الاثنين، 16 فبراير 2015

أعدائي الأعزاء - عباس محمود العقاد ...

  أعدائي الأعزاء
بقلم : عباس محمود العقاد 
منشورة بمجلة الاثنين - العدد 720 - 29 مارس 1948 م .
   المقال من صورة بدفتر الأستاذ أحمد مصطفى أبو قعيقيص و بخطه  ..
    في الشعر الشائع بيتان يخطران على البال في سياق هذا المقال :

   عُداتي لهم فــضل عليّ ومــــــِنَّةٌ  
 فلا أَبْعدَ الرحْـمن عَــنِّي الأَعَاديا 
همُ عيّــبوني فاجتنــبت معايــبي
وهمْ نافـسوني فاكتسبت المعاليا

   و البيتان صادقان كل الصدق ، وإنْ ظهر للناس غريباً متناقضاً أنْ يطلب الإنسان الأعداء و لا يستريح لبعدهم عنه ! فقد تكون العداوة نعمة في كثير من الأحوال . وسواء اتفق الناس على ذلك أو لم يتفقوا فهم -  فيما نحسب – متفقون على أنَّ الخلو من العداوة لا يدل على خير أو لا يدل على أنَّ الإنسان في نعمة مرموقة وحظ موفور .
   فلا يحسد أحد على الخلو من الحساد و لا يغبط أحد على التجرد من الأعداء ، لأنَّ الرجل الذي لا يعاديه أحد إنَّما هو رجل لا يقدم و لا يؤخر في قومه ،وكل من يقدم و يؤخر فهو بلا ريب يرضي أناساً ويسخط آخرين . والرجل الذي لا يحسده أحد إنَّما هو رجل لا يثير الحسد و لا يبتعث المنافسة . وكل ذي نعمة محسود كما يقولون فمن ليس له حاسد ليس في يديه ما يحسد عليه .
   وإذا تركنا الحسد جانباً فقد بقيت منازعة الرأي أو مخالفة العقيدة . ومن كان ذا رأي يعتدّ به فعلامة الاعتداد برأيه أنْ يناصره فريق و يحاربه فريق ، وأنْ يكون في رأيه ما ينفع و يضير و لو كان الذين يضيرهم من شرار الخلق الذين يستحقون كل ضير ، و قد قيل عن الحاكم : 
أنَّ نصف الناس أعداء لمن      ولى الأحــــكام هذا إنْ عدل 
و أظن ابن الوردي - قائل هذا البيت – قد أخطأ الحساب و غلط في التقدير لأنَّه حسب المحقين من أصحاب القضايا في جانب واحد ، و حسب المبطلين فهم جميعاً في الجانب الآخر مع أنَّ الشاهد في أحوال الاحتكام و التقاضي أنَّ المبطل اليوم قد يكون محقاً ، وأن المحق في هذه القضية قد يدعى بالباطل في قضية أخرى ، و أنَّ القاضي الذي تطمع في ذمته يرجوه كل من يقدر على شراء تلك الذمة . و لا رجاء - كهذا الرجاء – في القاضي الذي يلتزم الإنصاف و لا يقبل الرشى  و الشفاعات . فلو قال ابن الوردي : 
أنَّ كل الناس أعداء لمن      ولى الأحــــكام هذا إنْ عدل    
    لكان أقرب إلى ضبط الحساب و صحة التقدير . و لا يقال هذا القول فيمن يتولى الحكم دون غيره ،  فكل رجل رجع إليه في شأن من الشؤون فهو في موقف كهذا الموقف من بعض الوجوه ، أعداؤه كثيرون و إنْ لم يكن أعداؤه أكثر من أصدقائه ، فالغالب أنْ يجتهد العدو في إيذائه ، و لا يجتهد الصديق في وقايته من الإيذاء لأنَّ باعث الانتقام أقوى من باعث الشكر وعرفان الجميل .
فالخلو من العداوة إذن ليس بالنعمة المحسودة ، والإشفاق من قلة الأعداء إذن ليس بالأمر المستغرب في حكم العقل أو حكم الشعور .
    هذه هي القاعدة المطّروة التي تجري على قياس واحد في جميع الأحوال .  ولكن المصادفات النادرة قد تأتي في تجار الحياة بما هو أعجب و أغرب ، و قد يريد بك العدو  شراً فإذاً هو قد ساق إليك الخير الذي طلبته و أعياك الوصول إليه . وقد حدث لي ذلك في عظائم الأمور و صغائرها على السواء فصح عندي أنَّ بعض الأعداء خليق أنْ يوصف بالأعزاء ، و أضرب لك مثلين اثنين يغنيان من الإكثار من ضرب الأمثال :
   ففي نشأتي الأولى كنت موظفاً صغيراً في بعض الدواوين و كنت مغموط الحق بين أمثالي و من هم أقل من أمثالي لأنَّهم عرفوا طريق الوساطة ، و لم يكن من حظي و لا من رغبتي أنْ أعرف هذه الطريق ، وعقدت النية على الشكاية و أحصيت الشواهد و الأدلة و كتبتها في لهجة عنيفة كتابة لا يبالي بالعاقبة ، فإمَّا أنْ يصيبني العقاب فلا أبالي العقاب و اختلس بعض الأعداء الأعزاء النظر في مكتبي ؛ فبادر إلى  الرئيس المشكو بنبأ تلك الشكاية ، وكان هذا الجاسوس ممن تناولهم إحصاء الشواهد على الحيف و المحاباة و كان همه أنْ يثير حنق الرئيس فيصيبني بمكره ، وكان الرئيس قد أشفق من مغبة الشكاية ، أو كأنه قد تنبه إلى خطئه ، فكان ما أردت و لم يكن ما أراده الجاسوس العزيز. فذلك مثل واحد في صغائر الأمور .
   وهناك مثل آخر فيما هو أعظم من هذا و أولى بالاعتبار إذ كان فضل الخصومة السياسية عندي لا يقل عن فضل الصداقة في معترك الحركة الوطنية . فقد كان النشاط السياسي يحول بيني و بين الفراغ للتأليف و التدوين . فلما حيل بيني و بين  هذا النشاط في وقت من الأوقات كانت النقمة أبرك من النعمة ،فوجدت فراغاً من الوقت لتأليف الكتب لم يكن ميسوراً في إبان العراك ، وظهر لي نحو عشرين كتاباً في شتى الموضوعات ، لولا نقمة الخصومة لما ظهر منها كتاب .
  و لقد خبرت نعمة العداوة فسرني قدح الأعداء أحياناً أضعاف ما سرني ثناء الأصدقاء . إنَّ الصديق قد يجامل و يحابي ، و إنَّه قد ينظر بعين الرضا التي قيل إنَّها كليلة عن كل عيب ، لكن العدو إذا هجاك حسداً دلك على حقيقة قدرك ، و زادك ثقة بنفسك ، و كلما ألجأه الحسد إلى الصغار و الإسفاف كان ذلك دليلاً  على العرفان بالقدر و داعياً إلى تعزيز الثقة ، لأنَّ الحاسد لا ينسى كرامته و لا يجلب الصغار على نفسه إلّا إذا كان فضل المحسود فوق ما يطيق .. و ذلك غاية الثناء ؛ بل ذلك خير الثناء !. لأنَّ الثناء قد يكذب و لأنَّه يتقاضاك شكراً عليه ، ولكن هذا الافتراء هو الثناء الصادق الذي لا يثقلك بواجب الشكر و لا يدينك لإنسان .
     أمَّا إذا كان عدوك المنافس لك من ذوي المروءة  والكرامة فإنَّه لا يقبل فيك ما يسقط مروءته و لن يعفي نفسه من الصدق في نقدك و إنَّك إذن لأول من يستفيد من هذه المنافسة ، أو من هذا العداء إنْ بلغ مبلغ العداء ، لأنَّك تعرف مواضع نقصه و تهتدي إلى خلل عملك ، فتأخذ على نظرائك و منافسيك طريق النقد و الملام .. ، و كن على يقين لا شك فيه أنَّه ليس من يبغضك يضيرك و إنْ أراد . بل لعله يتعمد الإساءة فتنقلب الإساءة إلى إحسان . وكن على يقين لا شك فيه أنَّه ليس كل من يحبك ينفعك و إنْ أراد ؛ بل لعله يتعمد الإحسان إليك فينقلب الإحسان إلى إساءة..
    وهكذا لا تخلو الدنيا أبداً من الأصدقاء الألداء و من الأعداء الأعزاء .



ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة