الأربعاء، 13 مايو 2015

هند هارون بَين سَارقة المعبَد وَديوان عَمّار ...


هند هارون بَين سَارقة المعبَد وَديوان عَمّار

محمد منذر لطفي

ـ 1 ـ

 في عام 1977 رأى الديوان الأول "سارقة المعبد" للشاعرة العربية السورية "هندهارون" النور، وفي عام 1979 رأى ديوانها الثاني، أو بمعنى أدق الجزء الأول من ديوانها الثاني "ديوان عمار" ا لذي يحمل اسم "ملحمة الأمومة" النور أيضاً، وقد قدم للديوانين الشاعر والناقد المعروف الدكتور "أسعد علي" الذي ألقى لنا بعض الأضواء عليهما من خلال مقدمتين، الأولى بلغ حجمها 11 صفحة من القطع الكبير، بينما بلغ حجم الثانية 10 صفحات من القطع ذاته أيضاً، فماذا قدمت لنا الشاعرة عبر رحلتيها الشعريتين الأولى والثانية في كل من "سارقة المعبد" و"ديوان عمار"....؟


ـ 2 ـ

يقع الديوان الأول "سارقة المعبد" في 320 صفحة من القطع الكبير، ويضم بين دفتيه 68 قصيدة، وينقسم إلى ستة أقسام رئيسة تتابعت بعد كلمة الإهداء التي كانت إلى زوجها أبي عمار وابنها الوحيد عمار، وحملت الأسماء التالية:

سارقة المعبد: ويضم قصيدة واحدة مطولة.

أمومة: ويضم خمس قصائد.

قوميات: ويضم ثماني قصائد.

وجدانيات: ويضم إحدى وخمسين قصيدة.

رقصة المعبد: ويضم قصيدة واحدة مطولة.

ملاحم: ويضم قصيدتين مطولتين.

   فما هي السمات الأساسية لكل قسم من تلك الأقسام، وبالتالي للديوان بالكامل، وهل تمكنت الشاعرة حقاً من سرقة بعض الكنوز الرائعة من المعبد المسروق عبر رحلتها الشعرية الأولى أم لا...؟

ـ 3 ـ

في "سارقة المعبد" القسم الأول من الديوان، الذي ضم قصيدة واحدة مطولة كما سبق أن أشرنا حملت اسم هذا القسم واسم الديوان على حد سواء، كانت هناك الأفكار الإنسانية السامية والقيم النبيلة العليا التي راحت تلوي في الأفق البعيد، ثم أخذت تقترب شيئاً فشيئاً من واقع الشاعرة "الذي هو واقعنا نحن أيضاً"، لتساهم أكثر فأكثر في رسم الأبعاد الرئيسية "لمدينتها الفاضلة" التي تحلم ببنائها.. أو الوصول إليها.

لقد حمل هذا القسم "قيماً حياتية" أكثر مما حلم "فناً شعرياً"، وطرح قضايا ذاتية وقومية وإنسانية جيدة ولكن الشعر غاب في قسم منها نتيجة وقوع الشاعرة في مدارات المباشرة والنثرية والتقريرية والخطابية والإسهاب في الشرح، التي تمثل بعض سلبيات الشعر العمودي المعاصر، كقولها:

وطلبت من قاضي القضاة إدانة الجرم الجسيم
هيا تعالوا نفذوا الإعدام بالجسد السقيم 
إن الأدلة ليس تكفي كي يعد الفعل جرماً
لم تجد أقوال الدفاع... ولم ترد الموت عني

ولكنها سرعان ما تستدرك نفسها وهفواتها "الفنية" تلك، فتعمد إلى سد تلك "الكوى"، ببعض اللمسات الفنية الحسنة، وبوابل من القيم والمثل العليا التي تطرحها:

إني سرقت لكي أعيش على المدى بين النجوم
لا... لن أبوح لهيئة التحكيم بالسر العظيم،

   هذا السر الذي سرعان ما باحت لنا به في نهاية القصيدة بعد أن أجبرت على ذلك:

أهوت على أسنة الجلاد في ضرب وطعن
وجدوا بصدري ما سرقت.. وقد زها شعري ولحني
وجدوا بصدري خافقين تعانقا رغم التجني

ـ 4 ـ

أما في القسم الثاني "أمومة" فقد تبدل الموقف تبدلاً تاماً أو شبه تام، واختلف اختلافاتً جذرياً ولكن لصالح الشاعرة التي تمكنت من الجمع بين رفعة القيم وجودة المضمون والفنية العالية، حيث ظهر الشعر الحق الذي أعاد لنا الثقة بالشاعرة وبمكانتها وإمكاناتها.

لقد تحدثت في هذا القسم عن وصية الأم، وشاطئ الإيمان، ووحيدها عمار، والأم ثانية، والعذراء، وراحت تذوِّب نفسها شعراً بمثابة شمعة حب وتضحية كبيرين في محراب الأمومة الطاهر، وتستغرق في صفاء ذلك المذبح القدسي الوادع كما يستغرق الناسك في صلاته وقت السحر، فلنسمعها في "وصية أم" وهي تسلسل تلك الوصية بوحاً شافاً... ونفساً ندي الظلال:

تذكر بني.. إذا غبت يوماً
وأصبحت رهن الردى ثاوية
وغيبت بين ضلوع الثرى
وفي ظل صفـــصافة باكــية
وأغفيت بعدعراك السنين
وألقــيت رحلي على الرابيه
تذكر بنيَّ.. إذا غــبت أماً
تــــمد إلـــــيك يداً حانــــيه
تـــهوِّم حـول سرير أثـير
وتهــــفو إلى مـــقلة غافيه
تقول.. وتهتف في نشوة
"وحيدي يسير إلى العافية".

لقد ذكرتني هذه القصيدة  ـ والشيء بالشيء يذكر ـ بروائع الشعر الرومانسي الحزين، ا لذي رنح أوربة والعالم وما يزال، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, والذي أبدعته أنامل شعرائها الموهوبين بعامة، والفرنسيين منهم بخاصة أمثال "لامارتين وهوغو" وأضرابهما.

ومن الملاحظ أن ظاهرتي "الإيمان بالله، والتسليم لقضائه" واضحتان جداً  في هذا القسم، فلنسمعها في قصيدة "شاطئ الإيمان" حيث تقول:

كنت الضعيفة فانتصرت على الونى
وأنا القوية في حمى التواب
ولدي الحبــــــيب أمـــانة قدســــية
أوكلـــــــته للآخذ... الوهاب

ـ 5 ـ

أما في القسم الثالث "قوميات" التي غنت من خلاله "تشرين والأرض والشهيد والوحدة واللاجئين والإنسان". فقد زخر بالنفَس القومي  المميز.. والعواطف الصادقة الجياشة، وتمكن من الحفاظ على التوازن بين جودة القيم.. وجودة الفنية، فلم تطغ إحداهما على الأخرى، تقول في قصيدة بعنوان "عودة تشرين":

ايه تــــــــــشرين، وقد
أوقدت فيصدري لهيبه
بت في قلــــــبي ربيعاً
تنــــــشر الدنيا طيوبه
فيك تشرين اســـتعدنا
عـــــزة كانت سليـــبه
ورفعنا في الذرى الـ
ـشماء رايات العروبه

ـ 6 ـ

أما في القسم الرابع "وجدانيات"  فقدتحدثت  عن "الحب والشوق والبحر والنجوم والزهر والقمر والغروب والأحزان والعذاب والشروق والفردوس والوداع والموت والأفق والمسيح المتعالي والشمس، والرؤى القدسية والحورية العذراء وعودة الملاح والدنيا الجديدة... وموضوعات أخرى"، بأسلوب هو إلى العاطفة والأحزان أقرب منه إلى السعادة والألحان.

في قصيدة مطولة بعنوان "أتظن أنك آسري" تقول الشاعرة:

أتظن أنك آســـري يا شاعري
قل ما تشاء فأنت وقد مجامري
إعصار حــبك لفني.. فتـمزقت
برياحه الهـــوجاء كل ستائري
أحببت فــيك الله نوّر ظلمـــتي
وإليك قد مســيرتي ومشاعري
وشــــــعرت أنك للأنام رسالة
وأنا السطور لديك فيض الخاطر
يا باعث الحب الكبير بمهجتي
خلَّدت فــيك الحـب فوق منابري

ـ 7 ـ

أما في القسم الخامس "رقصة المعبد" حيث القصيدة الواحدة المطولة التي تحمل الاسم ذاته، فقد كانت بمثابة حوارية علوية السمات والأبعاد بين الشاعرة الحبيبة.. وبين الحبيب  الشاعر:

ارقصي شاعرتي في معـــبدي
رقـــصة اللقـــــيا.. صلاة الهجد
إيه يا شقراء  ما أحلى الرؤى
وســنا الشــــوق.. وسر المعـبد
إيه يا عــذراء.. يا نبع الصفا
أنت أمس الحب.. في بعض الغد

ـ 8 ـ

أما في القسم السادس والأخير "ملاحم" الذي ضم قصيدتين مطولتين حلا للشاعرة أن تنعتهما بالملحمتين بعد أن أطلقت عليهما اسم "عوالم جديدة"، و"الفالس المقنع" فقدكان هناك الخيال المجنح الخصب، والنفس الملحمي من حيث الإطالة وتشابك الأحداث وتعدد الرؤى... لا من حيث "دراما الحوادث" وصراع الأبطال.

في الملحمة الأولى التي كانت الأرض والسماء مسرحاً لها. تحدثت الشاعرة عن الإقلاع باتجاه البحث عن فارسها المختار الذي فارقها، أما في الملحمة الثانية فقد تابعت البحث مستخدمة طريقاً آخر ـ أو هكذا خيل لي ـ وبذلك أتمت رحلتها الأولى، وأتمت معها ـ ومن خلال المقاطع الأخيرة للملحمة الثانية التي حملت عناوين (رؤيا يسوع، المكاشفة، رفع القناع) ديوانها الأول "سارقة المعبد" الذي تألق في معظم أقسامه بالتأثير، وبذلك أدى وظيفة أساسية وهامة من وظائف الشعر، وقد يكون المعبد رمزاً للحياة.. والسارقة رمزاً للإنسان كما قال الدكتور "أسعد علي" صاحب المقدمة، ولكن التناقضات التي زخر بها الديوان (من حزن وفرح، وشروق وغروب، وولادة وموت، وربيع وخريف) وأمثالها، والتي كان تشكل ـ مع تشابكها وتنوعها ـ إحدى سماته الرئيسة البارزة، جعلتني أميل عن هذا القول، وفي رأيي أن المعبد الذي عنته الشاعرة يمثل هنا القيم والمثل العليا، وأنها بسرقتها له، سرقت تلك القيم والمثل التي يأتي الحب في طليعتها، ثم ضحت بنفسها راضية جاء ما قدمت يداها، وهذا ما رأيناه بشكل واضح ومثير في نهاية قصيدتها "سارقة المعبد" التي حمل الديوان اسمها، أليست هي القائلة:
إني سرقت لكي أعيش على المدى بين النجوم
لا.. لن أبوح لهيئة التحــــكيم بالسر العظـــــيم
*
أهوت عليَّ أسنة الجلاد في ضرب وطعن
وجدوا بصدري ما سرقت وقد زها شعري ولحني
وجدوا بصدري خافقين.. كلاهما يشدو.. يغني
متعانقين على الهوى.. رغم التعنت والتجني

 ثم أليس الحب مدعاة لفرح الشاعرة و"حل عقدة من لسانها" ومن ثم تفجير طاقتها الكامنة وملكتها الإبداعية بالشعر والشدو والغناء..؟.

هذا ما أحببت أن أنهي به كلمتي حول "سارقة المعبد" وديوانها الذي يشكل رحلتها الأولى في عالم الشعر عالم الحرف والصورة... والنغم والخيال.


ـ 9 ـ

بعد تلك الجولة في رحاب "سارقة المعبد" أنتقل إلى جولة أخرى في رحاب "ديوان عمار" الذي يشكل الرحلة الشعرية الثانية للشاعرة لأبدأ غوصاً جديداً عن اللآلئ والكنوز في أوقيانوسها الرائع المأساوي الحزين..!

والحقيقة فإن عناصر نبوءة الشاعرة في ديوانها الأول ـ بفقدان وحيدها الشاب.. وتوقعها ذلك نتيجة مرضه العضال.. ثم تحضير ذاتها  عن طريق استعدادها النفسي والفيزيولوجي لقبول مثل هذا الحدث الجلل ـ قد تحققت كلها في ديوانها الثاني "ديوان عمار" الذي كان وقفاً على رثاء ابنها الوحيد بعد الفاجعة.. بعد أن طواه الردى وهو في عنفوان شبابه وأوج تفتحه وإيراقه.

ـ 10 ـ

يقع هذا الديوان في  164 صفحة من القطع الكبير، وقد صدر في نيسان 1979 ضمن منشورات اتحاد الكتاب العرب في سوريا كما سبق أن أسلفنا، وتألف ـ بالإضافة إلى الإهداء، ثم مقدمة بعنوان "الأرواح أشعة وجنود" كتبها الدكتور أسعد علي ـ من 49 نشيداً، أسماؤها على التوالي:

(الكلمات الخضراء، صور، الفرح الحزين، مفكرة السنين، طيف عبر، الدراجة الثائرة، فلسفة الحياة، الهيبية المتمردة، مهجة الوثن، العلوم الجامحة، الضيف الغريب الماضي البعيد، أين السرير، سريرنا سر، الصمت الكبير، المسافر المودع، حنانك الوقاد، وحي السماء، الهجر المؤقت، تكتبني الحروف، الوالد الحزين، الفتاة الراحلة، الجوكندا، الصوت الدافئ فتاة المخيمات، الجمال الأزرق، ثكل الموت، بين الشهيدة والشهيد، العودة والعاصفة، قوس قزح، الشاطئ الأزرق، مرح البحار، الحلم العجيب، المظلة، شوك الأرض، أسوار بابل، أكوان من الشعر، القارة السوداء، دنيا الطفولة، رحل الشباب، وتمضي القافلات، بغية القدر، كلماتك الجذلى، أزاهير الإله، لن أذهب إلى داره، يقظة الأرواح، في عيون الأصدقاء، على السفود، أبتاه) بالإضافة  إلى تسع قصائد متفرقة، أ سماؤها هي الأخرى على التوالي:

(المقعد الخالي، لقاء في العيد، نداؤك رحمة، ثلاثة أقانيم، الزوجية المقدرة، البنوة الذكية، الزنبقة السوداء، وثنية، لتبقى الطفولة).

فماذا قدمت الشاعرة لنا عبر هذه الرحلة الجديدة الثانية.. ومن خلال تلك العناوين الموحية التي تعبق من كلماتها وتراكيبها وأبعادها رائحة الحزن والألم والمأساة... وترتسم من حروفها وألوانها وظلال لوحة اللوعة والأسى والفراق..؟

ـ 11 ـ

إن الواقع يشير إلى أن الخط البياني الحزين للشاعرة قد استمر في الصعود وأخذ يسجل عمقاً مأساوياً أكبر في ساحتها النفسية الداخلية الخاصة.. وفي ساحتها الحياتية الخارجية العامة على حد سواء، حتى وصل الذروة التي جسدها موت "عمار".

ففي النشيد السابع "فلسفة الحياة"، نرى الشاعرة وهي تحاول أن تنشر تجربتها المأساوية الحزينة على الكون لتوشح بها العالم كله، وذلك من خلال مفردات شمولية وأبجدية تصلح لتعميم مثل هذا الحدث العظيم خلال كل زمان وعبر كل مكان فتقول:

ولمحت فوق سريرك الولهان فلســـفة الحياة
حفرت على الخشب الثمين تثير كل الذكريات
الضوء، والميلاد، والحب الكبير هي السمات
والكون.. كل الكون متـــــقد بتـــــلك النيرات

لقد استطاعت الشاعرة أن ترتفع هنا في هذا النشيد بمستوى آلامها من "الخاص إلى العام" ومن "الشخصي إلى الشمولي" وبالتالي استطاعت النفاذ إلى جواهر الأشياء وفلسفة الحياة، بعد أن كنا نرى تجربتها الذاتية المأساوية، التي يوشحها الحزن من كل جانب، منتشرة هنا وهناك عبر الأناشيد التسعة والأربعين، ومن خلال الذكريات والحواريات والجزئيات المكانية والزمانية والأدواتية التي تخص الفقيد "عمار".

أما في النشيدين السادس عشر والثامن عشر "المسافر المودع" و"وحي السماء" فقد تمكنت من رصد أحزانها بشكل جيد، وتصوير واقعها الحزين بكل جمال وجلال ولاسيما بعد أن أوصلها إلى درجة من الشفافية والصفاء والإشراق يطلق عليها بعض "العارفين من علماء الصوفية" اسم "هالة الفرح الحزين". حيث تقول:

وتلــفت النـــظر الكلــــيل يلوب في كل اتجاه
ويظل يبحث في رحاب الكون عن سر الحياه
وأجوب يا ولدي المتاه
وأرى حقيقة راحل عند الوداع
ويكاد يغلبني الضياع
وحدي أظل مع الصراع
أواه يا قلباه ما أقسى الوداع
أواه يا قلباه ما أقسى الوداع
وشعرت بالفرح الحزين
وأخذت تذكرة السنين
أملي عليها بعض أفكاري
وتغيب عنها جل أسراري

ـ 12 ـ

أما صوت "خنساء العصر" فقد كان جلياً واضحاً في النشيد السابع والعشرين الذي يحمل عنوان "ثكل الموت" حيث تقول:

وراح الشعر ينــشدني
ورحـــت أهدهد الوتر
رسمت أمومتي صوراً
وفــجرت الأسى عبرا
وثكل الموت يقتلـــني
ويبقى الحزن منتشرا
قضيت العمر في وجل
ومأســاتي غدت خبرا
أحـــــب الله في حزني
عــيوناً ترقب القـــدرا

أليس هذا النشيد لوحة فنية ومأساوية متناظرة مع اللوحة الفنية المأساوية الأخرى التي رسمتها من 14 قرناً أنامل "جدتها الكبرى الخنساء" وهي ترثي أخاها "صخرا" من خلال هذا البيت فتقول:

تبكي "خناس" فما تنفك باكية
لها عليه أنين.. وهي مفتار

ولكن الفرق بينها وبين "الخنساء" عندما قالت هذا البيت، هو أن الشاعرة "هند" رضيت بقضاء الله وقدره نتيجة صفاء الإيمان، وهذا ما خفف عنها موج الأحزان، ونشر على آلامها بعض العزاء والسلوان، تماماً كما حصل للخنساء فيما بعد عندما دخلت الإسلام وبلغها نبأ استشهاد زوجها وأبنائها الأربعة.

ثم ألم أقل لكم في بداية كلمتي: إن إحدى الميزات الرائعة للشاعرة هي رضاؤها بقضاء الله، وتسليم أمرها إليه، واعتمادها ـ أولاً وآخراً ـ عليه، وهذه أمور نفسية عقائدية تبعث في النفس نشوة علوية ولا أندى... وظلالاً صوفية ولا أسمى، وترخي على نار وجمرات الحوادث الفاجعة ستاراً شفافاً من البرد والسلام.. الذي يؤدي بدوره إلى مزيد من الصبر والعزاء والسلوان، وقد رد ذلك واضحاً في أكثر من مقطع أو قصيدة أو نشيد، وبخاصة النشيد الثالث والثلاثين "الحلم العجيب" حيث تقول:

أيقــــنت أن الله.. رحمـــــــته
تسع الوحيد بواسع الصدر
رباه.. كـــيف اخــــترته قمرا
في النــــيرات.. بليلة القدر
وتركتـــني في الأرض هائمة
إني إلـــيك أثوب في أمري
"عمار" بين يـــديك زنبـــقة
وأنا أعـــيش بحرقة الجمر
هو في حماك، فكن له رحما
وأزرع بقلبي غرسة الصبر

ـ 13 ـ

أما القسم الثاني من هذا الديوان، الذي تلا الأناشيد، وضم تسع قصائد متفرقة، فقد مثلت قصيدة "ثلاثة أقانيم" التي نظمتها الشاعرة قبل وفاة عمار، وثبتتها هنا في هذا القسم ضمن القصائد المتفرقة، مركز الثقل أو قطب الرحى، فيه وفي تلك القصائد، لأنها تلقي لنا الكثير من الأضواء على مكانة "عمار" في تلك الأسرة، وبالتالي على ما سيخلفه غيابه عنها من فراغ وكآبة في حال رحيله إلى دار البقاء والخلود:

أقانيم لاسمينا
وثالثنا بقلبينا
ثلاثة أضلع رسمت
زوايا البيت ترفعه
بعمق الحب تجمعه
بفضل الخالق اتسمت
وقال الخالق الواحد
وهبتكما فتى واحد
وهبت آلامه الحسناء آلاماً تصفيها
بدمع الروح ترويها
منحت أباه تقواه
وعين الله ترعاه
أقانيم لا سمينا
و"عمار" بقلبينا

ـ 14 ـ

ولئن ضم الديوان الأول "سارقة المعبد" المتناقضات، وهيأ لجو المأساة المترقب، واستعد وأعد لتلقيه بكثير من الاعتصام بالإيمان بالله.. والصبر على قضائه وقدره وبلواه. فإن السمات الرئيسة  الثلاث التي ضمها الديوان الثاني "ديوان عمار" الذي نظمته الشاعرة بعد وقوع الفاجعة تتلخص بالآتي:

1 ـ الحزن الذاتي: وقد عني بالذكريات والحواريات والمفردات والحوادث الشخصية والجزئيات الزمانية والمكانية والأدواتية التي تخص "عماراً" الفقيد.

2 ـ الفرح الحزين: الذي استطاعت من خلاله أن تنطلق من الخاص، إلى العام، وأن تعم تجربتها الشخصية الذاتية على الأفراد والمجتمعات، وتكسبها بالتالي الكثير من الإنسانية والشمولية والخلود.

3 ـ الإيمان المطلق بالله والرضاء بقضائه وقدره: وهذا ما أتاح لها الطمأنينة حتى بعد وقوع الفاجعة، وأرخى على نارها وجمراتها ستاراً شفافاً من البرد والسلام أكسبها مزيداً من الصبر والعزاء والسلوان، على مر الأيام والشهور والأعوام.

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة