52).
(12) د. علي جعفر العلاّق، مجلّة الأقلام، العدد 11/12، 1987، ص 103.
(13) حاتم الصكر، ما لا تؤدّيه الصفة، بحث مقدّم لمهرجانِ المربد العاشر, 1989، ص (19 ـ 20).
(14) انظر: د. أحمد بسام ساعي، سابق، ص .
(15) انظر: د. محمد صابر عبيد، القصيدة العربيّة الحديثة، اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 2001، ص (164 ـ 175).
(16) مصطفى خضر، أدباء مكرّمون 14، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2004، ص 106.
(17) محمّد عمران، الأعمال الشعرية الكاملة، مجموعة "أنا الذي رأيت ـ 1978", ج 1، وزارة الثقافة، 2000، ص 361.
(18) انظر: قصيدته "التحول" ـ الأعمال الشعريّة الكاملة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، من 1985، الصفحات 357 ـ 362.
(19) د. ناصر علي، بنية القصيدة في شعر محمود درويش، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2001، ص 277/ نقلاً عن محمد كوني "اللغة الشعريّة"، دار الشؤون الثقافية بغداد، 1997، ص 85.
(20) انظر: د. ناصر علي (المصدر السابق)، ود. عز الدين إسماعيل في كتابه "الشعر العربي المعاصر" (سابق)، و د. أحمد بسام ساعي، (سابق).
(21) نزار قبّاني، الأعمال الكاملة، سابق، ص 542.
(22) محمّد عمران، الأعمال الشعرية الكاملة، سابق ج 1، ص 63.
(23) نفسه، ص 59.
(24) د. محمّد صابر عبيد، سابق، ص 105.
(25) بيان الصفدي، جنّة صغيرة، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 2002، ص 21 ـ 22.
(26) نزيه أبو عفش، هكذا أتيت.. هكذا أمضي، دار الكلمة للنشر، بيروت 1989، ص 29.
(27) د. محمد صابر عبيد، سابق، ص 117.
(28) نزار قبّاني، الأعمال الشعرية الكاملة، سابق، ص 742.
(29) نفسه، ص 746.
(30) نفسه، ص 746.
(31) أدونيس، الآثار الكاملة، م 1، ط 1، دار العودة، بيروت 1971، ص 491.
(32) انظر: د. محمد صابر عبيد، سابق، ص 120.
(33) نفسه، ص 121.
(34) فايز خضّور، ديوان فايز خضّور، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 2003،
ص 8.
(35) انظر: أدباء مكرّمون 14، مصطفى خضر، سابق، ص (114 ـ 123).
(36) عبد القادر الحصني، ينام في الأيقونة، دار الكنوز الأدبيّة، بيروت ـ دمشق، 2000، ص 79.
(37) نزيه أبو عفش، ما يشبهُ كلاماً أخيراً، دار المدى، دمشق، 1998،
ص (15 ـ 16).
(38) نزار بريك هنيدي، الرحيل نحو الصفر، اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 1998، ص 65.
(39) ثائر زين الدين، في هزيم الريح، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 2003،
ص 31.
(40) بيان الصفدي، جنّة صغيرة، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 2002،
ص (41 ـ 42).
(41) نازك ملائكة. قضايا الشعر المعاصر، مكتبة النهضة، ط2، 1965،
ص (164 ـ 165)
(42) أمين ألبرت الريحاني، مدار الكلمة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1980،
ص 183.
(43) فايز خضّور، ديوان فايز خضّور، وزارة الثقافة السورية، سابق، ص 182.
(44) محمّد عمران، الأعمال الشعريّة الكاملة، وزارة الثقافة السورية، ج 1،
ص (359 ـ 360).
(45) نزيه أبو عفش، ما يشبه كلاماً أخيراً، سابق، ص (44 ـ 45 ـ 46).
(46) وفيق سليطين، مُعاكسة الأوابد للضوء، دار كنعان، دمشق 2004، الصفحات
(5 ـ 13) و(70 ـ 71).
(47) د. أحمد بسام ساعي، الشعر السوري المعاصر من خلال أعلامه، دمشق، دار المأمون، ص (67 ـ 69).
(48) فايز خضّور، مقدّمة "أمطار في حريق المدينة"، دمشق 1973.
(49) د. عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المُعاصر، قضاياه وظواهره الفنيّة والمعنويّة ـ منشورات جامعة البعث، حمص، مغفل التاريخ، ص 100.
(50) نفسه، ص 102.
(51) ممدوح عدوان، وهذا أنا أيضاً، اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 1984،
ص 27 ـ 40.
(52) علي كنعان، أطياف من لياليها، دار عطيّة، لبنان 1998، ص (54 ـ 60).
(53) فؤاد كحل، مجهولة الينابيع، اتحاد الكتاب العرب، 2003، ص (55 ـ 68) كما يمزج الشاعر في قصيدة "دماء في الغَسق" عدّة بحور معاً في مقاطع القصيدة العديدة، من المجموعة نفسها.
(54) فؤاد نعيسة، أحزان الصفصاف الباكي، دار المدى، دمشق 2002،
ص (22 ـ 25).
(55) أدونيس، الأعمال الشعريّة الكاملة، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت، ط 5، 1988، ص (252 ـ 288).
(56) لمزيد من التفصيل انظر: د. أحمد بسام ساعي، حركة الشعر الحديث في سوريا، سابق، ص (123 ـ 141).
(57) د. محمد صابر عبيد، سابق، ص 214.
(58) انظر: ممدوح عدوان، الظل الأخضر، وزارة الثقافة، دمشق 1967،
ص (35 ـ 41).
(59) انظر: بدر شاكر السّياب، الديوان: قصيدة (ليلى)، دار العودة، بيروت 1986, ص 720 ـ 723, وأحمد عبد المعطي حجازي في قصيدته (الرحلة ابتدأت) و(رثاء المالكي)، ديوان حجازي ص (284 ـ 306).
(60) انظر: أدونيس، الآثار الكاملة، مجنون بين الأموات، المجلد الأوّل، دار العودة، بيروت 1988، ص 273.
(61) فايز خضّور، ديوان فايز خضّور، سابق، الصفحات (183, 334، 378 وغيرها).
(62) انظر على سبيل المثال لا الحصر الأعمال التالية لبعض هؤلاء الشعراء:
ـ عبد القادر الحصني، ماء الياقوت، قصيدة "لها كل هذا الغناء"، ص 49.
ـ نزار بريك هنيدي، "الرحيل نحو الصفر"، قصيدة "السيرة الزرقاء"،
ص (49 ـ 62).
ـ علاء عبد المولى، "تراجيديا عربيّة"، الصفحات (25 ـ 26...).
ـ ثائر زين الدين، "في هزيم الريح"، قصيدة "صرخة عبيد بن الأبرص"،
ص 96 ـ 100.
ـ سامر فهد رضوان, "تشكيلات لمولد الحصار"، قصيدة "حيفا وأسطورة الوصول"، ص 23 ـ 24.
ـ عبد النبي التلاوي، بابها مغلقٌ وخريفي قريب"، الصفحات (86 ـ 89).
(63) علاء الدين عبد المولى، تراجيديا عربيّة، (سابق)، ص 15.
(64) نفسه، ص 22.
(65) نفسه، ص 25.
(66) نفسه، ص 26.
(67) عبد القادر الحصني، ماء الياقوت، مركز الإنماء الحضاري، ط 1، حلب، 1994، ص 45.
(68) نفسه، ص 48.
(69) نفسه، ص 49.
(70) ثائر زين الدين، ورد، دار الثقافة، دمشق، 1988، ص (14 ـ 15).
(71) نفسه، ص (18 ـ 19).
(72) أدونيس، زمن الشعر، دار العودة، ط 22 بيروت 1978، ص 116.
(73) د. محمّد صابر عبيد، سابق، ص (224 ـ 225).
(74) نزيه أبو عفش، ما يشبه كلاماً أخيراً، سابق، ص 42.
(75) نفسه، ص 44.
(76) نفسه، 53 ـ 54.
(77) محمّد عمران، الأزرق والأحمر، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1984،
(96 ـ 130).
(78) كمال جمال بك، مرثيّة الفرات العتيق، اتحاد الكتاب العرب،دمشق، 2000،
ص (58 ـ 65).
(79) نفسه، ص (34 ـ 37).
(80) أدونيس، مقدمة للشعر العربي، دار العودة, ط 1، بيروت 1971، ص 116.
(81) نفسه، ص (114 ـ 115).
(82) د. ناصر علي، بنية القصيدة في شعر محمود درويش, المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت, 2001، ص (246 ـ 247)/ نقلاً عن د. يمنى العيد، في معرفة النص, منشورات دار الآفاق، بيروت 1983، ص 98.
(83) نفسه، ص 247.
(84) د. محمّد صابر عبيد، سابق، ص 60/ نقلاً عن حاتم الصكر ومحمّد مفتاح.
(85) انظر: د. ثائر زين الدين، قراءة جديدة لقصيدة أراك عصي الدمع"، مجلة الموقف الأدبي، عدد شباط 2000، ص 135. وكتاب: "ذو الرمّة شاعر الطبيعة والحب" لكيلاني سند، وكتاب "الشعر الإسلامي والأموي" للدكتور عبد القادر القط، دار النهضة العربيّة، بيروت 1987.
(86) عبد القادر الحصني، ينام في الأيقونة، سابق، ص 73.
(87) انظر على سبيل المثال لا الحصر: مجموعة "في هزيم الريح" الصادرة عن وزارة الثقافة (سابق) ص 31 ـ 33؛ قصيدة "أحبك الآن" حيث يتكرّر حرف الحاء 22 مَرّة، والهاء 26 مَرّة في نصٍ عدد مفرداته 82 كلمة ومطلعه: أحبك في هذه اللحظة الحاضرةْ".
ومجموعة "ينام في الأيقونة"، سابق، ص 101، قصيدة تعب البنفسج.
(88) فايز خضوّر، الديوان، سابق، ص 182.
(89) نفسه، ص 563.
(90) نفسه، ص 540.
(91) انظر: سلمان حرفوش: إطلالات نقديّة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2000، ص 48.
(92) موفق نادر، قصيدة (أبجدّيات), الموقف الأدبي، العدد 374، دمشق، حزيران، 2002، ص (109 ـ 112).
(93) لمزيد من التفصيل انظر: محمد صابر عبيد، القصيدة العربيّة الحديثة، سابق، ص (182 ـ 212).
(94) د. نعيم اليافي، مقال: "التجريب في قصيدة التفعيلة"، مجلّة الموقف الأدبي،
العدد 374، حزيران 2002، ص 15.
(95) فؤاد كحل، مجهولة الينابيع، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، ص 114.
(96) عبد الكريم الناعم، احتراق عَبّاد الشمس، اتحاد الكتّاب العرب 1984، ص 36.
(97) محمّد علاء الدين عبد المولى، عرّاف الجحيم، وزارة الثقافة، دمشق 2000، ص 119 ـ 143.
(98) انظر: مجموعة "مكاشفات العارف"، للشاعر شاكر مطلق، وهي مجموعة مكتوبة بالأزرق السماوي، ويطغى على غلافِها اللون نفسه، لأغراض فكريّة!
(99) عبد السلام المسّاوي، البنيات الدالة في شعر أمل دنقل، اتحاد الكتاب العرب، سابق، ص 40.
(100 ـ 101) أدونيس، الأعمال الشعريّة الكاملة، م 2، دار العودة, ط 5، بيروت 1988، ص (268 ـ 287).
(102) نفسه، انظر ص 511 حيث يكتب الشاعر: "أ و ر ف ي و س/ أ د و ن ي س".
(103) نفسه، ص 598.
(104) أدونيس، كتاب الحصار، دار الآداب، بيروت، ط 1, 1985، ط 2 1996، ص 216.
(10) أدونيس، الكتاب (أمس المكان الآن) ـ I، دار الساقي, بيروت، ط 1 ـ 1999
(106) د. نعيم اليافي، الموقف الأدبي، (سابق), ص 20.
الفهرس
مقدمة 7
إحالات المقدمة 10
تجلّيات ديك الجن الحمصي من نماذج من الشعر العربي المعاصر 11
إحالات الفصل الأول. 59
الشعر الحديث يستعيرُ تقنيات السرد 65
إحالات الفصل الثاني. 91
في جماليات البنية الإيقاعية لقصيدة التفعيلة
الشعر في سوريا ـ نموذجاً 95
إحالات الفصل الثالث
([1]) قصيدة "كأس" لعمر أبي ريشة.
قصيدة رائدة في استحضار شخصية ديك الجن الحمصي وكذلك قصيدة " ديك الجن الدمشقي" لنزار ولذلك درسناهما في هذا الباب مع أنهما لا تنتميان حتماً لشعر التفعيلة.
*) ) يحسَّ القارئ هنا بوجود خللٍ عروضي، لكنّ النص هكذا في الأصل.
*) ) كذا في الأصل.
([2]) ألقي هذا البحث في الندوة السنوية، التي أقامها اتحاد الكتاب العرب ـ جمعية الشعر، حول واقع الشعر في سوريا، أواخر عام 2004.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق