أعدائي
الأعزاء
بقلم : عباس محمود العقاد
منشورة بمجلة الاثنين - العدد 720 - 29 مارس 1948 م .
المقال من صورة بدفتر الأستاذ أحمد مصطفى أبو قعيقيص و بخطه ..
في الشعر الشائع بيتان يخطران على البال في سياق
هذا المقال :
عُداتي لهم فــضل عليّ
ومــــــِنَّةٌ
فلا أَبْعدَ الرحْـمن عَــنِّي الأَعَاديا
همُ
عيّــبوني فاجتنــبت معايــبي
وهمْ نافـسوني فاكتسبت المعاليا
و البيتان صادقان
كل الصدق ، وإنْ ظهر للناس غريباً متناقضاً أنْ يطلب الإنسان الأعداء و لا يستريح
لبعدهم عنه ! فقد تكون العداوة نعمة في كثير من الأحوال . وسواء اتفق الناس على
ذلك أو لم يتفقوا فهم - فيما نحسب – متفقون على أنَّ الخلو من العداوة لا
يدل على خير أو لا يدل على أنَّ الإنسان في نعمة مرموقة وحظ موفور .
فلا يحسد أحد على الخلو من
الحساد و لا يغبط أحد على التجرد من الأعداء ، لأنَّ الرجل الذي لا يعاديه أحد
إنَّما هو رجل لا يقدم و لا يؤخر في قومه ،وكل من يقدم و يؤخر فهو بلا ريب يرضي
أناساً ويسخط آخرين . والرجل الذي لا يحسده أحد إنَّما هو رجل لا يثير الحسد و لا يبتعث المنافسة . وكل ذي نعمة محسود
كما يقولون فمن ليس له حاسد ليس في يديه ما يحسد عليه .
وإذا تركنا الحسد جانباً فقد
بقيت منازعة الرأي أو مخالفة العقيدة . ومن كان ذا رأي يعتدّ به فعلامة الاعتداد
برأيه أنْ يناصره فريق و يحاربه فريق ، وأنْ يكون في رأيه ما ينفع و يضير و لو كان
الذين يضيرهم من شرار الخلق الذين يستحقون كل ضير ، و قد قيل عن الحاكم :
أنَّ نصف الناس أعداء لمن
ولى الأحــــكام هذا إنْ عدل
و أظن ابن الوردي - قائل هذا البيت – قد أخطأ
الحساب و غلط في التقدير لأنَّه حسب المحقين من أصحاب القضايا في جانب واحد ، و
حسب المبطلين فهم جميعاً في الجانب الآخر مع أنَّ الشاهد في أحوال الاحتكام و
التقاضي أنَّ المبطل اليوم قد يكون محقاً ، وأن المحق في هذه القضية قد يدعى
بالباطل في قضية أخرى ، و أنَّ القاضي الذي تطمع في ذمته يرجوه كل من يقدر على
شراء تلك الذمة . و لا رجاء - كهذا الرجاء – في القاضي الذي يلتزم الإنصاف و لا
يقبل الرشى و الشفاعات . فلو قال ابن الوردي :
أنَّ كل الناس أعداء لمن
ولى الأحــــكام هذا إنْ عدل
لكان أقرب إلى ضبط
الحساب و صحة التقدير . و لا يقال هذا القول فيمن يتولى الحكم دون غيره ، فكل
رجل رجع إليه في شأن من الشؤون فهو في موقف كهذا الموقف من بعض الوجوه ، أعداؤه
كثيرون و إنْ لم يكن أعداؤه أكثر من أصدقائه ، فالغالب أنْ يجتهد العدو في إيذائه
، و لا يجتهد الصديق في وقايته من الإيذاء لأنَّ باعث الانتقام أقوى من باعث الشكر
وعرفان الجميل .
فالخلو من العداوة إذن ليس بالنعمة المحسودة ،
والإشفاق من قلة الأعداء إذن ليس بالأمر المستغرب في حكم العقل أو حكم الشعور .
هذه هي القاعدة
المطّروة التي تجري على قياس واحد في جميع الأحوال . ولكن المصادفات النادرة
قد تأتي في تجار الحياة بما هو أعجب و أغرب ، و قد يريد بك العدو شراً فإذاً
هو قد ساق إليك الخير الذي طلبته و أعياك الوصول إليه . وقد حدث لي ذلك في عظائم
الأمور و صغائرها على السواء فصح عندي أنَّ بعض الأعداء خليق أنْ يوصف بالأعزاء ،
و أضرب لك مثلين اثنين يغنيان من الإكثار من ضرب الأمثال :
ففي نشأتي الأولى كنت موظفاً
صغيراً في بعض الدواوين و كنت مغموط الحق بين أمثالي و من هم أقل من أمثالي
لأنَّهم عرفوا طريق الوساطة ، و لم يكن من حظي و لا من رغبتي أنْ أعرف هذه الطريق
، وعقدت النية على الشكاية و أحصيت الشواهد و الأدلة و كتبتها في لهجة عنيفة كتابة
لا يبالي بالعاقبة ، فإمَّا أنْ يصيبني العقاب فلا أبالي العقاب و اختلس بعض
الأعداء الأعزاء النظر في مكتبي ؛ فبادر إلى الرئيس المشكو بنبأ تلك الشكاية
، وكان هذا الجاسوس ممن تناولهم إحصاء الشواهد على الحيف و المحاباة و كان همه أنْ
يثير حنق الرئيس فيصيبني بمكره ، وكان الرئيس قد أشفق من مغبة الشكاية ، أو كأنه
قد تنبه إلى خطئه ، فكان ما أردت و لم يكن ما أراده الجاسوس العزيز. فذلك مثل واحد
في صغائر الأمور .
وهناك مثل آخر فيما هو أعظم
من هذا و أولى بالاعتبار إذ كان فضل الخصومة السياسية عندي لا يقل عن فضل الصداقة
في معترك الحركة الوطنية . فقد كان النشاط السياسي يحول بيني و بين الفراغ للتأليف
و التدوين . فلما حيل بيني و بين هذا النشاط في وقت من الأوقات كانت النقمة
أبرك من النعمة ،فوجدت فراغاً من الوقت لتأليف الكتب لم يكن ميسوراً في إبان
العراك ، وظهر لي نحو عشرين كتاباً في شتى الموضوعات ، لولا نقمة الخصومة لما ظهر
منها كتاب .
و لقد خبرت نعمة العداوة فسرني قدح
الأعداء أحياناً أضعاف ما سرني ثناء الأصدقاء . إنَّ الصديق قد يجامل و يحابي ، و
إنَّه قد ينظر بعين الرضا التي قيل إنَّها كليلة عن كل عيب ، لكن العدو إذا هجاك
حسداً دلك على حقيقة قدرك ، و زادك ثقة بنفسك ، و كلما ألجأه الحسد إلى الصغار و
الإسفاف كان ذلك دليلاً على العرفان بالقدر و داعياً إلى تعزيز الثقة ،
لأنَّ الحاسد لا ينسى كرامته و لا يجلب الصغار على نفسه إلّا إذا كان فضل المحسود
فوق ما يطيق .. و ذلك غاية الثناء ؛ بل ذلك خير الثناء !. لأنَّ الثناء قد يكذب و
لأنَّه يتقاضاك شكراً عليه ، ولكن هذا الافتراء هو الثناء الصادق الذي لا يثقلك
بواجب الشكر و لا يدينك لإنسان .
أمَّا إذا كان
عدوك المنافس لك من ذوي المروءة والكرامة فإنَّه لا يقبل فيك ما يسقط مروءته
و لن يعفي نفسه من الصدق في نقدك و إنَّك إذن لأول من يستفيد من هذه المنافسة ، أو
من هذا العداء إنْ بلغ مبلغ العداء ، لأنَّك تعرف مواضع نقصه و تهتدي إلى خلل عملك
، فتأخذ على نظرائك و منافسيك طريق النقد و الملام .. ، و كن على يقين لا شك فيه
أنَّه ليس من يبغضك يضيرك و إنْ أراد . بل لعله يتعمد الإساءة فتنقلب الإساءة إلى
إحسان . وكن على يقين لا شك فيه أنَّه ليس كل من يحبك ينفعك و إنْ أراد ؛ بل لعله
يتعمد الإحسان إليك فينقلب الإحسان إلى إساءة..
وهكذا لا تخلو الدنيا أبداً
من الأصدقاء الألداء و من الأعداء الأعزاء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق