الثلاثاء، 18 أغسطس 2015

صورة المرأة في الموروث الشعبي : السيرة الهلالية نموذجاً - د. عزة بدر ...


صورة المرأة في الموروث الشعبي


" السيرة الهلالية نموذجاً" 

من أبحاث مؤتمر " الموروث الشعبي والنص الأدبي " 

الذي عقد بمدينة دمياط في الفترة من 1 أبريل إلى 3 أبريل 2007

الدكتورة عزة بدر

   تقوم المرأة بأدوار متعددة في الثقافة الشعبية فهي الموئل الأساسي لصون بنية هذه المأثورات والحفاظ على رصيدها فهي تقوم بدور بارز في بث ألوان من المأثور الشعبي تحفل بحشد من القيم والتصورات التي تثبت صور الوعي أو تهدف إلى المحافظة على الأوضاع التقليدية السائدة في مجتمعها أو تغييرها ، ولكنها أيضا تدور في فلك ما رسمته لها الثقافة الشعبية من صور ، ومن هنا فإن إطلالة على صورة المرأة في إحدى السير الشعبية الشهيرة قد يعكس مظاهر وعي المجتمع الشعبي بوعي المرأة ومعالم مكانتها لديه. 
وتثير هذه الورقة بعض الأسئلة حول صورة المرأة في بعض السير الشعبية ، وهل هي محكومة بسيادة الصوت الجمعي وهيمنته أي مرتبطة بتصور الجماعة الذكورية لها ، وهل هذه الصورة التي قدمتها الجماعة للمرأة هي الأكثر حضورا أم أن هناك صورة تتململ من هذه المواضعات المفترضة ، وتعمل على خرقها وكسر حواجزها؟
وإذا كانت عملية التغيير عملية دائبة الفعل في الثقافة الشعبية عموما والأدب الشعبي خصوصا ، وغالبا ما يتراسل التغيير مع الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتغيرة ، ويتوافق مع مصالح مبدعي الأدب الشعبي ومنظورهم وتوجههم المتغير . فهل من الممكن أن تتغير بالتالي صورة المرأة في الأدب الشعبي بتغير وجهات نظر الرواة الشعبيين؟ ، وحيث أن هذا التغير تقوم به الأجيال المتتابعة التي تملك هذه الثقافة الشعبية ، وهذا الأدب الشعبي كما تمتلكها الأجيال الماضية ، وتملك الصلاحية لإحداث التغييرات التي تناسبها وفق معاييرها ومنظورها بل وأن تجري عملية التثاقف مع الثقافات الأخرى التي تتصل بها وترشح منها ماهو صالح لأن تدمجه في ثقافتها (1) . 
وهل يمكننا أن نطالع صورة المرأة في السيرة الهلالية مثلا على لسان رواة ومنشدين جدد ، وقد اختلفت صورتها عما كنا قد ألفناه قديما؟ ، هل سيصبح للجازية يوما ما نصف المشورة أو المشورة كلها بعد أن كانت لها ثلث المشورة؟! وهل يمكن النظر إلى " سُعدى " ابنة الزناتي خليفة التي شغفها مرعي حبا نظرة جديدة لا تثمن فكرة تقديس صورة الرجل الغازي على حساب المرأة المهزومة في حبها؟! وهل تتراجع النظرة السائدة إلى جمال المرأة على اعتبار أنها حلية الغالب وغنيمة المنتصر! فتضطر إلى الزواج منه إنقاذا للقبيلة أو درءا لشر المعتدي ! وهل بإمكاننا أن نقول أن بعضا من هذا التغيير قد حدث بالفعل وهل نتج عن هذه السيرالشعبية أعمال قصصية وشعرية "بالادا" تؤسس أيضا لصورة المرأة عند الجماعة الشعبية ؟ وهل تكرس لرؤية الجماعة الذكورية أم أنها تركت هذه المرة المجال للتعبير عن وعي المرأة بذاتها وبصورتها؟! 

* الجازية وسُعدى :

أورد ابن خلدون في مقدمته شواهد من الشعر المتصل بسيرة بني هلال في ختام مقدمته ، وتعد هذه المقطوعات أول خيط جدي يتصل بسيرة بني هلال من الناحية الأدبية والفنية ، وشواهد ابن خلدون تنطق بأن السيرة كانت في أول أمرها عبارة عن قصائد غنائية توزعتها أجيال مختلفة وبيئات شتى بعيدا عن اللسان الفصيح ، وهي تشبه من هذه الناحية أغاني البطولة الغربية التي كانت قبل أن تستقر على صورها المعروفة مقطوعات غنائية متفرقة ، ثم كان الطور القصصي وقد بدت إماراته أيام ابن خلدون في القرن الثامن الهجري تؤيد ذلك الشواهد التي أوردها في مقدمته ، ولم يحدث التحول طفرة ، وإنما حدث في أناة وبطء ، ولا يمكن أن يقال أن فردا معينا أو أفرادا معينين قاموا بالعبء فيه فسيرة بني هلال كمثيلاتها " أغنية رولان" تعبير شعب عن مشاعره الجماعية " (2) .
ومن هنا تكتسب وضعية المرأة في هذه السيرة أهميتها لأنها تصدر عن مشاعر الجماعة ووعيها بصورة المرأة . وتعد إشارة ابن خلدون أو اختياره المقطوعات الشعرية الخاصة بصورة الجازية وصورة سعدى دليلا على اهتمامه بنظرة الرجل للمرأة أو صورتها لديه فالمقطوعة الأولى التي أوردها ابن خلدون أرسلت على لسان الشريف بن هاشم يتحسر على فراق " الجازية" ، والثانية تهكم بخليفة الزناتي أجرى على لسان ابنته سُعدى . وقد كانت المرأة في هذا المجتمع الهلالي ذات أثر بارز فقد كانت سافرة غير محتجبة ، وكثيرا ما صورت الفتيات الهلاليات وهن في رياضتهن وسمرهن وكن يستمتعن بقسط لابأس به من الحرية بعكس ما عرف عن المرأة في البيئات الإسلامية المتحضرة. 
كما كان لهن تأثير في أبائهن يدفعنهم إلى القيام بعمل أو الإحجام عن غيره ، ولا يؤثر عنهم حب تستنكره الجماعة لأن ما يصيبهن من سوء القالة يصيب الجماعة التي ينتسبن إليها. 
وكانت الزوجة أبرز من الفتاة في هذا المجتمع وأظهر وأشد تأثيرا في الحوادث والرجال وأصرح في التعبير عن عواطفها الخاصة نحو زوجها لأن الجماعة الهلالية تبيح ذلك وتشجع عليه ، وإذا عرفت إحدى النساء بقوة الشخصية أو القدرة على التأثير كان لها مكان الصدارة . تسهم في القيادة وتشير في حل المعضلات ، ولكن هذا الجمع الذي سكت عن الحب بين فتيانه وفتياته لما قد يكون له من صدى في سمعة القبيلة لم ير بأسا من الاحتفال به خارج هذا المجتمع ، والعمل على تشجيعه حتى ينتهي إلى نتيجته المسايرة للمثل الأخلاقي وهي الزواج ، ومن ذلك مافعله أبوزيد ورفقاؤه الثلاثة بمساعدة " مغامس " في الفوز بابنة عمه التي كان يحبها قبل أن يبلغوا مصر في ريادتهم الطريق إلى المغرب . 
وكان الرجل يبنى بأكثر من زوجة إلا أن واحدة منهن هي المخصوصة بالحظوة لإنجاب البنين ، ومن هنا نرى الصورة التي رسمتها الجماعة للمرأة من خلال السيرة الهلالية تؤكد على الرؤية الذكورية لها من خلال التركيز على دورها في الإنجاب " الأمومة" ، والحب الزوجي ـ المسموح بالتعبير عنه من قبل المرأة المتزوجة ـ ولا ذكر لحب تستنكره الجماعة لأن ما يصيب الفتيات من سوء القالة يصيب الجماعة التي ينتسبن إليها . 
ويلاحظ أن المرأة أو الفتاة التي تجاوزت في حبها هذا الإطار كانت تنتمي إلى قبيلة أخرى هي " سُعدى" ، وقدمت في صورة الفتاة التي تفشي سر أبيها ، وتشير على " الهلايل" بأن يرسلوا دياب لمنازلة أبيها فخانته إذ نصرت أعداءه بسبب وقوعها في حب مرعى ـ وهي صورة سلبية للحب ـ بل صورت السيرة الهلالية حب سُعدى بأنه حب من طرف واحد وجعلت الفتاة تقوم بالجانب الإيجابي منه دون الفتى لا لشيء إلا لأنه هلالي وهي زناتية . (3) 

* رؤية ذكورية : 

وإذا نظرنا إلى رؤية المصريين إلى شخصيتيّ " الجازية" ، و" سُعدى" فإننا نجد أنهم انتخبوا هاتين الشخصيتين النسائيتين ، وتم التعامل معهما كالأبطال البارزين ، ولكنهم نظروا إليهما من الخارج ، واكتفوا بالوصف دون التحليل واختاروا من الخصال أبرزها ليكون العلامة المميزة على صاحبتها ، وقد لوّن المجتمع المصري هاتين الشخصيتين باللون الذي يريد وهو المشتق من حياته وتجاريبه ، وبما أن المنشدين كلهم رجال ، وأن جماهير المستمعين لهم مباشرة هم أيضا رجال ، وإذا أنصتت النساء فإنما يكون ذلك من وراء الحجب والنوافذ فالتصوير يعتمد على تمثل الرجل للمرأة ، ولا يقوم على تمثلها لنفسها ، وهو متأثر برأيه فيها من ناحية ، وبإعارتها بعض صفاته من ناحية أخرى.

* أم محمد ! : 

وقد عرفت " الجازية " في جميع الأحداث بعد أن تركت زوجها الأول بكنيتها " أم محمد " ، وهذه الكنية تزحم اسمها ، وتكاد تغلب عليه مما يدل على أن المجتمع المصري كالمجتمع العربي يؤثر أم البنين عما سواها ، ويؤثر صفة الأمومة على غيرها من الصفات ، ومن الطبيعي أن تكون صورة الجازية مثالية كصور النساء في القصص الشعبي كله ، وهي توصف بأنها " جميلة المنظر ، لطيفة المحضر ، بديعة الجمال ، عديمة المثال ، في الحسن والكمال ، والقدر والاعتدال ، وفصاحة المقال ، ولا يوجد مثلها بين الخلق ، لا في الغرب ولا الشرق " . 
وقد أبرزت السيرة عاطفتها الفياضة تجاه زوجها " شكر" إذ لا تعدل به رجلا آخر ، ولو كان من قومها ، وكانت تبكي فراقه ، ولم يغلبها على هذه العاطفة التي تجذبها إلى أسرتها الخاصة إلا العاطفة القومية العامة فمن أجلها هجرت زوجها وولدها ، وتبدو هذه العاطفة القومية عندما عرضت الزواج على أبي زيد ليبنى بها بدلا من زوجته " غالية " التي عادت إلى جزيرة العرب مغاضبة ، وعندما نزل الهلالية بابن عمهم " الماضي بن مقرب" ـ فقد أراد أن يصهر إليهم في الجازية ووافق أهلوها على ذلك ـ ولكنها رفضت وفاء لزوجها ، ولكنها رضخت بعد ذلك وتشبثت بقومها كما تشبثوا بها ، فرافقتهم إلى غايتهم في تونس ، وكما كان الأمراء هم الصور الدالة على أقوامهم فقد كانت " الجازية" هي الصورة الدالة على نساء الهلالية جميعا ، تتزعمهم في الاستنفار إلى القتال والتشجيع عليه ، وكانت أبرز خصالها هي الحيلة ، وبلغ من قوة شخصيتها أنها كانت تسهم في تدبير الأمور ، و إقرار الخطط حتى قيل أن لها " ثلث المشورة " . هذا إلى جانب شجاعة نادرة تقربها من الرجال.

* الحب والكيد! 

وسُعدى في رواية المنشدين المصريين بارعة الجمال ، ولعلها تفوق " الجازية" فيه لأن جمالها هو العامل المؤثر في أعظم حوادث السيرة ، ولم يرسموها مكروهة أو مبغضة إلى النفوس لأنها زناتية ، ولم يزروا بصورة أبيها ، ولكنهم جعلوها مباينة من بعض الوجوه للجازية ؛ فسُعدى على نقيضها تطيع عاطفتها الخاصة وتغضي عاطفتها القومية ، وتدور حياتها كلها على خصلتين متداخلتين هما الحب والحيلة التي تبلغ درجة الكيد فما أن شغفت بمرعي حتى دفعها ذلك إلى القيام بكل عمل والاستهانة بكل عرف فاستغلت مكانها من أبيها حتى دفعته إلى منازلة "دياب " ، وبصّرت الهلالية ـ أعداء قومها ـ بنقط الضعف فيه! ، ولما لم يف لها مرعي بما تعاهدا عليه ، ظلت وفية له ، وطلبها دياب لنفسه فرفضت ، وأنزلت رؤية الجماعة الذكورية عقابها بهذه المتمردة التي انتصرت لعاطفتها الخاصة فذهبت رواية إلى القول بمقتلها إذ أن ديابا لما بلغته شكايتها أخذته العزة بالأثم وقتلها ، وتذهب رواية أخرى إلى أنها حققت أملها في الزواج من مرعي . ويتضح في هذه النهاية ملامح رؤية الجماعة الشعبية في مصر لشخصية " سُعدى " ، و" الجازية" متأثرة بالرؤية العربية القبلية فقد تسلمت البيئة المصرية سيرة بني هلال وغيرها من السير بعد العصر الفاطمي أو بعبارة أوضح بعد أن أصبح السلطان في يد غير العرب ، ويبدو أن بقاء الخطوط البارزة في السيرة الهلالية على حالها إنما يعني مسايرة هذه الخطوط للروح القومي المصري من ناحية ، ولفلسفة الحياة التي درج عليها المصريون في جميع عصورهم من ناحية ثانية ، وملاءمتها للتقاليد القصصية المتوارثة في هذه البيئة من ناحية ثالثة . ( 4) 

* في صالح القبيلة : 

وعن السيرة الهلالية تولدت القصص الغنائية والشعرية ، وهذا النوع من الأغاني الفلكلورية الملحمية كانت في المنشأ أغاني تؤدي بمصاحبة الموسيقى والرقص . وكثيرا ما تفيض هذه الأشعار الغنائية في التمثل بالشخصيات التاريخية والأسطورية والخرافية ، وهو ما يمكن أن نجده أيضا في الفولكلور الأوربي بعامة ، ومنها أغاني الملك كنوف على ضربات المجاديف للماء ، وأغاني الكهنة المنشدين ، وأغاني عمل النساء اللواتي يطحن بالرحى ، وأشهرها أغنية تحكي معاناة الملك ( بيتاكوس) الذي قضي عليه بأن يمضي بقية عمره يطحن بالرحى مثلما حدث في أغاني "سُعدى" ابنة الزناتي خليفة قائد جيوش تونس حين اغتاله خصمه دياب بن غانم ، والذي كان يعشق سُعدى التي كانت تحب بدورها مرعي فكان أن سجنها دياب تطحن الرحى ، وترتدي ثياب الخيش عندما رفضت حبه.
ولعل السيرة الهلالية من ابرز السير والملاحم العربية التي تولدت عنها أعمال قصصية وشعرية ، ومنها المواويل مثل موال عشق سعدى لمرعي ، ، وعزيزة ليونس (5) ، وعالية لأبي زيد الهلالي (6)..
ومنها الموال الذي يتحدث عن عزيزة ابن سلطان تونس التي عشقت عدو أبيها وبلادها " يونس" ابن السلطان حسن ابن سرحان الهلالي سلطان الهلالية ، وهي تشبه قصة "سُعدى" مع مرعي ، وقد وقعت عزيزة في حب يونس بالسماع ـ والأذن تعشق قبل العين أحيانا ـ عن طريق دلال ظل يفاخر بجمال يونس وفضائله أمام عزيزة ، وهنا يصور الراوي الشعبي هذا الحب ، يبذله بسخاء طالما أنه في صالح " الهلالية" ، ولا يمس نساءهم من قريب أو بعيد ! فيستعيد الراوي قصة " عزيزة" ، وقصة " سُعدى " ، وقصة " زليخة" ، قصة ذلك الحب الآسر ـ من طرف واحد هو المرأة ـ فتقول عزيزة في هذا الموال :

" بكيت زليخة وقالت :
عشت في الذل لمتوني 
ف حب يونس يابني يعقوب لمتوني 
عملت عزومة زليخة ودبحت ميتين كبش ،
ومن الغزال ستين
إلا وجولها البيض في أوان عصر
ومالوا وقالوا لها : فين يازليخة
اللي عليه البيبان ساكين؟
مافتحت زليخة الباب ليوسف
ماخرطت يدهم سكين
قالت آهو يا مساكين
اللي عليه لمتوني " (7) 

وهنا نرى الراوي لا يدين عزيزة ولا زليخة ، ولكنه يصف أن هذا الحب الآسر القاهر لفتى من " الهلايل" يشبه حب زليخة أو امرأة العزيز للنبي يوسف ، وفي هذا إضفاء كثير من القداسة حول بطل الهلايل أو أحد فوارسهم ، وإضافة هالة من الجلال من حوله ، وفي نفس الوقت التماس العذر للمرأة العاشقة ـ من خارج القبيلة ـ والتي لم تستطع المقاومة !
وإذا كان شوقي عبدالحكيم يرى أن القصص الشعرية الفولكلورية تروي أحداثا ملحمية يراد لها الحفظ والاتصال ، فعادة ما تكون على درجة عالية من الأهمية والخطورة ، وعلى المستويات البنيوية من سياسية وشعائرية واجتماعية وتقويمية ، ويرى عبدالحميد حواس في كتابه " أوراق في الثقافة الشعبية " : " أن نصوص الأدب الشعبي في تناولها لقيمة الخبرة الماضية من النطق المباشر بها حتى التمثل الرمزي وشواهد الحال تشير إلى أنه حتى في مواقف الحياة اليومية تستدعي القصص المصورة للخبرة الماضية كأمثولة للتأسي بها ، ويظهر هذا في مواقف التحكيم العرفي حيث تستخدم النصوص المصورة لهذه الخبرة الماضية كشواهد أو أمثولات للقياس ، ومن هذه الزاوية تصبح روايات السيرة أو مقاطع منها ليست تمجيدا فنيا لعالم مضى فحسب ، وإنما استعادة له كمثال ونموذج قيمي " ( 8) . 
إلا أن عبدالحكيم يختلف مع حواس في رؤية نصوص الأدب الشعبي أو السيرة بشكل خاص فيراها عبدالحكيم تروي أحداثا ملحمية يراد لها الحفظ والاتصال وتحقيق هدف أخير هو حفظ البنية الطبقية (9). 
ولكن حواس يرى : أن عملية التغيير عملية دائبة الفعل في الثقافة الشعبية عموما ، والأدب الشعبي خصوصا حيث تتفاوت سرعة التغير في مكونات الأدب الشعبي من عصر إلى عصر ومن فترة إلى فترة لاختلاف التسارع النسبي للتحولات التي تجري على أصحابه ولمدى الاستقطاب الذي يقعون تحت وطأته في علاقتهم بأطراف البناء الاجتماعي للآخرين" .
فإذا نظرنا إلى مثل هذه التغيرات التي حدثت في تأويل سيرة الهلالية ، وبالذات تصويرها للمرأة نجد أن بعض القراءات لهذه السيرة تكرس لوجهات النظر الذكورية عن المرأة ، والنظر إليها كمتعة متمثلة بقبول " الجازية" الزواج من أحد الأطراف المناوئة فإن ذلك مردود علية بأن هذا الزواج النفعي لم يتم قط ، وأنه ينبغي النظر إلى تلك السير في عصرها وفي الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي نشأت في ظلها ، ودراسة عناصر الخيال الشعبي الخلاق الذي أبدعها . 

* تأويلات مغايرة !

وبنظرة سريعة للقراءات المعاصرة للسيرة الهلالية أو بالأحرى لشخصية المرأة وصورتها فيها نجد أنه بالنسبة إلى شخصية "سُعدى" فقد تغيرت النظرة إليها من كونها خائنة لأبيها والنموذج الذي لاقى عقابه لخروجه عن العرف حيث استذلها (دياب ) أوقتلها فنجد أن تغيرات عديدة قد حدثت في المجتمع بحيث تم تثمين عواطف المرء الخاصة على حساب عواطفه القومية أو تراجع تلك العواطف فنجد تفسيرا أو تأويلا يرى أن "سُعدى" هي نموذج المرأة التي حققت ذاتها وكيانها ووجودها بقصة الحب التي انفلتت من إسار الثقافة الذكورية ، وتم النظر إلى " الجازية" التي حسمت أمرها لصالح القبيلة أو عواطفها القومية على أنها صارت أكثر ذكورية لأنها طالبت قومها بالثأر وعدم الصلح إصرارا على وضعها في خانة " الثقافة الذكورية " لا في " خدمة المجتمع" بل وترى بعض التأويلات أن " الجازية " قد تلقت عقاب الجماعة الشعبية عندما ركل دياب الجازية بقدمه عندما كشفت عن شخصيتها لتبارزه ! (6) .
وفي رأيي أن هذه القراءة ـ الني تتم وفقا لتغير سلم القيم وتتغير وفقا لتغيرات اجتماعية وثقافية عديدة ـ وقد عادت بالمرأة إلى "الحرملك " حيث يطلب إليها الإخلاص لجسدها فقط "متعة" لاذات تحقق وجودها في مجتمع تتحقق به ومعه، وتقدم مثل هذه الرؤية تراجعا في النظر إلى المرأة إذ أن الفروسية والبطولة كانت إحدى وسائل المرأة لتجاوز دورها كأنثى للمتعة في السيرة الهلالية حيث حصلت الجازية على ثلث المشورة واستبصرت الحلول لكل معضلة واجهت قبيلتها ، " وإلا فما الضرورة لأن تكون المرأة حاملة للسلاح أو على الأقل محرضة على حمله إذا كانت شخصيتها تمهد فقط لقصة عشق أو للإيقاع بالرجال في شراكها ؟ ! " (7) .
لقد قدمت السيرة الهلالية المرأة وقد تمتعت بمقام الكاهنة والآلهة القمرية ، وحتى التغزل فيها مرتبط بالفروسية فمن أسماء النساء في السيرة : " جمال الطعن " ، و" ربا " ، و" جوهر العقول " ، وسعد الرجا " ،أي أن المرأة ارتبطت بالفروسية والمكانة العالية وتقدير رجاحة عقلها ، وحسن الرجاء منها .
وللمرأة في هذه السيرة دور في الفتوحات والحروب فحتى أميرات بني هلال كن يختلن مع أبي زيد الهلالي في غزواته على حكام البلاد التي يجتازونها ، ومنهم " وطفا بنت دياب " ، و"جمال الطعن بنت أبوزيد" و" بنت القاضي بدير " ، و"الست ربا "، و" بدر النعام "، و"جوهر العقول "، و"سعد الرجا ".
بل أن وصف جمال المرأة جاء مرتبطا بالفروسية والنزال وبالنضال ، وهما أخص صفات البطل الشعبي ، فيتم وصف " شّماء " في السيرة الهلالية كالتالي :

( انظر لشامتها .. هــذي علامـــــتها
انظر لقامتها .. شــــــــبه الرديــــنية 
الشعر مثل الليل .. كأنه سباسب خيل
والوجه مثل السيف .. بعيون هندية ) .

ومما سبق نستطيع القول أنه رغم أن صورة المرأة التي كرستها الثقافة الذكورية قد تمحورت حول المرأة كرمز للأمومة ، ونظرت الجماعة اللاشعبية لقضية الحب في حذر اقتصرت على احترام تعبير المرأة عن حبها لزوجها فقط مع أن الجماعة الشعبية لم تهدر قيمة المرأة في مجال خدمتها لمجتمعها بل جعلتن لها ثلث المشورة ، وأكبرت تضحياتها من أجل مجتمعها ، ولقد نظرت الجماعة للحب الذي يهدر العرف أو قانون المجتمع على إنه غير مرغوب فيه بل غير مطروح أصلا إذا كان يتعلق بفتيات القبيلة بحيث لا يمسها من قريب أو من بعيد ، وربما لوحت القبيلة بنهاية سُعدى أو مقتلها كعقاب لخروجها عن التقاليد ـ وهو الأمر الذي دفع بعض الباحثين للتعاطف معها ـ وإن كان الوجدان الشعبي نفسه لم يبغضها وإنما ذكرها كذكره لقصة زليخة إذ أحبت النبي يوسف ، وفي هذا الإطار كان هذا الحب الخارج عن القانون والمتجاوزهو في حقيقته تقديس لرجال القبيلة . تقديس لرموزها الذكور ، وإعلاء لقدر " الهلايل" أمام أطراف مناوئة ، وحيث تجري دماء النساء دائما في مجرى نهر القبيلة حيث لم يتم تقييم موقف سُعدى الأخلاقي ( خيانة أبيها وقومها ) وإنما تثمين سطوة الرجال الذكور وغزواتهم المغيرة أو العاطفية على نساء القبائل الأخرى .

المراجع :

عبدالحميد حواس : ( أوراق في الثقافة الشعبية ) ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 2005 ، ص 139 ، ص 140.

عبدالحميد يونس : " الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي " ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، العدد 81 ، أغسطس 2003 ، ص 214، ص 216.

المرجع السابق ، ص 264.

المرجع نفسه، ص 306 ، ص 310 ، ص 286.

شوقي عبدالحكيم : الرجل والمرأة في التراث الشعبي ، كتاب الجمهورية ، مارس 2001 ، ص 25 ، ص 27.


سيد اسماعيل ضيف الله : " الآخر في الثقافة الشعبية " ، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ، 2001.

نبيلة ابراهيم : " من نماذج البطولة الشعبية في الوعي العربي " ، سلسلة معارف إنسانية عن ندوة الثقافة والعلوم ، دولة الإمارات العربية المتحدة ، 1993 ، ط2 ، ص 153.


ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة