الخميس، 28 مايو 2015

كتاب سيكولوجية الجماهير- غوستاف لوبون ...


كتاب سيكولوجية الجماهير



غوستاف لوبون

ترجمة و تقديم  

هاشم صالح 

دار الساقي


وعلم النفس الجماعي يفيدنا و يضيء عقولنا عندما يشرح لنا جذور تصرفاتنا العمياء و الأسباب التي تدفعنا للإنخراط في جمهور ما و التحمس أشد الحماسة للزعيم فلا نعي ما فعلناه إلا بعد أن نستفيق من الغيبوبة. و ربما جعلنا ذلك أكثر حيطة و حذرا في الإنبطاح أمام زعيم جديد قد يظهر" . ص9 هاشم صالح.

عن هذا الكتاب:

   من المعلوم أن حياة لوبون الطويلة أتاحت له أن يشهد انتصار العلم في أواخر القرن التاسع عشر وأزمات الأنظمة الديمقراطية البرلمانية وبزوغ نجم الاشتراكية، ثم ظهور تلك القوى الشعبية التي رافقتها وأقلقته كثيراً، على ضوء هذا السياق يمكن الاقتراب أكثر وفهم فكر لوبون الذي استطاع بلورة نظريته المتعلقة بسيكولوجية الشعوب-أو نفسية الشعوب-والأعراق البشرية.

   لقد أصبحت الجماهير بالنسبة لغوستاف لوبون حقيقة واقعة لذا فقد تناول بالدراسة ظاهرة الجماهير بطريقة علمية على ضوء علم النفس وكانت فكرته الأساسية في نظريته تلك تركز على أن كوارث الماضي القريب التي منيت بها فرنسا وكل هزائمها والصعوبات التي تواجهها تعود إلى هجوم الجماهير على مسرح التاريخ وعدم معرفة مواجهته، والذي يفسر بأن ضعف النظام البرلماني الديمقراطي يعود إلى الجهل بقوانين علم النفس وطرائق تسيّر الجماهير.

   لقد عبر لوبون على صفحات هذا الكتاب عن هذا الأفكار بشكل سهل ومبسط جاءت على هيئة نظرية علمية متكاملة ومتماسكة جعلته أستاذاً فكرياً لمرحلة كاملة بأسرها. ويتفق الجميع على أن كتاب لوبون الذي نقلب صفحاته “سيكولوجية الجماهير” شكل نجاحاً منقطع النظير على صعيد دراسات علم النفس الجماهيري. والكتاب هو المانيفست الذي دشن ما يدعى اليوم بعلم النفس الاجتماعي أو الجماعي.

مقتطفات من كتاب سيكولوجية الجماهير للكاتب غوستاف لوبون


- الفرد ما ان ينخرط في جمهور محدد حتى يتخذ سمات خاصة ما كانت موجودة فيه سابقا , أو يمكن القول أنها كانت موجودة ولكنه لم يكن يجرؤ على البوح بها أو التعبير عنها بمثل هذه الصراحة و القوة.

- علم النفس الجماعي يفيدنا ويضيء عقولنا عندما يشرح لنا جذور تصرفاتنا العمياء و الأسباب التي تدفعنا للانخراط في جمهور ما و التحمس اشد الحماس للزعيم فلا نهي ما فعلناه إلا بعد أن نستفيق من الغيبوبة وربما جعلنا ذلك أكثر حيطة و حذراً في الانبطاح أمام زعيم جديد قد يظهر.

- أن النفسية الجماعية لفئة ما ليست هي مجموع النفسيات الفردية لأعضائها .. كما ان الجماعة ليست محصلة لمجموع الإفراد.

- لقد حلت السياسة محل الدين ولكنها استعارت منه نفس الخصائص النفسية .. بمعنى آخر أصبحت السياسة دينا معلمنا وكما في الدين فقد أصبح البشر عبيدا لتصوراتهم الخاصة بالذات.

- الحقائق ليست مطلقة ولا أبدية وإنما لها تاريخ محدد بدقة و عمرها قد لا يتجاوز عمر الزهور أو قد يتجاوز عمر القرون ان لها لحظة ولادة و نمو وازدهار مثلها مثل الكائنات الحية ثم لحظة ذبول فشيخوخة فموت.

- كما أن روح الفرد تخضع لتحريضات المنوم المغناطيسي أو الطبيب الذي يجعل شخصا ما يغطس في النوم فان روح الجماهير تخضع لتحريضات و إيعازات أحد المحركين أو القادة الذي يعرف كيف يفرض إرادته عليها .. و في مثل هذه الحالة من الارتعاد والذعر فان كل شخص منخرط في الجمهور يبتدئ بتنفيذ الأعمال الاستثنائية التي ما كان مستعدا إطلاقا لتنفيذها لو كان في حالته الفردية الواعية والمتعقلة .. فالقائد الزعيم إذ يستخدم الصور الموحية و الشعارات البهيجة بدلا من الأفكار المنطقية والواقعية يستملك روح الجماهير و يسيطر عليها.

- أيا تكن حيادية الجمهور فإنه يجد نفسه غالباً في حالة من الترقب تهيؤه لقبول أول اقتراح. و أول اقتراح يظهر يفرض نفسه عن طريق العدوى و الانتشار.

- الجماهير مجنونة بطبيعتها .. فالجماهير التي تصفق بحماسة شديدة لمطربها المفضل أو لفريق كرة القدم الذي تؤيده تعيش لحظة هلوسة و جنون .. والجماهير المهتاجة التي تهجم على شخص لكي تذبحه دون أن تتأكد من أنه هو المذنب هي مجنونة أيضا .. فإذا ما أحبت الجماهير دينا ما أو رجلا ما تبعته حتى الموت كما يفعل اليهود مع نبيهم و المسيحيون المتعصبون وراء رهبانهم والمسلمون وراء شيوخهم .. والجماهير اليوم تحرق ما كانت قد عبدته بالأمس و تغير أفكارها كما تغير قمصانها.

- هناك نمطين من الفكر فقط : الأول يستخدم الفكرة المفهومية و الثاني يستخدم الفكرة المجازية أو الصورية .. والأول يعتمد على قوانين العقل و البرهان والمحاجة المنطقية و أما الثاني فيعتمد على قوانين الذاكرة والخيار و التحريض .. واكبر خطأ يرتكبه القائد السياسي هو أن يحاول إقناع الجماهير بالوسائل العقلانية الموجهة إلى أذهان الأفراد المعزولين

- الأحداث الضخمة المأثورة التي تتناقلها كتب التاريخ ليست إلا الآثار المرئية للمتغيرات اللأمرئية التي تصيب عواطف البشر.

- هناك عاملان أساسيان يشكلان الأساس الجذري لتحول وتبدل الفكر البشري في الفترة الحالية الأول هو تدمير العقائد الدينية و السياسية و الاجتماعية التي اشتقت منها كل عناصر حضارتنا .. والثاني هو خلق شروط جديدة كليا بالنسبة للوجود و الفكر و قد تولدت عن الاكتشافات الحديثة للعلوم و الصناعة.

- نضال الجماهير هو القوة الوحيدة التي لا يستطيع ان يهددها إي شيء .. وهي القوة الوحيدة التي تتزايد هيبتها و جاذبيتها باستمرار.

- لم تعد مقادير الأمم تحسم في مجالس الحكام و إنما في روح الجماهير.

- أن الجماهير غير ميالة كثيراً للتأمل .. وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية ولكنها مؤهلة جداً للانخراط في الممارسة والعمل والتنظيم الحالي يجعل قوتها ضخمة جداً .. والعقائد الجديدة التي نشهد ولادتها أمام أعيننا اليوم سوف تكتسب قريبا نفس قوة العقائد القديمة : أي القوة الطغيانية و المتسلطة التي لا تقبل أي مناقشة أو إعتراض.

- عندما تفقد القوى الأخلاقية التي تشكل هيكل المجتمع زمام المبادرة من يدها .. فإن الانحلال النهائي يتم عادة على يد الكثيرة اللاواعية والعنيفة التي تدعى عن حق البرابرة

- أن معرفة نفسية الجماهير تشكل المصدر الأساسي لرجل الدولة الذي يريد إلا يُحكم كليا من قبلها و لا أقول يحكمها لان ذلك قد أصبح صعبا جداً اليوم.

- ليست الوقائع بحد ذاتها هي التي تؤثر على المخيلة الشعبية و إنما الطريقة التي تعرض بها هذه الوقائع.

- الإنسان ليس متديناً فقط عن طريق عبادة آلهة معينة وإنما أيضا عندما يضع كل طاقاته الروحية و كل خضوع إرادته و كل احتدام تعصبه في خدمة قضية ما أو شخص ما كان قد أصبح هدف كل العواطف والأفكار و قائدها.

- إن عدم التسامح و التعصب يشكلان المرافق الطبيعي للعاطفة الدينية.

- الكلمات ليس لها إلا معان متحركة و مؤقتة و متغيرة من عصر إلى عصر و من شعب إلى شعب و عندما نريد أن نؤثر على الجمهور بواسطتها فإنه ينبغي علينا أولا أن نعرف ما هو معناها بالنسبة له في لحظة معينة وليس معناها في الماضي أو معناها بالنسبة لأفراد ذوي تكوين عقلي مختلف فالكلمات تعيش كالأفكار.

- لكي نقنع الجماهير ينبغي أولا ان نفهم العواطف الجياشة في صدورها و أن نتظاهر بأننا نشاطرها إياها ثم نحاول بعدئذ أن نغيرها عن طريق إثارة بعض الصور المحرضة بواسطة الربط غير المنطقي أو البدائي بين الأشياء.

- أن دور القادة الكبار يكمن في بث الإيمان سواء أكان هذا الإيمان دينيا أم سياسيا أم اجتماعيا , أنهم يخلقون الإيمان بعمل ما أو بشخص ما أو بفكرة ما , و من بين كل القوى التي تمتلكها البشرية نجد أن الإيمان كان إحدى أهمها و أقواها.

- في كل الدوائر الاجتماعية من أعلاها إلى أسفلها نجد أن الإنسان يقع تحت سيطرة قائد ما إذا لم يكن معزولا و نجد أن معظم الأفراد خصوصا في الجماهير الشعبية لا يمتلكون خارج دائرة اختصاصهم أية فكرة واضحة و معلنة و بالتالي فهم عاجزون عن قيادة أنفسهم بإنفسهم.

- إن التأثير المزدوج للماضي والتقليد المتبادل يؤديان في نهاية المطاف الى جعل كل البشر التابعين لنفس البلد ونفس الفترة متشابهين إلى درجة أنه حتى أولئك الذين يتوقع منهم أن يفلتوا من هذا التشابه كالفلاسفة والعلماء والأدباء يبدون متشابهين في أسلوبهم ومطبوعين بطابع الفترة التي ينتمون إليها.

- الثورات تساعد على التدمير الكلي للعقائد التي أصبحت مهجورة ولكنها لا تزال رازحة بسبب نير الأعراف والتقاليد.

- أن الطغاة الحقيقيين للبشرية كانوا دائما أشباح الموتى أو الأوهام التي خلقتها بنفسها.

- هناك أسباب عديدة تتحكم بظهور الصفات الخاصة بالجماهير و أولها هو أن الفرد المنضوي في الجمهور يكتسب بواسطة العدد المتجمع فقط شعورا عارما بالقوة , و هذا ما يتيح له الانصياع إلى بعض الغرائز و لولا هذا الشعور لما انصاع , و هو ينصاع لها عن طوع و اختيار لأن الجمهور مُغفل بطبيعته و بالتالي فغير مسؤول . و بما أن الحس بالمسؤولية هو الذي يردع الأفراد فانه يختفي في مثل هذه الحالة كليا.

- الخصائص الأساسية للفرد المنخرط في الجمهور هي : تلاشي الشخصية الواعية , هيمنة الشخصية اللاواعية , توجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف و الأفكار , الميل لتحويل الأفكار المحرض عليها إلى فعل و ممارسة مباشرة , و هكذا لا يعود الفرد هو نفسه و إنما يصبح إنسان آلي ما عادت إرادته بقادرة على أن تقوده.

- مجرد أن ينطوي الفرد داخل صفوف الجماهير فإنه ينزل درجات عديدة في سلم الحضارة.

- أن الجمهور يمكنه بسهولة أن يصبح جلاداً و لكن يمكنه بنفس السهولة أن يصبح ضحية وشهيداً فمن أعماقه سالت جداول الدم الغزيرة الضرورية لانتصار أي عقيدة أو إيمان جديد

- الجمهور ليس بحاجة لأن يكون كثير العدد لكي تدمر إمكانيته على الرؤية بشكل صحيح و لكي تحل الهلوسات محل الوقائع الحقيقية التي لا علاقة لها بها , فيكفي أن يجتمع بعض الأفراد لكي يشكلوا جمهوراً و حتى لو كانوا علماء متميزين , فإنهم يتحلون بكل صفات الجماهير فيما يخص الموضوعات الخارجية عن دائرة اختصاصهم , ذلك أن ملكة الملاحظة و الروح النقدية التي يمتلكها كل واحد منهم تضمحل و تتبخر.

- ليس للأساطير أي تماسك ذاتي , فخيال الجماهير يحولها و يعدلها باستمرار بحسب الأزمان , وخصوصا بحسب الأعراق و الأجناس.

- أن بساطة عواطف الجماهير و تضخيمها يحميها من عذاب الشكوك و عدم اليقين . فالجماهير كالنساء تذهب مباشرة نحو التطرف , فما إن يبد خاطر ما حتى يتحول إلى يقين لا يقبل الشك.

- بما أن الجماهير لا تعرف إلا العواطف البسيطة والمتطرفة فإن الآراء و الأفكار و العقائد التي يحرضونها عليها تقبل من قبلها أو ترفض دفعة واحدة , فأما أن تعتبرها كحقائق مطلقة أو كأخطاء مطلقة.

- إن بساطة عواطف الجماهير و تضخيمها يحميها من عذاب الشكوك و عدم اليقين.فالجماهير كالنساء تذهب مباشرة نحو التطرف، و ما إن يبدر خاطر ما حتى يغدو يقيناً لا يقبل الشك.

- عنف عواطف الجماهير يزداد تضخماً إذا كانت غير متجانسة بسبب انعدام المسؤولية، و تصبح الثقة بالنفس و الاطمئنان إلى عدم العقاب أقوى مع تزايد العدد.

- إنه لمن المرعب أن نفكر و لو للحظة واحدة بتلك السلطة التي يخلعها الاقتناع القوي على رجل محاط بهالة الهيبة الشخصية، إذا ما اقترن هذا الاقتناع بضيق العقل و النظر.

- لحسن حظ الحضارة فان هيمنة الجماهير على الحياة العامة لم تولد إلا بعد أن كانت الاكتشافات الكبرى للعلم و الصناعة قد تحققت و انتهت.

- الجماهير التي تضرب عن العمل تفعل ذلك من أجل إطاعة الأوامر أكثر مما تفعله من اجل الحصول على زيادة الرواتب و نادرا ما تكون المصلحة الشخصية محركا قويا لدى الجماهير هذا في حين أنها تشكل المحرك الكلي تقريبا لدوافع الفرد الواحد.

- في زمن المساواة لا يعود البشر يثقون ببعضهم البعض بسبب تشابههم و لكن هذا التشابه يعطيهم ثقة لا حدود لها تقريبا في حكم الجمهور العام و رأيه , و ذلك لأنهم يجدون من غير الممكن إلا تكون الحقيقة في جهة العدد الأكبر بما أن الجميع يمتلكون نفس العقل..

- ضعف بعض الخطابات التي أثرت بشدة على السامعين يدهشنا أحياناً عند قراءتها. لكننا ننسى أنها قد كتبت لتعبئة الجماهير لا ليقرأها الفلاسفة.

- إن التقليص التدريجي لكل الحريات لدى بعض الشعوب يبدو أنه ناتج عن شيخوختها بقدر ما هو ناتج عن النظام السياسي . نقول ذلك على الرغم من مظاهر التحلل و الإباحية التي قد توهم هذه الشعوب بامتلاك الحرية . و هذا التقليص يشكل أحد الأعراض المنذرة بمجيء مرحلة الانحطاط التي لم تستطع أي حضارة في العالم أن تنجو منها حتى الآن.

- قوة الكلمات مرتبطة بالصور التي تثيرها ، و هي مستقلة تماماً عن معانيها الحقيقية. الكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكل دقيق هي التي تمتلك قدرة أكبر على التأثير والفعل. مثال هذا : ديموقراطية، اشتراكية ..إلخ

- لم تكن الجماهير أبداً ظمأى للخطأ، و أمام الحقائق التي تزعجهم فإنهم يحولون أنظارهم باتحاه آخر، و يفضلون تأليه الخطأ، إذا ما جذبهم الخطأ، و من يعرف إيهامهم يسودهم، و من يحاول قشع الأوهام عن عيونهم يصبح ضحية لهم.

- الواقع أن أكبر همّين للإنسان منذ أن وجد تمثلا في خلق شبكة من التقاليد أولاً ثم في تدميرها عند استنفاد آثارها النافعة.

- المهمة الأساسية الملقاة على عاتق شعب ما ينبغي أن تكمن في الحفاظ على مؤسسات الماضي عن طريق تعديلها شيئاً فشيئاً ، و إنها لمهمة شاقة.

اكتساب المعارف التي لا يمكن استخدامها ، وسيلة أكيدة لتحويل الإنسان إلى متمرد (وردت العبارة في سياق الحديث عن بطالة المتعلمين).


- وسائل العمل التي يستخدمها القادة : التأكيد ، التكرار ، العدوى

- الهيبة التي أصبحت عرضة للنقاش لا تعود هيبة. الآلهة و الأشخاص الذي أجادوا الحفاظ على هيبتهم لم يسمحوا أبداً بالنقاش ، فلكي تعجب بهم الجماهير و تعبدهم حافظوا دائماً على مسافة بينها و بينهم.

- بدءاً من اللحظة التي يأخذ فيها الناس بمناقشة عقيدة كبرى و نقدها فإن زمن احتضارها يكون قد ابتدأ. ( العبارة ذكرت عن العقيدة السياسية لدولة ما )


- مع الاضمحلال التدريجي لمثاله الأعلى، فإن الشعب يفقد أكثر فأكثر كل ما كان يصنع تماسكه و وحدته و قوته. و يمكن للفرد عندئذ أن ينمو في شخصيته و ذكائه، لكن يحل في ذات الوقت محل الأنانية الجماعية للفرد نمو زائد جداً للأنانية الفردية مصحوبة بوهن الطبع و الشخصية، و بضعف في القابلية على الممارسة و الانخراط.

-  دورة الحياة الخاصة بشعب ما: الانتقال من حالة البربرية إلى حالة الحضارة عن طريق ملاحقة حلم ما، ثم الدخول في مرحلة الانحطاط و الموت ما إن يفقد هذا الحلم قوته.

 قراءة في كتاب "سيكولوجية الجماهير"

مركز نماء للبحوث والدراسات - غازي كشميم 10/28/2013:


   رغم إن الكتاب ألِف منذ أكثر من قرن إلا أن الظروف والأجواء السياسية التي كتب بعدها هذا الكتاب تكاد تشبه ظروفنا وأجواءنا التي نعيش؛ فقد كتب جوستاف لوبون المؤرخ الفرنسي وعالم الاجتماع الشهير كتابه "سيكولوجية الجماهير" في عام 1895 أي بعد ما يقارب المائة عام على قيام الثورة الفرنسية وما أعقبها من انتكاسات، وما تلاها أيضًا من استرداد لها وتصديرها أو تأثر الدول الأوروبية بها في القرن التاسع عشر، وعلى ضوء ذلك كتب لوبون كتابه ذائع الصيت الذي قيل إن النازيين اتخذوه منهجًا لهم في ترويض جماهيرهم.

   بدايةً، إن ما وصفه لوبون قبل أكثر من قرن في أوروبا بأنه عصر الجماهير، نكاد نشهد الآن مرحلة تدشينه لدينا في عالمنا العربي، والذي يشي بانتقال عوامل تحريك الأحداث من سياسات الحكام التقليدية والمنافَسة فيما بينهم إلى محاولات كسب رضا الجماهير، والأخذ في الاعتبار ميولهم وأفكارهم، ومعرفة توجهاتهم لا توجيههم. والكتاب يغوص في أعماق نفسية الجماهير وتقلباتها، وكيفية حراكها وتفكيرها، وسيساعدنا الكتاب في فهم بعض الظواهر والتغيرات الشعبية التي تظهر لنا خاصة على شعوب ما يسمى "دول الربيع العربي".

   وإذا كان الكتاب قد تحدث في أقسامه الثلاثة الرئيسية عن: الخصائص العامة للجماهير، وآراء الجماهير وعقائدها، ثم تصنيف الجماهير، فإننا نقدم محاولة لفهم بعض الظواهر التي صاحبت وما تزال حراك شعوب الربيع العربي على ضوء بعض المعطيات التي قدمها لوبون في وصفه للخصائص النفسية والعقلية للجماهير.

    يصف لوبون الجماهير في بعض صورها بالكثرة اللاواعية والعنيفة والبربرية والتي يتم على يدها الانحلال النهائي لعصر ما أو مجتمع ما بعد أن تفقد القوى الأخلاقية أو الهياكل الرسمية التي تحكم زمام المبادرة من يدها، لكنه لم يشر إلى أن هذه القوى الأخلاقية أو الهياكل الرسمية عند فسادها وطغيانها -إذ إن احتكار أي فئة لأي مسؤولية لمدى طويل ناتج عنه فساد أو ترهل لا محالة- تتسبب هي بذاتها في انفلات الأمور، وتفاقم حالة السخط التي يمكن أن تخرج عن السيطرة، ليأتي بعدها الجمهور في رسم الفصل الأخير من الفوضى أو العنف بعد أن يضيع زمام الأمور، كما أن هذا الفصل الأخير ليس حتميًا أو إنهائه لحالة التحضر التي وصل إليها المجتمع، وإن كان موجودًا بصورة ما، غير أن تلك الجماهير قد تفرز قيادة واعية من داخلها تقودها إلى مرحلة ما بعد الفوضى أو التخبط الذي تسببت فيه تلك الهياكل الرسمية، ولعل تجربة مانديلا تحضر في هذا الصدد، وكيف استطاع قيادة حركة الجماهير من غير أن تقضي على ما وصلت إليه جنوب إفريقيا من تقدم.

ذوبان شخصية الفرد

   يرى لوبون أن من أهم خصائص الجمهور النفسية انطماس شخصية الفرد وانخراطه في سيل الجمهور، والذي سيترتب عليه تخليه عن عقله الواعي ومنطقيته حتى يتماهى معهم؛ إذ إن سيل التيار هادر وليس من السهولة مدافعته أو المشي عكسه. ويشير لوبون إلى أن هذه العقلية اللاواعية قد تجر إلى تصرفات همجية ووحشية أو بدائية لا تراعي ماوصلت إليه الإنسانية من تقدم ورقي أخلاقي، الأمر الذي يعيد المجتمع البشري إلى تاريخه الأول في العداوة والانتقام من نفسه بغير مرجع أخلاقي أو قانوني.

   وفي هذا الصدد وعندما تغيب شخصية الأفراد ووعيهم في موجة الجماهير العاطفية يمكن لنا أن نفسر انسياق بعض النخب الواعية والمستقلة- بعيدًا عن النخب المأجورة أو المستعارة لأداء دور ما- خلف آراء وعواطف الجمهور حتى وإن كانت مخالفة لأبسط قواعد التحاكم العقلي التي عرفت بها تلك النخب، لا سيما وإن كانت مخالَفة تلك الجماهير ستجلب لها نوعًا من الهجوم والانتقاد، أو على الأقل ستبعدها عن أداء دور ما في توجيه الرأي العام.

   وكما يتميز الجمهور في هذه الحالة بالتفكير اللاواعي نتيجة طغيان العاطفة والحماسة على مشاعره وتفكيره فإنه يكون في حالة تلقي وتلقين للأفكار لا إنتاجها، تجذبه الانطباعات والأفكار السهلة والسطحية. لذلك تنتشر في أوساطه كثير من الأفكار غير المنطقية والتي لو فكر فيها الفرد على حدة لرأى هشاشتها وعدم مصداقيتها. ويشبه لوبون الجماهير في هذه الحالة بالمنوَّم المغناطيسي الذي يسلم نفسه لمنومه وبالتالي تتعطل عنده الإدراكات العقلية الواعية، كما يتم استدعاء العقل اللاواعي الجمعي والذي تتجلى فيه "الأخلاق النفسية" للعرق أو الأمة كما يسميها أيضًا لوبون في كتابه الآخر "السنن النفسية لتطور الأمم". لكن لوبون يؤكد على إمكانية توجيه تلك العواطف والمشاعر نحو الأفضل أو نحو الأسوأ بحسب التحريض الذي تستقبله هذه الجماهير.

   ولجوستاف لوبون نظرية يعتقد من خلالها أن ظاهرة التحريض تنتقل بالعدوى في أوساط الجمهور، الأمر الذي يمكن أن يفسر لنا شيئًا من انتقال الكراهية والرضا بالعنف أو القوة الذي انتشر في أوساط جمهور من الشعوب العربية ضد تيار معين، ذلك التحريض الذي كان له أداة دعائية كبيرة استخدمت فيها شعارات الاستقرار وتعطيل الحياة، ومحاربة الإرهاب، وغيرها من الشعارات التي يجد الجمهور نفسه مندفعًا لها تلقائيًا لأنها تلامس رغبات لديه.

سرعة الانفعال

   من أبرز الخصائص النفسية للجمهور التي يقررها وبون في كتابه سرعة انفعالها ونزقها؛ "فلا شيء مدروس لدى الجماهير، فهي تستطيع أن تعيش كل أنواع العواطف، وتنتقل من النقيض إلى النقيض بسرعة البرق وذلك تحت تأثير المحرضات السائدة"، إننا بذلك يمكن أن نفهم تحولات قطاع كبير من عامة الناس بعد ثورات الربيع العربي مع تيار أو آخر ثم ضده، بل وفي أحيان ضد الثورة ذاتها التي خرجوا من أجلها. وذلك تحت عوائد التحريض اليومي والممنهج. بل إن لوبون والذي كتب كتابه قبل أكثر من قرن يصف مشاعر الجماهير الثائرة بالتحديد بتنوع وتقلب عواطفها، ومع اتحاد النزق وتأجج العواطف يبرز أيضًا جانب العرق النفسي لكل جمهور؛ "وهو المكون الثقافي والنفسي لكل أمة والذي تتميز به عن غيرها، ويمكن أن تلعب المحرضات المحلية والطرق على مواضيع لها وقع ثقافي أو اجتماعي خاص على هذا الجمهور يمكن أن تلعب مثل هذه المحرضات الثقافية والاجتماعية دورًا بارزًا في تهييج الجمهور وانفعالاته".

   ويثبت لوبون أن سرعة تأثر الجماهير وسذاجتها في التصديق لأي شيء، سمة بارزة من سمات العقلية الجماهيرية، الأمر الذي يقود إلى سرعة التوجيه. وهناك حالة نفسية لدى الجماهير خاصة الثورية أو التي في حالة غليان اجتماعي وهي حالة الترقب والاستعداد في التلقي، وهو ما يساعد على قبول كثير من الأفكار وتمرير العديد الرسائل، ولعل هذا مايفسر حالة انتشار الإشاعات والأكاذيب في مثل هذه الأوساط (ترقب وانتظار.. يجد شائعات وتحريض تسد فراغ الانتظار والترقب.. انتقال العدوى) مع عدم امتلاك الجماهير للحاسة النقدية التي يمكن أن تكون عند آحادهم. بل ويذهب لوبون إلى أبعد من ذلك حين يقرر أن شهادات الجماهير هي أقرب إلى الوهم والأساطير منها إلى الحقيقة ذلك أنها بنيت على وهم أحدهم ثم عن طريق العدوى وانتقال الشائعات والتي تصبح بفعل العقلية التبسيطية للجماهير بمثابة الحقيقة.

   من صفات الجماهير أيضًا التعصب والاستبداد والنزعة للمحافظة؛ لذلك فإن الجماهير عادة ما تكون أشد تعصبًا للأفكار والعقائد وأشد تطرفًا ضدها كذلك، فإذا ما أضيف لذلك التعصب شعور الجمهور بقوته فإن استبداده برأيه يكون بحجم تعصبه؛ ومن الصعوبة أن يقبل الاعتراض عليه أو مناقشته، ولعلنا نلحظ ذلك خاصة في الاجتماعات العامة للجماهير. ومن عاطفة هذا الاستبداد يظهر احترامها للقوة وعدم ميلها للطيبة التي تعتبرها شكلاً من أشكال الضعف، لذلك هم يميلون إلى نحو المستبدين الذين يسيطرون بقوة وبأس، ويظهر في هيئته الخيلاء الجذابة والقوة المهابة التي رغم أنها مخيفة إلا أنه يستعذبها في ذات الوقت. ويؤكد لوبون أنه حتى في حالة هجومها على ديكتاتور مخلوع فلأنه فقد قوته ودخل في خانة الضعفاء غير المهابين. ويضع لوبون تفسيرًا لظاهرة تقلب الجماهير من العبودية إلى الفوضى والثوران على السلطة بتقلبات السلطة ذاتها وتقلباتها بين سلطة قوية ديكتاتورية وسلطة ضعيفة بشكل من الأشكال.

   ولأن الجماهير محكومة باللاوعي فإن من الصفات النفسية المرتبطة بذلك والتي أشار إليها لوبون في صفات الجماهير: المحافظة، والتي تتحكم فيها العوامل الوراثية العتيقة، وحتى عند ثورانها وانتفاضاتها، فإنها سرعان ما تمل من الفوضى والانفلات الذين تخلفهما تلك الموجات الاحتجاجية أو الثورات، وتميل مرة أخرى بغريزتها إلى العبودية أو إلى من يقمعها بحجج كثيرة كالاستقرار وحماية البلد وغيرها، ويستشهد بنابليون والتي راحت تصفق له مجموعات شعبية كبيرة عندما راح يلغي الحريات ويحكم بيد من حديد رغم أنه جاء بعد ثورة قدمت الكثير من التضحيات. ويلفت لوبون إلى نقطة مهمة في ثورات الجماهير؛ فرغم أنها عندما تثور تبغي من وراء ذلك تغيير واقعها بمؤسساته وهياكله إلا أنها تكتفي من ذلك بتغيير الأسماء وظواهر المؤسسات الرسمية بينما تبقى تلك المؤسسات بعمقها ومضمونها لتعبر عن سبب قيام تلك المؤسسات ونموها واستفحال وجودها والتي في أصلها تعبر عن احتياجات وراثية لذلك الشعب أو الجمهور، هل يمكن أن يقاس كلام لوبون هذا على ميل بعض الشعوب وثقتها في مؤسسات أمنية أو عسكرية رغم ما لدى تلك المؤسسات من جرائم وفظائع ارتكبت بحقه؟!

   من تلك الصفات التي يسبغها لوبون على الجماهير: الأخلاقية، وهي تجمع بين متناقضين ولكن في حالات مختلفة؛ فيمكن للجماهير أن تمارس أقسى أنواع الوحشية والقتل والحرق مستعيدة بذلك الغرائز الوحشية البدائية النائمة في أعماق كل منا –كما يرى لوبون- والتي هذبتها وصقلتها الحضارة والتقدم الإنساني، غير أن هذه الجماهير أيضًا تمتلك حسًا وروحًا أخلاقية عالية في البذل والتضحية من أجل قضايا كبرى كما في الثورات والحروب الوطنية وإنجاز الأعمال الحضارية والتقدمية، بل إنه لولا هذه التضحيات الجماهيرية التي تصل إلى حد لا يصل إليه الفلاسفة والحكماء إلا نادرًا كما يقول لوبون لولاها لانعدمت الحضارات على كوكبنا ولما كان للبشرية تاريخ، ويلاحظ بعض علماء الاجتماع أن أقسى البشر أو من يتصفون بصفات ذميمة سيكونون أنقى وأرقى وأكثر أخلاقية حين ينخرطون في أعمال جماهيرية راقية.

أفكار الجماهير

   ليست مجرد البرهنة على صحة فكرة ما يعني أنها سوف تفعل مفعولها لدى الناس أو حتى المثقفين وذلك بسبب الوقوع تحت تأثير الأفكار السابقة التي تحولت إلى عواطف وترسخت، وهذه الأفكار هي التي تؤثر علينا وتحرك بواعثنا. وعندما تنغرس فكرة ما بواسطة مجريات متعددة في روح الجماهير فإنها تكتسب قوة لا تقاوم وينتج عنها سلسلة من الانعكاسات والنتائج. ويؤكد لوبون أنه إن كان يلزم وقتًا طويلاً لكي تترسخ الأفكار في نفوس الجماهير فإنه يلزم وقتًا لا يقل عنه طولاً لكي تخرج منها. ورغم تأكيده لعاطفية الجماهير وقلة أو ضعف استخدامها للمنطق العقلاني وصعوبة إقناعها بالمحاجات العقلية إلا أن هناك وسيلتين عقليتين متدنيتين يمكن بهما مخاطبة الجماهير؛ الترابط عن طريق الظواهر الشكلية، وتعميم الحالات الفردية والخاصة. وهذا مايستخدمه خطباء الجماهير.

   وضعف المحاكمة العقلية لدى الجماهير يجعلها تتأثر بالصور والخيالات؛ لذلك تنتشر بين الجماهير الأساطير والقصص اللاعقلية والمحملة بالعواطف والخيال، الأمر الذي يجعلها لا تميز بين الواقعي واللاواقعي. لكنها في نفس الوقت تساهم في تجييش الجماهير ومخيلتها لتحريكها نحو أفكار كبرى وعميقة، ولولا تلك الحماسة وراء الأفكار الكبرى لما نهضت أمم وقامت حضارات. وأخيرًا يقرر لوبون أن "معرفة فن التأثير على مخيلة الجماهير تعني معرفة فن حكمها"؛ فليست الوقائع بحد ذاتها هي التي تؤثر على مخيلة الجماهير وإنما الطريقة التي تعرض بها هذه الوقائع.


سيكولوجية الجماهير- غوستاف لوبون 



د.حنان هلسة - دكتوراه علم نفس - الحوار المتمدن - العدد: 3269 - 2011 / 2 / 6 :

   تحتل الجماهير في التاريخ البشري موقعا أساسيا لجهة الادوار التي لعبتها ولا تزال على مسرح التغيرات السياسية والاجتماعية.

   وهي ادوار منها ما اتسم بالسلبية عبر الدعم الذي اعطته لقوى استبدادية او لايديولوجيات فاشية واوصلتها الى سدة الحكم،أو عبر التضحيات العظيمة في سبيل قضايا وطنية واجتماعية،مما يجعلها تجمع بين القدرة على التدمير والقدرة على التضحية الكبرى في آن واحد.

  لقد شكلت الجماهير القاعدة التي تستند اليها الاحزاب السياسية والنقابات العمالية في عمليات التعبئة من اجل تحقيق مطالبها.

  توسعت الدراسات خلال القرن العشرين في بحث ظاهرة الجماهير من جميع الجوانب،واحتل علم النفس موقعا مهما في هذه الدراسات حتى بات هناك علم قائم في ذاته هو علم نفس الجماهير،يهدف الى دراسة الشروط التي تجعل انبثاق ظاهرة الجماهير ممكنة في هذا البلد أو ذاك،وفي الظروف التي تجعل الجماهير عنصرا في الوصول الى حكم ديموقراطي او الى اشكال اخرى من الحكم الاستبدادي.

  في هذا السياق فإن كتاب غوستاف لوبون "سيكولوجية الجماهير"،الذي صدر اواخر القرن التاسع عشر،لا يزال يحتل موقعه في دراسة نفسية الجماهير، بوصفه مرجعا لا غنى عنه لكل باحث في هذا الميدان.


يلخص لوبون نظريته حول الجمهور بجملة مسائل تتناوله بصفته ظاهرة اجتماعية،


تفسر عملية التحريض التي يخضع لها بأنها عملية انحلال الافراد في الجمهور والذوبان الكلي فيه.

من هنا يمكن تفسير الدور الذي يلعبه القائد في تحريك الجماهيرحيث يقوم بالدور اياه الذي يقوم به التنويم المغناطيسي،على غرار ما يقوم به الطبيب النفسي في علاجه لمريضه.

  اثبتت معاينة الحركات الجماهيرية وقائع عدة في مقدمتها أن هذا الجمهور يمتلك وحدة ذهنية، ويتحرك بشكل لا واع.

   يرى لوبون ان للجماهير خصائص تميزها عن الافراد،حيث تتناول الخاصية الاولى ذوبان الشخصية الواعية للافراد وتوجيه المشاعر والافكار في اتجاه واحد.

الجمهور النفسي "ايا تكن نوعية الافراد الذين يشكلونه، وايا تكن نوعية الافراد الذين يشكلونه، وايا يكن نمط حياتهم متشابها او مختلفا، وكذلك اهتماماتهم ومزاجهم او ذكاؤهم، فإن مجرد تحولهم جمهوراً يزودهم نوعاً من الروح الجماعية، هذه الروح تجعلهم يحسون ويتحركون بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة التي كان سيحس بها ويفكر كل فرد منهم لو كان معزولا".

  في حالة الجمهور تتلاشى الشخصية الواعية للفرد وتصبح شخصيته اللاواعية في حالة من الهياج، ويخضع الجميع لقوة التحريض وتصيبهم عدوى انفلات العواطف، بحيث تلغى شخصية الفرد المستقل ويصبح عبارة عن انسان آلي ابتعدت ارادته عن القدرة على قيادته.

من هذه الخصائص أيضاً،(الثانية) سرعة انفعال الجماهير وخفتها، فالجمهور يقوده اللاوعي كليا تقريبا، فهو عبد للتحريضات التي يتلقاها، والجمهور كالانسان الهمجي لا يعبأ بأي عقبة تقف بين رغبته وتحقيق هذه الرغبة.

والجمهور سريع التأثر وساذج في الوقت نفسه وقابل لتصديق كل شيء، وهو "يشرد باستمرار على حدود اللاشعور ويتلقى بطيبة خاطر كل الاقتراحات والاوامر"، كما يمتلئ الجمهور بنوع من المشاعر الخاصة بكائنات لا تستطيع الاحتكام الى العقل او القادرة على اتباع روح نقدية.

كما ان العواطف التي يعبر عنها الجمهور سواء اكانت طيبة ام شريرة، تحوي تناقضا لجهة التضخيم او لجهة التبسيط، حيث "يتحرر الأبله والجاهل والمسود من الاحساس بدونيتهم وعدم كفاءتهم وعجزهم، ويصبحون مجيشين بقوة عنيفة وعابرة، ولكن هائلة".

  وتتميز الجماهير ايضا (ثالثا) بالتعصب والاستبدادية والنزعة المحافظة، وهو امر ناجم عن كونها لا تعرف سوى العواطف البسيطة والمتطرفة، مما يجعلها تقبل الافكار والعقائد او ترفضها دفعة واحدة. 

  والجماهير غير مهيأة لاحترام النزعات الاخلاقية لكونها صاحبة نزوات وغرائز شديدة الهيجان.

لكن هذا الجمهور القادر على القتل والتدمير في ظروف معينة وحالات محددة، هو نفسه الجمهور القادر على القيام بأفعال تتسم بالتضحية والنزاهة والبطولة في سبيل قضايا اجتماعية ووطنية.

فتعاطف الجماهير مع حدث ما قد يتحول نوعاً من العبادة، كما أن النفور من شيء قد يتحول مباشرة حقداً.

 يشار هنا الى انّ مؤسسي العقائد الدينية او السياسية كانوا مدركين أهمية فرض عواطف التعصب الديني على الجماهير وسيلة ايمانية تدفع بمعتنقيها الى التضحية غير المحدودة في سبيلها.

 من هنا تبدو احدى السمات العامة للعقائد، الدينية منها وغير الدينية، ان شرط ترسخها في معتنقيها مرهون باكتسابها حلة دينية ذات توجه ايماني مطلق بما يمنع عنها المناقشة في مدى صحتها.

 يشير لوبون الى الجماهير الانتخابية خلال مواسم الانتخابات،فيرى انها غير متجانسة، ومن خصائصها ضعف قابلية التفكير العقلاني، وانعدام الروح النقدية لديها، واتسامها بالنزق وسرعة الغضب، والسذاجة وسرعة التصديق، اضافة الى تبسيط الامور واستسهال اطلاق الاتهامات يمينا ويسارا.

  فالناخب عليه واجب تملق المرشح واستخدام الموسم الانتخابي لتحقيق رغباته واطماعه،والمرشح في الفترة نفسها ملزم ان يغمر الناخب بالتزلف والتملق وتوزيع الوعود عليه والاستجابة الكلامية لطلباته على رغم ان كتاب لوبون يعكس الحياة السياسية للمجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر، ومعاينته للاضطرابات التي عرفتها فرنسا منذ ثورتها الكبرى عام 1789 وما تبعها من تحولات دراماتيكية خلال القرن التالي، الا ان ما اثاره من قضايا في شأن تحليل نفسية الفرد عندما يدخل في الجمهور، لا تزال تحظى باهتمام كبير في الزمن المعاصر في ظل استخدام الجماهير في الحياة السياسية العربية بما يخدم بشكل رئيسي اليوم صعود الحركات الاصولية المتطرفة واستخدامها الجماهير في اثارة المشاعر وتجييش الاحقاد والكراهية ضد الاخر.

  من هنا يحتل كتاب غوستاف لوبون موقعه بوصفه واحدا من الكتب القديمة - الحديثة في فهم قضية الجماهير وكيفية التعامل معها لجهة توظيفها بما يخدم هذه الجماهير نفسها. 

دينامية العلاقة بين الجماهير والسلطة:

حين تكون السلطة منطقية وشرعية وقائمة على الديمقراطية وحرية الكلمة وملتزمة بها ، وحين تكون الجماهير على درجة جيدة من التعليم والثقافة ولديها ملكة التفكير النقدي يصبح الأمر علاقة سلطة ناضجة بجماهير ناضجة فيسود العقل وتحتل الموضوعية مساحة كبيرة في العلاقة بين الطرفين فلا تتحول إلى حب حتى التقديس والاستلاب أو إلى كراهية حتى التدمير.

  ونتاج ذلك منظومة سياسية واجتماعية تتسم بالسلام وارتفاع معدلات الإنتاج والنمو والإبداع.

   أما حين تكون السلطة غير منطقية، أو غير شرعية، أو استبدادية، أو فرعونية ، حينئذ تسود ديناميات مرضية مثل الكذب والخداع والنفاق والعدوان السلبي واللامبالاة من جانب الجماهير، بينما تتعامل السلطة مع الجماهير بازدراء وشك وتوجس، وترى أنها غير جديرة بالتحاور والتشاور وإنما تساق بالعصا.

  وإذا وصفنا نمط هذه العلاقة بمصطلحات علم النفس نقول بأنها علاقة بين والد ناقد مستبد وطفل يميل إلى العدوان السلبي.

  وهذا الطفل العدواني السلبي ينتظر اللحظة المناسبة لينقض على الوالد الناقد المستبد ليتحول بذلك إلى طفل متمرد.

   وبالتعبير الشعبي الدارج نصف هذه العلاقة بأنها علاقة القط والفأر.

   هذان هما القطبان المتضادان على متصل العلاقة بين السلطة والجماهير وبينهما درجات عديدة من أشكال العلاقات حسب نوعية السلطة وطبيعة الجماهير.

تزييف الوعي:

ولكي تتمكن السلطة من قيادة الجماهير دون مواجهات أو مشكلات أو اضطرار للحل الأمني بكثرة فإنها تقوم بتشكيل وعي الجماهير بما يتفق مع مصالح السلطة، وهى تلح طول الوقت بأن ما تفعله هو في صالح الجماهير ، وقد تتمادى السلطة في تشكيل الوعي الجماهيري حتى تصل إلى تزييف ذلك الوعي خاصة حين تكون أهداف السلطة غير مشروعة وغير أخلاقية، لذلك فهي تقوم بتزييف وعي الجماهير حتى يرى تلك الأهداف الذاتية غير الأخلاقية أهدافا عظيمة ومشروعة ويخيل إليه أن السلطة تسعى لصالحه.

  وبالطبع فإن هذا العمل يتطلب مهارات عالية لذلك يختار أصحاب السلطة ذوي الكفاءات في الإعلام الموجه للإلحاح ليل نهار على حواس الجمهور من خلال الصحيفة والإذاعة والتليفزيون لإقناعه بما تراه السلطة. 

  وقد يتم التزييف من خلال شخصية كاريزمية في السلطة أو في المجتمع يتم من خلالها تسويق أفكار السلطة إلى الجماهير التي تتقبل هذه الأفكار بناء على تقبلها وحبها للشخصية الكاريزمية.

  وهذا التزييف لوعي الجماهير وبالتالي لخياراتهم يحدث في الأنظمة المستبدة والأنظمة الديمقراطية على السواء، ولكن تختلف وسائله وأساليبه ودرجة فجاجته أو وقاحته من مجتمع لآخر فبينما يحدث في الأنظمة المستبدة بشكل سلطوي غاشم يمجد إرادة الفرد ويرفعه إلى مصاف الآلهة نجده في الدول الديمقراطية يحدث من خلال آلة إعلامية هائلة التأثير تقوم بعمل غسيل مخ للفرد وتوجهه إلى حيث تريد من خلال التأثير على أفكاره ورؤاه. 

والجماهير بعد تزييف وعيها تصبح كائنا انفعاليا غير منطقي يميل إلى التحيز على أساس عاطفي وحماسي ، ويميل إلى الاندفاع في الاتجاه الذي يحدده له من قاموا بتزييف وعيه.

  وهذا السلوك الجماهيري يستمر على هذا النحو إلى أن تكتشف الجماهير أنها قد غرر بها أو خدعت، وحينئذ يتغير مسارها وتنقض بلا رحمة على من غرروا بها أو خدعوها ، وقد يحدث هذا التحول بسبب كارثة كبرى تقع (هزيمة عسكرية ساحقة أو انهيار اقتصادي يهدد لقمة العيش) أو بسبب تراكم جرعات الوعي التي يبثها بعض المصلحون من أبناء الشعب. 

الخصائص العامة للجماهير العربية:

1 - السلبية:

ربما يدهش بعض المراقبين تلك السلبية الشعبية غير المسبوقة تجاه الأحداث الساخنة ، والحقيقة أن هذه السلبية ليست حالة طبيعية وإنما هي نتيجة جهود حثيثة عملت على مدى سنوات طويلة على خلق حالة من السلبية الفردية وإعلاء قيم المصلحة الذاتية، وإعاقة أي بادرة للتجميع أو الفعل، والهدف في النهاية هو التأكيد على بقاء الوضع القائم برضا الجميع. 

وقد تحدثنا للتو عن تأثير أجهزة التليفزيون والكومبيوتر على الوعي العام، وهنا سنزيد من رؤية هذا التأثير بطريقة كمية ونوعية، فلو حسبنا الساعات التي يقضيها الناس أمام هذه الأجهزة لوجدناها بالملايين، أي أن هناك ملايين الناس يقضون ملايين الساعات أمام الشاشة.

  والأمر لا يقتصر على استهلاك طاقة ملايين الأجساد وإنما يمتد إلى عقولهم، فكثير من البرامج تقتل ملكة التفكير النقدي وتدع الشخص في حالة تلقي سلبي لكل ما يراه على الشاشة أو معظمه ويشاهد برامج مبلدة للعقول ومخدرة للتفكير النقدي الواعي ومحشوة بالتفكير الخرافي أو الاستهلاكي وقاتلة لأي قدرة على الفعل الاجتماعي الجاد والمؤثر.

  وهذا النوع من المشاهدة السلبية يعود المشاهد على أن دوره لا يتعدى حالة المشاهدة فهو كل يوم يرى في نشرات الأخبار من يقتلون أو يدمرون أو يزورون  وهو لا يبرح مكانه أمام الشاشة

ومن هنا تتكون لديه عادة الاكتفاء بالمشاهدة و في أقصى تقدير التحسر على ما يحدث والدعاء على من يفعلون والغضب ممن يسكتون وفقط.

ربما يفسر لنا هذا سلبية الناس أمام أحداث كانت تحركهم لأقصى درجات التحريك فمثلا حدثت حالات اغتصاب أو محاولات اغتصاب في بعض الميادين العامة دون أن يحدث التدخل الشعبي المتوقع، وحدثت عمليات قتل وبلطجة في كثير من الأحداث دون أن تكون هناك استجابة مكافئة لذلك وكأن الناس تعودوا على المشاهدة دون الفعل من خلال ملايين ساعات المشاهدة التليفزيونية أو الكومبيوترية. 

  وما يتبقى من الوعي يتم تسكينه أو تخديره بواسطة السينما أو الإذاعة أو الصحف أو المباريات الرياضية أو الانتخابات الشكلية أو الحوارات الإلهائية أو الوعود الزئبقية ، وكلها تساهم في امتصاص طاقة رد الفعل الإنساني.

   وقد يقول قائل إن هذا تجن على وسائل الإعلام والوسائط التكنولوجية الحديثة ، فهي وسائل تنوير وإيقاظ للوعي وتحريك للمشاعر ودفع نحو التغيير ، وهذا صحيح ولكن في حدود ضيقة تجعل هذه التأثيرات الإيجابية في حكم الاستثناءات في كثير من دول العالم خاصة دول العالم الثالث التي تبقى يقظة للحيلولة دون تجاوز البرامج الجادة حد الخطورة أو التأثير ، فهي لا تمانع في وجود بعض من هذه البرامج الموقظة للوعي أو الكاشفة للحقيقة ولكن في حدود تجعلها مجرد تزيين للصورة العامة ودرء للاتهام بالتزييف الشامل ، وتحسين الصورة في الخارج والداخل ، مع الإبقاء على التفوق النوعي والكمي لبرامج وفعاليات غسيل العقول وتخدير الهمم وتزييف الوعي والحيلولة دون انتصاب الفعل الإنساني في اتجاهات التغيير الحقيقي.

فالناس تعرف الكثير عن نجوم الكرة ونجوم الغناء وفاتنات السينما وملكات الجمال ومواعيد المسلسلات ومفتى الفضائيات أكثر مما يعرفون عن زعماء الإصلاح وجماعات الضغط من أجل التغيير. 

 ولا يغيب استعمال الدين في عمليات التخدير هذه من خلال برامج دينية تكرس للتفكير الخرافي وتكرس للاعتمادية السلبية من خلال مفتون يشغلون الناس بقضايا هامشية ومشاهدون وطالبي فتاوى وتفسير أحلام أدمنوا التلقي السلبي والاعتمادية الطفيلية الساذجة على ما يقوله المفتون ، وباعوا قلوبهم وعقولهم لنجوم الإفتاء كما باعوها قبل ذلك لنجوم الكرة والفن.

  ويتعلم الناس مزيدا من السلبية من خلال انتخابات تزور إرادتهم ومن خلال بقاء أوضاع يرفضونها لسنوات طويلة ومن خلال إجهاض المحاولات التغييرية أو الإصلاحية المتكررة أو من خلال فشل الحملات الصحفية الكاشفة للفساد ومن ثم فشل كل هذه المحاولات في إحداث أي تغيير ملموس ، أو من خلال الملاحقات الأمنية المستمرة والضاغطة ، كل هذا يحمل الجماهير على الرضوخ للأمر الواقع والاعتقاد في أن الوضع الراهن قدر لا يمكن تغييره إلا بقدر آخر لا دخل لهم فيه. 

2 - القابلية للإيحاء والاستهواء والاستلاب:

   هذه إحدى الخصائص الهامة في الجماهير خاصة حين يتدنى مستواها التعليمي والثقافي فتصبح فريسة لأي شخصية قادرة على اللعب على مشاعرها وتصوراتها واحتياجاتها فتندفع بلا عقل إلى التصديق والإتباع دون تثبت أو تحقق ويساعد على ذلك غريزة القطيع التي تشكل نوعا من الضغط الجماعي على الناس فيندفعون إلى اتجاه معين لا لشيء إلا لأن غيرهم مندفعين أو مساقين إلى نفس الاتجاه .

  وهذه الخاصية يلعب عليها كثيرا السياسيون أصحاب الشخصيات الكاريزمية حيث يمتلكون القدرة على إلهاب حماس الجماهير وتوجيههم إلى حيث يريدون ، وفعلا تستجيب تلك الجماهير وهى مغمضة الأعين وتسلم قيادها إلى من تثق به ثقة عمياء دون أن تسأل إلى أين؟. 

  وفي انتخابات العالم الثالث غالبا لا تطرح برامج حقيقية للمرشحين وإنما ترفع شعارات رنانة تحرك المشاعر ولا تقنع العقول فالعقول هنا لا تعمل ولا تفند أو تنتقد.

  ويلعب الإعلام الموجه دورا كبيرا في تسهيل عمليات الإيحاء والاستلاب والاستهواء للجماهير الجاهلة الغريرة ، ويزيفون وعيهم ويحتلون إدراكهم ويوجهونه لخدمة مصالح معينة بعيدة غالبا عن مصالح الجماهير المخدوعة.

  ويستطيع الإعلام أن يقوم بهذا الدور حتى في الدول الديمقراطية حيث يستغل أدواته المؤثرة في صياغة الرأي العام وصناعته والتأثير في خيارات الناخب وتوجهاته من خلال الإلحاح والتزييف وتسليط الأضواء على أشياء بعينها وإطفاء الأضواء في مناطق ومساحات أخرى بهدف خلق الصورة المطلوبة لتزييف الوعي وتوجيه الإرادة. 

   ولا ينجو من هذا التأثير إلا قلة من المثقفين المستنيرين الذين يحتفظون بقدرتهم على الرؤية من خارج إطار القطيع ولديهم القدرة على الاحتفاظ بإدراكهم دون تلوث أو تشويه أو تزييف ولديهم القدرة على التفكير النقدي وتنبيه الجماهير الساذجة المخدوعة.

  ولهذا يتعرض هؤلاء لمصاعب كثيرة خاصة في النظم الاستبدادية فتلفق لهم القضايا ويزج بهم في السجون ويستبعدون من مواقع التأثير. 

3 - أخلاق العبيد:

    حين يعيش شعب من الشعوب تحت أنظمة استبدادية لفترات طويلة في تاريخه  دون أن يتمكن من تغيير هذه الأنظمة فإن أفراد هذا الشعب يكتسبون صفات العبيد ، فيتعاملون مع كل صاحب سلطة بالخضوع والخنوع والاستسلام ، ويرون أنهم غير جديرين بالحياة الكريمة ، ويرضون بالفتات الذي يلقى إليهم من يد السيد صاحب السلطة والسطوة.

   وشيئا فشيئا تذوب الكرامة وتنمحي النخوة والعزة والرجولة وتسود صفات الانتهازية والنذالة والجبن والتسول المهين ، وينطبق على الناس في هذه الحالة ما قاله الشاعر: 

خمسون عاما أنحنى مذ كنت   يوما سيدي طفلا رضيعا

واليوم تأمرني لأرفع هامتي   فبكل أسفي سيدي لا استطيعا 

4 - السادوماسوشية:

   ومع الوقت يتعود الناس على القهر والإذلال، بل ويصبح مطلبا نفسيا لهم ، إذ يستعذبون الشعور بالظلم وخاصة حين تسود ثقافة "يا بخت من بات مظلوم ولا بات ظالم" فالناس حينئذ ينقسمون إلى ظالم ومظلوم ، فيختار أغلبهم موقع المظلوم الذي ينتظر إنصافه في الآخرة من الظالم ، وهذه هي بذور الماسوشية في سلوك الجماهير.

   وعلى الرغم من هذا الخضوع الماسوشي من الجماهير تجاه كل من يملك سلطة عليهم إلا أننا نجد في المقابل حالة من السادية تجاه من هو تحتهم ، بمعنى أننا نجد الموظف يقبل حذاء رئيسه في العمل ، ثم حين يتعامل مع بقية الناس من الجمهور الذي يتردد عليه لقضاء مصالحه نجده يذيقهم أشد العذاب ويوقف مصالحهم ويذلهم ويبتزهم بوعي أو بغير وعى ، وحين يذهب هذا الموظف إلى البيت إما أن تجده زوجا جبارا مستبدا أو تجده خاضعا مستسلما منسحبا وذلك طبقا لموازين القوى بينه وبين زوجته.

  أي أن الناس في هذه الظروف المشوهة تتعامل بماسوشية (خضوع واستسلام وتلذذ بذلك) مع الأعلى وتتعامل بسادية (قهر وتعذيب واستغلال وتلذذ بذلك) مع الأدنى ، وتغيب في هذا الجو العلاقات السوية الناضجة بين أغلب الناس. 

سيكولوجية الجماهير: الكتلة الحرجة على الرغم من إمكانية خداع الجماهير واستلابها واستغلالها وقهرها ، وربما يستمر هذا لفترات قد تطول إلا أن قوانين النفس وقوانين الجماعات تؤدى لا محالة إلى حالة من اليقظة والإفاقة تؤدى إلى غضبة الجماهير ، وهى حين تغضب تتحرك كديناصور ضخم يفيق من نومه شيئا فشيئا وتبدو حركته بطيئة في البداية ثم يتجه إلى من أذاه فيدهسه بلا رحمة وربما دمر أشياء أخرى كثيرة في طريقه.

  وهذه الهبّة الجماهيرية وما يتبعها من حركة في اتجاه التغيير تحتاج لتجمع إرادة نسبة معينة من الناس في اتجاه واحد ، وهذا ما يسمى بالكتلة الحرجة ، وهذه الكتلة الحرجة يمكن أن تتكون بإحدى طريقتين:

1 - التراكم : وذلك بالزيادة الكمية على فترات طويلة نسبيا من الزمن حتى تصل إلى مستوى يؤدى حتما إلى التغيير.

2 - الطفرة : وتحدث حين تستفز مشاعر الجماهير بشكل مؤثر ومفاجئ خاصة فيما يمس لقمة عيشها أو مشاعرها الدينية أو كرامتها الوطنية.

  ولهذا تعمل الأنظمة الاستبدادية بوجه خاص على منع تكون الكتلة الجماهيرية الحرجة وذلك من خلال بعض أو كل الآليات التالية:

1- التفتيت: وذلك بتجريم التجمعات وسلب حق التظاهر أو اشتراط تصريحات يصعب الحصول عليها ، أو التفجير من الداخل بواسطة العملاء المندسين في أحزاب المعارضة أو في التجمعات الجماهيرية خاصة الطلاب والعمال لتفجيرها وقت اللزوم من خلال إثارة الخلافات والصراعات.

2- الإجهاض: ويتم من خلال المتابعة الدقيقة واللصيقة لأي بادرة تجمع جماهيري أو إثارة من أي شخص أو جماعة فيتم إجهاضها قبل أن تبلغ مرادها.

  ومع تكرار عمليات الإجهاض تسود لدى قوى التغيير حالة من اليأس والإحباط ، فإما أن ينصرفوا عما هم فيه وإما أن يتجهوا إلى العمل السري أو العنف وبهذا يعطوا مبررات لاجتثاثهم بدعاوى جنائية تحرمهم من شرف البطولة الشعبية. 

3- الترغيب والترهيب: حيث يتم احتواء بعض القيادات المؤثرة من خلال الإغراء بالمناصب أو المكاسب أو المكانة الاجتماعية ومن لا تنجح معه هذه الوسائل تكفيه العصا الغليظة تهوى على رأسه فتردعه وتردع غيره ممن تساورهم أنفسهم بالتفكير فيما فكر هو فيه.

4- الرقابة: وهى عين ساهرة ترصد بدقة أي بادرة تفكير أو نية تغيير فتتعامل معها بأي طريقة من الطرق السابقة.

  والرقابة تستدعى عيونا في كل مكان لرصد أفكار واتجاهات ومشاعر الجماهير ، وقد تتم من خلال أفراد سريين أو من خلال أجهزة وتنظيمات أو من خلال مؤسسات شبه علمية. 

5- الإبعاد: وهو طريقة للحفاظ على مراكز الرأي والتأثير خالية من أي بادرة تفكير أو تغيير لا يخدم المصالح القائمة ، فتوضع اشتراطات ولوائح معينة تحول دون وصول المعارضين للمراكز أو المناصب المؤثرة. 

  وفى بعض الدول التي تقوم على النظام الطائفي يوضع في الاعتبار أن مستويات معينة من الوظائف لا يتقلدها أبناء طائفة معينة حتى تظل السيطرة في يد الطائفة الأكثر سيطرة.

سلوك الحشد: اهتم علماء النفس بسلوك البشر حين يتجمعون في أعداد كبيرة حيث اتضح اختلاف سلوكهم في هذه الحالة عن سلوكهم في حالاتهم الفردية ، وكأن الحشد (التجمع) يأخذ أبعادا نفسية تتجاوز مجموع اتجاهات وآراء الأشخاص منفردين ، وكأن تغيرا نوعيا يطرأ يساعد على خروج أفكار ومشاعر لم تكن متاحة لوعى الفرد في حالته الفردية أو في التجمعات الصغيرة (عدة أفراد) ، وهذه هي خطورة سلوك الحشد ، وهذا هو السبب وراء حرص السلطة (أي سلطة) على تجنب المواقف الحاشدة للجماهير خاصة حين تكون غاضبة أو تكون ممنوعة من التعبير لفترات طويلة حيث تصبح إمكانات الانفجار المدمر أكثر احتمالا. 

   ويصف جوستاف لوبون الجماهير في حالة احتشادها وانفعالها واندفاعها وغضبها بأنها " أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني المنطقي ، وكما أن روح الفرد تخضع لتحريضات المنوم المغناطيسي الذي يجعل شخصا ما يغطس في النوم فإن روح الجماهير تخضع لتحريضات وإيعازات أحد المحركين أو القادة الذي يعرف كيف يفرض إرادته عليها ،وفى مثل هذه الحالة من الارتعاد والذعر فإن كل شخص منخرط في الجمهور يبتدئ بتنفيذ الأعمال الاستثنائية التي ما كان مستعدا إطلاقا لتنفيذها لو كان في حالته الفردية الواعية والمتعقلة.

  فالقائد أو الزعيم إذ يستخدم الصور الموحية والشعارات البهيجة بدلا من الأفكار المنطقية والواقعية يستملك روح الجماهير". 

   ويمكن تفسير سلوك الحشد على أنه خروج للمشاعر المكبوتة بعد إزالة عوامل الكبت والقمعمع الإحساس بالأمان في وسط المجموع ومع هدير أصوات الشعارات الجماعية وبتيسير من قائد يعرف ما يعتمل بطبقات الوعي الأعمق للجماهير فيناديها ويحركها ، أي أن القائد الجماهيري هنا لا يستلب الجماهير ولا ينشئ موقفا جديدا وإنما ييسر خروج مشاعر مكبوتة لديهم ويوجهها إلى حيث يريد بموافقة الجماهير.

  وفى حالات التجمع والحشد يتكون ما يسمى بالجمهور النفسي ، وهو كيان نفسي اجتماعي مؤقت يقوم بدور مطلوب من قبل هذا الكيان.

   ويصف لوبون هذا الجمهور النفسي بقوله:

  "الظاهرة التي تدهشنا أكثر في الجمهور النفسي هي التالية:

   أيا تكن نوعية الأفراد الذين يشكلونه وأيا يكن نمط حياتهم متشابها أو مختلفا ، وكذلك اهتماماتهم ومزاجهم أو ذكاءهم فإن مجرد تحولهم إلى جمهور يزودهم بنوع من الروح الجماعية ، وهذه الروح تجعلهم يحسون ويفكرون ويتحركون بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة التي كان سيحس بها ويفكر ويتحرك كل فرد منهم لو كان معزولا ، وبعض الأفكار والعواطف لا تنبثق أو لا تتحول إلى فعل إلا لدى الأفراد المنضوين في صفوف الجماهير"...

  "إن الجمهور النفسي هو عبارة عن كائن مؤقت مؤلف من عناصر متنافرة ولكنهم متراصوا الصفوف للحظة من الزمن ، إنهم يشبهون بالضبط خلايا الجسد الحي التي تشكل عن طريق تجمعها وتوحدها كائنا جديدا يتحلى بخصائص جديدة مختلفة جدا عن الخصائص التى تملكها كل خلية"..... 

  وفى حالة الذوبان هذه يحدث "تلاشى الشخصية الواعية ، وهيمنة الشخصية اللاواعية ، وتوجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار ، والميل إلى تحويل الأفكار المحرض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة ، وهكذا لا يعود الفرد هو نفسه ، وإنما يصبح عبارة عن إنسان إلى ما عادت إرادته بقادرة على أن تقوده" .... ولذلك يرى لوبون أن "الجمهور دائما أدنى مرتبة من الإنسان الفرد ، فيما يخص الناحية العقلية الفكرية ، ولكن من وجهة نظر العواطف والأعمال التي تثيرها هذه العواطف فإنه يمكن لهذا الجمهور أن يسير نحو الأفضل أو نحو الأسوأ - وكل شيء يعتمد على الطريقة التي يتم تحريضه أو تحريكه بها". 

   والسلطة تعرف بفطرتها كما تعرف بمفكريها وعلمائها كل هذه الحقائق عن سيكولوجية الحشد وطبيعة الجماهير أثناء المظاهرات أو التجمعات الهائلة لذلك تحول قدر الإمكان دون تكون هذا الكائن الخطر ، وإذا حدث وتكون فإنها تحاول حرمانه من قائد يوجه حركته ضدها ، أو تدفع هي بقائد يوجه حركة الجمهور في صالحها ، أو تحاول تملق هذه الجماهير بإظهار احترامها وتقديرها في الوقت الذي تنظر فيه السلطة إلى الجماهير بأنها لا عقلانية ولا منطقية وكأنها تتعامل مع طفل صغير تريد استرضاءه حتى يهدأ ثم تفعل هي ما تشاء بعد ذلك.

   وفي حالة السلطة الطاغية المستبدة يكون الحل هو قمع هذه الجماهير أو تفريقها بقوات الشرطة وإذا استدعى الأمر قوات الجيش ، وقد تفشل هذه الجهود أو تنجح بناءا على موازين القوى بين السلطة والجماهير والتي كثيرا ما تتغير بتعاطف أو انضمام قطاعات من السلطة إلى صفوف الجماهير خاصة حين تكتشف تلك القطاعات أن فردا يريد استخدامها لسحق الجماهير لصالحه وأنه لا يدرك عواقب ما يفعله ، خاصة وأن قوى الشرطة والجيش في لحظات حرجة في المواجهة تتذكر أنها منتمية إلى هذه الجماهير انتماء قرابة وانتماء مصير ، وهنا تتمرد على رأس السلطة (خاصة إذا كان فردا) وتنحاز إلى الجماهير فتنقلب موازين القوى بسرعة وتنتصر إرادة الجماهير.

  وفي وسط الحشد يشعر الفرد بالأمان لأنه الآن جزء من كيان ضخم يصعب عقابه أو مساءلته ، ويتمركز الشخص حول هذا الكيان الضخم أكثر من تمركزه حول ذاته ، ويضعف التزامه بالقيود السياسية أو الاجتماعية أو الأمنية أو الأخلاقية ، ويتوحد مع الجموع الهائجة في حركة أقرب ما تكون إلى حركة القطيع ، وتصبح العواطف الملتهبة هنا هي سيدة الموقف فتتحرك الجموع بمشاعر الحرمان أو الرغبة أو الظلم أو القمع أو الإحباط أو الغضب. 

  وسلوك الحشد من الناحية النفسية أشبه ما يكون بالهستيريا الجماعية حيث يبدأ الحشد بفرد أو مجموعة من الأفراد يظهرون حماسا معينا بشكل مؤثر فينتقل هذا الحماس بما يشبه العدوى إلى الأفراد المحيطين بهم ثم تتسع دائرة العدوى بسرعة تتوقف على قدرة المحركين للحماس وعلى الحالة الانفعالية لبقية الجموع وكل هذا يحدث بشكل غير واع. 

  ولكي يحدث هذا لابد من وجود أرضية مشتركة تدعم انتقال هذا الحماس وتصاعده بشكل تلقائي وسريع ، كأن يكون تحمسا وحبا لفريق كرة معين أو كرها وغضبا تجاه شخص أو نظام معين ، أو استجابة لشائعة أو فكرة تجد لها في اللاوعي مقابلا يدعمها ، كل هذا يوفر أرضية مشتركة للتحرك الجماعي غير الواعي والذي يفجر طاقات طال كبتها في اللاوعي الفردي والجمعي على السواء.

  وسلوك الحشد لا يقتصر على المواقف السياسية التي نراها في المظاهرات ، وإنما نراه أيضا في مباريات كرة القدم حيث تندفع الجماهير في حماس طاغ نحو تأييد فريق معين أو الغضب من قرار الحكم فينفلت عيارها وتندفع في خطورة بلا ضابط أو رادع ، وقد يؤدى ذلك إلى كارثة يموت فيها الكثيرون أو يصابون. 

مراجع الدراسة: 

* جوستاف لوبون. سيكولوجية الجماهير. ترجمة هاشم صالح ، الطبعة 19 ، دار الساقي بيروت ، 1991م .

* سالم القمودي ( 1999 م). سيكولوجية السلطة (بحث في الخصائص النفسية المشتركة للسلطة). الطبعة الأولى ، مكتبة مدبولي ، القاهرة .

* عزالدين العلام (2006). الآداب السلطانية. عالم المعرفة ، 324 ، الكويت .

* هربرت شيللر (1999). المتلاعبون بالعقول. ترجمة عبد السلام رضوان ، عالم المعرفة 243 ، الكويت.






أو 




أو  


أو 


أو 







غوستاف لوبون

غوستاف لوبون: يُعد الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون واحدًا من أشهر المؤرخين الأجانب الذين اهتموا بدراسة الحضارات الشرقية والعربية والإسلامية.

   ولد في مقاطعة نوجيه لوروترو، بفرنسا عام ١٨٤١م. درس الطب، وقام بجولة في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا. اهتم بالطب النفسي وأنتج فيه مجموعة من الأبحاث المؤثرة عن سلوك الجماعة، والثقافة الشعبية، ووسائل التأثير في الجموع، مما جعل من أبحاثه مرجعًا أساسيًّا في علم النفس، ولدى الباحثين في وسائل الإعلام في النصف الأول من القرن العشرين.

    وقد أسهم في الجدل الدائر حول المادة والطاقة، وألف كتابه «تطور المواد» الذي حظي بشعبية كبيرة في فرنسا. وحقق نجاحًا كبيرًا مع كتابه «سيكولوجية الجماهير»، ما منحه سمعة جيدة في الأوساط العلمية، اكتملت مع كتابه الأكثر مبيعًا «الجماهير: دراسة في العقل الجمعي»، وجعل صالونه من أشهر الصالونات الثقافية التي تقام أسبوعيًّا، لتحضره شخصيات المجتمع المرموقة مثل: «بول فالري»، و«هنري برغسون»، و«هنري بوانكاريه».

  عُرف بأنه أحد أشهر فلاسفة الغرب الذين أنصفوا الأمة العربية والحضارة الإسلامية، فلم يَسِر على نهج مؤرخي أوروبا الذين صار من تقاليدهم إنكار فضل الإسلام على العالم الغربي. لكن لوبون الذي ارتحل في العالم الإسلامي وله فيه مباحث اجتماعية، أقرَّ أن المسلمين هم مَن مدَّنوا أوروبا، فرأى أن يبعث عصر العرب الذهبي من مرقده، وأن يُبديه للعالم في صورته الحقيقية؛ فألف عام ١٨٨٤م كتاب «حضارة العرب» جامعًا لعناصر الحضارة العربية وتأثيرها في العالم، وبحث في أسباب عظمتها وانحطاطها وقدمها للعالم تقديم المدين الذي يدين بالفضل للدائن. توفي في ولاية مارنيه لاكوكيه، بفرنسا ١٩٣١م.

مؤلفات غوستاف لوبون :

- ترجم عادل زعيتر كتبه التالية إلى العربية:

- حضارة العرب (1884).

- روح الثورات والثورة الفرنسية.

- روح الجماعات.

- السنن النفسية لتطور الأمم.

- روح التربية.

-روح السياسة.

- فلسفة التاريخ.

- اليهود في تاريخ الحضارات

- حياة الحقائق.

- الآراء والمعتقدات.

- حضارات الهند.

- روح الاشتراكية.


ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة