تطور الشعر العربي الحديث في العراق
اتجاهات الرؤيا وجماليات النسيج
تأليف : علي عبّاس علوان
الناشر: منشورات وزارة الإعلام
الجمهورية العراقية
الطبعة: 1975
لا تسعى هذه الدراسة لرصد تاريخ الشعر العراقي، أو الاهتمام بالسير الذاتية للشعراء وتفاصيل حياتهم كالذي انصبت عليه معظم دراسات الباحثين العراقيين وغيرهم ممن وفوا هذا الجانب حقه بدراستهم الرائدة، وإنما كانت المحاولة الرئيسية التي تدور حولها هذه الرسالة هي دراسة تطور مشاكل القصيدة وصعوبات العمل الفني، وما طرأ على نسيج الشعر، من خلال تتبع يتمشى مع حركة الوعي وتطورات الأحداث والمؤثرات والمتغيرات الاجتماعية والفكرية والسياسية.
وإذا كانت هذه الدراسة تحاول الإجابة عن مجموعة من الأسئلة تثير قضايا التجديد والتطور والاصالة والعقم والاضطراب والسلبيات في قصيدة الشاعر العراقي الحديث، فإنه من غير المنطقي أن تظل هذه الإجابات أسيرة البيئة العراقية وظروفها فحسب، بل حاولت -كلما كان ذلك ضرورياً- أن تستشرف ساحة الشعر العربي ولا سيما في مصر والمهاجر، وأن ترسم الخطوط البارزة لحركة التجديد التي ظلت مطروحة فيها سنوات عديدة وكان تأثيرها في قصيدة الشاعر العراقي واضحاً.
علي عباس علوان في كتاب عمره
( تطور الشعر العربي الحديث في العراق :
اتجاهات الرؤيا وجماليات النسيج )
مؤسسة النور للثقافة والإعلام - ثقافات - مهدي شاكر العبيدي:
إثرَ أوبتي إلى بلدي من الديار الشامية ، شرعْتُ في البحث عن سكن يؤوينِي ببغداد ، فوجدته بمنزل متواضعٍ تملكه أرملة هَجرتْهُ لتقيمَ في دارتها الثانية ، مستبدلة في ذلك حيا ً بآخر لعامل لا أتبيَّنه ولسببٍ لا أدريه ، والمهمُّ أنـَّها تعيش في سعةٍ ، فكلُّ أمورها مُيَسَّرة ومتطلباتُ حياتها موفورة ، من هنا جاء هذا التساهل من جانبها بخصوص الاتفاق على مقدار الدفع الشهري في مثل هذا الظرف الذي يحفُّ بنا ونعيشه ! .
ومَا أنْ باشرْتُ ترتيب أغراضي ولوازمي في حجراته ، حتى عثرْتُ في بعضها على كتبٍ مدرسيَّة ، فخلتها من متبقيات أولادها المنتظمينَ في المدارس حتما ً ، غير أنَّ المفاجأة السارة جاءَتْ هذه المرَّة من عثوري بثلاثة أسفار مهمَّةٍ في ركن مهمل منها ؛ أولها : نسخة من المصحف الشريف الذي تشرَّفتْ بنشره وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالعراق ، في شهر رمضان المبارك سنة ( 1401هـ - 1981م ) ، وتمتاز بجودة طباعتها لبروز حروف ألفاظها وكبر حجمها ، ممَّا يروق لعيون ذوي البصر الضعيف ، أو مَنْ يشكون من إجهادِها وكلال رؤيتها نتيجة استغراقها في قراءات مضنية سابقة ، فهي ترجح وتتفوَّق من هاته الناحية على سائر ما في حيازتي من نسخ الطبعات السورية والمصرية ؛ وثانيها : كتاب ( المنطق ) لمؤلفه الشيخ محمد رضا المظفر ، ويضمُّ محاضراته الملقاة على طلبة منتدى النشر في النجف الأشرف ، ابتداءً من ( 1357هـ - 1937م ) ، وبطبعتها الرابعة سنة 1982م ، بمطبعة حسام ببغداد ، وهي نسخة مشابهة للنسخة الأولى المعزوة لمطبعة التفيض ببغداد أيضا ً سنة 1367هـ ، والتي لي معها ما يشبه الذكرى القديمة ، فقد فزتُ بها في مسابقة أجرتها هيئة تحرير مجلة ( البذرة ) التي تصدر عن المنتدى المذكور ، والتي شهدَتْ محاولاتي الأُوَل في الكتابة الأدبية سنة 1949م ، وهي نشرة ثقافية أبْتـُغِيَ منها استحثاثُ الفتية الدارجينَ على مِراس الأدبِ وتشجيعُهم على مراس الكتابة ، وأهديَتْ لي نسخة من كتاب ( المنطق ) هذا ، وقد فرَّطتُ فيه لأنـَّني لمْ أصطبر على سوغ صفحاته وما تـُـفصِّل فيه من فحاوى المقدِّمات والنتائج ، إبَّان ذلك العهد المنطوي يومَ كانتْ السنُّ غريرة ، كما غابَ عنـِّي موضوع المسابقة ومناسبتها ، والتي أحوجَتْ استصدار ما يماثل الفتوى الشرعيَّة ، باعتبار أنَّ ما هو متداول ومألوف في المجالس الدينية بأنَّ مسابقات اليانصيب لا تعدو أنْ تكون نوعا ً من المقامرة فهي محرَّمة دينيا ً ، غير أنَّ الدخول في المنافسات للحصول على المطبوعات ومن معهدٍ علمي ، لا محيص من عدِّه و سلكهِ في عداد المسموحات والمباحات ؛ والكتاب الثالث الذي يبدو ضخما ً بعض الشيء رغم انخلاع خمس ملازم منه هي قوام الفصل الأوَّل ، هو : الرسالة الأكاديمية المتميِّزة بعمق تحليلها وجدة أحكامها ومتانة تعبيرها وطلاوته معا ً ، والتي تقدَّم بها الدكتور علي عباس علوان إلى إحدى الجامعات المصرية لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب ، ممَّا سبق أنْ قرأته في السنين الخالية وبطبعته الأولى ، لكن شغلتني ظروف ودواع ٍ عن إيلائه قسطا ً من الاهتمام والعناية ، حتى أجتلي بصورة جديَّة محتوياته وما انطوى عليه من توصُّلاتٍ دقيقةٍ واستنتاجاتٍ علميَّة ، هي الغاية في الصحَّة وتوخي السداد والحقيقة ، وتبيان أغراض الشعر الهادفة إلى إنعاش حياة الجمهور ، وتطويعه في سبيل معاونته على الظفر بكامل حقوقه ، وذلك من وراء إذكاء وعيهِ وإلهاب شعوره وشحذ هِمَّتهِ ونزوعهِ للتمسك بها والتفادي دونها ، من غير تفريط بجمالية الشعر ، وتحاشي أنْ يجيءَ كلاما ً مهلهلا ً متهافتا ً ومحتويا ً على المعاني السطحية ووجهات النظر المبتذلة ، فلا بُدَّ من جدَّة ومن ابتكار وتجديدٍ وتخطٍ لموروثات السابقينَ من الشعراء ، وما بلغوه ووفقوا له من خصائص الفنِّ وشرائط الإبداع .
غيرَ أنـَّني تعاملتُ مع هذه الأسفار الثلاثة بما يحسنُ من إزالة الغبار المتراكم عليها ، ثمَّ الشروع بتغليفها ، وتصرفتُ معها كأنـَّها تعود لحيازتي ، أو داخلتنِي رغبة في مصادرتها عملا ً بما يجيزه بعض الأدباء من استباحتهم للكتب أينما وجدوها وعثروا بها ، وقد حكى لي أديب من أدباء ( الحلة ) ذات يوم أن أستاذا ً جامعيا ً رحل عن دنيانا ، كان يتحاماه أصحاب المكتبات التجارية ، ويحسبونَ لغشيانه محالهم ألف حساب ، ويضنونَ عليه حتى بالمجاملة الطفيفة العابرة ، ذلك أنـَّه لا يَعفُ عن إيداع حقيبته أيَّ كتاب تشوقه قراءته متى ما أنِسَ منهم غفلة ، وهنا تملكنِي صراع نفسي مرير ، فقد يهون أمر المصادرة بالنسبة للمطبوعين ِ الأخيرين ِ ، لكنـَّها تشقُّ ودونها من الحساب العسير الذاتي بخصوص المذخور الأوَّل ، ما لا تتحمله أيَّة نفس ، ويطيقه ضمير ، ويقبله وجدان ، أوَ أسرقُ كتاب الله الجليل ؟ ، لا ، فلأروِّض فطرتي على تلاوة هذه السورة منه أو تلك متى ما عنَّ لي العود إليه من آن لآن ، واستعذاب ما يزينُ حبك آياته البيِّنات وصوغها من سحر وإعجاز ، ريثما ألتقي بمالكة الدار وأواجهها بحقيقة الأمر ، أتسترد ما أبقته فيها من ودائع أم تجودُ لِي بها جميعا ً ، وأفيد منها ما أفيد ، وأنتفع بها كما أريد ؟ .
وليكن الفصل الثالث الموقوف على شرح معنى الكلاسيكيَّة الجديدة ، وهو عين الفصل المكرَّس لدراسة شعر محمد مهدي الجواهري ، والمخصوص بالقراءَة والتدارس والتمحيص ، وفيه يشخص المؤلف منقطعا ً بكليَّته لنقد الشعر بأستاذيَّة ومهارةٍ وتألق ٍ وجرأةٍ منقطعة النظير في إرسال صريح القول أنَّ عموم شعره المنظوم في عهده الأوَّل هو مجرَّد تقليد ومحاكاة للشعر القديم ، لا سِيَّما الشواهد والنصوص المستأثرة بإعجابه من العهود العباسية ، ويطمح أنْ يقتفِي أصحابها في تزويقها وتقليدها ، ويتوق إلى تقمُّص أشخاصهم والتخلق بطباعهم وأطوارهم ، كما يرغب في أنْ يجاريهم ويحاكيهم في حظوة نماذجهم ولقياتهم بنصيبٍ من البقاء والديمومة على طرف الألسنة ، فتظفر نصوصه بنفس ما ظفرَتْ به من الإعجاب والثناء تلكم الروائع المزدانة بالرصانة اللغويَّة وتمثيل المواقف الحاسمة والعواطف الجامحة ، فتوافر لها من الصدق الشعوري ومواتاة اللفظ المناسب بغية استخدامه في صياغتها وحبكها ، ما يباين طريقة نسج الشواهد الجديدة المحاكية لها في ديباجتها وأسلوبها ، ممَّا فرغ الجواهري منه أو ارتدَّ مُخيَّبا ً في مضاهاته وانتهاجه ، ومع ذلك فشعره في هذا الطور الأولي من حياته في أعقاب ثورة العشرين العراقيَّة ، شعر مقبول بنظر عامة الجمهور المتطلع يومذاك لسماع صوت الشاعر الذي يؤجِّج نخوته ويشحذ عزيمته ويفعمه مقتا ً ونفورا ً وازدراءً للغاصب الأجنبي والغاشم المحتل ، مِن غير اهتمام بالعناصر الفنيَّة ، والتي ينبغي للشعر النضالي أنْ يُوسَم بها في حال ، فما يُعهَد عن المتلقينَ العاديينَ أنْ يدققوا في ألفاظ الشعر ومواضعها من سياق البيت ، أو استجادة ما توفق له الشاعر من الخيال المحلق والعاطفة المشبوبة ، ورسمِه صورة نابضة للمفارقات الحياتية كفيلة بأنْ تضفي على القصيدة قدرا ً من الخلود والبقاء ، إنـَّما يهتمُّ بهذا النظر وينصب عليه تدقيقهم وتحريهم وتذوقهم هم معاشر الدارسين والنقاد .
ورغم أنَّ شعر هذه المدَّة الزمنيَّة المستغرقة عقدا ً بكامله ، ممَّا ضمَّهُ واحتواه الجزء الأوَّل من ديوانه بطبعة وزارة الإعلام العراقية ، وارتضى الشاعر نفسه إبقاءَه بتمامه ، بلْ أضاف إليه قصائد نـُسِجَتْ في تلك الآونة ولم تُدرَج ضمن محتويات مجموعته المطبوعة سنة 1928م ، والتي استهلتْ بتقييماتٍ وشهاداتٍ على روعتها وأسارتها من لدن بعض أعلام عصره الذين أشفق معظمهم أنْ يُمتحَن مثله بالعداوات والمناكدات ، يدلُّ بها جماعة من المتغرضينَ النافسينَ عليه نبوغه وشاعريَّته ، حتى أنـَّهم نكصوا عن مجاراتِه في تبكيتِ الظلمَة والمفسدينَ والمستأثرينَ بالحكم وأعوانِهم من الصادعينَ بإمرتهم ، فقد فاتَ أولاء المقيِّمينَ والمشيدينَ بموهبته وصراحته في الحقِّ ، ومنهم ابن عمَّته الشاعر القاضي علي الشرقي الذي نصح له أنْ يُكلم الناس بابن عمِّ الكلام ! ، كي لا تمتد إليه بالنكاية والأذى أيادي السوء ، قلتُ : فاتهم أنْ يومئوا إلى التقريريَّة والنثريَّة والابتذال والرداءة ممَّا يشوب نماذج ، كـ :( ستبقى طويلا ًهذه الأزمات ) و ( شُيِّدَتْ قصور على الأجراف جاهزة ) ، إنْ لمْ يقعوا كلهم مسحورينَ تحت طائلة الإعجاب بما ابتعثته القصيدة الأولى من دوي ، وهي تعالج موضوعة فتح مدرسة لتعليم البنات في النجف الأشرف ، وما لقيته من رفض ومعارضة من قبل هيئات وأوساط معروفة بانغلاقها وتزمُّتها وتحجر أفهامها ، فذمُّهم كلهم وفضح نفاقهم وشهَّر بترخصهم وانتهازيتهم وتفكيرهم الرجعي ، فترتب على هذا الشعر التقريعي أن ضجَّ العراق بمحافله ومجامعه ومجالسه ومنتدياته جميعا ً ، وغضب مَن غضب ، وسخط مَن سخط على الشاعر الهاجي لاماطته الستر عن ولوغهم في الرذائل والخسائس ، مع إحجامهم وتردُّدهم في الموافقة على تعليم البنات ، فتلقى عتاب الملك فيصل الأوَّل ، وطلب منه وهو موظف تشريفات أنْ يكفَّ عـن هذه المنابذة ، ويقلع عـن هذا التحرُّش ، ولا يخلق له المشكلات العويصة في هذا المجتمع الذي ما يزال مصفدا ً بأغلال الرجعية .
ولا أحد من الكـُتـَّاب والنقاد المعروفينَ في تلك الظروف تصدَّى لتعرية مثل هذا الشعر كونه خلوا ً من التجويد الفني ، ويغلب عليه الإسفاف والعادية .
ورغم تمادي هذا الناقد المتحرِّي وراء العناصر والخصائص الفنيَّة في النسيج الشعري ، في دمغ قصائد الجواهري في هذا الطور بالتقليد والمحاكاة ، دون أنْ يستثنِي منها ولو واحدة تجرَّدَتْ من هذه الخصيصة واكتسَتْ بلون ٍ من الطلاوة والروعة ، فإنـِّي لتعروني هزَّة من الطرب والانغمار في أجواء قصائد من مثل ( إلى أرواح الشعراء المتمرِّدينَ ) التي ينعي فيها مصير حرية الفكر في بلاد الرافدينَ وكونها مرتهنة بأهواءٍ مرجفةٍ وطوياتٍ مذمومة ، هذا إلى تصويرها ما يقاسيه أربابها إنْ جهروا بالحقِّ من نكال وتعذيب ، من عهد بشار الأعمى وإلى الآن ! ، والقصيدة المعنونة ( ابن الطبيعة الشاذ ) التي يندبُ فيها عالم الشعراء وما يحيق بهم من محن وأزماتٍ مستعصية ، يطامنونَ أنفسهم منها بما جبلوا عليه وحبوا به من رقة الألسن ، وقصيدة ( بعد السكوت ) التي تمحِي من سياقها وتضاعيف كثير من أبياتها تماما ً شِياتٌ من نثريَّة ، أو نزوعٍ لترسُّم شاهد قديم خلص له شاعر ما ، لتختتم بهذا البيت النادر العجيب بعد الإفصاح عن تذمُّره وبَرَمِه بالأحوال العامة وإظهاره اعتداده وعناده وكبرياءه وإصراره على ما يبتغي من مرمى ومأمل ، إلى أنْ يصطدم بهذه المفارقة المسبوق إليها في توخـِّي الحكمة منها :
عَلى أنـَّها العُقبَى ، فبَاطِل ناجح يَحِقُّ ، وحقُّ العَاثِرِ الجدّ باطل
................
ولا تقلْ ــ مستهونا ً ــ أنه أشبه في هيئة كلماته وألفاظه وترتيبها ما يرويه البلاغيونَ في التعقيد اللفظي كقول القائل :
وَقـبـرُ حَـربٍ بـِمَـكـَان ٍ قفر وليس قربَ قبرِ حَربٍ قبرُ
................
على أنـَّه سُئِل مرَّة كمْ يبقى من شعرك على مدى الدهر وتستذكره الأجيال القادمة ؟ ، وكان جوابه تبقى قصائد محدودة بخمس عشرة قصيدة ؛ ممَّا أنشده في حفل تأبين جعفر أبي التمن ، وتكريم الوتري ، ويوم الشهيد ، في مؤتمر الثقافة ، يا أمَّ عوف ، جمال الدين الأفغاني ، يا دجلة الخير ، عدنان المالكي ، أبو العلاء المعري ، والبقية الباقية من نتاج مرحلة النضج وطورِ اكتمال الشاعريَّة وجمعِها بين جودة الشعر وشرف الغاية والمقصد .
حتى إذا حاول المؤلف تناول ظاهرة إيفاء الجواهري على الإبداع المتناهي والتألق العجيب المبهر لسيطرته على اللغة وحسن تصرفه فيها مع ما أنجدته به مشكلات العالم العربي وأوضاعـه المتقلبة من جيشان العواطف وحِدَّة المشاعر ، قلتُ : إذ تناول الكاتب المؤلف ظاهرة الإبداع هذه بالاستقصاء والشرح واستخلاص أبين سماتها وملامحها ومواصفاتها ، بعد أنْ وقف عند عناية شاعره بظاهرة الجنس وجنوح بعض الأفراد الساخطينَ والناقمينَ على ما تلزمهم به طبيعة مجتمعاتهم المأسورة والرازحة تحت وطأة تقاليدهم الموروثة ، بأنْ يكظموا نزواتهم ويلجمُوا أهواءهم ، ويكبتوا غرائزهم ، فلا يدعوها تنطلق خارج ميدانها لتصَيُّد أغراضها واقتناصِ لباناتها ، فيفصحُوا ما شاء لهم الخيال المحلق عن رغبتهم في حياة شبه بوهيميَّة ، ينشغلون فيها باجتناء متعهم ولذائذهم غير حاسبين شأنا ً للجمهور من حولهم وما يتحكم بشؤونه من نزعات الرأي والتفكير ومواضعات الدين ، ومرَّ الدارس عـلى هـذا الجانب مِن جموح الجـواهري وغلوائه في نزقه وإسرافه وصبواته ، محجما ً ومحترسا ً أنْ يبدو ما يشي باعتراضه على اختيار الشاعر وتفصيله هذه الشاكلة من التعامل حيال المجتمع ونواميسه ، ومن ثمَّ التفرُّد بهذا السلوك الغريب الذي اقفرَتْ منه الديار منذ غياب الشعراء المتهتكينَ في دولة بني العباس ، بلْ على العكس فقد أثنى على نسج الجواهري لروائعه وانفلاته من نطاق التقليد ، وأطنبَ في امتداح براعته في الوصف ، وتؤدته في استيحاء مشاعره وتداعي أشواقه ، ممَّا كان يحسبه البدوة للتمكن من صياغة الشعر الفني المكتمل والجيد ، وممَّا يتعاصى على أيِّ ناقدٍ أو نويقد مدخول أنْ يفتري عليه بالانتحال ، بينا يستطيع القارئ تلمُّس شخصيَّته القوية وكبرياءه العنيفة وتحديه الصارم وشخوصه الذي لا يماري فيه اثنان ، إلى آخر ما تسعف به خريدته ( جربينِي ) .
هنا يعنُّ لنا أن نشاطره في ما انتهى إليه الجواهري ( من روعة الفنِّ وجمال الصورة وعظمة النسيج ) ، ومجاوزة الرصافي الذي انصَبَّ عليه بعض الحيف والافتيات من استقراءات المؤلف الذي ظلم شعره ببعض الظلم وجَرَّده من كلِّ تأصيل فني ، رغم تمرُّده وتسخطه على ملابسات عيشه وأوضاع مجتمعه ، على حين أنَّ الجواهري نفسه يكرِّر إعجابه ببعض قصائده وشعره المطبوع في العالم شعر ، ورثائه للعلامة عبد الوهاب النائب العبيدي وكفى ! .
علما ً أنـَّني لا أعيرُ شأنا ً أو أكترث اصلا ً بذينك الإسفاف والتهافتِ الغالبين ِ على صياغة هذا البيت المقفر من أية طلاوةٍ أو زينة :
فالصيفُ أرأفُ بالفقير مِن الشِّتا وَلِــذا تـُحِـبُّ قـُدُومَـهُ الفقراءُ
................
لكنَّ أيَّ إنسان موجوع بلذعات دهره ، ومفدوح بمصيباته لا يهتزُّ حين سماعه بهذا البيت من قصيدته ( خواطر شاعر ) ، وإنْ اقتفى في نسجه منوال المتنبي وحاكاه في قافيته ونغمته :
لعَمرُكَ مَا كـُلُّ انكسَار ٍ لهُ جَبرُ ولا كلُّ سِر ٍ يُستطاعُ بهِ الجَهرُ
................
ومجملُ رأينا بصدد هذه الرسالةِ الأكاديمية المتسمة بالرصانة العلمية التي لا يماري أحدٌ في ثقة مؤلفها بصحة ما عرضه مِن رأيٍ ، وأطلع به من استنتاج ، واستشرفه من حقيقة أنـَّها في عينه كتابُ العمر ، حتى لا يعيبه أحدٌ لو توقف عن الكتابة ، وزهد في التأليف بعدها .
لقراءة كتاب
أو
رابط التحميل من مدونة رياض حمزة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق