الخميس، 26 نوفمبر 2015

تجليات الاغتراب النفسي في شعر بلند الحيدري - حنان بومالي ...


تجليات الاغتراب النفسي في شعر بلند الحيدري


مجلة العلوم الاجتماعية - العدد 18-  pp : 237 - 246  - جوان 2014 م :

حنان بومالي

مقدمة

  تختلف طبيعة الأدب عن طبيعة الفلسفة فهو لا يقدم حلولا وإنما يرسم تجارب، وإذا كان الفلاسفة يرون بصيصا من الأمل للخروج من أزمة الاغتراب المعاصرة في حلولهم، فإن الأدباء أكثر تشاؤما ولذلك تزايدت الظاهرة في الأدب الأوروبي منذ الحرب العالمية الأولى، فمن قصائد " إليوت " ويأسه الروحي واغترابه الكلي عن الحضارة الأوروبية إلى الأدب الوجودي المتشائم .

  هذا الأدب الذي استيقظ على الشقاء وسيطرت عليه فكرة " تفاهة الحياة " فولدت لديه شعورا فاجعا أدى بالأدباء إلى رؤية الإنسان سجين ذاته، وقد ماتت روحه قبل أن يموت جسده وهوفي أشد حيرة لأنه يرى العالم " فوضى شيطانية " ولا يجد نفسه متأكدا من ميزاته الذاتية في هذا العالم.¹

  وإذا كانت هذه حال الإنسان الأوروبي عامة والمثقف خاصة، فلقد عانى الإنسان العربي عموما والمثقف على وجه الخصوص من اغترابات شتى، واتسمت ردود فعله بأشكال شتى تراوحت بين الانسحاب من الواقع إلى هامش الحياة أوالرضوخ للنظام القائم والاندماج في مؤسساته، أو التمرد بنوعيه الفردي والثوري الجماعي، أو الهجرة إلى الخارج بحثا عن فرص أفضل في الحياة.

   وإذا انعطفنا نحو الشاعر العربي المعاصر كفرد من الجماهير العربية سنجد أن انعكاس الاغتراب عليه بات طرديا مع تعقيد الحياة وتعفن أوضاع المجتمع و« الشاعر أسرع من غيره إلى الإصابة بهذا الداء لأنه يتمتع بقدر عال من الحساسية والتوتر والرهافة، ولهذا فقد عاش في اغتراب مركب لأنه إنسان جمعي يستطيع أن ينقل ويشكل اللاشعور أو الحياة الروحية للنوع البشري »².

  والاغتراب النفسي أشد العواطف عمقا في الشعر، لأنه حالة لا يشعر فيها الفرد بالانتماء إلى المجتمع أو الأمة حيث العلاقات الشخصية غير ثابتة وغير مرضية، كما يتميز هذا المعنى للاغتراب بكونه ينضوي على شعور الفرد بانفصاله عن ذاته وهو نمط من التجربة يرى الفرد نفسه فيها كما لو كانت غريبة عنه، فيتطلع إلى « الانعتاق عن العالم المحيط به إلى عالم من صنع نفسه »³.

  والفرد في الماضي كان يرى نفسه عضوا في عائلة أو جماعة أو حزب أو طائفة، أما الآن فيرى ذاته مستقلا ومنفعلا فالإنسان الحديث محاط بالآخرين ولكنه وحيد بينهم، لأن صلته بهم واهية وسطحية ورسمية في آن، واحتكاكه بهم تصادمي وكونه قريبا من الآخرين وبعيدا عنهم في الوقت نفسه يزيد من شعوره بالوحدة، فالمسافات النفسية الاجتماعية متباعدة على الرغم من انعدام المسافات الجغرافية، وكون الإنسان معزولا ووحيدا يسهل تغييرهوتهديمه.

  فالاغتراب النفسي إذن هو نتاج تراكم عدة أنواع اغترابية كالاجتماعي والعاطفي وسواهما، إذ أن تعاقب الإخفاقات والاحباطات تؤدي بالإنسان إلى اعتزال واقعه اعتزالا كليا أو شبه كلي وسعيه إلى بلوغ واقع آخر لا وجود له إلا في تصوره ولا يتم له هذا الواقع الذي يريده إلا بالتمرد والثورة على الواقع المعيش جملة، والتطلع إلى عالم تسقط فيه كل الأسوار بعيدا عن الشعارات التي استهلكت، خاصة وأن الإنسان المعاصر قد استطاع نتيجة التطورات الاجتماعية أن يتخلص من سيطرة العقل الجماعي4.

  وحينما حاول الشاعر العربي الحديث كإنسان معاصر أن يكون مخلصا لذاته « اهتز أمامه النظام الخارجي واهتزت القيم والمعايير التقليدية »5ومن ثم تولدت مشاعر ذاتية إلى جانب الموقف الاجتماعي كالحزن واللاانتماء والغربة والضياع، وربما جاهد بعضهم في سبيل أن يحقق المعادلة بين الذات والوجود، ولكن جهدا كهذا لابد أن يصيب الذات بالتمزق، ولن تتحقق هذه المعادلة إلا على حساب الذات والوجود معا.

   ولا شك أن للتباين الفردي آثاره في موقف الشاعر الذي يتخذه من الواقع مما ينتج عنه بالتبعية أشكال متعددة، وإن جمعها في إطار واحد من حيث وجود سمات مشتركة وخصائص أساسية سائدة، ولقد نتج عن هذا التباين أن أخذ الموقف الاجتماعي شكل الثورة المتحمسة الانفعالية عند كل من سليمان العيسى ويوسف الخطيب ومحمد الفيتوري ومعين بسيسو أما عند شعراء المقاومة أمثال : سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زياد فقد اتخذ شكلا ملتزما أكثر تحديدا إلى جانب الحماس الانفعالي، وقد تطور هذا الموقف من خلال موقف جدلي عند عبد الرحمان الشرقاوي وسعدي يوسف وأمل دنقل... ووصل إلى شكله المتكامل في الدعوة إلى الحرية الاجتماعية من خلال أعمال عبد الوهاب البياتي6.

  وهكذا حاول كل شاعر أن يعيد صياغة الواقع على طريقته ووفق رؤيته الشعرية التي يراها بديلا عن اغترابه الاجتماعي الذي قاده إلى اغتراب نفسي، وكذلك بلند الحيدري الذي عانى الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي عانت منها الشعوب العربية، فقد كان اغترابه الاجتماعي خطوة أولى إلى اغترابه النفسي ويبدو أن انسلاخه عن الإطار الثقافي الكردي واتصاله بالإطار الثقافي العربي بعد انتقال عائلته إلى بغداد أحد أسباب اغترابه النفسي والروحي، وقبله الجو العائلي الذي قدم له حالة نفسية بدأت من إيثار أمه لأخيه، وإيثار والده لأخته الصغيرة فأحس بأنه الشخصية الضائعة في جو البيت.

   وهذا الاضطهاد الذي كان يحسه الشاعر وهو صبي كان سبب الاغتراب الذي نشأ في داخله بإزاء المجتمع، وثمة عامل آخر عمق اغترابه النفسي فقد كان يعيش مع أمه التي انفصلت عن أبيه، وحين تنتقل الأم إلى جوار ربها ينتقل إلى دار أبيه، وبهذا تكون عذاباته مزدوجة، فقد شهد انفصال أبويه عن بعضهما وهو الذي حرم عطفهما مجتمعين، وها هو يعيش انفصالهما فضلا عما لحقه من أذى بسبب تنقله من دار إلى دار7. والأذى النفسي أقسى ما يتعرض له الشاعر، فحين تمكنت منه العزلة تولدت لديه مشاعر الحزن واللاانتماء، وانكفأ على نفسه وسعى إلى ما يعمقها فأخذته العزة بها وتصور الحب مرتبطا بالموت، تأثر بأبي العلاء المعري شاعرا وإنسانا، وبالإنسان المتمرد في شعر إلياس أبي شبكة.

   وتوج هذا الاغتراب النفسي بتمثل الفكر الوجودي، واستيعاب فلسفي لمفهوم اليأس والزمن والحرية، وهكذا يدخل مرحلة الضياع واليأس فينزع نحوالموت طلبا للهدوء ويفقد إحساسه بالحياة لأن التمرد بالرغم من انتصاره على العالم يظل بلا أمل 8. وبالرغم من أن النغمة الرئيسية في شعر بلند الحيدري هي الحزن، فإن في أعماله الشعرية بعضا من ملامح الاغتراب النفسي والانكفاء على الذات والتي تجلت عنده في مشاعر اللامنتمي ورفضه لكل المعطيات الخارجية والبحث عن ذاته في ذاته أو عن صيغ تعويضية أخرى.

   واللامنتمي إنسان استيقظ على الفوضى، ولم يجد شيئا يدفعه للاعتقاد بأن الفوضى أمر إيجابي بالنسبة للحياة وأنه استيقظ على الحياة فجأة فوجدها تبعث على الرعب، وأحس بعد فترة سيطرة العقل التي سادت قبل هذا القرن بأنه موجود في عالم لا سند له فيه ولا ملاذ، عالم يعود بنا باستمرار إلى أنفسنا، ولهذا يواجه الواقع بشجاعة متحدية وتعلمه شجاعته هذه أن يعيش بلا نداء وأن يكتفي بما لديه، واستدلاله ينبئه بحدوده فهو يتابع مغامراته في مدى حياته ضامنا لحريته ذات الأجل ولتمرده تمردا بلا مستقبل9.

  ولما كان كذلك فإن الأعمال الشعرية لبلند تعد البدايات الأولى التي أحاطت باللامنتمي كوجود مزعج ومقلق، تشعر الذات بمحاصرته لها ولا تملك شيئا تواجهه به، لقد كانت البداية في "خفقة الطين" رومانسية قلقة اشتملت على بعض الخصائص الرومانسية كالانسحاب من المجتمع ورفضه، والإحساس بالسأم وتمني الموت وذلك في إطار الأنانية الفردية فيقول في قصيدة "سأم " مثلا :

يا طيوف الفناء هذي حياتي

دمريها

فقد سئمت الوجودا.

بدلي النور.

بالظلام.

ودوسي

تحت رجليك عمري المكدودا.

قد سئمت الحياة أطلال صمت

ودموعا

ينسجن حولي الشقاء 10.

   كل ما في القصيدة يوحي بالاغتراب والسأم وتمني الموت بدءا من العنوان، لقد ضاق ذرعا بالحياة وبالنور وبالعمر ولم يعد يحلو له شيء منها، ولهذا يريد لطيوف الفناء أن تدمر حياته، وأن تبدل النور بالظلام وتدوس عمره المكدود، لأنه سئم من كل شيء في حياته ينسج له الشقاء والحزن، ولأن « الموت وجود الحقيقة الإنسانية في النهاية، وهذا يعني أن الحقيقة الإنسانية " وجود للموت " أي أن الموت نهاية طريق وجودها، لذا هي تموت كل لحظة لأنها كل لحظة تتجه في سيرها صوب نهاية طريقها في الوجود »11.

   ويستمر في الإعلان عن موقفه المتمرد مبشرا بميلاد لا منتم عصري يرفض كل المعطيات الخارجية خاصة بعد أن تبدت له مهزلة الوجود الحادة :

ولدت شقاء للحياة جديدا

ولكم ستجبني

من آساه شقاء

وغدا

سأرجع للفناء كأنني

ما جئت إلا لكي أكون فناء

ولأشتري كفنا

أضم بجوفه

أدوار عمر قد مضين خباء12.

  لقد جاء لكي يموت، إذا فما معنى الشقاء واللذة والحياة، وما الذي جناه من هذه الحياة، وحينما يبحث حقيقة شعوره وموقفه من الأشياء يكتشف أنه يحيا بلا أمنيات حتى في الجنة أو النار لأنه لم يعرف الجنة الأرضية في حياته، وقد تخبط طويلا في نيران الحياة وعذاباتها غير المتناهية :

لست أهوى جنة الله .......... ولا .

ولا أتمناها رجاء في شعوري

لا ... ولا أخشى سعيرا

خالدا

فلكم أدخلني الدهر سعيري13

   ويستمر الشاعر في طرح الهموم النفسية والاغتراب الذاتية من خلال مواقف رومانسية كهجرة المحبوبة والعجز الحياتي اليومي والإحساس بالتعاسة و الشقاء، ولم تقدم من خلال موقف فكري إلا حينما تخطى حدود الفردية الرومانسية في أعماله التي تلت خفقة الطين، أين « بدأت مباحثه الفكرية بمعاينته للوجود واتجاهه إلى إعادة اكتشاف هذا الواقع من جديد، فرآه وجودا زائفا حدد إطاره ضمن العناوين التي وضعها لقصائد " أغاني المدينة الميتة " (عبث، عقم، شيخوخة، عبودية، خطوة ضائعة ......) »14

   لقد أعاد بلند اكتشاف وجوده منفصلا لاهيا في هذا الديوان وجودا عابثا لا قيمة للإنسان فيه، وجد نفسه غريبا وضائعا في كون غريب عنه لا يهتم به، فهو وجود تافه مكرور :

لا شك فما من جديد

تحمله الأرض لهذا الطريد.

ما كان

ما زال على عهده.

يحلم

أو يدفن

أو يستعيد 15.

  إن مأساة الوجود الحقيقية كما يراها تكمن في أن الموضوع الخارجي المتمثل في الكون المادي والقيمي وجود ناقص، والذات المدركة هي الوجود الأكمل، وهي الوجود الخالق بالإدراك والوعي، وبرغم هذا « ففي ممارسة الحياة تتحول هذه الذات إلى عبد سيزيفي يمارس لعبة العبث الوجودية بلا معنى ولا قيمة. »16:

أسطورة تمحي

و دهر يعيد

و لم يزل للأرض سيزيفها

و صخرة

تجهل ماذا تريد17.

   لقد أضحت العلاقة التي تتعامل معها ومن خلالها الذات الكاملة بالوجود الناقص هي علاقة تحكمها عبودية الوجود الذاتي لاستعباد الوجود الخارجي، لأن الشاعر الحديث يجب أن يثبت فرديته وحريته في كل شيء، ولو كان ذلك باختطاط سبيل شعر معاصر يصب فيه شخصيته الحديثة التي تتميز عن شخصية الشاعر القديم إنه يرغب في أن يستقل ويتحرر ويبدع لنفسه شيئا يستوحيه من حاجات العصر، وهو في هذا أشبه بصبي يتحرق إلى أن يثبت استقلاله عن أبويه فيبدأ بمقاومتهما18، يقول في قصيدة " عبودية " مثلا :

عبدُ .......!

أكاد أثور ...... لكني

أحس الغل في أذني

يولول هازئا

مني

و يصرخ ضاحكا ...عبد

عبد ...19

  لقد اتضحت أمامه خدعة الحياة، وأدرك أنه عبد لها يقيده الغل في كل مكان حتى في أذنيه ليذكره دائما بأنه عبد لهذه الحياة التي تزين للإنسان طريقها ثم تضحك عليه وتهزأ به، لكن إلى متى ستظل هذه الخدعة ؟ إلى متى هذا الإحساس بالآنية وتلاشيه أمام استعباد الوجود ؟.

  يرفض الشاعر الغرق في الظلال وخدعة الحياة، لأنها غربته منذ بداياته الأولى وجعلته ينشأ في تربة الموت وحيدا كعشبة صفراء في ضفة الموت والصمت والسكون، وكلها رموز للاغتراب والألم والضياع والسأم : 

" وحدتي "

هكذا أنت نموت

عشبة صفراء في ضفة موتي

وحديثا مسرفا بالهمس

كالهجس

كصمتي

هكذا أنت نموت

من سكوتي20.

   إن رفضه للوحدة والصمت والسكون والموت جعله يتفتح على واقع مجتمعه العراقي نافضا عنه الثياب المزركشة المبهرجة ثياب الرومانسية الحالمة، وبدأ ينظر إلى الأشياء والكائنات المحيطة به نظرة واقعية شاملة دون أن تغالي في تقدير ما تراه وتشاهده. ولهذا حاول أن يجرب الانتماء الجماعي بالانخراط في هموم وقضايا الإنسان خلال مرحلة "خطوات في الغربة" و"رحلة الحروف الصفر" و"أغاني الحارس المتعب"، ولكن هذا المنتمي المؤقت كان مبعثا لإثارة أحزانه السابقة أكثر من منحه لحظة أمان، لقد اتسع له من خلاله مجال رؤية اللامنتمي باستيعابه قدرا لا بأس به من القسوة البشرية والأحزان ومجالات الصراع المختلفة21

   تحدث بلند في هذه الدواوين عن أمور كثيرة منها : القضية العربية وثورة العراق وزنوج ألاباما وأطفال الحرب العالمية الأولى وهيروشيما وغيرها ، ولكنه حين تأملها وجدها أمورا تبعث على القرف والإحساس بعبثية الواقع، وعلى تأكيد أعمق لمفهوم اللامنتمي:

صوت المذيع

متخشب

شاء واله أن لا يحس بما يذيع

" لندن "

وتدق بك بن

دن ...... دن

" عشرون ألفا " 22

 عندما يعلن راديو لندن في قصيدته " عشرون ألف قتيل ... خبر عتيق " عن الضحايا وأنهم عشرون ألف، ويضطرب الناس تمتمة بصلوات ودعوات حتى يحفظ الله حياتهم، ويصرخ الجريح إلى جوار أمه يستبقيها، يرى بلند أن لا شيء يستحق الشهادة والموت، بل إن كل شيء لا يعدو أن يكون أكثر من أكذوبة :

قتلوا ليحيا الآخرون

و أنا أتمتم :

يكذبون ............ ويكذبون

وتقول أنت:

من الحفاة

« قتلو لتزدهر السنون »

وأنا أتمتم

يكذبون ... ويكذبون23.

  إنه يرفض تصديق أي شيء وأي خبر، لأنه أدرك أن الحياة خدعة وما فيها أكاذيب حتى ولو كان الخبر هو الشهادة من أجل حرية الأوطان، وفي حديثه عن أمل اللاجئ وإصراره على العودة والانتظار، يسوق الأمل والانتظار داخل تساؤلية متشككة وقلقة تنم عن الخوف من الماضي والحاضر والمستقبل، وبهذا حول بلند القضية الاجتماعية والسياسية من خلال فكره الخاص إلى رؤية فكرية ملحة ازدادت نبرتها حدة في قول هذا اللاجئ المهيأ دوما للفرار والرحيل طلبا للأمان :

هذا ... أنا

ملقى هناك ... حقيبتان

وإذا الحياة

كما تقول لنا الحياة :

يد تلوح في رصيف لا يعود إلى مكان 24.

   كل هذا ساهم في تعميق إحساسه بعبثية الوجود، فصرخ صرخته المتوهجة الحادة في وجه هذا الوجود معلنا رفضه لكل معطياته، ومنطلق هذا الرفض هو طبيعة الأرض – الوطن – الذي لا ينبت شيئا فتذهب جهود أبنائه وثوراتهم ومحاولاتهم هباء منثورا :

لا تلق.

مرساة

لا تبذر

بذره

من يدري

قد نرحل قبل الفجر25.

  ومن أهم الأمثلة على تصدع الأنا " الذات " في الوجود وما يولده ذلك من إحساس بالتوتر والمأساوية، ما نجده في مطولته "حوار عبر الأبعاد الثلاثة " فمحور هذه القصيدة - الديوان - هو تصدع الذات في الوجود، و« تتولد المأساوية من وعي التصدع ومن إرادة مزدوجة في الانفصام والالتئام، حيث يتداخل العنف الرافض في صورة قتل الأب والحنين إلى الالتئام بالتشبث بكسرة صغيرة من وجه الطفل، فيما يحتضن الأصوات جميعها صوت " الأنا " الممثلة هنا بالمجنون الذي لا يملك اسما لأن امتلاك الاسم علامة على توحد الهوية.»26

اسقط في بعدي الأول

وجهي يغرق في وجهي

عيني تبحث عن عيني

ها إني

أتمزق بين اثنين

فأنا وحدي المقتول بقتل أبي

والذنب وحيد مثلي

ما اسمك ... ؟

لم أعرف لي اسما ... لا أذكر ما اسمي 27.

  وبهذا أدرك الشاعر من خلال العجز والمحاصرة خلو وجوده الذاتي والعيني من أي تبرير، إنه وإن كان سيد هذا الوجود بإدراكه له، إلا أنه أعجز من أن يقاومه، وأن هذا الوجود يقلقه بعبثيته اللامبررة، ولا يمكن مثوله إلا من خلال إدراك هذه الذوات العاجزة المزيفة.كل ما في الوجود زيف وعبث، أرضه وعصره وحتى البشر مزيفون ولكن إدراكه الحقيقي لعبثية الوجود وتفاهته جعله يرجح كفة الانسحاب الرافض المتمرد، ويعلن ثورته على كل ما حوله، فيتحول إلى سيل من اللعنات في وجه العالم :

عد مثلما نريد

ككل شيء كاذب يضحك ملء دارنا

ككذبة الصباح في تحية لجارنا

لأننا نريد أن نعرف في الخطيئة الإنسان.

لأننا

نريد أن نعبد فيك الله والشيطان28.

   واجه الشاعر العالم على أنه عدواني يهدد ذاته ووجوده بصورة مستمرة آملا في أن تتكشف أسرار الذات بالرفض والتمرد بعد أن تأبت عليها أسرار الحياة والوجود، فكانت مشاعر اللامنتمي عند بلند إحدى صور الاغتراب النفسي التي بينت أن القضية الأساسية التي حاصرت أبعاده الوجودية هي قضية الحرية وموقف الذات منها، ولأنه حاول أن يحل هذه القضية من منطلق أنه على الذات أن تدرك المطلق الذاتي والواقعي معا، فقد تمخضت تجربته عن إحساسه بزيف الوجود الواقعي وقصوره وخلو الذات والواقع من التبرير وبالتالي من إمكانية الحكم والوصول.

   وليست مواجهة العالم بكل مشاعر الحقد والكراهية والرفض والتمرد هي الصورة الوحيدة لاغترابه النفسي، بل إن العودة إلى الماضي والهروب من الواقع الأليم إلى واقع ماض مفعم بالسعادة والبراءة شكلت إطارا آخر لاغترابه الذاتي النفسي وهو « هروب إلى حضن الأم الدافئ، إلى أطفال الحي واللعب معهم، غير أن بعض من اغتربوا من الشعراء لا يعودون عودة حميدة إلى الطفولة لأن غربتهم نشأت معهم منذ تلك الفترة وتعمقت مع مرور الزمن وتعاقب الأحداث »29وبلند واحد من هؤلاء الذين لا يعودون إلى الطفولة (الماضي)عودة حميدة، لأن اغترابه نبت في البيت بذرة ثم نمت فيما بعد فهو يعي طفولته المعذبة، وحين يتذكرها يستعيدها كما كانت رملا وتلالا من تراب، يبني منها أحلامه ولكنها لا تلبث أن يهدمها ليعيد تشكيلها من جديد :

ذلك الأفق الذي ينمو برعب واضطراب

و الدروب

إنما ملعب أحلام شبابي

هي بعضي

إنها تلتف كالأفعى ... ولكن

لا تهابي

هي بعضي

هي أعماقي التي تجهل ما بي

ها هنا

كم شيد الطفل أمانيه

رمالا

وتلالا من تراب30.

   وعلى الرغم من ارتباط طفولته بالألم والشقاء، فإنه يحاول أن يتلمس لنفسه العزاء: لماذا النفور من الحاضر ما دام شبيها بالماضي ؟ إنه يقر بأن الدنيا في الماضي كانت صغيرة والدروب معتمات، ولكنه مع هذا يهرب إليه، لأنه بالنسبة إليه ليس زمنا منقضيا، أو ذكرى ميتة لا يمكن استعادتها، أو بعث الحياة في رمادها المتجهم، بل هو على العكس من ذلك تماما حياة متفردة وطاقة روحية جياشة : 31

بالأمس إذ كنا صغار

كم كانت الدنيا صغيرة

ما زلت أذكر كل هاتيك السنين

تلك الدروب المعتمات

إيه يا فجر صباباتي ...... انته

لملم الآن صبابات ....... المنى

كل شيء قد طوى تاريخه

اتكأ الماضي على أحلامه 32.

  هرب إلى الماضي نافرا من الحاضر نفور المغترب الذي سحقته أوجاع العزلة وأسباب الإحباط، بأن الحاضر خواء وتلاشي حتى الحب هرب من الحاضر إلى الماضي، لأنه أصبح سأما وليس حبا، وماضي الشاعر وإن كان هو الآخر ماض حزين، تسكنه المنغصات وتهب عليه ريح الاغتراب من كل الجهات إلا أنه يوهم نفسه أن فيه مأوى له يلتجئ إليه فرارا من وحشة الحاضر وخوائه :

ها هو الحب يولي

هربا

بعدما أودى بدنياه السأم

لم يعد كالأمس

إن غارت به

مدينة الحزن تغنى بالألم 33

  وربما يضفي على الماضي الحزين ما ليس فيه من الجمال والصفاء، لكي يوجه ثقل اغترابه الراهن بوهم الماضي اللامغترب، فليس « الخلق الفني في جميع تجلياته إلا تعويضا تصعيديا عن رغبات غريزية أساسية ظلت بلا ارتواء بسبب عوائق في العالم الداخلي أو العالم الخارجي .»34

   وفي محاولة منه لاستعادة الماضي والتخفيف من حدة اغترابه يولي بلند اهتماما بالغا بالزمن، فهو في مطلع شبابه واحد من جماعة " الوقت الضائع " وهذه التسمية تحمل مفهوم الزمن والإحساس به35، وإذ لا يتناسى الآخرون الزمن فإنهم سيقنعون بالتلاشي في طريق ما، فإن ثورته على هذا التلاشي تدفعه إلى أن يوغل في الزمان وهو يتربص به في كل طريق لأنه واع به لا ينساه :

وتلاشيت في طريق ولكن ...

كل هذي الدروب تقفو مصيري36.

   غير أن يقظته ووعيه لا يغنيانه عن الزمن المنسل شيئا فشيئا، ولعل الجهل بالزمن خير من الوعي به، وما دام الإنسان لا يملك إزاء مروره مهربا، فإن الوعي والجهل ليلتقيان في النهاية عند الخاتمة المفجعة المؤلمة ، تموت الرؤى ويمحي النور إلا ضباب هذا السر المغلق، ودقات قلب الساعة ناعية الزمن، تلك العجوز التي لا تموت :

أتعبد الأوهام في أفق يظلله السراب

تتنفس الآلام في صمتي وينتحب اكتئاب

فأكاد

أخنق في دمي

تلك البقية من شباب

وأعود للماضي البعيد

وكل أحلامي

تراب 37.

   ويرد الزمن عنده بأجزائه كثيرا، وبخاصة الليل بدلالاته كاليأس والتشاؤم والخوف والرهبة، وهو عنده وقت الألم والعذاب وظلامه مخيف، وقد يتفرع منه أو يرتبط به إحساس أو أكثر، فيريد أن ينسى حاضره بالعودة إلى ماضيه حتى لو كان هذا الماضي ليلا مظلما أعمق من الظلمة التي تستبق الفجر، لأنه ليل لا فجر له وإنما هو إحساس بالنهاية التي ترادف الغربة في الوجود، فالظلام محنة الغريب لأنه يسرق كل شيء حتى الظل وهو مرادف للموت :

ومددنا كفينا

مديها

أكثر ... أكثر

لن تصلي ... أكثر ... أكثر ... لن تصلي

ها نحن نعود لصمتينا

نسقط في عتمة عينينا

... لا شيء سوى الليل يلملم ظلي38

  يلمح ضياع واحد، لأن الظلمة والعتمة مؤشرات للاغتراب من جهة والقلق والتوتر من جهة أخرى، ويبقى الزمن فاتحة هذه الحالات النفسية جميعها، فينظر إلى الحياة بمنظار أسود، ويصور الليل على أنه زمن اليأس والخوف والتشاؤم، وفيه من الأشباح والقلق ما يوحي بأنه ليث جائع يريد تمزيق الذات الإنسانية والتهامها، لكن الطريف في شعر بلند هو محاولته الخروج عن نطاق هذا الزمن فهو يود أن يوقفه بقتله والخروج من أسره ، أو يوجد لنفسه زمنا خاصا، فماضيه حزين ويومه أسود وغده فوق يد الغيب يملأه الأسى والذعر :

لكن ... ويح نفسي أي إنسان

تراني

ليس لي ماض

ومالي غير يوم

يرسم العمر على سود أغاني

وغدي

فوق يد الغيب دنى

لتهاويل رماد

ودخان39.

  لابد أن توقف الزمن سيرافقه توقف في مسيرة الحياة، ومن ثم تظهر معالم الموت والفناء والعدم، فأدرك بلند أن لا جدوى من الاستمرار في منظومة الحياة، وهذا يعني أن مرور الزمن على ذلك الإدراك سيكون طويلا مملولا، وينبع الإحساس بدافع نفسي حيوي إيجابي في ذاته ليجعل الزمن متحركا مواكبا للحياة، ولعل الحياة متوقفة بالنتيجة لتوقف الزمن النفسي، وعليه فالموت هو الحل الأمثل والقبر أرحم مثوى.

  ولقد ترافق الإحساس بوطأة الزمن بصورة الذات المعتمة، وهذا ما يوطد عمق العذاب وعمق الإحساس بالفناء القادم خلف وقوف هذا الزمن :

ما زلت أشتاق الحياة

وأنني سأموت والنسيان يقبر مطلعي

سأموت لا ماض يحن لرؤيتي ... يوما

ولا خل سيدرك ما أعي.

وحدي أكفن بالظلام وتعاستي

وأرى سواد الليل يملأ أدمعي40.

  إنه يشتاق إلى الحياة لأنه يعلم أن الموت نهايته وخلاصه من كل العذابات ولأنه وحيد بلا رفيق، حتى الماضي الذي كان في يوم ما يحن إليه ويشتاقه أصبح مثل باقي الأزمنة، لا شيء في هذه الدنيا إلا الظلام الذي يوحي بالظلام النفسي الدائم، وما الليل إلا زمن مقيد لا يتزحزح كما الصخور ويترافق هذا التحجر للزمن بصورة مرعبة لتهديم الذات مما يزيد الإحساس بالفناء والعدمية ورؤية قاتمة للمستقبل.

  وبهذا اتسع الاغتراب النفسي عند بلند الذي حاول أن يخفف من وطأته باستعادة الماضي إلى وضع نفسي يشي بالإحباط والانكسار وينم عن اليأس، فلا أمل يرتجى في الخلاص من الواقع الأليم فتتوقف لديه كل العوالم المشرقة، ولا يبقى إلا الظلام المفزع، فيهرب من الماضي البعيد المفجع ويرضى بحاضره متوجعا متألما منطويا على ذاته المتألمة من كل مظاهر الحياة .

خاتمة

  هكذا نرى أن كل مظاهر الحزن والقلق وفقدان التوازن والثقة في كل شيء هي تجليات مختلفة لمظهر واحد هو الاغتراب النفسي، الذي أراد بلند أن يتخلص منه أو يخفف من وطأته بطرق مختلفة وإن أسفرت جميعها عن مشاعر الضياع والقلق والتشتت التي عانى منها منذ بدايات حياته الأولى، إلى أن خرج إلى المجتمع وتغرب فيه وفقد الاستقرار والطمأنينة التي لم يعشها يوما في حياته ولم ينعم بها ولو بالحلم.

  لقد كانت تتقاذفه أحاسيس ومشاعر نفسية مأزومة مختلفة أولها مشاعر اللامنتمي التي صبغت شعره بهموم العصر وتقلباته والرغبة الجامحة في تعريته، لأنه أدرك أن لاجدوى من الخضوع لقوانين الحياة ما دام الوجود عبثا وما دامت حقيقة الوجود تنبع من حقيقة الذات الإنسانية ولا تقوم إلا بكينونتها، وحتى في العودة إلى الماضي تتلبس بوعي الشاعر، لأن طفولته لم تكن خالية من الجدب وماضيه بمنجى من العقم، وهو إذ يتذكر تلال التراب والأميرة الصغيرة يتذكر أيضا أن لون السماء كان داء وأن داره مخيفة كالوباء والدروب المعتمات الضريرة، وهيهات فهو لا يرتضي عوالم الوهم ولهذا يسأل دائما : أتظل تخدعنا الحياة ؟ أنظل نغرق في الظلال ؟ وتلتقي هذه الأسئلة وتتفاعل وتثمر تمردا وصعلكة وثورة أوفى بها إلى ذروة سامقة من ذرى الشعر العربي الحديث، لأنه وحده الثوري والرافض الذي يأبى التزام الكلمة في فكر أو سلوك ما لم تكن نابعة من اختياره وإرادته وتجاربه الحية.

حنان بومالي, «تجليات الاغتراب النفسي في شعر بلند الحيدري»
مجلة العلوم الاجتماعية 
[En ligne] العدد 18 جوان 2014 مجلة العلوم الاجتماعية
Papier : pp : 237 - 246,
Date Publication Sur Papier : 2014-06-01,
Date Pulication Electronique : 2014-06-22,
mis a jour le : 26/06/2014,
URL : http://revues.univ-setif2.dz/index.php?id=1156.

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة