كتاب أشياء كنت ساكتة عنها : ذكريات

للكاتبة الإيرانية آذار نفيسي Azar Nafisi
ترجمة : على عبد الأمير صالح
منشورات دار الجمل
سنة النشر : 2014 م
"لا أقصد أن يكون هذا الكتاب تعليقا سياسيا أو اجتماعيا، أو قصة حياة نافعة. أودّ أن أحكي قصة أسرة تتكشف إزاء خلفية عهد مضطرب من تاريخ إيران السياسي والثقافي”.
عن هذا الكتاب:

أود أن أحكي قصة أسرة تتكشف إزاء خلفية عهد مضطرب من تاريخ إيران السياسي والثقافي».. من هنا ينبع الكتاب بالدرجة الأولى من ذاكرتها الشخصية. وقد يكون هنا الجوهر في ما ترمي إليه الكاتبة التي تجد أنها لا تريد كتابة كتاب يخبرنا أشياء عن إيران، وليس لديها أي ميل في تسييس الأشياء، بل كل ما ترمي إليه أن نقرأها ككاتبة.
نحن إذاً أمام لوحة كبيرة، في هذه الذكريات. لوحة شخصية، تتخضب كثيرا بنبرة رومنسية، إذا جاز القول، تذكرنا بروح آنا كارينـينا، وبخاصة الجملة الأولى في الكتاب: «معظم الرجال يخدعون زوجاتهم كي يكون لهم عشيقات. أما والدي فكان يخدع أمي كي ينعم بحياة أسرية سعيدة». جملة دالة، من البداية، على الأسلوب الذي تتبعه الكاتبة في حديثهـا عن أسـرتها، وعبر هـذه السيـرة، لا بدّ مـن أن تـمرّ أمامنا بلاد لم تعد ما كانـت عليه. ربما تكمـن في هـذه النقطة أهمية الكـتاب، حـين نحـاول أن نقـارن بين زمنــين ومنـاخين، وبخاصـة أن الحـديث عن أخبار العائلة بكل «انحرافاتها» ليس من الأشياء المستحـبة في الثقافة الإيرانية مـثلما يقال.
مقتطفات من الرواية :
معظم الرجال يخدعون زوجاتهم كي يكون لهم عشيقات , أما والدي فكان يخدع أمي كي ينعم بحياة أسرية سعيدة , شعرت بالاسف عليه وبمعنى من المعاني آليت على نفسي أن أملأ الفضاءات الخالية في حياته .
جمعت قصائده الشعرية أصغيت الى بلاياه وساعدته كي يختار الهدايا المناسبة , في بادئ الأمر لأمي ومن ثم للنساء اللواتي وقع في غرامهن وفيما بعد ادعى أن غالبية علاقاته مع تلك النسوة لم تكن جنسية .
وأن ما كان يتوق اليه هو الاسحسا بالدفء والاستحسان الذي يهبنه اياه , الاستحسان !! علمني والداي كيف يمكن أن تكون تلك الرغبة مميتة .

ما كانت لتوافق على متابتي سيرة ذاتية وبخاصة سيرة ذاتية للعائلة وما كان ليدور في ذهني أنني في يوم من الأيام سأجد نفسي أكتب عن والدي .
أنه جزء جوهري من الثقافة الايرانية ألا نكشف قضايانا الشخصية : نحن لا ننشر غسيلنا القذر أما عامة الناس كما دأبت أمي على القول وفضلا عن ذلك , الحيوات الخصوصية عادية ولا تستحق الكتابة عنها .
أن قصص الحياة المفدية هي ما يهم , كسيرة الحياة التي نشرها أبي أخيرا وهي نسخة من الورق المقوى عن نفسه , والحق لم أعد أؤمن بأنه يمكننا أن نبقى صامتين , في الحقيقة اننا لم نلتزم الصمت فعلا , بطريقة أو بأخرى كنا نبين ما جرى لنا من خلال صنف الناس الذين أصبحناهم .
بدا والدي بتدوين يومياته حينما كنت في الرابعة من عمري , كانت اليوميات موجهة الي أعطاني اياها بعد مضي عدة عقود عندما كنت قد تزوجت وأصبح لي أطفال , تتناول الصفحات القلائل الأولى كيف يمكن أن يكون فيها المرء صالحا وكيف يكون محترما في نظر الآخرين ومن ثم يبدأ بالتشكي من والدتي , كان يشكو من أنها لم تعد تتذكر أنها أحبته ذات مرة واستمتعت برفقته .
يكتب أنني على الرغم من كوني مجرد طفلة كنت عزاءه وسنده الوحيد , انه ينصحني أن علي اذا ما تزوجت في يوم من الايام أن اسعى لأن أكون صديقة ورفيقة حقيقية لزوجي .
يصف حادثة واحدة حينما تخاصم هو وامي ذات يوم أما أنا فقد حاولت ك " ملاك سلام " أن أصرف انتباههما وأسليهما , كان تقمصي العاطفي خطيرا شأنه شأن أي فعالية سرية : هي ذي أم مذنبة لا تستطيع أن تغفر .
حاولت أنا وأخي أن ندخل السرور الى قلبيهما معا .
قراءة في كتاب آذر نفيسي: “أشياء كنت ساكتةً عنها”
مركز المسبار للدراسات والبحوث - 17 يونيو,2015 - نجاة عبدالصمد - طبيبة وكاتبة سوريّة :

هو مقطعٌ في الفصل الأخير من كتاب: “أشياء كنت ساكتة عنها” ذكريات، آذر نفيسي، ترجمة: علي عبدالأمير صالح (العراق)، منشورات الجمل، 2014. سيسندني في محاولتي لتقديم ذكريات د. نفيسي (دكتوراه في الأدب الإنجليزيّ) الكثيفة والشفافة والوسيعة والمتألقة في صراحتها. تقول: إنها حين بدأت بتدوينها لم تكن تطمح إلى أكثر من فهم نفسها أولاً، ومحاولة فهم ما يجري في بلدها العزيز، وفي العالم الذي عليها أن تنجز حياتها فيه؛ حياتها المكتنزة بغير المال.
أن نقرأ الكتاب مترجماً إلى العربية، فهذا يعني أن نبصر أنفسنا في عيون من يروننا أعداءهم التاريخيين. هذي العداوة المحفوظة بحرص، والتي لن تطفو إلا في أوانها.
وثيقة تاريخية وتنقّلٌ آسرٌ
هل الكتاب سيرة امرأة أم سيرة بلد؟! كلاهما معاً. هو وثيقة تاريخية وتنقّلٌ آسرٌ وغير ملحوظٍ بين الخاص والعام، وبين الماضي والحاضر، وبين ظاهر الأحداث والعواطف الكامنة خلف ظلالها، وبين المسموح والمحظور وما نخاف أن يُكشف من أسرارنا الحميمة.
وُلدت نفيسي في أسرةٍ إيرانية ضليعةٍ بالشأن العام. كبرت مع حكاياتٍ يرويها لها والدها قبل النوم أو في مشاوير الصباح، تستحضرها ذاكرته من كتاب “الشاهنامه” (كتاب الملوك) للشاعر الملحمي الفردوسي الذي كتب حكايةً أسطورية عن إيران منذ خلق العالم، وحتى ألف سنةٍ خلتْ. “كان هدف الفردوسي أن يضرم اعتزاز مواطني بلاده بماضيهم العريق قبل الغزو العربي لها في القرن السابع الميلادي، تلك الهزيمة المهينة التي أشهرت نهاية الإمبراطورية الفارسية الموغلة في القدم، وتبدّل دينُنا من الزرادشتية إلى الإسلام”.
يبدو أن العرب في نظر الفرس برابرة، وأنّ الفرس لن يغفروا لمن استباح بلادهم عقب معركة القادسية، ولن يعنيهم أن يتذكروا عدالة الخليفة عمر بن الخطاب، بقدر ما يهمهم ألا ينسوا أمرَه بإتلاف بعض كتب التراث الفارسي من غير أن يسأل هذا الشعب عمّا قد يحب أو يقدّس، لأنه، وبرأي الخليفة عمر: “لن يحتاج الفرس سوى القرآن دليلاً لحياتهم الجديدة بعد اعتناقهم الإسلام”. وعليهم أن يهجروا الشاهنامه التي فيها مثلاً: نصيحة الملك سام لابنه زال: “تمتع بالحياة وكن كريما. ابحث عن المعرفة، وكن عادلاً”. تذكر صوت والدها أحمد نفيسي، الرجل المسلم: “لسبب واحد علينا أن نؤمن بالله، هو وجود أشعار من مثل أشعار جلال الدين الرومي أو أبي القاسم الفردوسي”.
أعداء من الداخل
تعود أسرة والدتها إلى سلالة القاجار التي حكمت بلاد فارس (1794ـ 1925). لكن نفيسي ولدت في منتصف القرن العشرين، ونشأت في خضمّ عهد البهلويين (1925ـ 1979)، وشاركت في الثورة ضد حكم الشاه، وخاب أملها لما آلت إليه البلاد بعد هذي الثورة: “إنه اختلافٌ غريب بين أن تعيش لحظةً تاريخية، وأن تفكر مليّاً في نتائجها. كان أبي أخبرني بأن تاريخ بلدنا مليءٌ بالحروب والفتوحات، لكننا بعد ثورة 1979 واجهنا أسوأ الفاتحين قاطبةً لأنهم كانوا أعداء من الداخل!”.
كانت نفيسي صغيرة السن أيام ثورة 1962 التي تسميها: (تمرينٌ من أجل ثورة). كان الشباب الإيراني بدأ يتفاعل علميّاً وثقافيّاً، يقرأ برتراند راسل، وجان بول سارتر والفكر الماركسي. برزت التيارات الفكرية الأقرب إلى العلمانية نهاية الخمسينيات، وقبل أن يستبد حكم الشاه محمد رضا وتقوم ثورة 1962 المطالبة بتغيير دستوري يضمن حقوق المرأة بالانتخاب، وحقوق الأقليات بعضوية المجلس التشريعي، وضمان الحقوق الثقافية للجميع. عن تلك الفترة تكتب آذر: “كان مدهشاً كيف سيطرت الطرائق العلمانية المعاصرة بسرعةٍ على مجتمعٍ هيمن عليه –بشدة- الدين التقليدي والدكتاتورية السياسية. تفاقم الهيجان الشعبي عام 1963 واستمر حتى 1979 (تاريخ انتصار الثورة الإسلامية). كان صراعاً دموياً عنيفاً قسّم إيران سياسياً وثقافياً وأيديولوجياً، حدّ أنه كان صراعاً وجودياً. والحق أن السعي نحو التحديث كان قبل البهلويين وسيستمر بعدهم. وقبل الشاه وبعده كان المجتمع الإيراني متقدماً جداً على زعمائه. وكان البارزون في المشهد الثقافي والاجتماعي هم المستهدفون من قبل النظام. وظلّ والدي مؤمناً بأن التحوّل السياسي السليم والسلميّ لن يأتي إلا من اتحاد ومشاركة القوى الدينية التقدمية والقوى العلمانية وإلا فلن يكون.
في عهد الشاه كانت منظمة الاستخبارات الإيرانية (سافاك) مرعبة. “كان يتم التعامل مع المعارضة السياسية باعتبارها شكلاً من أشكال الجريمة: يحاكَم غالبية المذنبين بتهم كاذبة، وهناك حيز صغير للدفاع عنهم”. وهو ما تكرس بطرق كثيرة بعد الثورة. “الدرس الأول في السياسة الإيرانية والحياة العامة: الحقيقة لها أهميةُ قليلة جداً”. “لم تكن الحكومة نزيهةً على الإطلاق مع شعبها، كانوا يبقون الأخبار الحقيقية طيّ الكتمان، وتحل الشائعات محل الحقائق”.
يكتب والدها في يومياته حين احتشد عدد غفير من أهالي طهران للتبرع بدفع كفالة له ليخرج من السجن الذي استبقاه أربع سنواتٍ بتهم ملفقة في عهد الشاه (بُرّئ منها لاحقاً): “لم أكن أعتقد أن سكان طهران طيبون إلى هذه الدرجة. هذه الأمة غاية في الغرابة؛ تشاهد الاستبداد في صمت، وفجأة تبرهن على إرادتها ـ حقيقة وجودهاـ عبر المقاومة المنفعلة”.
الرجل الإلهي
وتسترسل نفيسي: العلمانيون هم الذين بدؤوا ثورة 1979، ثم استولى عليها الإسلاميون. والخميني الذي كان متخفياً في كربلاء إبان حكم الشاه، وطرد منها عام 1978 (في محاولة من العراق لتحسين علاقاته مع إيران)، واستمر في لفت الانتباه عالمياً بسبب رسالته الثورية ضد النظام الملكي الحاكم، وتقديم نفسه على أنه الرجل الإلهي الذي يدير ظهره للعالم، بينما كان في حقيقة الأمر يتآمر ويخطط للسيطرة عليه، ويسحر أنصاره الذين كانت أعدادهم تربو على الملايين. أطلق على أمريكا اسم: “الشيطان الأكبر”، وحاربها وحارب خدمها الخنوعين، ثم تحول ضد مؤيديه من العلمانيين والإسلاميين معاً بعد إعلان المجلس العسكري الأعلى انتصار الثورة الإسلامية. حوربت الأقليات وأُجبرتْ على أن تكتب (أقلية دينية) على لافتات محلاتها، وآذت الثورة المؤمنين بطريقة جوهرية أكثر مما آذت الكفار، وتبددت أواصر المحبة بين الإخوة وأبناء العمومة، وتكرس القمع والإعدامات لمجرد الشبهة. التزم الناس منازلهم. لا قهاوي، لا مطاعم، عداوة بين الأهل، انهيارات على مستوى الأسر، شقاق عائليّ، انفصال بين الأزواج الذين كانوا يؤجلون خصوماتهم لعقود، ثم أنجزوها بعد انهيار النظام الاجتماعي القديم، وتفاقمت الهجرات بعد الحرب أكثر منها أثناءها.
عنف لامرئي
ثم، بعد انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية (1980ـ 1988)، وانكشاف فشل الثورة في جلب الازدهار إلى إيران أو تصدير النظام الإسلامي إلى العراق، وتسببها في خسارة نحو مليون إنسان، ما بين قتيل ومفقود وجريح، شعر الثوريون القدماء (الإسلاميون) بأنهم خدعوا وبدؤوا يطلبون دعم ومساندة العلمانيين. أي إن ما تجنبوه بالأمس راحوا يتحولون إليه اليوم. وبعد توقيع معاهدة السلم وإعلان انتهاء الحرب: “لم يفارقنا الخوف. كان يبدو أن هناك شيئاً ما خادعاً في إحساسنا بالأمان، كأن السكون الذي جاء به السلم يحمل الصدمة القوية نفسها كالقنبلة. كأن حياتنا تغيرت ليس بسبب الكارثة والأشلاء، بل –أيضاً- بسبب شتى أنواع العنف، ومعظمه عنف غير ملموس، كان كالدود يلتهم حيواتنا اليومية الطبيعية”.
وفي التسعينيات، وجنباً إلى جنب مع الانفتاح السياسي، استمرت المضايقات للعلمانيين والمثقفين والكتاب والشعراء والمترجمين، يقتلون أثناء ذهابهم إلى عملهم أو في السوق أو الزيارة… وبدأ الارتداد إلى الرموز الزرادشتية. “ومع ذلك أشكر الجمهورية الإسلامية في طهران؛ لأنها عندما حرمتنا من مسرات الخيال ومن الحب ومن الثقافة جعلتنا نتجه إليها كلها”.
آذر: سيرة الأسرة
أما سيرة الأسرة الشخصية، فتبدأ من العلاقة مع الأم التي أغلقت أقفال قلبها بعد وفاة زوجها الأول “سيفي” بعد عرسهما بسنتين إثر التهاب الكلية القاتل، وكان زواجها الثاني من أحمد نفيسي والد ابنيها آذر ومحمد الذي استغرق حياتها الفعلية؛ كأنه لم يخترق سياج عقلها الساعي نحو المثاليات: (أسرة مثالية، صديقات مثاليات)، الأمر الذي لم تتقبّله ابنتها آذر، واعتبرته “نزوعاً عقلياً شمولياً”، لم تنفع معه محاولاتها في الانسجام مع والدتها التي بدورها كانت قانعة بكمالها وصدقها واستقامتها، في حين كان كل من حولها يكذبون عليها بمن فيهم زوجها وولداها. مالت آذر كلياً إلى والدها الذي قضى عمره يبحث عن الحب، ولم تجزم ابنته، سواء من خلال يومياته التي كتبها، أو من خلال أحاديثهما، إن كان حصل عليه حقاً أم لا. وخلال رفقته والتعلق الشديد به، تعلمت منه كيف يمكن أن تكون الرغبة بالاستحسان والدفء رغبة مميتة!
لم تكتب آذر إلا القليل عن حياة أسرتها الصغيرة. عاشت زواجاً أول مرتجلاً وسريعاً أثناء وجود والدها في السجن، لم يدم سوى سنتين تعيستين. ثم زواجها المستمر الثاني من بيجان المهندس (البهائي)، ولم تكمل رسم العلاقة بينها وبين زوجها أو ولديها كما أتقنتها بخصوص أبويها. كلاهما ظلا محفورين في رأسها كحاضر مستمر، كسيرة ذاتية مستمرة، لا كماضٍ مطلٍ من حينٍ لحين، حتى بعد أن ودعتهما في إيران، منفصلين، وهاجرت للاستقرار نهائياً في أمريكا قبل موتهما بسنوات، كان عليها خلالها أن تباشر سيرتها المستقلة. تلك بقيت الفكرة الناقصة. ربما يلزمها وقت ليمكنها استكمالها في كتاب آخر، هذا إذا كان فيها ما يفيد!
الروح الهائمة في إيران
آذر نفيسي تقيم الآن في أمريكا، ولا يزال القسط الأكبر من روحها هائماً في أرض إيران، ولا تزال تقرأ الأدب القصصي الإيراني، وتحاضر فيه، وتكتب عنه، وعما يشدها من الأدب العالمي، وتكرس قراءاتها ومقالاتها للبحث عن فهم حقيقي للوقائع السياسية.
الكتاب في مجمله أدب مشوّقٌ، وجميل، وصادق، ومقنع. ترى كم نستطيع أن نكون موضوعيين في الحكم على من نحب، وعلى من نكره، سواء أكانوا أشخاصاً أم دولاً؟!
أسلمتني آذر ـ كقارئةٍ عربيةـ لأن أرى صورتي في عيون الآخرين الذين ينظرون إلى انتمائي بوصفه حاملاً عداوة شخصية لانتمائهم. كيف لي أن أخبرها بأنها أخرجتني من موروثي الذي أنشأني على أن أنظر إلى إيران كبلدٍ عدوّ؟! وأنها نجحت في كسب مودتي، بل محبتي، وتوقي لأن أحمل عنها قسطاً من عذابها وهي ترى بلدها المحبوب يتردّى من هضبات الحرية إلى مضائق الدين بعد (ثورته الإسلامية)؟ أستطيع الجزم بأنه خطر الثقافة ودورها في آن واحد! .
نهلت مذكّراتِها من حياتها الشخصيّة والعائليّة
الإيرانيّة آذر نفيسي تكتب "أشياء كنتُ ساكتة عنها"

الكاتبة الإيرانية آذر نفيسي
طهران ـ مصر اليوم - 2014 الإثنين ,05 أيار / مايو
تميّزت الكاتبة الإيرانية آذر نفيسي منذ روايتها الممتعة "أن تقرأ لوليتا في طهران" بأسلوبها السردي السلس الذي تستعيده في مذكراتها اليومية "أشياء كنت ساكتة عنها" (دار الجمل، ترجمة علي عبد الأمير صالح)، ونهلت الكاتبة موارد مذكراتها وروافدها من حياتها الشخصية والعائلية المفعمة بالأحداث والمعاناة والأحلام المجهضة في مرحلة حاسمة ومضطربة في بلدها الذي شهد نهاية حقبة الملكية، وبداية حقبة الثورة الإيرانية، وما تركته من أثر على حياة عائلتها البورجوازية ذات المكانة الرفيعة، فوالدها كان يتقلّد منصب محافظ طهران الذي أهّله لأن يكون على دراية بما كان يحيط بحاشية الشاه محمد رضا بهلوي، من وشاية ودسائس.
لكن الكاتبة التي روت ظروف اعتقال أبيها ما قبل الثورة ومحنته في السجن لم تدوّن التاريخ الحديث لإيران وتحوّلاته السياسية والاجتماعية إلاّ من خلال عينها وهواجسها، وفي هذا المقام تقف طويلاً عند تجربتها من الحكم الديني الذي استولى على مقاليد السلطة، وحاول اقتلاعها مثل سائر النساء من وضعيتها الانسانية، وثقافتها العلمانية التي نشأت عليها، وتطبيعها بثقافة دينية متزمنة.
وقاربت آذر نفيسي الماضي بوصفه فجوات يجب رتقها، لذلك غطّت سيرتها بالوقائع والذكريات والمرويات، كما بالمتخيل والموهوم والقصص المخترعة في طفولتها، بتأثير من حياتها في كنف عائلة مثقفة ومولعة بقراءة الروايات.
وما يميّز الكتاب هو الحكي الذي سكتت عنه في روايتها الأولى، فالتحريم الذي ضُرب على الكثير من الشؤون الشخصية وعلى حرية التفكير والتعبير إبان الثورة الإسلامية، هو الذي أرغمها في كتابها السابق على ان تتبنى التورية والتلميح وكل طرائق التملص من عيون رقباء الفضيلة الكثر.
ولعلّ فضاء الغرب الذي تعيش في ظله الآن أطلق العنان لنفسها وقلمها، وشجعها على البوح بما أُجبرت على أن تصمت عنه سابقاً من أحداث عامة ومواقف شخصية.
ورسمت الكاتبة في يومياتها الخطوط المتقاطعة بين السيرة الشخصية والسرد التاريخي العام، وإذا كانت تناولت في "أن تقرأ لوليتا في طهران" حقبة الثورة الإسلامية وما اعقبها من أحداث، ففي "أشياء كنت ساكتة عنها" تعود إلى الفترة التي سبقت الثورة وإرهاصاتها الأولى.
واستعادت أجواء عائلتها من مخطوطة تركها والدها لها، كان قد كتم بعض أسرارها في سيرته الذاتية التي كان قد طبعها في حياته، سيرة تمثل أباً نشيطاً ومثابراً وطموحاً منذ شبابه، وذا أهواء نسائية، وزوجة متعالية كانت تُغطي احساسها بالخيبة، بادعاء ان الدهر ظلمها وأضاع عليها الفرص.
وانطوى كتاب نفيسي على صور فوتوغرافية من الماضي بهتت ألوانها، تقرأ فيها المؤلفة ملامح أصحابها وأبعادها النفسية وانطباعاتها عن ظروف تصويرها، وتكشف خفايا العلاقة المثلثة بينها وبين أمها وأبيها.
وذكَرَت نفيسي نزوات أمٍ عاشت وهي تصنع روايتها الشخصية التي تسردها على مسامع البنت التي كانتها آذر نفيسي، هي رواية منسوجة من خيالات الأم وهواجسها وشعورها بتفوق موهوم.
وحاولت نفيسي في ما بعد، من دون جدوى، ان تتملص من أحابيل سردها ومن محاولة التفريق بين الخيط الواقعي والخيط المتخيل المتواشجين في لحمة واحدة، ولم تكن رواية الأم عن نفسها تكمن في ما قالته، بل في ما أهملته، وكانت الأم تحوّل التاريخ إلى فانتازيا، وتزيد بذلك من ضبابية صورتها وغموضها في ذهن البنت، وتدفعها الى عقد حلف مضمر مع والدها الذي تزداد إعجاباً بنجوميته، ضد تسلط الأم المزعوم.
وأكّدت نفيسي ان نزوات أمها جعلتها في طفولتها تلوذ إلى عالم اكثر حرية، هو العالم المتخيل المبتكر الذي سبق لأبيها أن وطّد طريقه لتنفذ اليه، عبر اختلاق القصص الملفقة او المستوحاة من التاريخ الايراني التي كان يسردها على مسامعها، طريق تحول في حياة الكاتبة مع انقضاء الأيام إلى شغف بالرواية، وكانت الروايات منبع استلهاماتها التي تصنع من خيوطها عالمها السري الذاتي، وقد حملت هذا العالم كما وصفته بدقة وتفصيل في كتابها "أن تقرأ لوليتا في طهران" إلى طالباتها في الجامعة.
وكان العالَم المتخيّل مختلفاً ومدهشاً مقارنة بذلك العالم الذي كانت تعيش فيه، وتعلمت ان ما وهبها إياه ابوها من خلال قصصه خطّ حدوداً لا مرئية تصنع منها وطناً غير الوطن الذي فرضه المتشددون الثوريون، وطناً لا يعتمد على الجغرافية او القومية، ولا يقدر احد أن ينتزعه منها.
بيد أن الهاجس الذي ما فتئ يلاحق الكاتبة هو هاجس وضعية المرأة في بلدها طوال الحقب السياسية والاجتماعية التي توالت عليه، منذ عهد جدّتها التي شهدت الثورة الدستورية العام 1905، وما حققته من تقدم نوعي في حياة المرأة الايرانية، وبعدها الأم التي انتُخبت نائبة في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، وحقبة الكاتبة التي شبّت في عهد الثورة التي أرغمتها وأرغمت نساء ايران على العودة الى قوانين قهر المرأة، وكانت قصائد فروغ فرخزاد الجريئة معينها لمواجهة السلطة الدينية الجديدة التي تحاول أن تنتزع منها حريتها.
وتبلور وعي الكاتبة الوجداني والسياسي برجوعها الدائم الى "الشاهنامة"، ملحمة الفردوسي، التي تحاول استرداد ماضٍ لا يمكن استعادته، فالشاهنامة نص أساسي في اللاوعي الإيراني الذي شكّل ثقافة الشعب بفئاته كلها، وكان أبوها يذكر امامها ان بلاده تعرضت إلى حروب وفتوحات عدة، وأن مقداراً من الوعي القومي الايراني استند إلى الوجدان المناهض للعرب منذ الفتح الاسلامي، من دون ان ينسى التواطؤ الداخلي الذي شرّع أبواب الامبراطورية العظمى عهد ذاك امام المحتلين.
ولكن، بعد الثورة الإسلامية، كانت تعود نفيسي مراراً لتقتفي أثر الخيط اللامرئي في عقلية الايرانيين الذي أفضى إلى تأسيس الجمهورية الاسلامية الحديثة، وتجده في نزعة التعصب الأعمى الذي رافق الشعب الايراني من قبلُ.
وكانت طهران في عهد طفولتها مستغرقة في مظاهر الحياة الأوروبية التي كانت أليفة عند الطبقة الراقية بوصفها جزءاً من ايران الحديثة، بيد أن طهران لم تكن طهران نفيسي وطبقتها، كانت ثمة طهران أخرى متزمتة وممتعضة، غارقة في عزلتها، ترفض الانفتاح وتتجنب الأقليات الدينية من ابناء البلد، متجاهلة مفردات المعاصرة وحداثة الأفكار والعادات، وكان يسود بعض أوساطها الرياء والنفاق الذي تذكر نفيسي بعضاً من وقائعه.
إيران الدولة كما تجلوها الكاتبة منذ عهد القاجاريين إلى هذا الزمن، هي على حافة الاختبارات السياسية والعسكرية والاجتماعية المتواصلة، اما الصورة الثابتة عنها اليوم فصورة خادعة للنظر، والايرانيون الذين يتشبثون بماضيهم لا ينسون عواقب هزيمتهم التاريخية، ويتحيّنون الفرص للثأر واستعادة مجدهم الغابر، أما ما كان يبدو للعيان من ان سلطة الشاه كانت متماسكة، فهي في رأي نفيسي ليست كذلك، انما كانت منشطرة إلى وجهين متصارعين: امبراطوري وعقائدي.
وفي نظرها يتكافأ حكم الشاه وحكم الثوريين في تعاملهما مع المعارضة السياسية باعتبارها دوماً ومن دون تفرقة شكلاً من أشكال الجريمة والخيانة.
وما تعلمته نفيسي أن الحقيقة في السياسة الايرانية لا وزن لها، بل المعيار والأساس يُبنى على الفكرة المسبقة.
سيرة عائلية لوطن.. الفاشية الدينية حين تسلب تراثا حضاريا باسم الثورة
الأهرام - 10 سبتمبر 2014 ◀ إبراهيم فرغلى :
ربما لولا قراءتى لكتابها الأول والمهم «أن تقرأ لوليتا فى طهران» لما انتبهت لكتاب الأديبة الإيرانية آذار نفيسى التالى هذا، الذى ضمنته سيرتها الذاتية ومنحته اسم «أشياء كنت ساكتة عنها». كانت نفيسى قدمت فى كتاب لوليتا فى طهران درسًا فى الأسلوب،
وكشفت عن قدراتها المستمدة من تاريخها الطويل فى قراءة الرواية كقارئة هاوية فى مراهقتها وشبابها، ثم كقارئة أدب محترفة خلال دراستها للأدب الأمريكى وتدريسه لاحقا لسنوات فى جامعات طهران ثم فى الولايات المتحدة التى انتقلت إليها منذ عام 1997 ولا تزال تعيش فيها.
وأظننى وقعت أسيرا لطريقتها الذكية فى السرد، وبقدرتها على الانتقال الرشيق بين التاريخ وماضيها الشخصى من جهة وبين حكايات تلميذاتها السبع، من جهة أخري. تلميذاتها اللائى كن يحضرن اسبوعيًا إلى بيتها من أجل دراسة أو بالأحرى قراءة الأدب ومناقشة أفكارهن عما يقرأنه معها، ثم التنقل بين هذا كله وتاريخ إيران الحديث وخصوصا منذ قيام الثورة الإسلامية فى إيران، التى حولت المجتمع إلى سجن كبير، تقمع فيه الحريات الشخصية والسياسية، خصوصا للمرأة، ويفيض بمظاهر الحشمة المزيفة، فيما تنشأ فى السر كل ألوان الحياة التى يريد الأشخاص أن يحيوها، بعيدا عن السلطة التى أخذت تفتش فى العقول والقلوب وتراقب المظهر لكى تلزم المواطنين بالشكل الذى تريدهم أن يحيوا به, فيما تغلف كل ذلك بدور الرواية فى فهم العالم، عبر التقاط التفاصيل الروائية الذكية والأفكار التى تتضمنها أعمال الكتاب الكلاسيكيين الكبار مثل نابوكوف وهنرى جيمس وسواهما.
فى لوليتا فى طهران أيضا، كان تركيز نفيسى منصبا على فتياتها، وحياتهن كنماذج لشابات نشأن بعد الثورة الإسلامية، بعضهن اخترن الاتساق مع ما يريده المجتمع، بينما أخريات اخترن الحياة كما يردن أن يعشنها ولو كان ذلك سرا.
أما فى مذكراتها فقد عادت لترسم كل الصورة، ولإحياء الشخصيات التى لم يكن لها وجود فى كتابها الأول إلا بالمرور العابر، مثل الأب والأم والأخ محمد والزوجين الأول والثاني، والابن والابنة والأقارب وقبلهم الجد والجدة، وحياتها عموما، طفولتها وصباها وشبابها فى المرحلة قبل الثورة الإسلامية، ودراستها الثانوية فى بريطانيا وسويسرا. فيما تنسج فى خلفية ذلك كله تاريخ الإمبراطورية الفارسية، وأهم المراحل التاريخية التى مرت بها، مطعمة إياها بمقتبسات من ثقافة عريقة عبر أشعار ونصوص وكلمات كتاب إيران الكبار أمثال الفردوسى صاحب الشاهنامة التى سعى فيها «إلى حفظ واستجلاب ماض يتعذر استرداده، محتفيا بحضارة عظيمة ومتفجعا على زوالها»، وكذلك آخرون مثل جلال الدين الرومى وعمر الخيام وحافظ الشيرازي. وتروى كيف أثرت فيها كتابات الفردوسى وسواه عبر حكايات والدها أولا، ثم عبر قراءاتها هى لاحقا. ثم تأثير الشاعرة الايرانية المعاصرة فروغ فرخزاد بشكل خاص على حياتها.
ما سكتت عنه فى لوليتا فى طهران تعود إليه فى «اشياء كنت ساكتة عنها» بصدق كبير، وبذاكرة حساسة، وبقلم رهيف الدقة، فى تفكيك الصور التى أمسكت بلحظات من تاريخها الشخصي، وفى استعادة تفاصيل حتى على مستوى رسم الملامح والشخصيات بحس روائى بارع. تمسك بمشرط جراح وتعود إلى جسد تاريخها الشخصى لتفتح كل جزء من الجسد، الظروف الخاصة للأم التى نشأت فى كنف زوجة أم بعد وفاة أمها فى عمر مبكرة، وتأثير ذلك لاحقا على الأم.
وبينما نقرأ هذه التفاصيل نرى فى الخلفية تأثير ذلك على حياة آذر الشخصية والنفسية من جهة، والانعكاسات السياسية التى أدت إلى هذا المسار.
سيكون من المدهش أن نرى صورة مبكرة للخمينى وأنصاره فى الخمسينيات، كجماعة مناهضة للشاه وحكمه الديكتاتوري. قبل نفيه إلى العراق. وسنرى لاحقا التأثير الذى لعبه أنصار الخمينى المتشددين فى الأحداث التى سبقت الغضب الشعبى المتراكم ضد شاه إيران. تساعده الصورة التى بثتها فرنسا عن الخمينى والتى تعلق عليها الكاتبة بوصفها صورة مفارقة «الرجل الإلهى الذى يدير ظهره للعالم وفى الوقت نفسه يتآمر ويخطط للسيطرة عليه»، وهى المفارقة التى سحرت اتباعه. لكن آذار نفيسى تكشف هنا كيف أن اليسار الإيرانى والحركات الثورية المدنية قد عاشت فى الوهم وصدقت الخمينى وأنصاره فتضامنت معه، قبل أن تفجع بالانقلاب الذى حدث بعد وصولهم للسلطة واصبح التيار المدنى كله هدفا للاعتقالات والإعدامات، إلا من حالفه الحظ أو هرب خارج البلاد.
«على الرغم من أن القوى العلمانية هى التى بدأت الاحتجاجات إلا أن آية الله خمينى وأتباعه برزوا الآن فى ايران»، هكذا تشير للأحداث فى عام 1978 مضيفة انهم كمجموعة من الثوار الاشتراكيين واليساريين والعلمانيين قد غضوا الطرف عن تصريحات الخمينى ضد المرأة والاقليات العرقية والدينية وانشاء دولة دينية «ورحبنا بحماسة بالأحاديث الصاخبة التى اطلقها الخمينى ضد الامبريالية وضد الشاه».
تقول نفيسي«غير أننا كنا مخمورين واعمتنا اهواؤنا«، وحين بدأت الإضرابات فى تبريز وقم كنا نتصور أنها »قواتنا«.
وحين تحرروا من أوهامهم كان الوقت قد تأخر كثيرا ، فقد اصطبغت الثورة بصبغة إسلامية انقلبت ليس على اليساريين والعلمانيين فقط ممن اشعلوها وساهموا فيها بل وحتى على كثير من اصحاب الرؤى الاسلامية الذين اختلفوا مع الحكومة الاسلامية المتشددة. واصبح الحجاب إجباريا والغى قانون حماية الاسرة وقلّ السن القانونية لزواج المرأة الى تسع سنوات وأجيز قانون تعدد الزوجات وعزلوا القاضيات من وظيفتهن.
إنه كتاب مهم فى الحقيقة يكشف خبرة إنسانية مهمة، ويقدم نموذجا لتحرير الذاكرة من مخاوفها من أجل الصدق وبالتالى محاولة فهم الذات والعالم بشكل دقيق، وكذلك فى محاولة للتخلص من آثار الصمت باعتباره تواطؤا مع القهر والظلم والفاشية.
كتاب - "أشياء كنت ساكتة عنها"
لآذر نفيسي إيران في ضوء التجربة الفردية
النهار - 4 حزيران 2014 - رامي زيدان
بلغة رشيقة سلسة ومليئة بالمعاني اليومية الهشة والمؤثرة، تكتب الإيرانية المقيمة في أميركا، آذر نفيسي، روايتها أو ذكرياتها، "أشياء كنت ساكتة عنها"، منشورات "الجمل"، ترجمة علي عبد الأمير صالح، بعد كتابها عن الدار نفسها، "أن تقرأ لوليتا في طهران"، ترجمة ريم قيس كبة. يجمع بين الكتابين أنهما يندرجان ضمن كتب المذكرات.
تروي آذر نفيسي الظروف التي مرت بها إيران بعد الثورة الإسلامية ومن ثم الحرب مع العراق، حين كانت الجامعات مغلقة، وكيف أنها اقترحت، كونها أستاذة للأدب الإنكليزي في جامعة طهران، على سبع طالبات ليحضرن في منزلها لقاءً أسبوعيا كل يوم خميس يناقشن فيه عددا من الأعمال الأدبية العالمية المحظور نشرها في إيران، مثل رواية "لوليتا" لفلاديمير ناباكوف وغيرها من الروايات. الكتاب الجديد، هو مذكرات الكاتبة عن عائلتها وما مرت به من ظروف حالكة ومتحولة، ومذكراتها هذه المرة أكثر حميمية وفردية بل هي تكتب ألبوم العائلة، صورة وكلمة.
جاءت فكرة كتاب نفيسي من يومياتها التي بدأت تكتبها بعد الثورة عام 1979، مقتبسة أيضا من يوميات والدها الذي كان أمين العاصمة طهران، وأصدرها وأهداها إليها يوم كانت في الرابعة من عمرها. ذكريات نفيسي تذكّرنا برواية "بجعات برية" للصينية ليونغ تشانغ من حيث الشكل والاجيال (دراما لثلاث نساء في مراحل مختلفة) والعلاقة مع الثورة: تشانغ في الصين "الماوية"، ونفيسي في ايران "الخمينية". بالطبع هناك فرق في جوهر الكتاب وفرق في اسلوب الكتابة، وهذا يتعلق بالزمان والمكان.
تروي نفيسي حكايات لم تكشف عنها من قبل: ترعرعها في عائلة معروفة، فقد كانت أمها عضوا في البرلمان في زمن الشاه، وأبوها كان من رجاله أيضاً؛ دراستها في سويسرا وإنكلترا والولايات المتحدة، زواجها الأول، الذي تصفه باندفاع متهور، من رجل لم تحبه؛ عودتها إلى إيران أواخر عقد السبعينات من القرن الماضي؛ ممارستها التدريس تحت تعليمات رجال الدين، وزواجها للمرة الثانية وطفليها.
هي قصة أسرة تتكشف إزاء خلفية عهد مضطرب من تاريخ إيران السياسي والثقافي. ثمة قصص كثيرة بين ولادة جدة المؤلفة في بداية القرن العشرين وولادة ابنتها في نهايته، وقد وسمتها ثورتان اعطتا إيران شكلا معيناً، وأحدثتا انقسامات وتناقضات كثيرة بحيث اصبح الاضطراب الموقت هو الشيء الوحيد الدائم.
ولدت جدة المؤلفة حينما كانت إيران تعيش في ظل حكومة ملكية غير مستقرة واستبدادية وخاضعة للقوانين الدينية الصارمة التي تجيز الرجم بالحجارة، وتعدد الزوجات، والاقتراب من الفتيات الصغيرات اللواتي في سن التاسعة. لم يكن مسموحاً للنسوة بأن يغادرن منازلهن إلا لماماً، وعندما كن يفعلن ذلك جرت العادة أن يرافقهن شخص ما وأن يغطين أجسادهن من قمة الرأس حتى أخمص القدمين. ولم يكن هناك مدارس للنساء، على الرغم من أن بعض العوائل التي تنتمي الى طبقة النبلاء كانت توفر معلمين خصوصيين أهليين لبناتها. شهدت جدة المؤلفة الثورة الدستورية خلال الفترة 1905 – 1911، وهي الأولى من نوعها في الشرق الأوسط، وقد ساعدت تلك الثورة على التبشير باقتراب حدوث شيء في إيران الحديثة، وكهربت طبقات مختلفة من المجتمع، من بينهم رجال الدين التقدميون، الأقليات، المثقفون، بعض اعضاء طبقة النبلاء، والنساء اللواتي شرع بعضهن في تقديم الدعم للثوريين، ونظمن مجموعات سرية وطالبن بالحصول على فرص التعليم.
تقول المؤلفة "كان يمكنني أن أصف الطبيعة الهشة والمتناقضة لطفولة أمي وشبابها في منتصف العشرينات والثلاثينات، ففي ذلك الزمن كانت الامكانات الوامضة قد بلغت حداً بحيث صار في وسعها أن تظهر أمام الناس من دون حجاب، وأن تذهب إلى مدرسة فرنسية، وتلتقي بزوجها الأول وتقع في غرامه فيما هما يرقصان في حفلة زواج؛ هذه الأشياء كلها كانت مستحيلة قبل عقدين من الزمن لا أكثر". ثم تبدلت الأمور بعد قرارات اتخذها الشاه، إذ اصبح يحق للنساء التعلم واقتناء الكتب واقامة الحفلات ومشاهدة الأفلام السينمائية، ووصلن الى مناصب في السلطة. لكن ابنة الكاتبة التي ولدت بعد "الثورة الاسلامية" الخمينية بخمس سنوات، شهدت عودة القوانين ذاتها التي سادت خلال عمرَي جدتها ووالدتها. فأجبرت الابنة على ارتداء الحجاب في المرحلة الأولى من دراستها الابدائية وكانت تعاقب اذا كشفت خصلة من شعرها جهارا.
لا تذهب آذر نفيسي الى قراءة العناوين العريضة للمراحل الزمنية في ايران، بل تلتقط الجوانب الهشة التي تتعلق بالحياة الفردية وتعكس الأمور بحميمية وواقعية شاملة، فترسم ألبوم الصور لعائلتها، وتصف حياتها الصراعية مع أمها التي لم تُرد منافسة لها، حتى إنها كانت تحاول حرمان البنت الصغيرة من القراءة لأوقات طويلة. كانت أمها لا تفوّت الفرص لقراءة يوميات آذر ورسائلها والتنصت على مكالماتها الهاتفية. من أجل حماية نفسها، انحازت آذر إلى أبيها لتتفاهم معه عبر لغة سرية طوّراها لتبادل المشاعر وخداع أمها. كان الأب هو من دفع الابنة إلى الإطلاع على الأدب الفارسي الكلاسيكي وعلى "الشاهنامة" للفردوسي، وأيضا على الأدب العالمي. تحاول الكاتبة عبر سرد مواقف أبيها، التعويض عن تقصيرها نحوه؛ فبعد مغادرتها إيران مع زوجها للمرة الأخيرة، لم تكتب له رسالة أو تحاول الاتصال به، وتلوم نفسها لأنها لم تذهب إلى إيران لرؤية والديها قبل وفاتهما حتى وإن كان ذلك يعرضها للخطر.
يأتي كتاب آذر في سياق مسيرتها الثقافية؛ فهي حين بدأت بتدوين كتابها الأول، "أن تقرأ لوليتا في طهران"، ارادت أن تناقشه في ضوء الازمنة الحديثة. كان ذلك مستحيلا، ليس فقط لأن الكاتبة لم تستطع أن تمارس صراحة الكتابة عن الحقائق السياسية والاجتماعية للحياة في الجمهورية الاسلامية في إيران، بل أيضا لأن الدولة الاستبدادية كانت تتعامل مع التجارب الفردية والشخصية بوصفها محرّمة. بدأت بوضع لائحة يومياتها، تحت عنوان "أشياء كنت ساكتة عنها" فكتبت عن الوقوع في الحب في طهران، والذهاب الى الحفلات، وعن القوانين القمعية والاعدامات، وفي الختام انجرفت لافشاء الاسرار الخاصة.
من عنوان كتاب آذر نفيسي نلتقط سر التحدي الكامن في الكتابة والقراءة معا، فتكتب عن أشياء كثيرة كانت ساكتة عنها، وتعدد في مقدمة الكتاب أشكال السكوت الذي تفرضه بالقوة السلطات الاستبدادية على مواطنيها، وتسرق ذكرياتهم، وتعيد كتابة حكاياتهم، وتكتب عن سكوت الشهود الذين يفضلون تجاهل الحقيقة او عدم التحدث عنها، وهناك سكوت الضحايا الذي يصبحون غالبا شركاء في الجرائم التي ارتكبت ضدهم. من ثم هنالك أنواع من السكوت نطلق العنان لها تتعلق بذواتنا، وأساطيرنا الشخصية، والقصص التي نفرضها بالقوة على حيواتنا الحقيقية. تبين المؤلفة أنها خبرت الأعباء الثقيلة في حياتها الخاصة، في كنف عائلتها، قبل ان تتمكن من تقدير الطريقة التي يفرض بها النظام العديم الرحمة صورته الخاصة على مواطنيه.
نذكر هنا أن آذر نفيسي الحاصلة على شهادة الدكتوراه هاجرت إلى الولايات المتحدة عام 1997 بعد فصلها من عملها التدريسي في جامعة طهران بسبب رفضها لبس الحجاب. هي الآن أستاذة محاضرة في معهد الدراسات الأجنبية بجامعة جونز هوبكنز، وكذلك محاضرة في مدرسة الدراسات الدولية المتقدمة في واشنطن.
الإيرانية آذر نفيسي تكتب سيرتها المكتومة
الحباة - الإثنين، ٥ مايو/ أيار ٢٠١٤ - أحمد زين الدين
تقارب آذر نفيسي الماضي بوصفه فجوات يجب رتقها، لذلك غطّت سيرتها بالوقائع والذكريات والمرويات، كما بالمتخيل والموهوم والقصص المخترعة في طفولتها، بتأثير من حياتها في كنف عائلة مثقفة ومولعة بقراءة الروايات.
ما يميّز الكتاب هو الحكي الذي سكتت عنه في روايتها الأولى، فالحُرم الذي ضُرب على الكثير من الشؤون الشخصية وعلى حرية التفكير والتعبير إبان الثورة الإسلامية، هو الذي أرغمها في كتابها السابق على ان تتبنى التورية والتلميح وكل طرائق التملص من عيون رقباء الفضيلة الكثر.
ولعلّ فضاء الغرب الذي تعيش في ظله الآن أطلق العنان لنفسها وقلمها، وشجعها على البوح بما أُجبرت على ان تصمت عنه سابقاً من أحداث عامة ومواقف شخصية.
ترسم الكاتبة بيومياتها الخطوط المتقاطعة بين السيرة الشخصية والسرد التاريخي العام. وإذا كانت تناولت في «أن تقرأ لوليتا في طهران» حقبة الثورة الإسلامية وما اعقبها من أحداث، ففي «أشياء كنت ساكتة عنها» تعود إلى الفترة التي سبقت الثورة وإرهاصاتها الأولى. وتستعيد أجواء عائلتها من مخطوطة تركها والدها لها، كان قد كتم بعض أسرارها في سيرته الذاتية التي كان قد طبعها في حياته. سيرة تمثل أباً نشيطاً ومثابراً وطموحاً منذ شبابه، وذا أهواء نسائية. وزوجة متعالية كانت تُغطي احساسها بالخيبة، بادعاء ان الدهر ظلمها وأضاع عليها الفرص.
السيرة المكتومة
ينطوي كتاب نفيسي على صور فوتوغرافية من الماضي نصلت ألوانها، تقرأ فيها المؤلفة ملامح أصحابها وأبعادها النفسية وانطباعاتها حول ظروف تصويرها. وتكشف خفايا العلاقة المثلثة بينها وبين أمها وأبيها.
تذكر نزوات أمٍ عاشت وهي تصنع روايتها الشخصية التي تسردها على مسامع البنت التي كانتها آذر نفيسي. هي رواية منسوجة من خيالات الأم وهواجسها وشعورها بتفوق موهوم. حاولت نفيسي في ما بعد، من دون جدوى، ان تتملص من أحابيل سردها ومن محاولة التفريق بين الخيط الواقعي والخيط المتخيل المتواشجين في لحمة واحدة. ولم تكن رواية الأم عن نفسها تكمن في ما قالته، بل في ما أهملته. كانت الأم تحوّل التاريخ إلى فانتازيا، وتزيد بذلك من ضبابية صورتها وغموضها في ذهن البنت. وتدفعها الى عقد حلف مضمر مع والدها الذي تزداد إعجاباً بنجوميته، ضد تسلط الأم المزعوم.
تذكر نفيسي ان نزوات أمها جعلتها في طفولتها تلوذ إلى عالم اكثر حرية، هو العالم المتخيل المبتكر الذي سبق لأبيها أن وطّد طريقه لتنفذ اليه، عبر اختلاق القصص الملفقة او المستوحاة من التاريخ الايراني التي كان يسردها على مسامعها. طريق تحول في حياة الكاتبة مع انقضاء الأيام إلى شغف بالرواية. كانت الروايات منبع استيهاماتها التي تصنع من خيوطها عالمها السري الذاتي. وقد حملت هذا العالم كما وصفته بدقة وتفصيل في كتابها «أن تقرأ لوليتا في طهران» إلى طالباتها في الجامعة.
كان العالم المتخيل مختلفاً ومدهشاً مقارنة بذلك العالم الذي كانت تعيش فيه. تعلمت ان ما وهبها أياه ابوها من خلال قصصه خطّ حدوداً لا مرئية تصنع منها وطناً غير الوطن الذي فرضه المتشددون الثوريون. وطناً لا يعتمد على الجغرافية او القومية، ولا يقدر احد أن ينتزعه منها.
بيد أن الهاجس الذي ما فتئ يلاحق الكاتبة هو هاجس وضعية المرأة في بلدها طوال الحقب السياسية والاجتماعية التي توالت عليه، منذ عهد جدّتها التي شهدت الثورة الدستورية عام 1905 وما حققته من تقدم نوعي في حياة المرأة الايرانية. وبعدها الأم التي انتُخبت نائبة في عهد الشاه محمد رضا بهلوي. وحقبة الكاتبة التي شبّت في عهد الثورة التي أرغمتها وأرغمت نساء ايران على العودة الى قوانين قهر المرأة. وكانت قصائد فروغ فرخزاد الجريئة معينها لمواجهة السلطة الدينية الجديدة التي تحاول ان تنتزع منها حريتها.
اللاوعي الإيراني
تبلور وعي الكاتبة الوجداني والسياسي برجوعها الدائم الى «الشاهنامة»، ملحمة الفردوسي، التي تحاول استرداد ماضٍ لا يمكن استعادته. فالشاهنامة نص أساسي في اللاوعي الإيراني الذي شكّل ثقافة الشعب بفئاته كلها. وكان أبوها يذكر امامها ان بلاده تعرضت إلى حروب وفتوحات عدة، وأن مقداراً من الوعي القومي الايراني استند إلى الوجدان المناهض للعرب منذ الفتح الاسلامي، من دون ان ينسى التواطؤ الداخلي الذي شرّع أبواب الامبراطورية العظمى عهد ذاك امام المحتلين. ولكن، بعد الثورة الإسلامية، كانت تعود نفيسي مراراً لتقتفي أثر الخيط اللامرئي في عقلية الايرانيين الذي أفضى إلى تأسيس الجمهورية الاسلامية الحديثة، وتجده في نزعة التعصب الأعمى الذي رافق الشعب الايراني من قبل.
طهران في عهد طفولتها كانت مستغرقة في مظاهر الحياة الأوروبية التي كانت أليفة عند الطبقة الراقية بوصفها جزءاً من ايران الحديثة. بيد أن طهران لم تكن طهران نفيسي وطبقتها، كانت ثمة طهران أخرى متزمتة وممتعضة، غارقة في عزلتها، ترفض الانفتاح وتتجنب الأقليات الدينية من ابناء البلد، متجاهلة مفردات المعاصرة وحداثة الأفكار والعادات. وكان يسود بعض أوساطها الرياء والنفاق الذي تذكر نفيسي بعضاً من وقائعه.
إيران الدولة كما تجلوها الكاتبة منذ عهد القاجاريين إلى هذا الزمن، هي على حافة الاختبارات السياسية والعسكرية والاجتماعية المتواصلة. اما الصورة الثابتة عنها اليوم فصورة خادعة للنظر. والايرانيون الذين يتشبثون بماضيهم لا ينسون عواقب هزيمتهم التاريخية، ويتحينون الفرص للثأر واستعادة مجدهم الغابر. أما ما كان يبدو للعيان من ان سلطة الشاه كانت متماسكة، فهي في رأي نفيسي ليست كذلك، انما كانت منشطرة إلى وجهين متصارعين: امبراطوري وعقائدي. وفي نظرها يتكافأ حكم الشاه وحكم الثوريين في تعاملهما مع المعارضة السياسية باعتبارها دوماً ومن دون تفرقة شكلاً من أشكال الجريمة والخيانة. ما تعلمته نفيسي أن الحقيقة في السياسة الايرانية لا وزن لها، بل المعيار والأساس يُبنى على الفكرة المسبقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق