الخميس، 26 نوفمبر 2015

الجواهري ودجلة الخير - فاروق شوشة ...


الجواهري ودجلة الخير
     
      

  يمثل الجواهري في ديوان الشعر العربي الحديث، أكبر عاصفة شعرية حملتها القصيدة العمودية طوال قرن كامل من الزمان، وعلى امتداد عمر الجواهري (1899-1997). أكثر من ثلاثة أرباع القرن العشرين وشعر الجواهري سجل حافل بكل الفورات السياسية والتقلبات الثورية في العراق، وفي الوطن العربي. والتحم شعر الجواهريبهذه الأحداث العنيفة مدّاً وجزراً ثباتا وتقلّبا، وأصبحت قصائده المواكبة لها منارات تضيء لعشاق الشعر والوطنية والقومية معا، الشعر في نموذجه العالي الذي تتردد من خلاله أصداء شعراء العربية الكبار: المعري والمتنبي وأبي تمام والبحتري والشريف الرضي وغيرهم من أصحاب القامات الكبرى،يحاذيهم الجواهري ولا يتخلّف عنهم، ويجاوزهم بمذاق العصر وفتنة المغايرة والقدرة الفذة على إبداع الصورة الشعرية في منمنماتها، وتنويعاتها الإيقاعية، ونَفَس شعري هو الأبعد مدى وغاية، بالنسبة لأقرانه الكبار من شعراء العصر: الزهاوي والرصافي في العراق، بدوي الجبل وعمر أبي ريشة في سوريا، الأخطل الصغير بشارة الخوري وأمين نخلة وسعيد عقل في لبنان وشوقي وحافظ ومطران في مصر.

   وبقدر ما تغير بحر الشعر العربي، وتدفقت فيه موجات شعرية جديدة بدءا برواد الحداثة الشعرية في العراق: السياب ونازك والبياتي وبلند الحيدري، وحركات المد الرومانسي التي برزت منها في مصر جماعة الديوان وجماعة أبوللو ثم جاءت حركة الحداثة الشعرية في مصر مساوقة ومؤازرة لنظيرتها في العراق، تغير المشهد الشعري كله تغيرات قاطعة وحادة، ظل الجواهري صوت القصيدة العمودية الأكبر، خاصة بعد اختفاء بدوي الجبل وعمر أبي ريشة والأخطل الصغير والبردوني من هذا المشهد، وامتلائه بشعراء التفعيلة جيلا بعد جيل، وصولاً إلى قصيدة النثر.

  هل جنت السياسة بتقلّباتها على الجواهري،حين تقلب معها - أحيانا من النقيض إلى النقيض - في داخل الوطن، وعبر المنافي: العربية والأوربية في باريس وبراغ ودمشق - التي دفن فيها في ختام اغترابه ومنفاه الطويل المرير -، أم أن ممارساته المتعاقبة للعمل الصحفي، وللنضال السياسيهي التي أكسبت شعره حرارته وتوتره ولغته الحادّة الواخزة، فجعلت منه شاعر الجماهير العراقية والعربية، يخرج من السجن ليدخله من جديد، وتصادر صحيفته ليصدر أخرى بعد قليل، وقدّر لشعره أن يتلوّن بنزف جراح النضال والحرية، وأن يتشكّل دوماً باحثاً عن فضاء أرحب، وأفق لا يُظل ظلما ولا طاغية.

  قصيدة الجواهري بنيان ضخم، أبهاؤه تتردد فيها أصوات تذكّرنا بهتفات الشعر العربي في تجلياته العظيمة، ذابت في صوت الشاعر، وحملت سمته وملامحه، وسكب فيها من عُرامه وعنفوانه وحُميّاه، من فتوّته وعناده الصخري وكبريائه، وجذور يقينه الضاربة في أديم (النجف الأشرف) في العراق، وثقته في قدرته على الوفاء بمطلب الجماهير في الشعر، حين تلتفت إليه الأعناق مع كلّ حادث يحدث، أو مهرجان يقام.

  في هذا البنيان الضخم، لن نفتقد النفس الشعري الممتد، تتقطع أنفاسنا - نحن قرّاءه ومستقبليه - وهو في كامل توهجه واقتداره. ولن نفتقد القافية المحكمة التي لا نشكّ في أنها خُلقت لتسكن هذا البيت من القصيدة. ولن نفتقد هجومه الكاسح على شاغل القصيدة ومفجّرها في وجدانه، ليعتصره من كل زواياه وأطرافه، وليستصفي أنضر ما يقذف به منجمه المتخمّر، وأفتك ما يتفجّر به بركانه الثوّار بحُمم الشعر وشظاياه الحارقة.

  وأشدّ ما يفجّر الأسى في قصة الجواهري التراجيدية، صوته بعيداً عن دوالّ عشقه ورموزه الباقية في العراق ودجلة والفرات وبغداد والنجف، والأهل والصحب، ورائحة الشوارع وظلال البيوت ومذاق الهجير والزمهرير.

ه  ذا العشق الذي تجسّده واحدة من روائعه وآثاره الشعرية الباقية، هي قصيدته (يا دجلة الخير) التي يقول ديوانه إنها نظمت في شتاء عام 1962، وكان الشاعر يمر بأزمة نفسية حادة، إثر اضطراره إلى مغادرة العراق هو وعائلته، والإقامة في مغتربه في تشيكوسلوفاكيا، وكان ذلك في صيف 1961. نشر قسم منها لأول مرة في جريدة المستقبل في فبراير 1963 بعنوان: رائعة جديدة للجواهري (يا دجلة الخير) وقالت الجريدة في تقديمها:

   رائعة الجواهري الجديدة جاءت كمعظم روائعه الشعرية فريدة ممتازة شامخة الذرى، تلمس فيها الطبيعة الإنسانية في ثورتها وهدوئها، في آلامها وأفراحها، في تحرّقها وحنينها إلى ما تصبو وإلى ما حرمت منه بسبب من الأسباب.

   إنك تلمس في هذه الأبيات المتلاحمة شوق الجواهري إلى وطنه. إلى دجلته، وإلى ضفافها واصطفاق أمواجها، وتحسّ خلال استعراضك للقصيدة كيف يتصل الجواهري بألف سبب وسبب بما في هذا الشعب العظيم وبحاضره ومستقبله.

يقول الجواهري :

يا دجلة الخير، يا أمَّ البساتينِ

حيّيتُ سفْحكِ عن بعدٍ، فحيّيني
لوْذَ الحمائم بين الماءِ والطينِ

حيّيْتُ سفحكِ ظمآناً ألوذُ به
على الكراهةِ بين الحين والحينِ

يا دجلةَ الخير يا نبْعاً أفارقُهُ
نبْعاً فنبْعاً، فما كانت لترويني

إنّي وردْتُ عيون الماءِ صافيةً
ليَّ النسائمِ أطرافَ الأفانينِ(1)

وأنت يا قارباً تلْوي الرياحُ بهِ
يُحاكُ منه، غداة البيْنِ، يطويني

وددْتُ ذاك الشراع الرّخصَ لو كفني(2)
حتى لأَدنى طِماحٍ غيرُ مضمونِ

يا دجلة الخير: قد هانت مطامحُنا
بين الحشائشْ أو بين الرياحينِ

أتضمنين مقيلاً لي سواسيةً
بين الجوانح أعنيها وتعْنيني

خِلْواً من الهمِّ إلا همَّ خافقةٍ
كالريح تُعْجلُ في دفع الطواحينِ

تهزّني فأجاريها فتدفعُني
* * * 
يا خمر خابيةٍ في ظلّ عُرجونِ(3)

يا دجلة الخير: يا أطياف ساحرةٍ
يا خنْجَر الغدر، يا أغصان زيتونِ

يا سكْتَةَ الموتِ، يا أطيافَ ساحرةٍ
متى التبغْددُ حتى في الدهاقينِ(4)

يا أمّ بغدادَ، من ظَرْفٍ ومن غَنجٍ
للآنَ يعبقُ عطرٌ في التلاحينِ

يا أمّ تلك التي من (ألف ليلتها)
به الحضارة ثوباً وشْيَ (هارون)(6)

يا مُسْتجمَّ (النواسيّ) الذي لبستْ(5)
والمُلْبسِ العقْلَ أزياءَ المجانينِ

الغاسلِ الهمّ في ثغرٍ وفي حَببٍ
والمُنْفقِ اليوْمَ يُفْدَى بالثلاثينِ(8)

والسّاحبِ الزقّ يأباهُ ويُكرِههُ(7)
والمُلهمِ الفن من لهوٍ أفانينِ

والرّاهنِ السّابريَّ الخزّ في قَدحٍ(9)
قرْعَ النواقيسِ في عيد الشّعانينِ(10)

والمُسمعِ الدّهرَ والدنيا وساكنَها
* * *  
يُغلي فؤادي، وما يُشجيكِ يُشجيني

يا دجلةَ الخير: ما يُغْليكِ من حَنقٍ
في مائكِ الطُهرِ بين الحين والحينِ

ما إن تزالُ سياطُ البغْى ناقعةً
على القُرى - آمناتٍ - والدهاقينِ

ووالغاتٌ خيولُ البغْيِ مُصبحةً
به مجاريك من فوقٍ إلى دُونِ

يا دجْلَة الخير: أدري بالذي طَفحتْ
أنغامُكِ السمّرُ عن أناتِ محزونِ

أدري على أيّ قيثارٍ قد انفجرتْ
للآنَ تهزْينَ من حكمِ السلاطين

أدري بأنك من ألفٍ مَضَتْ هَدراً
من النواويس أرواحُ الفراعينِ(12)

تَهزين أنْ لم تَزَلْ في الشرق شاردةً(11)
على الضفافِ ومن بُؤسِ الملايينِ

تهزين من خِصْب جنّاتٍ مُنثرةٍ
أضفوْا دروع مطاعيمٍ مطاعينِ

تهزيْنَ من عُتقاءٍ يوم ملحمةٍ(13)
كما تلوّى ببطن الحوت ذو النونِ

الضارعين لأقدارٍ تحِلُّ بهمْ
ويفزعون إلى حدْسٍ وتخمينِ

يروْن سود الرزايا في حقيقتها
والمُفضلينَ عليه جَدْعَ عِرْنينِ(14)

والخائفين اجتداع الفقر مالهمو
مستعصمين بحبْلٍ منه موهونِ

واللائذين بدعوى الصبر مَجْبنةً
ومستميتٍ، ومنجاةً لمسكينِ

والصبرُ ما انفكّ مرداةً لمحتربٍ(15)
وأيّ شرٍّ بخيرٍ غيرُ مقرونِ

يا دجلةَ الخير: والدنيا مفارقةٌ
طهْرُ الملائكِ من رجْسِ الشياطينِ

وأيُّ خيْرٍ بلا شرٍّ يُلقّحهُ
لديْكِ في (القُمْقُمِ) المسحور مخزون

يا دجلةَ الخير: كم من كنْز موهبةٍ
آت فترضيك عقبان وتُرضيني

لعلّ يوماً عصُوفاً جارفاً عرساً
للسمع، ما بين ترخيمٍ وتنوين

يا دجلةَ الخير: إن الشعر هدهدةٌ
لحن الحياة رخيّاً غَيْرَ ملحونِ

عفْواً يردّد في رَفْهٍ وفي عَللٍ
كفّ الطبيعةِ لوْحاً (سفرَ تكوينِ)

يا دجلة الخير: كان الشعر مُذْ رسمتْ
لكنْ لنلْمِسَ أوجاعَ المساكينِ

يا دجلة الخير: لم نصحبْ لمسْكنةٍ
المُلهمونَ عليها كالعناوينِ

هذى الخلائقُ أسفارٌ مُجسّدةٌ
أضواءُ حرْفٍ بليل البؤسِ مرهونِ

إذا دجا الخطْبُ شعَت في ضمائرهم
من راح منهم خليصاً غير مديونِ

دَيْنٌ لزامٌ، ومحسودٌ بِنِعمتهِ
* * *  
تُسدى إليَّ على بُعدٍ فَتجْزيني

يا دجلةَ الخير: هلا بعض عارفةٍ(16)
وألهميني سُلواناً يُسلّيني

يا دجلةَ الخير: منّيني بعاطفةٍ
بلوايَ لم أُلْفِ حتّى مَنْ يُواسيني

يا دجلةَ الخير: من كلّ الاُلى خبروا
طيفاً يمرُّ وإن بعْضَ الأحايينِ

يا دجلةَ الخير: خلِّي الموج مُرتفعاً
دفْءَ (الكوانينِ) أو عطر (التشارين)(17)

وحمّليه بحيثُ الثلجُ يغمُرني
عن كلّ ما جلت الأحلامُ يُلهيني

يا دجلةَ الخير: يا مَن ظلَّ طائفُها
وددّتِ مثلي لو أنّ النوْمَ يجفوني

لو تعلمين بأطيافي ووحشتها
لي المقاديرَ من لدْغِ الثعابينِ

يا دجلةَ الخير: خلّيني وما قَسمت
  
         ويرحل الجواهري عن عالمنا، ولاتزال دجلةَ تشكو الأسْر والقهر والقيود، ولاتزال تغليب الحنق الذي استثار غضب الشاعر وشجونه، ولاتزال سياط البغي ناقعه في مائها الطاهر، وخيول البغْي والغة على القرى الآمنة، ولاتزال دجلةَ تصغى لأوجاع المساكين، والليل المرهون بالبؤس. ولايزال جرحها ينزف، وشاعرها في الملأ الأعلى تطل روحه على بغداد وأمّ بغداد، فتــرتدّ جازعة مـــــن رجـــــس الشياطين، مفتقدةً طهر الملائك، متطلعة إلى يومٍ عصوف جارف عرم، يطيح بكلّ الذي تشكو منه وتعانيه، لعلّها ترضى عقباه وتغني لحن الحياة، وستظل في أسماعنا وأعماق وجداناتنا - نحن الحالمين بدجلة الخير وبغداد العدل والحرية - نداءاتُ الجواهري وهتفاته الشجية وهو يردد في مستهلّ العديد من أبيات قصيدته: (يا دجلة الخير) فهل آن أوان إجابة هذا النداء?

(1) الأفانين والأفنان: الأغصان.
(2) الرّخص: الناعم.
(3) الخابية: وعاء من الفخار يُعتّق فيه الشراب. العرجون: عذْق النخل إذا يبس واعوجّ.
(4) التبغدد: تقليد أهل بغداد ومحاكاتهم في عاداتهم وتحضّرهم.
الدهاقين: جمع دهقان: رئيس المدينة أو القرية (فارسية معرّبة).
(5) النواسي: أبو نواس.
(6) هارون: هارون الرشيد.
(7) الزق: وعاء من الجلد يتخذ للماء والخمر.
(8) بالثلاثين أي بالثلاثين يوما مجموع أيام الشهر.
(9) في هذا البيت إشارة إلى قول أبي نواس من قصيدة له وقد رهن ثيابه الثمينة كلها ومن بينها خلع العباسيين عليه.
(10) عيد الشعانين: من أعياد النصارى.
(11) تهزيْن: تهزئين (بتسهيل الهمزة).
(12) النواويس: التوابيت.
(13) العتقاء: من يؤسرون ثم يطلق سراحهم.
(14) جدع عرنين: يقال جُدع عرنينه أي قُطع أنفه.
(15) مرداة: مهلكة.
(16) العارفة: الفضل والإحسان.
(17) الكوانين: جمع كانون وهو الموقد.


والتشارين: جمع (تشرين) وهو اسم لشهرين من شهور السنة السّريانية: تشرين الأول وهـو أكتوبر وتشرين الثاني وهو نوفمبر


         
 فاروق شوشة

مجلة العربي الكويتية العدد 522 بتاريخ ايار/مايو 2002

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة