الفصل الثالث : الاتجاهات الجديدة المتصلة بالعلوم الإنسانية
هيمن الاجتماعي، بتجلياته الأيديولوجية على النقد الأدبي العربي الحديث حتى نهاية السبعينيات، فأخملت، أو كادت، المناهج النقدية التي تأخذ بالعلوم الإنسانية سوى ما اتصل بعلم الاجتماع، أو الإيديولوجيا بتطبيقها الشعاري المباشر، والجدانوفي المتطرف غالباً، وندرت الممارسة النقدية التي تستهدي بمنهجية علم الاجتماع، إلا في مطالع الثمانينيات استجابة للمتغيرات التي عصفت بالنظرية الأدبية الواقعية الاشتراكية أو الماركسية الرسمية، وللتطور المعرفي الذي يتيح للنقد الأدبي، الانسلاخ من نظرية المعرفة، ليكون له إطاره المعرفي المستقل، فتعددت المحاولات العربية منذ مطلع الثمانينات «لاستكشاف العلاقات المختلفة بين منظومة العلوم الإنسانية والنقد، تمهيداً للبحث عن «هوية» حقيقية لهذا النقد، تجعل منه علماً قائماً بذاته»(1)، وقد دعم النقاد والباحثون العرب اجتهاداتهم بتعريب عدد من المؤلفات الأجنبية التي تصدت لهذه العلاقات أمثال «النقد الأدبي والعلوم الإنسانية(2)» و«الأدب والعلوم الإنسانية(3)».
لقد سعى عدد من النقاد باستمرار إلى مساءلة إشكالية علاقة النقد الأدبي بالعلوم الإنسانية في عدد «فصول» الذي يعد أكبر إسهام نقدي عربي في هذا الإطار، كالفلسفة (زكي نجيب محمود)، والعلوم النفسية (مصطفى سويف)، والعلوم بعامة (يحيى الرخاوي)، وعلم الاجتماع (محمد حافظ دياب) والرواية شكلاً أدبياً ومؤسسة اجتماعية (صبري حافظ)، وعلم اللغة (تمام حسان) والأسلوبية (صلاح فضل) وحالة النقد البنيوي (محمد علي الكردي) وحالة النقد المسرحي (سامية أحمد أسعد)، وتدل هذه المساءلات على قيمة الاجتهادات التي تتضمنها، وهي ترقى إلى أهم المساهمات المطروحة في ميدان النقد الأدبي، بوصفها إشكالية عالمية، كما في الكتاب المشار إليه «الأدب والعلوم الإنسانية» (1986)، وهو لفريق من الباحثين السوفييت، دعوا أيضاً إلى أهمية تطوير العلاقات المتبادلة بين علم الأدب والعلوم الأخرى عند تقاطع علم الأدب بهذ العلوم، وعند التقاء حدوده بحدودها، محذرين في الوقت نفسه بألا ننسى أن تصورنا لنقاط التقاطع والحدود لعلمنا ذاته لا يمكن أن ينشأ إلا حين نتملك موضوعنا ومنهجيته بقوة وثبات، «فبقدر نجاح عمل علماء الأدب في مجال عملهم الخاص، وبقدر ما تكون الدقة العلمية التي يحصلون عليها بطرائق العلوم الإنسانية أتم، يزداد لجؤوهم إلى طرائق العلوم الدقيقة فعالية وأثراً. والمقصود هنا ليس تأجيل تجارب استخدام طرائق هذه العلوم إلى مستقبل بعيد، بل لا جدوى الترييض (من الرياضيات) المتسرع للظواهر الأدبية والفنية. وهذا هو بالضبط المجال الذي لا يطيق العلم فيه أكثر من أي مجال آخر بهرج الموضة»(4).
وأنظر في هذا الفصل إلى تطور الاهتمام بقضايا النقد الأدبي والعلوم الإنسانية، ثم أناقش بإيجاز، علاقة النقد الأدبي بالفلسفة أولاً، وبعلم النفس ثانياً، وبعلم الاجتماع ثالثاً.
1- قضايا النقد الأدبي والعلوم الإنسانية:
1-1 مقاربة النقد الأدبي الحديث تعريباً وتأليفاً:
اقترب النقد الأدبي من مناهجه الحديثة في الستينيات في رحاب الجامعات العربية بتأثير الروافد العلمية المؤهلة في الغرب، وتبدى ذلك في التعريب أولاً، وفي التأليف ثانياً، فقد عربت بعض الأعمال الأساسية في النقد الأدبي الغربي، أمثال «النقد الأدبي ومدارسه الحديثة The Armed Vision» (1955 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1960) لستانلي هايمن Stanley Hayman، «مبادئ النقد الأدبي Principales of Literary Criticism» (1962) ل. أ. أ. رتشادرز I.A.Richards ، و«نصوص النقد الأدبي: اليونان» (1965) و«مقالات في النقد Essays in Criticism» (1865 وظهرت ترجمته بالعربية 1966) لماتيو أرنولد M.Arnold، «النقد: أسس النقد الأدبي الحديث» (1966-1967 ثلاثة أجزاء)، لعدة نقاد، و«مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق Critical Approaches to Literature» (1956 وظهرت ترجمته بالعربية 1967) لديفيد ديتشز David Daiches.
لقد أكد معربا كتاب هايمن في تصدير القسم الثاني أنهما لم يتوقعا هذا الترحاب الذي قوبل به، إذا أوشكت طبعته الأولى على النفاذ بعد أن أصبح عمدة النقاد وأساتذة الأدب والطلاب في معظم الأقطار العربية، وأملاً أن يسد ثغرة في المكتبة العربية، بعد أن لمسا حاجة الدارسين إلى الكتب النقدية الجادة. ولربما كانت المرة الأولى التي يعرب فيها كتاب نقدي يعرض بالتحليل المعمق، وبلغة النقد العلمية الصعبة العسيرة لأهم الاتجاهات النقدية الحديثة في الغرب، ويناقش السؤال الملح حول إيجاد مذهب نقدي متكامل، ويورد مراجع مختارة للنقد الأدبي منذ سنة 1912، بلغتها الإنجليزية.
وتميز تعريب كتاب رتشاردز بمقدمته الطولية الضافية التي كتبها مترجمة محمد مصطفى بدوي (مصر) الذي انتقل في مطلع الستينيات إلى التدريس في جامعة لندن، وبين أن نظرية رتشاردز أدت «إلى توسيع مجال التجربة الفنية، وإلى تبين مدى التعقيد والغزارة اللتين توجدان في نسيج العمل الأدبي الرائع، كما ألقت ضوءاً جديداً على الكثير من المسائل النقدية العويصة مثل التراجيديا والصورة الشعرية والوزن والموسيقى والعناصر الشكلية بصورة عامة، كذلك أكد لنا تشاردز أهمية توازن الفنان، فقضى ذلك على بدع الإغراب والاعوجاج والمرض في حساسية الفنان وشخصيته، والتي شجعها إتباع المذهب الجمالي والفن لأجل الفن في أواخر القرن الماضي»(5).
ولا يخفى أن أمثال هذه المسائل النقدية «العويصة» تفاقمت وتراكمت، مما يتطلب معالجة علمية منهجية لها في ظل سيادة النقد الصحفي والنقد اللغوي الموروث. ومثل مشروع لويس عوض لتعريب نصوص النقد الأدبي في تراث الإنسانية الذي لم يكتمل محاولة منهجية لمعرفة أصول نظرية النقد ومدارسه المختلفة في مصادره الرئيسة، فحوى الجزء الأول تعريباً لأقوال أفلاطون في محاورة «ايون»، وفي الكتاب الثاني والثالث والعاشر من «الجمهورية» حول طبيعة الشعر بين الصناعة والإلهام، وطبيعة الأدب بين الزيف والحقيقة وطبيعة الفن بين الأخلاق والانحلال، وأقوال أفلاطون في كتاب «القوانين» عن ضرورة فرض الرقابة على الأعمال الأدبية، ثم كوميديا «الضفادع» لارستوفان، وهي تعد، كما يؤكد تاريخ النقد الأدبي، من أهم مصادر النقد الأدبي للموازنة الشعرية. غير أن الجزء الأهم في كتابه هو «المعجم الكلاسيكي» الذي وضعه لويس عوض في أكثر من ثلاثمائة صفحة من القطع الكبير، مرتب ترتيباً أبجدياً، ليستعين به القارئ على معرفة ما ورد في هذه النصوص النقدية من مصطلحات وأسماء أعلام تتصل بالأدب، أو بالأساطير، أو بالتاريخ. ومن أسف، أن الظروف التالية لم تسعف عوض على إكمال مشروعه الهام والمؤثر في تطوير النقد الأدبي.
وظهر في الفترة نفسها كتاب ماتيو أرنولد «مقالات في النقد» (1966)، وهو نموذج باهر لمقاربة عمل ناقد إنجليزي من القرن التاسع عشر «شن حرباً عواناً على الزيف والخداع والسوقية والتعصب والتهريج والشعوذة التي كانت سائدة في النقد والأدب فوطَّأ الأرض لمن جاء بعده من النقاد لكي يحملوا مشاعل الصدق والجدية، وينشروا على أديمها أفضل ما عرفته البشرية وأنتجته عقول مفكريها»(6).
بوّب كتاب «النقد: أسس النقد الأدبي الحديث»، وحرره مارك شورر وجوزفين مايلز وجوردن ماكنزي، وصدروه بمدخل بينوا فيه أنهم لم يقصدوا إلى وضع التاريخ في مستندات، بل أن يقدموا اقتراحات، وفي سبيل هذه الغاية يكون التسلسل، حتى بين النقاد المحدثين، مفيداً في كشف تغيرات الذوق ووجهات النظر، ولذلك رتبوا مختاراتهم تبعاً لتاريخ نشرها أو تأليفها في بعض الأحيان، ضمن الخط الذي تنتمي إليه. وقد كان هذا الكتاب بمجلداته الثلاثة متميزاً بين مثيلاته من أمهات الكتب التي عنيت بالنقد الأدبي من منظورات شاملة ومتنوعة وتاريخية، فضم الجزء الأول أبحاثاً ومقالات في مصادر النقد، ولا سيما علاقته بالعلوم الإنسانية لأكثر من عشرة نقاد، من أفلاطون ولونجينوس إلى ليونيل ترلنج وستيفن سبندر، واعتنى الجزء الثاني بعدد مماثل من الأبحاث والمقالات حول الشكل في النقد، لنقاد ينتمون لعصور مختلفة من أرسطو وكولردج إلى جوزيف فرانك و و. ك. ويمزات. بينما حوى الجزء الثالث أبحاثاً ومقالات عن الغاية في النقد والأدب، كتبها نقاد من عصور مختلفة وذوي نزعات متباينة، من دافيد هيوم وتوماس دي كنسي إلى كينيث بيرك وهاري ليفن.
وغني عن القول إن هذا التنوع الوافر والتأكيدات الفردية في كل جزء، يعبر في الوقت نفسه، عن تطابق حقيقي بين الميول والرغبات الموجودة في الأجزاء الثلاثة حسب تعبير واضعي المدخل، «فالمصدر طريقة أخرى للتعبير عن التجربة، أي العناصر التي تدخل في الفن، والتي لا يمكن أن يوجد دونها، إلا أن هذه العناصر لن تتجاوز نطاق التجربة إذا بقيت دون شكل أو وسائل بنائية فريدة، ولن تعبر عن جمال أو حقيقة جمالية. وبالرغم من تطرف موقف السيد أودن الذي يقوده إلى أن يعلن أن الفن لن يعود إلى رحاب التاريخ ثانية، فإن فعالية الشكل تمكن الفن من النفاذ إلى الجهاز العصبي على الأقل، وبذا يبدو مرتبطاً بالغاية»(7).
ثم كانت خطوة أخرى باتجاه المعرفة العلمية المنهجية لمناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق في كتاب ديفيد ديتش السالف الذكر. ورأى مؤلفه أن كتابه يلقي الضوء على ماهية الأدب وماهية النقد، وينقسم إلى ثلاثة أبواب، يتناول الباب الأول أجوبة النقاد المختلفين على سؤال ماهية الأدب ووظيفته وقيمته، والباب الثاني الناقد التطبيقي، والأساليب المتباينة التي قومت على أساسها بعض الآثار الأدبية، وكيف ينبغي أن تقوم تلك الآثار. أما الباب الثالث فيتناول حقول المعرفة الأخرى أو العلوم الإنسانية التي قد يستند إليها الناقد الأدبي، كعلم النفس وعلم الاجتماع، وهو يبحث في العلاقة بين الأدب وتلك العلوم. وقد رسم هذا الكتاب الطريق إلى المنهج الموضوعي في فسحته إلى النقد التكاملي التقييمي، فيضمن الناقد الموضوعية والرؤية المتبصرة وحكم القيمة السديد، فلا يقتصر عمل الناقد على منهج ضيق وحده، «وكل ناقد أدبي قدير يرى وجهاً ما في الأثر الأدبي، ويطور وعينا بصدده، أما الرؤية الكلية أو ما يقاربها فلا ينالها إلا من تعلموا كيف يصنعون مزيجاً من الاستبصارات التي تمخضت عنها الطرائق النقدية العديدة»(8).
ثم تنامت حركة التعريب حول النقد الأدبي في السبعينيات بوتيرة عالية، وأشير إلى أبرزها وأكثر تأثيراً وفاعلية، وتتصدرها المجلدات الأربعة لكتاب ويليام ك. ويمزات وكلينث بروكس William R.Wimsattt and Cleanth Brooks«النقد الأدبي: تاريخ موجز في أربعة أجزاء Literary Criticism, A Short History» (1970 وظهرت ترجمته بالعربية أعوام 1973-1975-1976)، وتناولت الأجزاء الأربعة النقد الكلاسي، ونقد الكلاسية الجديدة، والنقد الرومانتي، والنقد الحديث. ويلحظ أن النقد الحديث ركز على الموضوعات التالية: المأساة والملهاة: البؤرة الداخلية، الرمزية، ريتشاردز: شعريات التوتر، مبدأ الدلالة، اليوت وباوند: فن لا شخصاني، التخييل والمسرح: البنية الإجمالية، الأسطورة والنموذج البدئي، وهي الموضوعات التي كانت تستأثر باهتمام النقد حتى الستينيات(9).
وظهر كتاب هام آخر يعزز النظرة إلى النقد الأدبي كما نهجّها ومارسها النقاد الأنجلوسكسونيون، ممن اشتغلوا على نظرية النقد في حدوده ونماذجه واشتغاله بقضاياه المختلفة، والكتاب هو «مقالة في النقد An Essay on Criticism» (ظهرت ترجمته بالعربية عام 1974) لغراهام هوGraham Hough. وقد تميز هذا بإثارته الصريحة والجريئة أكثر من سواه لأسئلة النظرية الأدبية والنقدية في اتصالها بالنقد الخلقي والشكلي والتبشيري في فصل خاص سماه «تركيب ما»، وكانت تسود ساحة النقد الأدبي آنذاك تحكميات الواقعية المتطرفة في تجلياتها القصوى: النقد الأيديولوجي إزاء النقد التقليدي الأكاديمي في أروقة الجامعات العربية، كما في قوله:
«وترى الماركسية أن الأدب انعكاس للقاعدة الاقتصادية ـ الاجتماعية، مثل هذه النظريات، إما أن تهمل المسألة الشكلية بأكملها، أو تعاملها على أنها زائدة غير مشروحة، أو تردها إلى الحتمية ذاتها، وفي كل هذه الحالات الثلاث تظل مسألة العلاقة بالديالكتيكية بين الجانبين الخلقي والشكلي أمراً مستحيلاً»(10).
ثم كانت محاولة حسام الخطيب من المحاولات الأولى التي يواجه فيها الناقد العربي مشكلات النقد الأدبي في طبيعته ونظريته وأصوله ومناهجه في كتابه الرائد «أبحاث نقدية ومقارنة» (1973)، ولم تعوز الخطيب الصراحة في النظر إلى هذه المشكلات من منظوراتها الأشد ضغوطاً على وجدان الناقد العربي: التوازن بين الهوية القومية وبين الانتماء إلى الأدب العالمي المعاصر، و«يشعر المرء اليوم أن المرحلة تجاوزت الدعوة إلى المعاصرة والانفتاح، وأن المطلوب هو الإسهام الجدي في دفع النقد العربي الحديث باتجاه الدقة والتوازن والفعالية»(11).
قامت محاولة الخطيب على ثلاث ركائز هي:
الأولى: تقديم المبادئ الأساسية لنظرية النقد من خلال نظرة أدبية تكاملية تحاول إقامة شيء من التوازن بين طبيعة الأدب ووظيفته.
الثانية: عرض للأصول التقليدية للنقد الغربي، ولاتجاهين بارزين من اتجاهاته هما الاتجاه النفسي والاتجاه الموضوعي.
الثالثة: دراسة مستأنية مدققة للمؤثرات الأجنبية في ظاهرة أدبية تعتبر من أبرز ظواهر الأدب العربي الحديث، وهي القصة.
ناقش الخطيب باتساع وتعمق نظرية النقد في مفاصلها الرئيسة: نظرية الأدب بين الفلسفة والنقد، النقد الأدبي بين التبعية والاستقلال، حدود النقد الأدبي.
وتوالت حركة التعريب لأعمال نقدية أساسية أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: «نقاد الأدب» (1979) لجورج واطسون، و«الأسطورة والرمز» (1980) لستة عشر ناقداً، و«تشريح النقد» (1991) لنورثروب فراي. ثم ظهرت أول محاولة شاملة وكبيرة للتأليف في النقد الأدبي الحديث بقلم محمد غنيمي هلال (مصر)، وكان كتابه «النقد الأدبي الحديث» (1978، وهو مجلد يقع في 700 صفحة من القطع الكبير)، وحوى عروضاً تفصيلية للنقد اليوناني، واللغة عند أرسطو، والخطابة، والأسلوب وأجزاء القول، ونشأة النقد العربي وخصائصه العامة، وأجناس الشعرية والنثرية، والأهداف الإنسانية للأدب، وقيمة الوجوه البلاغية، واللفظ والمعنى. ثم فصل القول النقدي في أسس الجمال الفلسفية للنقد الحديث، وفي تشريح جنسين أدبيين هما الشعر والقصة، وعالج باهتمام الاتجاهات العالمية في المسرح بعد أرسطو. ويتميز جهد هلال في دعوة لبناء «النقد على أساس علمي موضوعي لا يقضي على ذاتيته، ولا يتحكم في أصالته، ولكنه يدعم هذه الذاتية، وهذه الأصالة في الأدب»(12).
غير أن الساحة الثقافية العربية شهدت في الثمانينيات والتسعينيات ثلاثة أحداث أكدت رسوخ النقد الأدبي وتنامي فعاليته، الحدث الأول هو صدور «فصول: مجلة النقد الأدبي» في أواخر عام 1980 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بمصر، وهي مجلة نادرة، فتحت الباب على مصراعيه للنقد الأدبي العلمي المعمق باتجاهاته المختلفة، واعتقد أنه ليس بمقدور أي باحث أو ناقد أن يستغني عن مجلداتها التي قاربت تسعين مجلداً عالجت أهم قضايا النقد الأدبي وظواهره مثل مشكلات التراث، ومناهج النقد الأدبي، وقضايا الشعر العربي، والرواية والقصة، والمسرح اتجاهاته وقضاياه، والقصة القصيرة: اتجاهاتها وقضاياها، والأدب المقارن، والحداثة في الفكر والأدب، والأسلوبية، والأدب والفنون، والأدب والإيديولوجية، وتراثنا النقدي، وجماليات الإبداع والتغير الثقافي، وقضايا المصطلح الأدبي، واتجاهات النقد العربي الحديث، والأدب والحرية، وألف ليلة وليلة، والمسرح والتجريب، وقراءات تراثية، وزمن الرواية، والنقد الأدبي والعلوم الإنسانية.. وغيرها.
وذكر عز الدين إسماعيل، أول رئيس تحرير لها، في افتتاحية أحد أعدادها، لمناسبة مرور عشر سنوات على صدورها أنها نشرت «ما يناهز عشرة آلاف صفحة من القطع الأكبر، ولأنها مجلة متخصصة بالنقد الأدبي، فإن هذه الآلاف من الصفحات قد اشتملت على مادة تتعلق بالنقد الأدبي بصفة خاصة، سواء ارتبطت هذه المادة بمحاور عامة نظرية صرف، أو نظرية تطبيقية، أو ارتبطت بتجارب نقدية، أو عروض تتصل بالنقد من قريب. وهناك إجماع على أن مثل هذا القدر من الكتابات النقدية التي اشتملت عليها هذه المجلة، والتي توشك أن تعادل ما قد ينشر في موسوعة من عشرة مجلدات ضخمة، أو في أربعين كتاباً متوسط حجم ما ينشر من كتب نقدية، لم يتحقق من قبل في أي عقد مضى، أو أي حقبة مناظرة»(13).
واعتقد أيضاً أن عز الدين إسماعيل محق في قوله، أن الكتابة النقدية، مع «فصول»، لم تعد «ترفاً عقلياً نتسلى به في أوقات الفراغ، أو نستعيض عنه بوسيلة أخرى من وسائل التسلية، بل صارت عملاً لا مندوحة عنه لأي مجتمع يتطلع دائماً إلى مستقبل أفضل»(14).
والحدث الثاني هو تخصيص نقاد الأدب العرب بسلسلة كتب عام 1990، تتناول لأول مرة حياة النقاد العرب المحدثين وأعمالهم، وتلقي الضوء على حركة الأدب والنقد الحديثين، وقد صدر منها حتى الآن، أكثر من عشرين كتاباً، عن النقاد أمثال أنور المعداوي وحسين المرصفي وعز الدين إسماعيل وإسماعيل أدهم وميخائيل نعيمة، وأحمد ضيف وشكري عياد ومصطفى عبد اللطيف السحرتي، وزكي نجيب محمود وسيد قطب وجرجي زيدان ورشاد رشدي وأحمد الشايب وأحمد أمين ومحمد صبري وإبراهيم عبد القادر المازني ومحمد مندور وغيرهم.
والحدث الثالث هو صدور مجلة «علامات في النقد الأدبي» في عام 1991 عن النادي الأدبي الثقافي بجدة، وتقترب هذه المجلة من مجلة «فصول». وهكذا انتعش النقد الأدبي، وتعددت اجتهادات النقاد في تعريبهم وتأليفهم لنظريته، ولا سيما علاقته بالعلوم الإنسانية.
لقد غدا الانفتاح على بحث العلوم الإنسانية في علاقتها بالنقد الأدبي ميسوراً، وبآليات المناهج والعلوم الحديثة مثل علم النص وعلم الأدلة وعلم الإشارة والألسنية والأسلوبية والبنيوية والتحليل النفسي وعلم النفس الاجتماعي وعلم الجمال وسواها واكتفي بالإشارة إلى التطورات الدالة على تطور علاقة النقد بالعلوم الإنسانية بما يخدم سياق البحث، ويؤشر في الوقت نفسه إلى تأثيرها في الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية تالياً.
1-2- علم الجمال والنقد الفني:
عني النقاد العرب بعلم الجمال ونظريات الفنون، فعربوا بعض أمهات الكتب في هذا المجال، مثل «الفن والمجتمع عبر التاريخ The Social History of Art » (وظهرت ترجمته بالعربية عام 1970-1971) لارنولد هاوزر Arnold Hauser، و«التطور في الفنون Evolution in the Arts» (وظهرت ترجمته بالعربية أعوام 1971-1972-1973) لتوماس مونروTomas Munro ، و«النقد الفني: دراسة جمالية وفلسفية Aesthetics and Philosophy of Art Criticism» (1960 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1977) لجيروم ستولينتز ـJerome Stolnitz، بيد أن حركة التعريب عن الماركسية والفن وجمالياتها لم تتوقف، منذ الخمسينيات، وأشير إلى بعض هذه الجهود في السبعينيات والثمانينيات، سواء عن مؤلفين سوفييت أو غربيين، مثل «أسس علم الجمال الماركسي اللينيني» (1976) لعدة مؤلفين و«الانعكاس والفعل: ديالكتيك الواقعية في الإبداع الفني»(1977) لهورست ريديكر و«وظيفة الفن الاجتماعية» (1981) لغروموف وكاجان، و«الجمالية الماركسيةL’esthetique Marxisme » (ظهرت ترجمته بالعربية 1982) لهنري أرفون Hnri Arvon، و«الوعي والإبداع ـ دراسات جمالية ماركسية» (1985) لمؤلفين سوفييت، و«الماركسية والفن الحديث» (1987) لفرانسيس كلنغندر.
وظهرت استجابات التأليف في وقت متأخر، فصدر أول كتاب مخصوص بهذا الموضوع لتامر سلوم (سورية)، وعنوانه: «نظرية اللغة والجمال في النقد العربي» (1983)، وهو بحث علمي يعالج القضية من أصولها في التراث النقدي العربي في جوانبه الأكثر دلالة على تشكل النظرية: التحليل الاستاطيقي للتشكيل الصوتي، والتشكيل الصرفي وأثره في مفهوم المعنى، والتشكيل النحوي، والخيال وعلاقته بالصور، ورموز التشبيه، وجماليات الاستعارة وعلاقتها بنظرية تفاعل الدلالات ونشاط السياق. واعتمد تامر على إنجاز عبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني دون أن يغفل عن رؤية النظرية النقدية العالمية، ووكده أن يسهم في تجديد التركيب اللغوي والجمالي، وتعمد أن يكون هاديه الأول هو قراءة النصوص، «والبحث عن ظواهر سياقية أو تركيبية أكثر فعالية وأوفر نصاعة. ولا أنكر أنني كنت أقرأ النص مرة ومرة، وكنت أجد من المعاني في لحظة ما أنكره في أخرى. ولعلي بهذا النحو أجعل من التذوق الأدبي وسيلة مشروعة لتجديد شباب التركيب اللغوي أو البلاغي المتداول»(15).
ويبرز ضمن هذه الجهود التأليفية كتاب رمضان بسطاويسي محمد (مصر)، «الجميل ونظريات الفنون ـ دراسات في علم الجمال» (1996)، وتكمن أهمية هذا الكتاب في تصديه لموضوعات علم الجمال في الدراسات العربية، ولا سيما المكتوبة في مصر: فؤاد زكريا، صلاح قنصوه، أميرة حلمي مطر، جابر عصفور، طه حسين، إحسان عباس، محمد مندور، شكري عياد، أدونيس، الطاهر لبيب، مصطفى سويف، زكريا إبراهيم، عزت قرني، علي عبد المعطي، وفاء محمد إبراهيم. ومن المفيد، أن نعرض لنتائج بحثه:
- غياب المشروع الجمالي في المشروعات الفكرية الكبرى في الفكر العربي المعاصر، وهذه شهادة على تكريس القطيعة التحريمية للفن والإبداع الجمالي.
- إن المناقشات في علم الجمال لم تتجاوز التسمية وإعادة التسمية، ولم تبحث الأصول الجمالية للنقد العربي الحديث.
- سيطرة الطابع الإيديولوجي في البدء بغائبة الفن وهدفه في الواقع الاجتماعي، وهي قضية مثالية يثيرها أصحاب الفكر المادي، بحجة الواقعية في الفن.
- تماثل الكتابات في كثير من جوانبها، وتبدو معظمها، وكأنها كتب مدرسية، لا تسعى للمشاركة في الواقع الثقافي والإبداعي، وكل هذا يبين غياب المشروع الجمالي للإبداع كاستراتيجية للإسهام الفعال في النظرية الجمالية المعاصرة، مما يلقي بظلاله في إثراء النقد والإبداع معاً(16).
1-3- مساءلات في النقد والعلوم الإنسانية:
خاض النقاد العرب في مساءلات جمة حول آليات النقد الأدبي التي تنميها العلوم الإنسانية، ومن أبرز هؤلاء النقاد عبد السلام المسدي (تونس) في كتابيه «في آليات النقدي الأدبي» (1994)، و«مساءلات في الأدب واللغة» (1994)، ولاحظ في كتابه الأول أن من أهم المحاولات التي خبرت فيها المعرفة الإنسانية المعاصرة أدواتها المنهجية المستحدثة هو مجال النقد الأدبي، وقد تأتت له هذه المزية بفضل آليات القراءة التي جاءت بها الثقافة الحديثة، والتي أصبحت تدور على فحص المواقع بين القارئ والمقروء، أكثر مما تنطلق من المسلمات القائمة أو الفرضيات المصادر عليها(17).
ويوضح المسدي رأيه في أن النقد الأدبي بذاته استقل علماً له مبادئه التي لا تطابق بالضرورة مبادئ غيره من العلوم، وله مناهجه التي وإن استلهم بعضها من المعارف المحايثة، فإنها تظل معه موسومة بالخصوصيات التي هي ألصق به. وله أدواته التي بفضل توالجها مع أدوات المعرفة اللغوية الحديثة صارت آليات تتبوأ الصدارة في كل علم يعكف على النص، ويتخذ الخطاب مرمى من مراميه.
وقد تضمنت مساءلات المسدي اجتهادات حول: النقد الأدبي والعلوم الإنسانية، والنقد وانتماء النص، والنقد الأسلوبي والمعارف المحايثة، والنقد ونشوئية المنهج التاريخي، والنقد وميراث علم الأدب. ويتركز اجتهاد المسدي حول مبدأ تظافر المعارف في التصنيف السائد بالعلوم الأصول والعلوم الأدوات حتى يجلو لنا خطوط التماس وتخوم الاشتراك بين المعارف الخادمة والمعارف المخدومة. وسيمكننا كل ذلك من ضبط مواقع النقد الأدبي بحسب كل حالة من حالات التعويل على المضمون الدخيل أو التوسل بالمنهج الضيق، وعندها سيتسنى أن نصدح بالدعوة إلى إقامة ميثاق للتظافر المعرفي في حقل النقد الأدبي»(18).
وعضد مساءلاته الفكرية والمصطلحية والتراثية واللغوية في كتابه الثاني مناقشاً قضايا أخرى ذات حساسية في علاقة النقد الأدبي بالعلوم الإنسانية، ولا سيما إنجازاتها الحديثة، مثل سلطة المعلومة، والانحياز الفكري، وتصنيع المعلومة، وعلم العلامة، والنظرية اللغوية، والبنيوية، والسيمياء العربية، وفرديناند دوسوسير والثقافة العربية، ووظيفة الناقد، واللغة وما وراءها، وآليات التكون النقدي.. وغيرها. بيد أن المساءلة الجوهرية في كتاب المسدي الثاني هي البعد التعليمي وبعد المعلومات في علاقة النقد الأدبي بالعلوم الإنسانية، وهو ما تضح عنه مقالته عن آليات التكوين النقدي، و«هكذا تكون اللسانيات في بعدها البنيوي قد أعانت على تحرير الفكر النقدي من بعض ما قيده بحكم إطراد أعراف منهجية لم تكن دوماً قادرة على إجراء استبطانها الذاتي، كما تكون قد أسهمت في بلورة رؤية بيداغوجية لا تنقض ما توفر من مكتسبات ماضية، وإنما تضيف إليه مدداً منهجياً لابد أنه تارك بصماته على الصعيد المعرفي الخالص والنقدي بوجه أخص»(19).
وعني أحمد عثمان بمثل هذه المساءلات في إعداده لأبحاث بعض نقاد الاتجاهات الجديدة وهم: بارت وميكائيل ريفاتير وجيرار جينيت وتودوروف وفليمير خليبنيكوف، في كتابه «الأدب واللغة والفضاء» (1995). وتعكس مقالات الكتاب التأثير الواسع الذي بدأت تمارسه الاتجاهات الجديدة في رؤية علاقة النقد الأدبي بالعلوم الإنسانية.
1-4- علم النص:
صار الحديث عن علم النص شائعاً أثر اتصال النقاد العرب بالاتجاهات النقدية الجديدة في فرنسا على وجه الخصوص، كما يظهر في تعريب كتاب جوليا كريستيفا «علم النص ـ من كتاب Semiotike, Recherches pour une Semanalyse» (1969وظهرت ترجمته بالعربية عام 1991). وفيه محاولة منهجية لفهم النص وعلمه، ومن النص المغلق، إلى الإنتاجية المسماة نصاً، إلى الشعر والسلبية، و«ليس من شك، برأي المترجم، في أن وعي كريستيفا بالحدود المنهجية والنظرية للمنحى الوضعي السائد في مجال الدراسات الأدبية قد كان وراء بحثها عن علم للنص لا يتقيد أبداً بالخطاطة التحليلية، ولا بالنزعة التشريحية الأكلينيكية بقدر ما يسعى نحو مساءلة الطابع الأدبي والشعري للنص في خصوصياته وعمومياته والتنظير العيني لها، عبر استيحاء اللسانيات والمنطق واستخدام نتائجها بكل الحذر الكامل»(20).
ويلفت أن سعد مصلوح في محاولته لدراسة علم النص يرفض الاتجاهات النقدية الجديدة، وأن وافق على دواعيهم ومنطلقاتهم حيث «ضرورة تواصي أهل العلم بالعمل الدائب على ترسيخ أساليب المعالجة العلمية المنضبطة للنص الأدبي»(21). ثم انتقد المتشبثين بأذيال البنيوية والأسلوبية والتفكيكية، داعياً إلى مواجهة النص العربي والخروج به من «النفق المظلم، وإلى صياغة عربية القسمات لملامح الحداثة الراشدة التي تتغيا بها ترسيخ المعالجة العلمية المنضبطة للنص الأدبي»(22).
احتوى كتاب «في النص الأدبي: دراسة أسلوبية إحصائية» (1991) على مجموعة مباحث تندرج في مفهوم الدراسة الأسلوبية الإحصائية مثل قياس خاصية تنوع المفردات في الأسلوب، وتحقيق نسبة النص إلى المؤلف، والتشخيص الأسلوبي الإحصائي للاستعارة. وأسهم وائل بركات في تدعيم الجهود العربية النقدية لعلم النص، فعرب كتاباً عنوانه «مفهومات في بنية النص» (1996وهو مأخوذ من عدة مصادر ويشرح اللسانية والشعرية والأسلوبية والتناصية) ضم مقالات حديثة في بابه موجهة «لإيلاء النص، والنص بذاته، اهتماماً مركزياً يتجاوز الرؤية التقليدية التي كانت تقوم على تفسير العمل الأدبي والبحث في ثناياه عن المعالم الخارجية المتصلة به. وانطلاقاً من هذا التحول الجذري، نستطيع أن نسجل للدرس الأدبي احتفاءً خاصاً بالنص كبنية لغوية مستقلة لها عالمها الخاص وتكوينها المميز، وتركيزاً عليه بوصفه لغة منتظمة في نسق من التراكيب»(23). وقد اختار بركات مقالات عن اللسانية والشعرية والأسلوبية والتناصية، تنتمي جميعها إلى المناهج التي نظرت إلى النص كبنية مستقلة بذاتها.
ثم نشر عبد المالك مرتاض (الجزائر) بعض محاضراته في علم النص في كتابه «النص الأدبي: من أين وإلى أين» (1983)، وهي محاولة رائدة في التأليف النقدي العربي، انطلقت من الكشوفات الحديثة في تقنيات النص الأدبي، وعضدت تحليلها وأراءها النقدية بتشريح نص للتوحيدي، وذهب مرتاض في محاولته، إلى التوكيد على النص الأدبي جوهر قائم بذاته، فكتب فصلاً مخصصاً للحديث عن الفن والجمال وعلاقة اللغة، أو لغة الأدب، واعترف مرتاض باستفادته من القضايا ذات الصفة النقدية والألسنية، ليكون الفصل المخصص لتشريح نص التوحيدي من كتابه «الإشارات الإلهية» تطبيقاً لمحاولات تحديث علم النص ونقده(24).
ولعل كتابه الأخير «الكتابة من موقع العدم: مساءلات حول نظرية الكتابة» (1999) يؤكد المبلغ الكبير الذي خاض فيه مرتاض في مزج الاتجاهات الجديدة بالموروث النقدي العربي، ولكنه يوضح في الوقت نفسه إلى أي حد يبدو الناقد العربي الحديث مأخوذاً بآليات الاتجاهات الجديدة، فهذا الكتاب الآخير يعالج نظرية الكتابة في ثلاثة مسالك كبرى هي تكون الكتابة ومفهومها وعلاقاتها. إنه محاولة قابلة للرأي والمجادلة للكتابة النظرية الإبداعية بعد هضم الاتجاهات الجديدة، ولاسيما مفهوم النص لدى بارت (يسميه بارط) وجوليا كريستيفا وتودوروف (يسميه طودوروف)، دعوةً لتحرير الكتابة من نماذجها المسبقة، وإجابةً على أسئلة الهوية المؤرقة؟
1-5- علم الاجتماع الأدبي:
على الرغم من هيمنة النقد الاجتماعي، في ممارسته الإيديولوجية المباشرة، على النقد الأدبي لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، فإن الجهد النظري المؤلف، لا يوازي انتشار هذا النقد في الممارسة، لأن الساحة تركت أساساً لتعريب الكتب والمقالات التي تبنت هذا المنهج في الأدبيات الرسمية السوفييتية والماركسية، ثم شرع، في السبعينيات، النقاد والباحثون يعنون بالإطار النظري الناقد والمنفتح على النظرية الأدبية، وكان كتاب غالي شكري (مصر) «الماركسية والأدب» (1979) من الجهود الأولى المتكاملة في هذا السياق المختلف، ثم ألحقه بكتابه «سوسيولوجيا النقد العربي الحديث ـ دفاع عن النقد» (1981)، تصحيحاً لنظرة سائدة على حركة النقد الأدبي، لا ترى في الأدب إلا تعبيراً سياسياً مباشراً، موجهاً من حزب أو سلطان، أو ملتزماً بأفكار وعقائد.
ثم عرّبت آمال انطوان عرموني (لبنان) كتاب روبير اسكاربيت Robert Escarbit «سوسيولوجيا الأدب Sociologie de la litterature» (وظهرت ترجمته بالعربية عام 1981)، إشارة إلى فهم يفترق عن الفهم الماركسي الأرثوذكسي لعلاقة الأدب بالمجتمع وبالأيديولوجية، بتأثير المناهج العلمية الجديدة لدراسة الأدب. وتجلى هذا الفهم عربياً في كتاب السيد يسين (مصر) «التحليل الاجتماعي للأدب» (1982). لقد تعرف النقاد والباحثون إلى هذا الفهم المختلف الذي بدأ يطبع النقد الأدبي بطوابعه، على نحو قليل أو كثير، ولا سيما منهج لوسيان غولدمان، الذي عرّب جمال شحيد (سورية)، لأول مرة بالعربية، نصوصاً له في كتابه «في البنيوية التركيبية ـ دراسة في منهج لوسيان غولدمان» (1982)، ووجد أنه مفيد لتطوير النقد الأدبي العربي الحديث، من أجل آفاق جديدة لفهم النص الأدبي أو الفلسفي، فالبنيوية التكوينية، تحاول أن تحلل البنية الداخلية لنص من النصوص، رابطة إياه بحركة التاريخ الاجتماعي الذي ظهر فيه.
وقد أدى هذا المنهج «إلى اكتشافات مهمة راحت عن بال النقد التقليدي، الذي عالج المواضيع نفسها خلال عشرات من السنين، إن لم نقل خلال قرون برمتها. وكم نحن بحاجة، لقراءة أدبنا العربي القديم منه والحديث، إلى منهج جديد يؤدي إلى اكتشافات متميزة تقود في النهاية إلى فهم جديد لتراثنا الثقافي، ينتسخ فيه عدد كبير من المقولات المتحجرة التي تتكرر ببغاوياً على ألسنتنا»(25). وقد عمد شحيد إلى دراسة هذا المنهج تاريخياً وفكرياً ونقدياً، وسلط الأضواء على حياة غولدمان، وأصول منهجه عند لوكاتش، وما يتميز به هذا المنهج: التشيئ وأيديولوجية القمع، رؤية العالم، رؤية العالم المأساوية، البنيوية التكوينية، الرواية حصان طروادة في أعمال غولدمان. وأردف دراسته بتعريبه لنصوص من غولدمان: سوسيولوجيا الأدب، التشيئ، البنيوية التكوينية والإبداع الأدبي، قصيدة القطط لشارل بودلير، المنهجية في كتاب الإله الخفي، الوصية النظرية لغولدمان.
وما أمله شحيد، بادر إليه بدر الدين عرودكي (سورية) في تعريب أول نص كامل لغولدمان Lucien Goldmann، وهو «مقدمات في سوسولوجيا الرواية Pour une Sociologie du Roman» (1993). يقدم هذا الكتاب المنهج الاجتماعي، بتلويناته البنيوية والماركسية على خير ما يرام، في حين صدوره لأول مرة 1964، والثاني مرة معدلاً 1965، رابطاً منهجه الجدلي «بالمعنى الذي قصده هيغل عندما كتب "الحقيقي هو الكلي"، أن الفاعل الحقيقي في الإبداع الثقافي هو فعلاً الجماعات الاجتماعية، لا الأفراد المنعزلون، لكن الفرد المبدع يؤلف جزءاً من الجماعة، غالباً بفعل ولادته أو وضعه الاجتماعي، ودائماً بالدلالة الموضوعية لمبدعه، ويحتل فيها مكانة ليست حاسمة، ولا شك، ولكنها ممتازة على كل حال»(26) على أن أهم مساهمة نظرية باتجاه نقد اجتماعي مختلف، وباتجاه تطوير الممارسة النقدية، تبدت في تعريب كتاب بيير زيما Pierr V.Zima«النقد الاجتماعي ـ نحو علم اجتماع للنص الأدبي Manuel de Sociocritique» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1991)، وقد توفر له مترجمة متمكنة هي عايدة لطفي ومراجعان عالمان هما أمينة رشيد وسيد البحراوي الذي كتب مقدمة للقارئ العربي تضع هذه المساهمة في سياق العلاقة غير المتكافئة بين النقد العربي الحديث وإنجازات النقد الغربي بنظرياته ونهاجياته المعرفية والنقدية المتطورة، وبما تستند إليه من «انهيار مجموعة القيم التي قامت عليها المناهج النقدية التي أعلت من شأنها الثقافة الأوروبية المعاصرة خلال نصف القرن الماضي، سواء كانت الشكلية أو النقد الجديد أو البنيوية أو السيميوطيقا. هذه القيم التي عمادها الإيمان بالنص الأدبي كبنية لغوية مغلقة يجب على الدارس أو الناقد الوصول إليها كحقيقة موضوعية مطلقة قائمة بذاته، منعزلة عن مبدعها، أو سياقها الخارجي، أو متلقيها»(27).
وأعاد محمد نديم خشفة (سورية) محاولة جمال شحيد بأفقر منها في كتابه «تأصيل النص ـ المنهج البنيوي لدى لوسيان غولدمان» (1997)، مما يؤكد ذلك التقبل النقدي الواسع لهذا المنهج في النقد الأدبي العربي الحديث، على الرغم من مبالغة واضع هذا الكتاب في معرفة الواقع النقدي العربي وقسوته غير المسوغة في تقدير مكانة هذا المنهج من جهة، وفي انقطاعه عن الجهود العربية المبذولة للتحديث النقدي، ومنه أساساً، جهود تقديم غولدمان نفسه باللغة العربية من جهة أخرى، كما ألمحنا إلى ذلك في هذا العرض الوجيز:
«إن الدافع إلى التعريف بناقد وفيلسوف فرنسي مثل لوسيان غولدمان هو الإشارة إلى التناول الأصيل والرؤية الفلسفية الشاملة. فلم يعد الناقد ذلك الخبير بالنحو والصرف والعروض وشذرات من التاريخ الأدبي، فالتراكم الثقافي يضطره إلى التعمق في أبحاث نظنها بعيدة عن مجال دراسته، ولكنها في الحقيقة أساسية لفهم هذه الظاهرة المعقدة التي ندعوها: الإبداع الثقافي»(28).
1-6- التحليل النفسي للأدب:
كانت استفادة النقد من التحليل النفسي الأسبق في المقاربات العلمية بالنسبة للعلوم الإنسانية الأخرى، ولكنها ظلت على الدوام محدودة، بل إن التأليف العلمي والنقدي في هذا المجال مبكر. ولعلنا لا ننسى هذه المؤلفات التي مارست تأثيرها طويلاً على نحو عميق، وإن كانت الأقل نحو تكون النقد الأدبي النفسي، إذ انصرف غالبية النقاد المعتبرين إلى إدغام التحليل النفسي أو إنجازات علم النفس في مناهجهم التكاملية التقييمية. وتعود هذه المؤلفات إلى أواخر الأربعينيات مع كتاب حامد عبد القادر (مصر) «دراسات في علم النفس الأدبي» (1949)، ثم توالت المصنفات التي وضعها المشتغلون بالفلسفة وعلم النفس، بالإضافة إلى نقاد الأدب، وهي: «علم النفس والأدب» (1962) لسامي الدروبي (سورية)، و«التفسير النفسي للأدب» (1963) لعز الدين إسماعيل (مصر)، و«من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده» (1970) لمحمد خلف الله أحمد (مصر)، و«الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة» (1970) لمصطفى سويف، و«الأسس النفسية للإبداع الفني في الرواية» (1975) لمصري عبد الحميد حنورة، و«الأسس النفسية للإبداع الفني في المسرحية» (1980) لمصري عبد الحميد حنورة أيضاً.
ثم توفر ناقد خصص جهده للنقد النفسي هو شاكر عبد الحميد (مصر)، فسار أولاً على درب مصطفى سويف ورواد علم النفس العرب الآخرين أمثال مصطفى صفوان ويوسف مراد، فألف أولاً في هذا المجال كتابه «الأسس النفسية للإبداع الأدبي، في القصة القصيرة خاصة» (1992)، وهو بالأصل أطروحة ماجستير نوقشت عام 1980 بإشراف العالم مصطفى سويف، رائد هذه الدراسات في الوطن العربي الذي قدم للكتاب، مشيداً بالموضوع وصاحبه، وبمعالجته المبتكرة والدقيقة لكثير من «الأطر النظرية الذائعة بين علماء النفس، كما يعالج موضوعين من أكثر الموضوعات جاذبية بالنسبة للأدباء والشعراء والفنانين عامة، وهما موضوعا الصور العقلية والخيال الإبداعي. ثم يقدم إسهامه العلمي الخاص في الميدان، وهو إسهام يتسم بالأصالة والتمكن والخصوبة»(29).
ومن الواضح، أن أمثال هذه الدراسات أقرب لعلم النفس والتحليل النفسي، منها إلى النقد الأدبي، حيث تضع المبدع وإبداعه في مختبر نفسي وسلوكي، وهو ما تؤكده اقتراحاته النهائية عن الكفاءة والتجديد في الإبداع، فانصرف عن الإبداع نفسه (النصوص) إلى مواد التحليل النفسي المختلفة ليحكم على القصة في ثنائية الأصالة والمؤثرات الأجنبية، أي تأثيرات المثاقفة الموصولة، على أن الإبداع أدخل في مفهوم كفاءة الحرفة، مميزاً إياها عن اندفاعة القصاصين إلى الجدة، تأثراً بمبدعين أجانب مثل تشيكوف وموباسان وأدجار آلان بو في البداية، خلال الأربعينيات والخمسينيات من هذا القرن، وهمنجواي وناتالي ساروت وجيمس جويس وآلان رون جرييه وميشيل بوتور في الستينيات والسبعينيات، وماركيز وبورخيس وكاواباتا في الثمانينيات. و«خلال ذلك كان بعض الأدباء يحاولون نحت طريقهم الخاص من خلال العودة إلى جذور القصة في التراث العربي، من خلال استلهام روح ألف ليلة وليلة، أو بعض الكتب التاريخية والصوفية، بحثاً عن المتخيل والغائب في النص العربي الحاضر»(30)، والحل برأيه، وهو نتيجة اختبارية بعيدة عن النصوص القصصية نفسها، هو المركب الضروري ما بين التمكن الحرفي والتجديد الأصيل.
وأخلص عبد الحميد لهذا النهج، أي دراسة الأدب بأدوات علم النفس والتحليل النفسي، في كتابه «الأدب والجنون» (1993)، الذي يتعرض لقضية ما تزال موضع خلاف، هي قضية العلاقة بين الإبداع الفني والمرض العقلي، أو «الذهان»، أو «الاضطراب العقلي»، أو «الاضطراب النفسي». وقد مهد عبد الحميد لبحثه بلمحة عن تاريخ المرض النفسي، والمرض العقلي في ذلك التداخل بين الخيال والأحلام والواقع، وعالج حالات محددة في تاريخ الأدب العالمي: شكسبير بين الجنون والتظاهر بالجنون، دستويفسكي ومشكلة القرين، وسترندبرج ودفاع رجل مجنون، وكافكا ضد بلزاك، وجماليات الجنون والأحلام، والمرض النفسي والإبداع الأدبي بين الفوضى والنظام الفوضى والنظام. إن عبد الحميد يحيل المبدعين وإبداعهم إلى حالات مرضية سلوكية، فكان «التركيز على شخصية المؤلف أكثر من أعماله الإبداعية، وقد كان المحور الأساسي الذي قام عليه منهج تحليل الأعمال الأدبية هو الاستفادة من بعض المفاهيم الشائعة في مجال الطب النفسي مثل مفاهيم الهلاوس، الهذاءات، تطاير الأفكار، اضطرابات شكل ومحتوى اللغة والكلام، الاضطرابات الوجدانية، اختلال الشعور بالذات وتفكك الشعور بالواقع، وغير ذلك من المفاهيم، ثم محاولة تحديد مدى معرفة الأديب المبدع بهذه المظاهر المختلفة من الاضطراب بطريقته الخاصة وقدرته على رصدها وتحليلها»(31).
وأكمل عبد الحميد جهده بتعريب كتاب أساس في مثل هذا الاتجاه هو «الدراسة النفسية للأدب The Pychological Study of Literature, Limitations, Posibilites, and Accomplishments» (1974 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1993) لمارتن لينداورM.Lindaur، وقد كرس عبد الحميد وجهة النظر في العلاقات الوثيقة «بين علم النفس والأدب، حيث أنهما يشتركان ـ رغم اختلاف مناهجهما ـ في الاهتمام بالخبرة والسلوك والشخصية الإنسانية»(32). ولذلك رأى في هذا الكتاب خطوة أولى على الطريق، لأنه يقدم فكرة يعدها «شديدة الأهمية وقادرة على حل الكثير من المشكلات في مجال علم النفس الأدبي، حيث يفتقر العاملون فيه ـ على قلتهم ـ للخبرة المناسبة بالمادة الأدبية، وفي مجال النقد الأدبي، حيث يفتقر العاملون فيه في كثير من الحالات إلى الخبرة المناسبة بالأبعاد النفسية، وتتمثل هذه الفكرة في قيام تعاون مشترك بين العاملين في هذين المجالين للبدء والتنفيذ لمشروعات بحثية علمية مشتركة في علم النفس الأدبي، وفي النقد الأدبي من منظور سيكولوجي»(33).
والحق، أن حركة التأليف والتعريف في علم النفس الأدبي لم تتوقف، فقد وضع خير الله عصار (الجزائر) كتاباً حمل عنوان «مقدمة لعلم النفس الأدبي» (1982)، وعلى الرغم من شكره الحميم لمصطفى سويف على جهوده الجبارة التي بذلها في كتابه «الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة»، وكان اعتمد عليه إلى حد كبير في كتابه، فإن كتابه هو نتيجة دراسة جامعية في معهد الدراسات الإسلامية في دنفر في كولورادو، كما تشير الملاحظة في مطلع الكتاب. ولكن عصار سعى كثيراً للاقتراب من النص الأدبي، موظفاً كشوفات التحليل النفسي لتغدو عناصر لمعرفة النص الأدبي، فحوى الكتاب الموضوعات التالية: علم النفس الأدبي: موضوعه وفوائده، المحاولات التأملية لتفسير الابداع الفني، الأسس الأولية للابداع، الأسس الفرويدية للابداع الفني، آليات الدفاع عن النفس ودورها في الإبداع الأدبي، مفاهيم نفسية-تحليلية، الإبداع الأدبي: نظريتا يونغ وبرغسون، عوامل مساهمة في تكون الشاعر، الابداع والنقد. على أن نتائج دراسة عصار لم تخرج عن إسار المفهومات الأساسية لعلم النفس، ولا يقلل هذا من قيمة الكتاب التعليمية، فقد زوده مؤلفه بتطبيقات تلي غالبية فصوله(34).
وترجم حسن المودن (المغرب) كتاباً أساسياً في هذا المجال لجان بيلمان نويل Jean Bellemin Noel هو «التحليل النفسي والأدب Psychanalyse et Litterature» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1997)، والكتاب يتضمن أحدث القراءات التي توظف «اللاشعور» في معرفة النص: القراءة مع فرويد، قراءة اللاشعور، أن يقرأ الإنسان نفسه بنفسه، قراءة الإنسان، قراءة الكاتب الإنسان، قراءة النص. وقد رهن المؤلف نجاح التحليل النفسي للأدب بحسن تطبيق نظارة فرويد الممتازة:
«أليس المهم هو تنظيفها بعناية، وأن نحسن وضعها على الأفق»(35) .
1. أنظر العدد الخاص من مجلة «فصول» (القاهرة) عن «لنقد الأدبي والعلوم الإنسانية» ـ المجلد الرابع ـ العدد الأول ـ أكتوبر ـ نوفمبر ـ ديسمبر 1983 ـ ص5.
2. كابانس، لوي: «النقد الأدبي والعلوم الإنسانية» (تعريب فهد عكام) ـ دار الفكر ـ دمشق 1982.
3. عدة مؤلفين: «الأدب والعلوم الإنسانية» (ترجمة يوسف حلاق) ـ منشورات وزارة الثقافة ـ دمشق 1986.
4. المصدر نفسه ص7.
5. رتشاردز، أ. أ: «مبادئ النقد الأدبي» (ترجمة وتقديم محمد مصطفى بدوي ـ مراجعة لويس عوض) ـ المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر ـ القاهرة 1962 ـ ص33.
6. ارنولد، ماتيو: «مقالات في النقد» (ترجمة وتقديم: علي جمال الدين عزت ـ مراجعة: لويس مرقص) ـ الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ القاهرة 1966 ـ ص14.
7. شورر، مارك (ورفيقاه): «النقد: أسس النقد الأدبي الحديث» (3 أجزاء) (ترجمة: هيفاء هاشم ـ مراجعة: نجاح العطار) ـ منشورات وزارة الثقافة والسياحة والإرشاد القومي ـ دمشق 1966-1967- الجزء الأول ـ ص8.
8. ديتشز، ديفيد: «مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق» (ترجمة إحسان عباس) ـ ص600.
9.. ويمزات، ويليام - وبروكس، كلينث: «النقد الأدبي: تاريخ موجز في أربعة أجزاء» (ترجمة حسام الخطيب ومحيي الدين صبحي) ـ مطبعة جامعة دمشق 1973-1975-1976.
10.هو، غراهام: «مقالة في النقد» (ترجمة محيي الدين صبحي) ـ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والعلوم والآداب ـ دمشق 1973 ـ ص5.
11. الخطيب، حسام: «أبحاث نقدية ومقارنة» ـ دار الفكر ـ دمشق 1973 ـ ص4.
12. هلال، محمد غنيمي: «النقد الأدبي الحديث» ـ دار العودة ـ بيروت 1987 ـ بيروت ـ ص10.
13. إسماعيل، عز الدين: «أما قبل» في مجلة «فصول» ـ القاهرة ـ المجلد 9 ـ العدد 3-4 ـ فبراير 1991 ـ ص4.
14. المصدر نفسه ـ ص4.
15. سلوم، تامر: «نظرية اللغة والجمال في النقد العربي» ـ دار الحوار ـ اللاذقية 1983 ـ ص12.
16. محمد، رمضان بسطاويسي: «الجميل ونظريات الفنون ـ دراسات في علم الجمال» ـ منشورات مؤسسة اليمامة الصحفية ـ كتاب الرياض ـ الرياض 1996 ـ ص ص328-328.
17. المسدي، عبد السلام: «في آليات النقد الأدبي» ـ دار الجنوب للنشر ـ تونس 1994 ـ ص11.
18. المصدر نفسه ـ ص12.
19. المسدي، عبد السلام: «مساءلات في الأدب واللغة» ـ مؤسسة اليمامة الصحفية ـ كتاب الرياض ـ الرياض 1994 ـ ص112.
20. كريستيفا، جوليا: «علم النص» دار توبقال للنشر ـ الدار البيضاء 1991 ـ ص5.
21. مصلوح، سعد: «في النص الأدبي: دراسة أسلوبية إحصائية» ـ منشورات النادي الثقافي الأدبي بجدة ـ جدة 1991 ـ ص7.
22. المصدر نفسه ـ ص10.
23. بركات، وائل: «مفهومات في بنية النص» ـ دار معد ـ دمشق 1996 ـ ص3.
24.مرتاض، عبد المالك: «النص الأدبي: من أين؟ وإلى أين؟» ـ ديوان المطبوعات الجامعية ـ الجزائر 1983 ـ ص ص4-6.
25.شحيد، جمال: «في البنيوية التركيبية ـ دراسة في منهج لوسيان غولدمان» ـ دار ابن رشد ـ بيروت 1982 ـ ص9.
26.جولدمان، لوسيان: «مقدمات في سوسيولوجية الرواية» (ترجمة بدر الدين عرودكي) ـ دار الحوار ـ اللاذقية ـ ص12.
27.زيما، بيير: «النقد الاجتماعي ـ نحو علم اجتماع للنص الأدبي» (ترجمة: عايدة لطفي ـ مراجعة: أمينة رشيد وسيد البحراوي) ـ دار الفكر ـ القاهرة 1991 ـ ص ص6-7.
28.خشفة، محمد نديم: «تأصيل النص ـ المنهج البنيوي لدى لوسيان غولدمان» ـ مركز الإنماء الحضاري ـ حلب 1997 ـ ص7.
29.عبد الحميد، شاكر: «الأسس النفسية للإبداع، في القصة القصيرة خاصة» ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 1992 ـ ص ص7-8.
30.المصدر نفسه ـ ص432.
31. عبد الحميد، شاكر: «الأدب والجنون» ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 1993 ـ ص7.
32. لينداور، مارتن: «الدراسة النفسية للأدب» (ترجمة شاكر عبد الحميد) ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ القاهرة ـ الط2 ـ 1996 ـ ص7.
33. المصدر نفسه ـ ص8.
34. عصار، خير الدين: «مقدمة لعلم النفس الأدبي» ـ ديوان المطبوعات الجامعية ـ الجزائر 1982 ـ انظر على سبيل الصفحات: 26 و27، 40-42، 57-59، 70-71، 92-95، 117-120، 136-138، 158-160، 178.
35. نويل، جان بيلمان: «التحليل النفسي والأدب» (ترجمة حسن المودن) ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ المشروع القومي للترجمة ـ القاهرة 1997 ـ ص123.
2- اتجاهات الجديدة المتصلة بالعلوم الإنسانية في الممارسة:
2-1- النقد الأدبي والفلسفة:
تثار علاقة النقد الأدبي بالفلسفة، بوصفهما نظامين من التفكير يتوازيان في جوهرهما، كما في مقالة زكي نجيب محمود الآنفة الذكر، فثمة تقاطعات بينهما في صلات التفلسف بمعنى إعمال التفكير الحكيم في الظواهر المختلفة، والنقد بمعنى تقليب وجوب الاشتغال النصي في أبعد من الاستبصار والرؤية، إلى إبداء الرأي الحكيم، والتاريخ بمعنى إندغام الرؤية بحاضنتها التاريخية والاجتماعية، والأخلاق، بمعنى نقد النصوص في مرتجاها الأخلاقي خلل مفردات المسؤولية والضمير والواجب والتسامي وغير ذلك.
غير أن النقد الأدبي في علاقته بالفلسفة، غالباً ما عني بالأفكار، وتقصيها داخل النصوص الأدبية، وتقدم مؤلفات وفاء إبراهيم (مصر) نموذجاً لمثل هذه الممارسة كما في كتابيها «فكرة التاريخ في أدب نجيب محفوظ» (1995) و«الفلسفة والأدب عند نجيب محفوظ: قراءة فلسفية لبعض أعماله» (1997)، ومما يجدر ذكره أن الكتاب الأول يشكل جزءاًمن الكتاب الثاني، أو أن المؤلفة أعادت نشره ضمن الكتاب الثاني. ويلاحظ أن المؤلفة لا تهتم بالمهاد النظري لمنهجها في علاقة النقد الأدبي بالفلسفة، أو بالتاريخ، وهو أحد التقاطعات الرئيسة بينهما، فعالجت فكرة التاريخ والرؤية الأدبية للتاريخ مباشرة من خلال نظرة نجيب محفوظ إليها منذ ترجمته لكتاب جيمس بيكي «مصر القديمة» (1932) عن الإنجليزية، على أن التاريخ، برأيها، في التناول التأملي مفهوم كلي، وفي الرصد الواقعي مردود جزئي.
وقد اختارت لهذه الدراسة «التاريخ من حيث هو فكرة تأملها عقل أديب متفلسف، تحرى طبيعة التاريخ كفكرة كلية لا كوقائع جزئية، وقد تتبعنا تأملات نجيب محفوظ لمفهوم التاريخ وطبيعة الحركة فيه، وذلك من خلال النصوص التي أفردها الرجل لهذا الغرض على مدى نشاطه الإبداعي الزاخر المديد»(1).
وهكذا، انصرف بحث إبراهيم إلى معالجة التاريخ في المنظورات التالية: خطة إلهية، التركيبة النفسية، فعل البطل، صيرورة، فعل التحدي والاستجابة، إشكالية الوعي الحائر، اهتراء الوعي بالتاريخ، طلباً لفهم فكرة التاريخ عند نجيب محفوظ التي وجدتها تنحصر في الاحتمالات الثلاثة التالية:
1- أن تكون الصور السابقة مؤلفة لمنظومة واحدة Matrix تبدأ من إدراك أن التاريخ قد بدأ حركته كخطة من وضع الإله (عبث الأقدار)، ثم وضع الإنسان يده على موضع القدر في تحقيق هذه الخطة، فإذا به التركيبة النفسية التي في داخله (رادوبيس)، فأغراه ذلك بإمكانية ردّ الأمر كله إلى فاعلية فعله الفردي كبطل (كفاح طيبة)، فلما جرفه تيار حركة التاريخ في عنف عبر مخاضات تفضي إلى مجهولات خارجة عن توقعه وسيطرته (الباقي من الزمن ساعة)، أفسح المجال للحضارة جاعلاً من حركة التاريخ محصلة لمواقف التحدي والاستجابة (أمام العرش)، وراح ينشغل بإدارة السؤال عن الحقيقة فيما يحدث في التاريخ من وقائع (العائش في الحقيقة)، فلما أعياه البحث بغير طائل اهترأ بالتاريخ، أو سقط وعيه التاريخي (يوم قتل الزعيم).
2- أن يكون نجيب محفوظ قد أراد بمجموعة رواياته التاريخية إثبات أن التاريخ في مصر قد امتازت حركته بالثراء بحيث إنها قد استوعبت ـ عبر الأزمان ـ كل التصورات الفلسفية المطروقة في مجال تأمل التاريخ.
3- أو أن يكون نجيب محفوظ قد أراد برواياته التاريخية أن تكون صياغة أدبية لنظريات أكاديمية في التاريخ، تشرحها وتبسطها.
لقد حولت إبراهيم المنهجية كلها إلى شرح للأفكار، لا يبتعد عن تقديرها لشغلها النقدي في أنه «قراءة نصية للروايات التاريخية عند نجيب محفوظ»(2).
وأفصحت إبراهيم في مقدمة كتابها الثاني عن مسعاها وطريقتها في النقد بقولها: «هذه محاولة لرؤية الأدب بعين الفلسفة، وقد أغرانا على تطبيقها على أدب نجيب محفوظ أمران: الأول عمق هذا الأدب في حدّ ذاته، والثاني، الرغبة في استجلاء دور الدراسة الفلسفية التي تلقاها نجيب محفوظ بالجامعة في أدبه الروائي»(3).
تعتقد إبراهيم أننا لا يمكن أن نتجاهل الفلسفة في البناء الروائي عند نجيب محفوظ، فتميزت مقاربتها لنموذج «ليالي ألف ليلة» (1979) بالموازاة الدؤوبة بين الفلسفة والبنية الروائية، فهذا النموذج يعكس، برأيها، «على نحو جيد واحدة من أهم نظريات الفلسفة الحديثة في الوجود والمعرفة على نحو يكاد يقطع بوجود هذه النظرية في صميم بناء العمل كله، خاصة وإن (ليالي ألف ليلة) رواية من النوع الذي يسميه علماء الأدب والنقد باسم «التناص»، أي تركيب «نص» على «نص آخر» مع المغايرة في الدلالة المستهدفة، فنجيب محفوظ ينسج روايته على نسيج «ألف ليلة وليلة» المعروفة في الآداب الشعبية، ويعتمد على شخوصها المعروفين للكافة، لكنه يُوظف النص الشعبي القديم توظيفاً فكرياً جديداً من خلال أشهر نظريات الفلسفة في العصر الحديث.. نظرية الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط KANT (1734-1804) في نقد العقل والمعرفة والوجود»(4).
أطلقت إبراهيم على دراستها عنواناً مثيراً هو «جدل الحلم والواقع: قراءة كانطية»، حيث «يفحص نجيب محفوظ، فحصاً نقدياً، طبيعة الحلم الذي يصلح لتشكيل الواقع، كما يفحص طبيعة العلاقة بين عالم الحلم وعالم الواقع، فالرؤية، إذن، ليست استلهاماً للموروث الشعبي، وإنما هي نظرة نقدية للعلاقة بين نوع الخيال فيه، وبين قدرة هذا الخيال على تشكيل الواقع، أو أن يكون إمكاناً للواقع»(5).
وضعت إبراهيم لبحثها خلفية فلسفية عن شهريار وحكايات شهرزاد، وعالجت موضوعها في قسمين هما: عالم الشيء في ذاته أو منطقه أو عالم اللاحلم، وعالم الظواهر أو منطقة جدل الحلم والواقع. ويشير وصف كل شخصية إلى عناصر في رؤيتها الكانطية أو الفلسفية:
- المعلم سحلول تاجر المزادات والتحف:(خصائص عالم الشيء في ذاته).
- الشيخ عبد الله البلخي:(استبعاد المعرفة من أجل الإيمان).
- جمعة البلطي: (العود الأبدي أو الخلوص من عجلة الميلاد والموت).
- السندباد: (الإطار الكوزمولوجي والخواء الأنطولولجي ـ ثغرة للحلم).
- الطبيب عبد القادر المهيني: (الحلم في الواقع والوعي بالثنائية).
- صنعان الجمالي: (تأسيس الحلم على التجاوز)
- عجر الحلاق: (تأسيس الحلم على الوهم).
- فاضل صنعان وطاقية الإخفاء:(تأسيس الحلم على الأسطورة).
- علاء الدين أبو الشامات:(من عدم الحلم لعدم القرار).
- السلطان أو حكاية إبراهيم السقا:(تطابق الحلم والواقع).
- نور الدين ودنيا زاد: (البحث عن الحلم في الواقع).
- معروف الإسكافي:(تحدي الحلم بالواقع).
أشبعت إبراهيم نقدها الروائي بنظام التفكير الفلسفي ومنهجيته ومصطلحه في دراسة «ليالي ألف ليلة»، فجاوزت مستوى نقدها الروائي لفكرة التاريخ في الدراسة الأولى، على أنه مجرد شرح للأفكار، وهذا نموذج يفصح عن ارتقاء النقد بنظامه الخاص إلى إدغامه بنظام فلسفي معرفي غير متعسف:
«حاول الشيخ البلخي أن يكون منهجياً مع الفتى علاء الدين، فأمده بقاعدتين، قاعدة التطهير Purgation: «عليك قبل أن تتلقى الخمر أن تطهر الوعاء، وتنقيه من الشوائب»، والثانية قاعدة الاستبصار Insight: «عليك أن تعرف نفسك»، والقاعدتان تؤلفان معاً بداية نقدية Critique»(6).
استندت إبراهيم إلى إنجاز النقد الروائي والقصصي العربي في تطوير النقد الأدبي المشبع بالنظرة الفلسفية ونظامها المعرفي، فثمة أبعاد ثلاثة للتاريخ، العلم والفن والفلسفة، بتعبير لويس جوتشوك Louis Gotichalk، وثمة التقاء بين التأريخ والرواية في صوغهما مواضع اهتمامها، أو بعبارة أخرى، يقرران الأحداث التي ستصير حقائق، ويفيد ذلك وحدة مسار التخييل في التعامل مع الواقعة مما تنظمه الرؤية خلل أنساق التنضيد الحكائي: «إن كل الوثائق أو الآثار التي يستخدمها المؤرخون ليست براهين محايدة لإعادة بناء الظواهر المفترضة أن لها وجوداً مستقلاً عنها، فكل المعلومات التي يتم التوصل إليها من خلال عملية جمع الوثائق، والطريقة التي تؤدى بها، هي ذاتها حقيقة تاريخية تحد من مكانة المفهوم الوثائقي للمعرفة التاريخية. إن هذا النوع من الرؤية هو الذي أدى إلى نشأة سيميوطيقا التاريخ، لأن الوثائق تصبح إشارات إلى أحداث يقوم المؤرخ بتحويلها إلى حقائق»(7).
إن الرواية، في أحد وجوهها، معرفة بالتاريخ، وقد برهن ناقد متنور هو رشيد العناني (مصر) في كتابه «عالم نجيب محفوظ من خلال رواياته» (1988) على أن الرواية سرد يقبض على جوهر التاريخ أو معناه، بينما التاريخ سرد لمظهر التاريخ أو توالي وقائعه بالاعتماد على وثائقه وسجلاته، فقدم العناني تحليلاً معمقاً يقارب النقد الأدبي بمنهجية الفلسفة، وأوضح علاقة أدب نجيب محفوظ بتاريخ مصر الحديث في دراسته «نجيب محفوظ بين قضايا السياسة والدين» على وجه الخصوص، وأضاء بالتحليل النقدي التفات محفوظ عن الماضي المثالي حسب تصور الأذهان التي سحقها الواقع الموجع، مفضلاً البقاء على أرض الواقع، والنظرة الموضوعية للماضي والحاضر معاً، ولا يفقد أبداً إيمانه بالمستقبل كما كان دأبه دائماً، و«هذا، في رأينا، جوهر رسالة محفوظ إلى القارئ ورأيه الظاهر المستتر. إن «العائش في الحقيقة» هو عنوان ينطوي على مفارقة. وليس أخناتون إلا «عائشاً في الخيال» أو الغيب أو الوهم أو ما شاء القارئ من مرادفات. بعبارة أخرى يريد محفوظ أن يقول إن حقائق الدين شيء، وحقائق الدنيا شيء آخر. وأن الدول لا تقوم على التعصب الديني، وإنما على حرية العبادة والمساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء النحل والديانات. إن هذه الرواية هي رسالة محفوظ للتيارات الدينية المتعصبة، وهي ردّه على الدعوة المتصاعدة لتطبيق الشريعة الإسلامية في وجه كل الاعتبارات، وهي تحذيره بشواهد التاريخ من الانجرافات في تيار معلوم المصير»(8).
وكان نظر أحد النقاد، هو محمد صدّيق (فلسطين)، إلى الرواية بوصفها معرفة معياراً فنياً وفكرياً في الوقت نفسه، فهي مطالبة بالإضافة إلى تراثنا المعرفي، ودعا إلى إمعان النظر في البعد الفلسفي للرواية، وانعكاسه على وعي مشكلة المعرفة، «فالخطاب الروائي جزء من الخطاب العام، وما لم تتوفر وسائل المعرفة في المجتمع، فلن تتوفر للكتاب، وهم نتاج هذا المجتمع، وبالتالي لا يمكن أن تتوفر المعرفة في أعمال تحاكي بنية هذا المجتمع. ولهذا تبقى إشكالية المعرفة في الرواية العربية وخارجها أمراً ملحاً يقتضي إعادة التفكير والنظر»(9).
لقد دخل النقد الروائي والقصصي المشبع بالروح الفلسفية واشتغالاتها المعرفية نسغ الممارسة النقدية، كما أوضحت النماذج السابقة، بل إن نقاداً آخرين، مثل خيري منصور (مصر) رأوا أن قيمة تطوير الروائي العربي، ونموذجه الأفضل نجيب محفوظ لتأريخية الرواية ومكنونها المعرفي تكمن في إدغامه وعي التاريخ في الاعتمال اليقظ بالهوية القومية، بما هي ذروة هذا الوعي:
«أما محفوظ، فقد جعل من منجز روائي وقصصي على امتداد نصف قرن ما يؤهل هذا المنجز لتحرير الرواية العربية من كونها فناً غربياً، طارئاً، رغم محاولات التأهيل المشحونة باعتزاز قومي، وجعلها رواية عربية جديرة بهذا الانتساب، فمحفوظ كان منهمكاً في اكتشاف هذه القارة، بينما كان الآخرون (الرافعي مثلاً) يطالبون بمعاقبة من يقترف هذا الفن: الرواية»(10).
ثم جاهر نقاد آخرون مثل واسيني الأعرج (الجزائر) في بحثهم عن خصوصية الرواية العربية باكتنازها لرؤى التاريخ المتغيرة، معرفة تفترض في الوقت نفسه قطيعة معرفية مع النصوص السردية القديمة التي أقلقت المقدس، بمعناه الديني والاجتماعي، وهي مسألة تحتاج إلى نقاش، فقد رأى أن هذه القطيعة تأسست في مظاهرها العامة على مجموعة من المحرمات:
* إن هذه النصوص تمتلك طاقات تعبيرية محدودة، حرة في قصصها، في سردها، في عملية حكيها، وفي مفرداتها.
* منضدة على بنيات متنوعة، وغير محدودة، وتحتاج إلى عقل فاعل لاستخراج ضوابطها وقوانينها التي تتحرك ضمنها.
* اعتبار المنتوج الثقافي الشعبي في درجة دنيا من الأهمية قياساً إلى الثقافة الرسمية المؤسسة داخل بنيات يصنعها الجهاز المهيمن.
* الحضور المكثف للطابو الاجتماعي والديني والسياسي واللغوي الذي يرفضه عقل النص، النص المحاط بمجموعة من الثوابت والمقدسات، واعتبار النص السردي مناقضاً، منافساً للنص الأصلي/ المقدس(11)؟
لعل هذه النماذج النقدية كافية لتبيان الشأو الذي بلغه النقد الروائي والقصصي المشبع بالارتسامات الفلسفية من خلال المفاصل الأدق: التاريخ، الوعي، الرؤية، الأخلاق، الذات، الأفكار.
2-2- النقد الأدبي وعلم النفس:
لم يتيسر للنقد الأدبي المتأثر بالتحليل النفسي انتشاراً في الممارسة النقدية العربية، على الرغم من اتساع عمليات التعريف به في النقد الأدبي العربي الحديث على نحو مبكر، وعلى الرغم من وفرة الجهود النظرية المترجمة والمؤلفة، كما رأينا تطورات علاقة النقد الأدبي بالعلوم الإنسانية. ثم مازج التحليل النفسي شيء من نزوعات الحداثة حتى غدا التحليل النفسي منهجاً من مناهج النقد الأدبي الحديثة، كما يبين ذلك كتاب «مدخل إلى مناهج النقد الأدبي» (1990 وظهر بالعربية للمرة الأولى بعنوان «مقدمة في المناهج النقدية للتحليل الأدبي» بترجمة وائل بركات وغسان السيد عام 1994، وللمرة الثانية بالعنوان المذكور، 1997)، إذ خصص الفصل الثاني من الكتاب للنقد التحليلي ـ النفسي، وحاول فيه مؤلف هذا الفصل مارسيل ماريني Marcelle Marini أن يضع أسساً للمنهج بالاعتماد على قاعدة أساسية تتبدى في المسافة بين الأريكة والمقعد، وعلى أن التحليل النفسي هو تجربة مسرحها اللغة حصراً، ثم يليها التأويل، فالقراءة التحليلية النفسية، تسمح باستدعاء التحليل النفسي للأدب، ولا سيما السرد أو الحكي الدرامي، وتوقف عند الحلقة الدراسية لـ لاكان Lacan التي خصصها لـ«الرسالة المسروقة» لإدغار آلان بو، وقيمتها في كشف دراما المابين ـ ذاتية ومنطق اللاوعي، ومضى إلى إنجازات نقاد آخرين مثل لافورج Laforgue وكريستيفا وفيليب لوجون وغيرهم، انتقالاً إلى نقد شارل مورون Ch.Mauron النفسي في ممارسته للمطابقات والتشكيلات التصويرية والمواقف الدرامية والأسطورية الشخصية ومقام الدراسة السيرية، وإلى مجمل التوجهات الجديدة في التحليل النفسي مثل لا وعي النص حسب جان ـ بيلمان نويل J. Belleman Noel، وجوليا كريستيفا والتحليل النفسي السيميائي Semanalyse، وهما مدرستان تحولان التحليل النفسي إلى ممارسة نقدية في صلب إشكاليات الاتجاهات الجديدة.
مع نويل، «تأتي جملة جميلة لتعيد الناقد إلى ممارسته الحقيقية، إنه حوار عادل مع الآخر، بينه هو نصف الأبكم، وبيني أنا نصف الأصم، ونقع على خصوصية هذا اللقاء غير المتزامن En.Decalage حول النص، فالكاتب يكتب من أجل جمهوره الداخلي، والقارئ يبني لنفسه مؤلفاً في قراءته»( ).
بينما تستدعي ثيمية المفاهيم Fetichisme des Concepts «فهم النظرية التحليلية كحقل للأبحاث المتنوعة والمتضاربة أحياناً لا كمذهب نذر لاستبعاد كل ما يهدد التقليد العام. وها نحن إذن قد توغلنا في صميم المشكلات المعاصرة»( ).
وكانت ترجمة كتاب نويل «التحليل النفسي والأدبي» (1972) قد ظهرت بالعربية عام 1997، وفيه معجم بالمصطلحات المتصلة بالنقد الأدبي الذي يستهدي بالتحليل النفسي، مثلما استعرض مؤلفه المحاولات الكثيرة والشاملة لصيغ «تدخل المنظور النفساني تجاه المظاهر المتعددة التي من خلالها يكون الأدب حاضراً، حياً، فعالاً إلى فئة من الناس تتمنى أن يزداد اتساعها»( ).
وخصص جون ستروك محرر كتاب «البنيوية وما بعدها: من ليفي شتراوس إلى دريدا» (1979 وظهرت ترجمته بالعربية 1996) فصلاً لجان لاكان كتبه مالكولم بري الذي أنجز تحليلاً مدهشاً نفسياً ـ لغوياً يستند إلى بعد فلسفي ثر، ولا سيما تناوله للعلاقات القائمة بين الرمزي والخيالي في إطار يعيد للتحليل النفسي الكثير من الأجواء الأخلاقية الرزينة المعروفة لدى فرويد في أعماله الأساسية، «كذلك يمتد أثر لاكان بعيداً خارج مجال التحليل النفسي، وأحد الأسباب الرئيسة لذلك هو أن كتاباته تقدم نفسها بشكل مقصود على أنها نقد لكل أنواع الخطاب والأيديولوجيات»( ).
غير أن الكتاب الأهم في التعريف بكشوفات التحليل النفسي في النقد الأدبي هو «رواية الأصول وأصول الرواية: الرواية والتحليل النفسي» (1972 وظهرت ترجمته بالعربية 1987)، وقيمة الكتاب، وهي هامة جداً، تكمن في فصل الناقد الأدبي بين لا شعور الروائي، ولا شعور البطل الروائي، أو كما قال جان ايف تادييه عنه في كتابه «النقد الأدبي في القرن العشرين» (1987 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1993): «قراءة النص بالنسبة لمارت روبير تعني استخلاص تصنيف فرويدي يجعل معرفة السيرة الذاتية عديمة المنفعة»( ).
إن نقطة الاهتمام في كتاب مارت هو التحليل النفسي للرواية دون التعويل على تماهيها مع سيرة الروائي، بل أن يكتفي التحليل بأدواته المنهجية والمعرفية والنقدية، وقد حاول انطون مقدسي (سورية) في مقدمته الطويلة للكتاب بالعربية، أن يشرح وحدة الأصل التي تجمع بين الرواية والروائي، ثم ما تلبث أن تستقبل الرواية بشخوصها عن الروائي: «إن الرواية في التحليل النفسي هي مجموع الاستيهامات، فالطسم والصور التي يبتدعها الروائي، وبها يستعيد، على شكل غير مباشر، استيهامات وصور أقدم كانت في حينها الصدى الأول للرغبات المكبوتة والتعبير الأقرب إليها. وهذه الرغبات هي بالأصل جسدية، ولا يمكن التمييز في الرغبات، بين الفردي والاجتماعي. وتتكون الرواية، أول ما تتكون، على غرار أحلام اليقظة، أي بين الحلم والواقع، الوهم والحقيقة، اللاشعور والشعور، الذاكرة الأولى والراهن.. ويبلورها التعبير في نص هو حصيلة إعداد طويل يختفي وراء مسافات من الحجب الكثيفة منها الأسطورة الأسرية الأولى التي يستطيع التحليل النفسي وحده كشفها»( ).
ويضيء مقدسي قابليات التحليل النفسي للنقد الروائي والقصصي بقوله:
«وباختصار فإن السرد حاجة، والرواية الحديثة ضرب من ضروب تلبية هذه الحاجة، وكذلك في الماضي، ألف ليلة وليلة والمقامات وغيرها. إلا أن في الرواية، وفي كل كتابة أخرى، شيئاً آخر هو الذي يجعل القول وفنونه ممكناً، أقصد فائض الإنسان عن ذاته الذي هو رصيده، يوظفه لإنشاء ذاته وعالمه؟ أو ليوجد، والرواية ضرب من ضروب الوجود»( ).
أقول، على الرغم من الشغل النظري والتعريفي بمنهج التحليل النفسي في النقد الأدبي في أحدث تجلياته، إلا إن استعماله التطبيقي على أيدي النقاد العرب ظل محدوداً، باستثناء حالة باهرة ومتألقة في نقد جورج طرابيشي (سورية)، فقد اقتصر عند سواه، وهم قلة، على تحويل الرواية أو القصة إلى سياقهما النفسي، ويصير النص الأدبي إلى برهنة على العقد والاضطرابات النفسية، ليغدو الإنسان سديماً في قطيع، وخير ما يعبر عن هذا النزوع المغالي في تحويل النص الأدبي وصاحبه إلى مادة علاجية على سرير التحليل النفسي هو كتاب مصطفى حجازي (لبنان) «التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» (1976)، فترى إلى الإنسان محكوماً بتخلفه، في «نوعيته وخصوصية وضعه، وبشكل حي وواقعي، لتكون مرتكزات علم نفس التخلف. بذلك وحده يمكننا أن نضع أخيراً حداً لإلباس هذا الإنسان القوالب النظرية، والتفسيرات الموضوعة لإنسان العالم الصناعي، والتي أدت إلى تعميمات متسرعة كان من نتيجتها أنها حادت عن غرضها المعرفي، نظراً لما تحمله من خطر إخفاء وطمس الواقع الحقيقي»( ).
ولنلاحظ المفردات: نوعية الإنسان المتخلف، الباس الإنسان القوالب النظرية.. الخ، وكأنه في مختبر يعالج فيه الكائن جامداً، أو هو في وضع حتمي. ومن شأن ذلك أن يجعل الأدب رهين النماذج النفسية المرضية، أو أن تغدو النصوص الروائية والقصصية ميداناً لشرح معطيات التحليل النفسي، كما هو الحال مع غالبية البحوث التي وضعها مصطفى سويف، ومصري عبد الحميد حنورة، وشاكر عبد الحميد، مما أشرنا إليه من قبل، ويندرج في هذا التحليل كتاب روزماري شاهين (لبنان) «قراءات متعددة للشخصية ـ علم نفس الطباع والأنماط: دراسة تطبيقية على شخصيات نجيب محفوظ» (1995، وقدم له محمد أحمد النابلسي)، ويرى فيه مقدمه «إن الكتاب ينقلنا من نظريات علم الطبائع إلى نظريات الطب النفسي وعلم النفس بفلسفاتها المختلفة، حيث التشخيص يعتمد على بنود من السلوك المرضي بعيداً عن الشكل الخارجي لجسم المريض وعن تشريحته وفيزيولوجيته الأساسية»( ).
أما الجزء المخصص للدراسة التطبيقية على شخصيات نجيب محفوظ فلا يتعدى أربعاً وعشرين صفحة من أصل مائة وست وخمسين صفحة، هي عدد صفحات الكتاب، وقد ناقشت فيه الحالات التالية:
حالة من الطبع المعادي للمجتمع: حامد عمر عزيز في رواية «حديث الصباح والمساء».
حالة من الطبع العظامي: حليم عبد العزيز داوود في الرواية نفسها.
حالة من الطبع التجنبي: صابر (الهذيان) في رواية «همس الجنون».
حالة من الطبع النرجسي: دنانير صادق بركات في رواية «حديث الصباح والمساء».
حالة من الطبع الهستيري: نجية في رواية «حكايات حارتنا».
وتشير ملاحظات شاهين الختامية على وكدها في التماس تطبيقات نصية من روايات نجيب محفوظ للنظريات النفسية على سبيل الشرح والإيضاح، كما في قولها:
«ولا تكمن الصعوبة في الطباع نفسها، ولا في تصويرها للواقع البشري، بل في التوفيق بين هذا الواقع وهذه التصنيفات النظرية»( ).
ولا شك في أن النموذج الأبرز والأكمل للناقد الأدبي الملتزم بمنهج التحليل النفسي هو جورج طرابيشي في كتبه الكثيرة: و«لعبة الحلم والواقع: دراسة في أدب توفيق الحكيم» (1972)، «الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية» (1973)، و«شرق وغرب: رجولة وأنوثة» (1977)، و«الأدب من الداخل» (1978)، و«رمزية المرأة في الرواية العربية» (1981)، و«عقدة أوديب في الرواية العربية» (1982)، و«الرجولة وأيديولوجية الرجولة في الرواية العربية» (1983)، و«أنثى ضد الأنوثة: دراسة في أدب نوال السعداوي على ضوء التحليل النفسي» (1984)، و«الروائي وبطله: مقاربة اللاشعور في الرواية العربية» (1995)، على أن طرابيشي لم يلتزم بهذا المنهج دائماً، بل تطورت ممارسته النقدية من المزاوجة الأيديولوجية النفسية كما في أعماله حتى عام 1983، إلى تغليب التحليل النفسي على الأيديولوجية في كتابه عن نوال السعداوي، إلى الإخلاص للتحليل النفسي وتسويغه واستقامته منهجاً نقدياً شديد السطوع في كتابه الأخير «الروائي وبطله».
استخدم طرابيشي جذاذات من التحليل النفسي في منهجه النقدي الأيديولوجي الأقرب إلى الفلسفة ونظامها المعرفي في كتابيه الأولين عن توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، ثم حاول تكييف التحليل النفسي لحاجات النقد الفكري أو الفلسفي المتجرد من التطرف العقائدي في كتبه عن تجنيس الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، أو رؤية الأدب في مطاويه الكامنة والمضمرة، أو إضاءة الرواية العربية بأبعادها المجازية والرمزية، وهذا واضح في كتبه «عقدة أوديب في الرواية العربية» و«الرجولة وأيديولوجية الرجولة في الرواية العربية» على وجه الخصوص، ففيهما تلمس طرابيشي منطلقاته المنهجية لأول مرة، وقد دخلها التحليل النفسي، وأصاب تكوينها كله، فاعترف في «عقدة أوديب» بالتحليل النفسي منهجاً، على أنه «نقطة انطلاق لا نقطة وصول، فنحن لا نريد اختزال النص الأدبي إلى سياقه النفسي، بل نطمح، من منطلق هذا السياق، إلى الكشف عن أبعاد جديدة للنص الأدبي، وهي أبعاد قد تبقى معتمة إذا لم تستكشف على ضوء منهج التحليل النفسي»( ).
لقد كتب طرابيشي نقده على هدي التحليل النفسي في كتبه «شرق وغرب» و«الأدب من الداخل» و«رمزية المرأة في الرواية العربية»، ولكنه لم يعن بالمنهج، فانشغل بإطار الموضوعات المعالجة في بعديها الفكري والفني في الأولين منها، بينما خلا الكتاب الثالث من تصدير مستوعب لهذا الاستعمال المتصاعد والكبير للتحليل النفسي، ليخوض في قراءات روائية: هي قراءة على مرحلتين: رواية عبدالرحمن منيف «حين تركنا الجسر»، و«هجاء التصور الجنسوي للتاريخ: قراءة في رواية «غرفة المصادفة الأرضية» لمجيد طوبيا، وقداسة الوظيفة ووظيفة القداسة: قراءة مزدوجة رواية نجيب محفوظ «حضرة المحترم»، ورمزية المرأة في الرواية العربية، وهي قراءة في روايات كثيرة. وتعكس قراءات هذا الكتاب ذلك التداخل المنهجي في خيار الناقد، كما في قوله:
«أما الناقد الأدبي فليس له بديل عن التعامل مع وعي البطل الروائي، لأن هذا البطل إن كان له من لا وعي، فمكمنه ليس فيه، وإنما في امتداده في وعي الفنان خالقه، أو ربما في لا وعيه»( ).
ولعل طرابيشي تنبه، تالياً، منذ كتابه «عقدة أوديب»، كما ألمحنا، إلى العناية بالملاحظات المنهجية للنقد الذي استغرق في التحليل النفسي شيئاً فشيئاً، ونفى أن يكون نقده، مثل دراسة فرويد عن دوستويفسكي، ودراسة جونز عبر شخصية هملت، فهما لم يقرأ الأدب إلا بغية تأسيس التحليل النفسي العام، ثم ما لبث أن احترز إزاء المضي في تطبيق كشوفات علم النفس، فمنهجه ليس تحليلياً نفسياً خالصاً، لأن «هذه الدراسة لا تخفي انتماءها الأيديولوجي، كما لا تخفي تعاملها مع الرواية من منطلق وظيفتها الأيديولوجية المتضامنة مع وظيفتها الجمالية، ومع ما يمكن أن نسميه بطانتها النفسية»( ).
وصاغ طرابيشي منطلقاته بمنتهى الوضوح في تقديمه لكتابه «الرجولة وأيديولوجيا الرجولة في الرواية العربية»، فهذه الدراسة «لا تنطلق من السيكولوجيا لتنتهي عندها، بل طموحها أن تكون في الوقت نفسه نقدية ـ أيديولوجية»( )، ويظهر التكييف المنهجي المغالي كأظهر ما يكون في توضيح الناقد لتباين خياري الأيديولوجيا والتحليل النفسي، كما في قوله: «فالأيديولوجيا، من حيث أنها اختيار راشدي لا طفلي، تظل هي المجال الأول لتدخل الحرية الإنسانية لدى الكاتب»( ).
ونفى طرابيشي عن منهج التحليل النفسي الاختزالية، معرباً عن «طموح منهجه، ليس أن ينكص من التظاهرات إلى العقدة، بل أن يتقدم من العقدة إلى التشكيلات السكولوجية ـ الأيديولوجية»( ).
ويتضح منهج طرابيشي في التحليل النفسي بجلاء في كتابه «الروائي وبطله» الذي يضاهي أحدث كشوفات هذا المنهج في صدوره عن النص الأدبي مستقلاً، وفي توجهه إلى لا شعور الرواية أولاً وأخيراً: «والحال أن المسار الذي نلزم أنفسنا به هو عكس ذلك تماماً، فنقطة وصولنا، كما نقطة انطلاقنا، هي النقد الأدبي. وليس التحليل النفسي الذي بين يدينا إلا أداة منهجية، ولا ندعي أننا نقدم كشوفاً جديدة في مجال التحليل النفسي، بل ينبغي توظيف كشوف التحليل النفسي في خدمة النقد الأدبي. ومن ثم فإن الكاتب بحد ذاته لا يعنينا بكثير أو بقليل. ونحن لا ندعي إطلاقاً أن في إمكاننا المماهاة بين الروائي وبطله، أو تجسير الهوة بين لا شعور كل منهما»( ).
وحدد طرابيشي منهجه على نحو أدق، تحديثاً وتطويراً، «فالرواية ليست سيرة ذاتية، بل إن رواية السيرة الذاتية لا ينبغي أن تقرأ على أنها سيرة ذاتية، فالرواية عمل فني، والفن في الإنسان طاقة حرية، وككل ما هو إنساني، فإن العمل الفني قد يكون حقلاً للسببيات، ولكنه ليس بحال سلسلة من حتميات»( ). وقد حوى الكتاب دراستين، الأولى طويلة، هي«بحار حنا مينة أو التماهي المستحيل مع الأب»، والثانية أقصر بعنوان «من تفكك الذات إلى إعادة بناء العالم: قراءة في رواية «بدر زمانه» لمبارك ربيع».
طور طرابيشي إنجازات التحليل النفسي في صوغ بديع لنقد أدبي حديث في مناوشة لا وعي النص من جهة، وفي اعتماد التحليل النفسي الدلالي من جهة أخرى، دون أن يقحم الراشدي في الطفلي، فقد وجد في روايتي حنا مينة ومبارك ربيع المدروستين أنهما استطاعتا «أن تتحررا إلى حدّ غير قليل من وطأة الإكراهات الأيديولوجية العاملة تحت أمرة الوعي، والمرتبطة بطبيعة المرحلة التاريخية العربية، وأن تفتحا على خزان اللاشعور كوى وسيعة بما فيه الكفاية ليتدفق منها بزخم، ولكن ضيقة أيضاً إلى الحدّ اللازم لتقنين هذا التدفق وفق آمر الجمالية»( ).
وظف طرابيشي في نقده مقدرة تحليلية هائلة، بلغة زاهية ودقيقة تنساب عذبة رقراقة مما يجعل من لغة العلم أقرب إلى التناول، خلل ثقافة واسعة وعميقة، ولنقرأ على سبيل المثال الفصل المعنون «المشروع البنيوي للتماهي»( ) الذي يصير إلى متعة فكرية وذوقية قل نظيرها في نصوص النقد الأدبي الحديث، فتتساكن في حنايا نقده براعة التحليل وإحكام المنهجية والسند الثقافي والمعرفي من التراث الشعبي الشفاهي والمكتوب، ومن الأفكار والفلسفات، ومن الدراية الواسعة باللغة، بالإضافة إلى إعادة إنتاج أحدث مناهج التحليل النفسي، وهذا هو الأهم، في منهجه النقدي، فلا يجوز السياق النفسي على النص، بل يغدو التحليل النفسي في صلب آلية النقد الأدبي.
2-3- النقد الأدبي وعلم الاجتماع:
كان النقد الأدبي المتأثر بعلم الاجتماع هو المهيمن على حركة النقد الأدبي العربي الحديث، منذ الخمسينيات، من باب الأيديولوجية والمذهب الواقعي على وجه الخصوص، ثم سرعان ما مازجت الأيديولوجية والمذهب الواقعي تأثيرات الاتجاهات الجديدة، فيما عرف بعلم الاجتماع الأدبي كما تكون على أيدي منظريه البارزين، ممن نقلت بعض أعمالهم الأساسية إلى العربية أمثال لوسيان غولدمان وروبير اسكاربيت وبيير زيما. وساعد ذلك على التقليل من وطأة الأيديولوجية، متعاضداً مع التعديلات الكبرى التي طالت النقد الأيديولوجي لدى منظرين ماركسيين أعادوا تقدير قيمة الشكل في العمل الفني واستقلالية النص الأدبي في صوغ مجتمعه الخاص، مثل تيري ايجلتون وماشيري ولوي التوسير، وأعيد تقييم عناصر هامة مثل التقاليد والتناص والتاريخ والمجتمع، وهي تفعل فعلها في التشكل الأيديولوجي، بل إن نقاد ما بعد الحداثة، ممن ينضوون تحت لواء النزعات اليسارية مثل فريدريك جيمسون F. Jameson، دعوا إلى الانتفاع من الثقافة الشعبية في تقعيد (من القاعدة) بنية النص الأدبي، لأن الإنتاج الأدبي في شكله متميز عن المضمون والواضح للعمل الأدبي( ). مثلما أعيد تعريف مفاهيم أدبية ونقدية كثيرة، استفادة من البنيوية وما بعدها بالدرجة الأولى، وهذا ما جعل ناقداً كبيراً من نقاد الواقعية والأيديولوجية، هو محمود أمين العالم يطور كثيراً في منهجه النقدي، كما في كتابيه «ثلاثية الرفض والهزيمة» (1985)، و«أربعون عاماً من النقد التطبيقي: البنية والدلالة في القصة والرواية العربية المعاصرة» (1994)، تفصح مقالات الكتاب الثاني عن ذلك التطور بأجلى معانيه، من فترة لأخرى، فقد تفهم العالم نفسه النقد الموجه للممارسة النقدية السالفة، كما في قوله:
«ولهذا فإن التقييم العام الذي نقرؤه عند العديد من الكتاب والنقاد والدارسين حول غلبة الطابع السياسي والأيديولوجي والدعائي الخالص، أو الطابع الانعكاسي الآلي المرآوي المباشر الذي يسود الممارسة النقدية للمدرسة التي تمثلها صفحات هذا الكتاب بمراحلها المختلفة، مما يكاد يخرج بها من إطار النقد الأدبي نفسه، هو ـ في تقديري ـ تقييم فيه كثير من التعميم المخل الذي تنقصه الدقة والمتابعة والشمول، بل يفتقر أحياناً إلى الموضوعية، وقد يكون أحياناً أخرى أسير هذه المنهجية الشكلانية للأدب التي تحاول أن تجعل منه مجرد نقص مفارق مستقل تماماً عن واقعه الاجتماعي والتاريخي والثقافي والإنساني عامة»( ).
ونلمس مثل هذا التطور لدى نقاد آخرين أمثال يمنى العيد في أعمالها من مرحلة لأخرى، غير أن نقاداً حافظوا على ممارستهم النقدية الأيديولوجية بأكثر مظاهرها، مباشرة وتبشيرية وشعارية، كما هو الحال مع محمد كامل الخطيب في كتبه الكثيرة، وهي لقيت نقداً واسعاً، كنا أشرنا إلى نموذج منه لدى حميد لحمداني( )، ولا يختلف آخر كتبه «الرواية واليوتوبيا» (1995) عما سبق، ولا سيما اللغة اليقينية الجازمة في معرفة التاريخ والفّن. وعلى العموم، يجعل الخطيب نقده في خدمة الفكرة، ويندر أن نقع على تحليل فني أو تلمس لتطور فني، ويستغرب المرء معالجته الظاهرة في إطارها الأوروبي وحده، وهو الذي ينتقد على الدوام المركزية الأوروبية، مثلما يلفت النظر اعترافه الخجول بأن الظاهرة قابلة للتأمل من مقتربات أخرى( ).
حظي النقد الاجتماعي بالانتشار والاهتمام النظري المؤلف والمترجم، «ولعل كتاب حميد لحمداني» نموذج طيب للتعريف بالنقد الاجتماعي المتأثر بالاتجاهات الجديدة، إذ شهد هذا النقد تحولات أساسية أبعدته كثيراً عن إرث المذهب الواقعي والأيديولوجي وتجديداتهما عند أرنست فيشر وروجيه غارودي وجورج لوكاتش وغيرهم، واقتصرت على ذكر هؤلاء لانتشار آرائهم واجتهاداتهم في النقد الأدبي العربي الحديث. ويشير أحدث كتاب عن مناهج النقد الأدبي «مدخل إلى مناهج النقد الأدبي» صمود النقد الاجتماعي La Sociocritique، وهذه التسمية نفسها حديثة العهد بمعناها المحدد والدقيق، إذ ينصرف «إلى قراءة ما هو تاريخي واجتماعي وأيديولوجي وثقافي في هذا التمثل الغريب الذي هو النص»( ).
لقد بات هناك أسس جديدة للنقد الاجتماعي يضيق المقام بالتعريف بها، ويجمعها توجه «يميل إلى تعقيد المسائل لا تعتيمها: ويمكن لهذه العملية أن تنطلق من قراءة النصوص الأدبية، كما يمكنها أيضاً أن تعود إلى تلك القراءة شريطة ألا تجعل منها أحد آخر معاقل تقدمية مبسطة تم اليوم تجاوزها. ولربما كانت هذه المسألة، اليوم، رأس حربة التأمل الفكري»( ).
وتتلاقى في مساحات النقد الروائي والقصصي أنواع تتفاوت في تقبلها لتأثيرات الاتجاهات الجديدة، من النقد الاجتماعي الذي يحول الممارسة النقدية إلى تقص للأفكار والموضوعات في حاضنة النقد الواقعي أو الأيديولوجي أولاً، إلى النقد الاجتماعي المتأثر بتجديدات الواقعية والأيديولوجيا إياها ثانياً، إلى النقد الاجتماعي المتأثر بالاتجاهات الجديدة ثالثاً، واكتفي بإشارات تمثيلية لهذه الأنواع:
أولاً: ما يزال النقد الاجتماعي الذي يتحرك في حاضنة النقد الواقعي أو الأيديولوجي هو الأكثر انتشاراً، واختار عينات مما تنشره الدوريات العربية المتخصصة، فالناقد إبراهيم الناصر الحميدان (السعودية) يربط انفتاح الرواية بالموضوع الإنساني في تناول المشكلات الاجتماعية، ولا يقصد من وراء ذلك «التشهير وكشف الأسرار وإيذاء نفر من الناس، أو الهجوم على فريق من المجتمع من خلال كشف تلك الأخطاء والممارسات غير الحضارية، إنما وضع اليد على موطن الداء هو السبيل إلى اجتثاثه..»( ).
وحين أفردت مجلة «أدب ونقد» (القاهرة) ملفاً لأدوار الخراط، عني مؤلفو الملف ونقاده بنقد أعماله القصصية والروائية في الحاضنة إياها، حتى أن الناقد صلاح اللقاني (مصر) في مقالته عن «الزمن الآخر»، وهي رواية حداثية، يذهب في مفردات تقصيه للموضوعات والأفكار إلى إنشائية شعارية شائعة لدى نقاد كثيرين كمثل قوله:
«من هي تلك النورس البيضاء! لا أشك أنها رامة. وما هو البحر الذي يرتفع من حوله ثابتاً وهادئاً ومتطلباً؟ هل هو طوفان الوعي؟ هل هو بحر الوجود الطامي؟ هل هو الموت؟ وتظل المسافة بين ميخائيل ورامة جغرافياً، ببعد ما بين القاهرة والإسكندرية، ووجودياً بحجم المستحيل»( ).
وثمة نقد ينمو في الحاضنة إياها، مضيفاً إلى توسله إلى النقد الاجتماعي عناية ما بجماليات القصة والرواية كما في نقد غسان عبد الخالق (الأردن) لروايات جمال ناجي، ساعياً إلى إدغام التقنيات بمسار التيار الواقعي:
«أما على مستوى تيار الوعي، فلسنا بحاجة إلى التذكير بأن تيار الوعي يظل على صعيد الشكل تقنية فحسب، ومن الممكن جداً أن يستوعب هموم ومضامين التيار الواقعي، الشيء الذي يمكن ملاحظته بوضوح في مثل رواية غسان كنفاني (رجال في الشمس)، وهو ما ينطبق أيضاً على رواية جمال ناجي (الطريق إلى بلحارث) المنطوية على مضامين واقعية بحتة، أخلاقية وسياسية وأيديولوجية»( ).
ثانياً: ما يزال النقد الاجتماعي المتأثر بتجديدات الواقعية والأيديولوجيا إياها منتشراً ونشطاً، ومن أبرز النقاد العاملين على تصويب علاقة الأدب بالسياسة، وعلى تحديد دلالات العلاقة الروائية فيصل دراج (فلسطين) في كتابيه «الواقع والمثال: مساهمة في علاقات الأدب والسياسة» (1989)، و«دلالات العلاقة الروائية» (1992).
يعيدنا فيصل دراج إلى أجواء المعارك النقدية حول الأدب والسياسة والأدب والأيديولوجيا، وهي معارك استغرقت جهداً وطاقات نقدية وحبراً مديداً على ورق كثير منذ كتاب «الأدب والأيديولوجيا في سورية» (1974)، إلى «معارك ثقافية في سورية» ( 197)، إلى مئات المقالات والأبحاث في الدوريات العربية، وعشرات المحاضرات والندوات حول الأدب والأيديولوجيا على وجه الخصوص، وما زلت أذكر مشاركتي في الندوة السنوية التي عقدها فرع اللاذقية لاتحاد الكتاب العرب عام 1989، وقد عقبت فيها على محاضرة انطون مقدسي «الأيديولوجيا والنقد الأدبي» آنذاك، وكنت أوضحت في تعقيبي اعتماد النقد الاجتماعي والأيديولوجي على الأساليب المنهجية المستخدمة في حقل العلوم الاجتماعية مثل تحليل المضمون، أو تحليل الدور، أو دراسة الحالة أو القياس السوسيومتري، أو الإسقاطية، وهي كلها مناهج اجتماعية تنفع في تعضيد النقد الاجتماعي والإيديولوجي، ولكنها غالباً ما توقعه في إغراء خطاب آخر اجتماعي أو إيديولوجي يختلف اختلافاً بيناً عن الخطاب الأدبي. وما من ريب في أن ثمة بعداً إيديولوجياً للنص الأدبي، وعلى الناقد أن يكشفه، ويتعامل معه بمختلف المناهج الأخرى مستفيداً من مختلف العلوم الأخرى المساعدة، ولكنه حين يتكامل مع مناهل أخرى يكون أقدر وأنفع على كشف الخطاب الأدبي، ولا سيما بعده الإيديولوجي( ).
إن كتاب دراج «الواقع والمثال: مساهمات في علاقات الأدب والسياسة» يتحرك ضمن تلك الأجواء النقدية التي دهمتها المتغيرات، وصارت واقعاً جديداً حسم كثيراً من المقولات الفكرية والنظرية كمثل أبحاث الكتاب: الواقعية والواقعية الاشتراكية: تقدم أم تراجع؟ ـ قول الإيديولوجيا وقول الواقع: إضاءة نظرية ـ نقد الواقعية: تقدم أم تراجع؟ ـ القديم والجديد: لقاء أم فراق؟ وقد كان دراج محقاً وديمقراطياً، ورحيب التفكير وثر الثقافة كعادته في تقديمه للكتاب: «هذه الدراسة أو الدراسات لا تقدم جواباً على شيء، فهي تطرح الأسئلة أولاً. وإذا كان الفرد يصوغ سؤاله، أحياناً، فإن الفرد لا يجد الإجابة إلا في حواره مع آخرين. وفي زمن لا يرحب بالحوار تظل الأسئلة مهزومة، لأن إنتاج الإنسان المحاور يتجاوز شجون القلم والأديب»( ).
ويعد كتابه «دلالات العلاقة الروائية» أكمل محاولة نقدية لتجديد النقد الواقعي والإيديولوجي من منظورات علمية مواكبة للتحولات التي طالت النظرية الأدبية والنقد في الفكر الماركسي، كما عند لوكاتش وباختين، والأهم، أن دراج اعترف بخصوصية الثقافة العربية، وبأهمية نظرية أدبية ونقدية عربية تستوعب هذه الثقافة العريقة والحية والمبدعة:
«والكتاب، وإن كان يدور حول الرواية، فإنه يتضمن ما يفيض عن أسئلتها. يقترب، في الجزء الأول منه، من معنى الرواية العربية، ومن أسئلة يفرضها تميز الزمن التاريخي لهذه الرواية. فقد اعتبر لوكاتش أن الرواية هي الجنس الأدبي البرجوازي بامتياز، وأقام علاقة، لا يعوزها القسر، بين ظاهرة أدبية وطبقة اجتماعية، فحاصر الظاهرة بمرجع معياري تتجاوزه كثيراً. فالرواية لا ترتبط بطبقة تنجز تحولات اجتماعية تسمح بظهور الرواية، بل بتحولات اجتماعية موضوعية تتجاوز المرجع الطبقي الوحيد. ولعل باختين قد قدم مداخلة نظرية أكثر اتساعاً ورفاهة، عندما ربط بين ظهور الرواية وانكسار اللغات المحلية المغلقة، غير أن رفاهته، لا تمنح نظريته بعض العسف والاختزال، لأنه قبل بكونية مجردة، لا تميز اللغة المنكسرة من لغة أخرى، تحمل علائم الانتصار. وعلى هذا، فإن نظرية لوكاتش، كما تلك التي وضعها باختين، لا تكفي لدراسة رواية عربية تكونت، وتتكون، في حقل تاريخي متميز، يتسم بالتعرف على الاجتياح الأوروبي ورفضه في آن»( ).
وحمل كتاب دراج نبرة شجن موجعة: «شهادة عن السياسة في الأدب، أو عن إيديولوجيا، بدت سعيدة يوماً، فحلمت بخلق أدب وسياسة جديدين تماماً، والجديد الشامل لا وجود له في التاريخ»( ).
وقد عاد دراج إلى اهتمامه بخصوصية الرواية العربية باحثاً عن نظرية للرواية عبر اشتغاله على تاريخ الكتابة الروائية العربية، كما في بحثه «وضع الرواية العربية في حقل ثقافي غير روائي» (1998)، ويبدي فيه تشاؤمه من تطور الرواية العربية في حقل مغلق، ربما بتأثير مقايسته للتقليد الغربي:
«لا تنفي المقدمات السابقة إمكانية بناء نظرية للرواية العربية، إن كانت تنفي إمكانية التطبيق الآلي لـ «نظريات الرواية» الغربية على الرواية العربية. فهذه النظريات تقدم الكثير من المواد النظرية التي تضيء تاريخ الرواية العربية. غير أن هذا التاريخ، في أشكاله المختلفة، يظل المرجع الأساسي الذي يسمح بتأمل نظري لوضع هذه الرواية، كما لو كانت «نظرية الرواية العربية» نظرية في تأريخها الخاص، الذي شكلها في حقل مغلق، وطوّرها في حقل يبدو قد كسر انغلاقه، ثم ردّها من جديد إلى حقل مغلق، لا تأتلف معه»( ).
والمقايسة عند دراج مرهونة بتقاليد النظرية الروائية الغربية، ولا سيما لوكاتش، وفي أثناء ذلك جذاذات من باختين وتودروف وماشري وإيان واط وزيولكوفسكي على تباين مناهجهم النقدية.
ثالثاً: اتسعت مساحة النقد الاجتماعي المتأثر بالاتجاهات الجديدة منذ منتصف الثمانينيات، فأقبل على ممارسته نقاد كثيرون، كما عند عبد الرزاق عيد (سورية) ومحمد برادة (المغرب) وفريال جبوري غزول (العراق) ومحمد جمال باروت (سورية) وصلاح الدين بوجاه (تونس)، وثمة نقاد منهم عدلوا في مناهجهم كما هو الحال مع عبد الرزاق عيد الذي وضع عدة كتب مثل كتابه المشترك مع محمد كامل الخطيب عن حنا مينه، وقد أشرنا إليه، و«عالم زكريا تامر القصصي: وحدة البنيوية والفنية في تمزقها المطلق» (1989)، و«في سوسيولوجيا النص الروائي» (1988). وقد أعلن في مقدمة كتابه الثاني أنه يندب نفسه لوضع مقاربة علمية منهجية لسوسيولوجية الخطاب الروائي في الدراسات العربية الحديثة، وعلى الرغم من استفادته من الاتجاهات الجديدة الشكلانية والبنيوية وعلم السرد، فإنه ينتقدها، على طريقة نقاد الإيديولوجية، إذ «سرعان ما يتلاشى لديها الفرق بين النص اللغوي والنص الأدبي، عبر البحث التطبيقي، فيتحول النص إلى كتلة مغلقة من الإشارات والكلمات، عندما تختزل النص الأدبي، الذي هو جماع تحقق اللغوي في الكلامي، إلى مجرد نص لغوي، بعد أن تطرد الكلام من ساحة النص باعتبار الكلام تجسيداً للغة في الحياة والمجتمع، والذي لا يمكن للنص الأدبي أن يعلن أدبيته دون تناسج اللغة كلامياً في علاقاته»( ).
ثم رأى عيد أن دراسات كتابه «محاولة منهجية تطبيقية تسعى للعثور على الشكل في المضمون، والمضمون في الشكل، عبر وحدتهما في تفاعلهما الجدلي، باعتبار أن النص الإبداعي لا يمثل بنية محددة للعالم فحسب، بل ورؤية وموقف المبدع نفسه، من أجل إعادة الاعتبار للنص ومنتجه»( ).
ومن الملاحظ، أن عيد لا يوضح منهجيته، ولا يذكر مرجعيته، وعبثاً نبحث عن إشارة لمصدر أو مرجع، كما في دراسته «اللجنة بين الواقع وتدمير المجاز» على سبيل المثال، وهذه هي طريقته في غالبية كتاباته، ومنها تعقيبه المطول على بحث محمد المنسي قنديل (مصر) المعنون «البحث عن أفق: اتجاهات في الرواية الكويتية المعاصرة» (1994)، فوضع أكثر من ثلاثين صفحة دون أن يشير إلى منهجه ومرجعيته، بينما يتفاوت نقده في حضن الواقعية والإيديولوجيا من جهة، وتشكلات النقد الاجتماعي عبر استفادته من الاتجاهات الجديدة من جهة أخرى، كما في
قوله:
«فالوحدة التوزيعية تحقق علاقات تركيبية، فلا وحدة من وحدات السرد لا تنضم في وحدة أكبر، وعبر هذا الخط التراكمي يتشكل فضاء النص، على أركان صلبة لا تبهتها الإشارات الإنشائية، ولا التمحلات البيانية، ولا الضجيج البلاغي، ولا تهويمات حلمية، فالحلم لا بالفراغ، والفانتازيا ليست أوهاماً تكدس وتحشد، بل هي خيال خلاق يبدع وينتج»( ).
وكانت مساهمة حميد لحمداني التنظيرية والتطبيقية الأبرز في ميدانها في كتابه الذي توقفنا عنده من قبل «النقد الروائي والإيديولوجيا من سوسيولوجيا الرواية إلى سوسيولوجيا النص الروائي» (1990)، إذ عالج في القسم الأول النظري الإديولوجي في الرواية والرواية كاديولوجيا، والإديولوجيا في الرواية بين غولدمان وباختين، والنقد الروائي الاجتماعي، وأصوله خارج العالم العربي، ولا سيما دور باختين وبيير زيما في بناء سوسيولوجيا النص الروائي، ويمثل هذا الدور انطلاقة شاسعة عن النقد الواقعي والإيديولوجي، كما في قوله:
«ما يميز بيير زيما إذن عن باختين ليس هو إدماج الرواية ضمن الوضعية السوسيولسانية (الإيديولوجية) ـ فهذه النقطة نعثر عليها في مفهوم الحوارية عند باختين ـ ولكن هو تحديد معناها، ودورها داخل نسقها السوسيولساني هذا، أي تحديد الدور الإديولوجي الذي تقوم به الرواية باعتبارها خطاباً فردياً مساهماً في الحوار الإديولوجي، وأنه موقف محدد من الواقع. وهذا الجانب يعطي لسوسيولوجيا النص عند زيما طابعاً جدلياً يتميز بشكل واضح عن السوسيولوجيا النصية التي تقول بحياد الكاتب، كما نجدها عند باختين أو كريستيفا»( ).
وكانت المساهمة الثانية المهمة في هذا المجال لدى صلاح الدين بوجاه (تونس) في كتبه «في الواقعية الروائية: الشيء بين الجوهر والعرض» (1993)، و«في الواقعية الروائية: الشيء بين الوظيفة والرمز» (1993)، و«مقالة في الروائية» (1994).
لا تظهر الإيديولوجيا في نقد صلاح الدين بوجاه، مثلما يمعن في تحليله السردي المستفيد من الاتجاهات الجديدة على نحو شديد الإشراق والجاذبية، لذلك تبدو نتيجة كتابه الأول مقنعة كما تجلوها المدونة المعتمدة وهي روايات لروائيين عرب هم علي الدوعاجي ونجيب محفوظ وحنا مينة والطيب صالح وصبري موسى: «فالإنسان العربي، نظراً لمروره بمرحلة المخاض المشار إليها آنفاً، أضحى أكثر من أي زمن مضى في حاجة إلى أوثان فردية وجماعية تسنده وتشعره بالأمن. لكن تحول الشيء إلى وثن بدا مزامناً لعملية أخرى تتجسد في تحول الإنسان من متبوع إلى تابع، فبدت عناصر الكون الروائي متداخلة، وفي حالة تبادل دائم للوظائف»( ).
وأفصح بوجاه في كتابه الثاني عن سبيله النقدي، وهو «وسطي بين الحدث الفني والروائي الصرف والحدث الدلالي التأويلي ذي البعد الجمالي»( )، وجعل هذا الإفصاح أكثر وضوحاً في كتابه الثالث، وهو مجموعة مقالات في النقد الروائي، بقوله: «مقالة في الروائية نص يزعم لنفسه منزلة وسطى بين العلمي الأكاديمي والأدبي الصرف.. لدن فضاء ييسر التواظف بين رصانة المستقر وحركة المتخلق المقبل على تغيير إهابه وإرباك حدوده الجامعة المانعة»( ).
ويضيف بوجاه أن هذه الفصول «قد أنشئت في أزمنة متباعدة، لكنها اتخذت لها محوراً أوحد مثّل أجلى مقصدياتها: ألا وهو البحث فيما به يكون النص الروائي نصاً روائياً في نؤي عن المناهج والنظريات المغرقة في التجريد حيناً، وفي مساجلة ثرية لها حيناً آخر. فبدا حقاً وسطاً بين العلمي والأدبي لدى ذلك الحيز الذي كان به الأدب العربي حياً طريفاً رائقاً ثرياً عند جيل الرواد الأوائل»( ).
إن النقد الاجتماعي المتأثر بالاتجاهات الجديدة يترسخ في بنيان النقد الروائي والقصصي، في ممارسات نقاد بارزين مثل محمد برادة وفريال جبوري غزول في دراستيهما «باب الساحة: مساءلة الانتفاضة والإيديولوجيا» (1991)( )، و«إيديولوجية بنية القص: لطيفة الزيات نموذجاً» (1993)( ).
ولا نغفل هنا عن أهمية الجهد الذي بذله فخري صالح في ترجمة بعض النصوص التي تضيء المنهج الاجتماعي في النقد، وهي كتاب تيري ايجلتون «النقد والأيديولوجية» وصدر ضمن منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 1992 ـ والكتاب الذي ضم مجموعة حوارات مع رولان بارت، وبول دي مان، وجاك دريدا، ونورثروب فراي، وادوارد سعيد، وجوليا كريستيفا، وتيري ايجلتون «النقد والمجتمع» (1994)، وصدر ضمن منشورات المؤسسة نفسها.
من الواضح، أن الاتجاهات الجديدة المتأثرة بالعلوم الإنسانية غدت الأضعف قياساً إلى الاتجاهات الجديدة المتأثرة بالبنيوية وما بعدها، كما سنلاحظ في تقصي الممارسات النقدية الكثيرة لهذه الاتجاهات الجديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق