الأربعاء، 4 مارس 2015

قراءة في كتاب «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» لعلي الوردي ...

قراءة في كتاب 


«لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث»


 لعلي الوردي


عُمان - صالح البلوشي :
   يعتبر كتاب « لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» الذي يقع في ستة أجزاء ضخمة من أبرز كتب المفكر العراقي الراحل الدكتور علي الوردي (1913 – 1995)، حتى وصفه بأنه كتاب العمر بالنسبة له، فقد بذل فيه من الجهد والوقت أكثر من أي كتاب سابق له، ولذلك تأثر كثيرا عندما رفضت السلطات العراقية السماح له بتكملة الكتاب كما يأتي يقول الدكتور علي الوردي عن سبب تأليف الكتاب إنه لا يمكن دراسة المجتمع العراقي أو أي مجتمع آخر ما لم يفهم الأحداث التي مرت به في العصور الماضية، فكل حدث من تلك الأحداث لابد أن يكون له شيء من التأثير قليلا أو كثيرا في سلوك الناس وطريقة تفكيرهم، مضيفا أنه يشبه أن يكون كتاب تاريخ ولكنه يختلف عن كتب التاريخ المعتادة بكونه لا يهتم بالأحداث الماضية لذاتها، بل هو يهتم بالدرجة الأولى بما تنطوي عليه الأحداث من دلالة فكرية واجتماعية، أما الاستقراء التاريخي فيأتي في أهميته بالدرجة الثانية.

   بحث الدكتور الوردي في المجلد الأول من الكتاب مسألة التشيع حيث أثبت فيه أن العراق (وليس إيران) هو منبع التشيع وقد انتقل منه إلى إيران وإلى غيرها من البلاد الإسلامية، وسبب بحث الوردي في هذه المسألة المذهبية في بداية كتابه اعتقاده أن إيران بعد أن تحولت إلى التشيع أخذت تؤثر في المجتمع العراقي تأثيرا غير قليل، وقد نشأ في العراق من جراء هذا التأثير وضع اجتماعي فريد في بابه وهو إن الشيعة الذين يؤلفون أكثرية السكان في العراق هم من العرب، بينما أكثرية علمائهم من الإيرانيين وما يزال هذا التأثير موجودا إلى اليوم، دون أن ننسى أيضا التأثير التركي أيضا الذي ظهر في العراق من خلال الدولة العثمانية التي كانت تحكم العراق.
    ثم بحث الدكتور الوردي في نشأة الدولة العثمانية وفتح العراق وما تلا ذلك من أحداث دامية مرت على هذا البلد جراء الصراع العثماني الصفوي للسيطرة عليه والتحكم في خيراته، وقد نتج عن هذا الصراع كثير من الفتن والصراعات المذهبية التي استفحلت في العراق جراء تدخل الدولتين، حتى وصل الأمر إلى تذمر الشاه نادر (1698 – 1747) الذي حكم إيران من هذا الصراع الطائفي ومحاولته إنشاء مشروع للتقارب المذهبي بين السنة والشيعة تجنب البلاد شر الحروب الطائفية، وقد أدى ذلك إلى انعقاد مؤتمر ضم علماء السنة والشيعة في النجف سنة 1743 الذي نجح في إيجاد صيغة للتفاهم بين الطائفتين، ولكن النجاح لم يستمر طويلا ويقول الوردي حول ذلك: « الواقع إن نادر شاه له الحق أن يفتخر بنجاح المؤتمر ويفرح به إذ هو عمل عظيم من غير شك، ولكن نادر شاه نسى أثناء فرحته أمرا مهما هو إن المؤتمر لا يمكن أن يكون له أثر دائم ما لم يتعاون على تنفيذ قراراته أمراء المسلمين وعلماؤه جميعا ثم يظلون يتعاونون عليه جيلا بعد جيل، فالنزاع الذي دام بين الطائفتين أكثر من عشرة قرون ليس من السهل أن يختفي فجأة بمجرد كتابة محضر والتوقيع عليه»..
   والملاحظ في هذه الموسوعة التاريخية والاجتماعية أن الدكتور علي الوردي لم يكتفِ فقط بكتابة بعض الأحداث التاريخية والتعليق عليها من وجهة نظره الاجتماعية، وإنما عمل على إضافة ترجمات ثرية جدا وموسعة لأبرز الشخصيات التي كانت لها التأثير الواضح في الشأن العراقي كترجمته الواسعة والجميلة للداعية البابية الشهيرة زرين تاج -وهو اسم فارسي بمعنى التاج الذهبي – والتي لقبت بعد ذلك بقرة العين، وقد استغرقت هذه الدراسة أكثر من أربعين صفحة من الجزء الأول من الكتاب، وقد استعرض فيه حياة قرة العين منذ ولادتها ونشاطها التبشيري في العراق وإيران إلى مقتلها سنة 1850، كما احتوى الكتاب أيضا على ترجمة ثرية أخرى للشيخ المصلح جمال الدين الأفغاني وآخرين.
    من الأحداث التي بحث فيها الوردي في هذا الكتاب ثورة العشرين التي اندلعت سنة 1920 ضد الاحتلال البريطاني للعراق وتعتبر من الصفحات التاريخية البارزة في تاريخ العراق الحديث، ولذلك كان هناك تخوف لدى أغلب الباحثين والمؤرخين العراقيين من الكتابة عن هذه الثورة إلا بلغة تبجيلية مقدسة، وكأن الثورة كانت خالية من الأخطاء ومنزهة عن الانتقادات، حتى جاء الوردي وبحث عنها بلغة اجتماعية وتاريخية مختلفة، فهو في الوقت الذي يثني فيه على الثورة ويدافع عنها، إلا إنه في الوقت نفسه لا ينفي وجود أخطاء كثيرة وكبيرة صاحبت الثورة وكانت مرافقة لها حيث يقول: « إننا في هذه المرحلة المتأزمة من تاريخنا في أشد الحاجة إلى التوازن بين دافع الحماس ودافع الموضوعية في أنفسنا فليس من الخير أن يسيطر الحماس على تفكيرنا دوما، كما أنه ليس من الخير ان تخلو قلوبنا من الحماس.
   ويقول الوردي أن ثورة العشرين والأحداث التي جرت في العراق بعد الحرب العالمية الأولى كشفت عن بعض أسرار المجتمع العراقي، لأن الإنسان ينكشف جوهره عند الشدائد وهذا القول ينطبق تماما على المجتمع العراقي في تلك الفترة الحاسمة في تاريخ العراق، ومن أبرز هذه الظواهر إن المجتمع العراقي هو مجتمع تسوده القيم البدوية بكلا جانبيها السلبي والإيجابي، حيث لوحظ عليه استفحال قيم العصبية والغزو والنهب والإتاوة والثأر من جانب، وقيم الضيافة والنخوة والدخالة والتسيار من الجانب الآخر، ويقول الوردي بأن تلك القيم قد ظهرت بأجلى مظاهرها في منطقة الفرات الأوسط إثناء فترة العصيان، ولو إن العصيان كان قد أتسع نطاقه فشمل مناطق أخرى من العراق لظهرت فيها القيم البدوية بمثل ذلك الوضوح أيضا.
    ويقول الوردي إن دعوة الجهاد هي كغيرها من الدعوات المثالية لا يمكن أن تنجح عمليا ما لم تكن منسجمة مع طبيعة الإنسان وطبيعة القيم الاجتماعية التي نشأ عليها.
    ويؤكد الوردي على إن العامل الديني كان من أهم العوامل في انتشار الثورة إن لم يكن أهمها، غير إن ثورة العشرين صعدت بسرعة ثم هبطت بسرعة، وذلك لأنها لم تلجأ إلى حرب العصابات على نحو ما حدث في الجزائر وفيتنام، فالعشائر لا يمكن لها أن تنجح في حرب طويلة الأمد تجاه جيش منظم كالجيش الإنجليزي له مدافع وطائرات وغيرها.
   ومن الفترات المهمة التي استفاض الدكتور الوردي في النقاش فيها فترة الحكم الوطني في العراق، وقد بحث هذا الموضوع في القسم الأول من الجزء السادس الذي استغرق فترة أربعة سنوات فقط (1920 – 1924)، ويصف الوردي هذه الفترة بإنها ذات أهمية بالغة في تاريخ العراق الحديث لأنها الفترة التي تأسست فيها الحكومة العراقية واستقرت قواعد الحكم فيها على نمط معين.
   وكعادته في هذا الكتاب فأن الوردي يقول إن سرده للحوادث التاريخية في هذا الكتاب هو الرغبة في الكشف من ورائها خصائص المرحلة الاجتماعية التي مر بها العراق، ولذلك فأنه قد ذكر في هذا الجزء من بحثه الكبير كثير من التفاصيل الجزئية والطرائف التي لا يهتم بذكرها المؤرخون عادة، غير إنها كما يقول الوردي ذات أهمية كبيرة من الناحية الاجتماعية، لأنها تكشف عن طبيعة القيم والعادات السائدة في فترة معينة من الزمن وعن مستوى التفكير الذي كان عليه الناس آنذاك.
    كما احتوى كتاب “ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث “ دراسات وبحوثا كثيرة وثرية عن الدولة العثمانية والأحداث التي مرت بها وخاصة في العراق وتاريخ الصراع العثماني والصفوي على العراق، وكذلك دراسات فكرية واجتماعية مهمة جدا عن الماسونية والشيوعية وعن الطبيعة البشرية وغيرها.
    ترك الكتاب الموسوعي “ لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث “ الكثير من المؤيدين والمعارضين له، ولكن كان الدكتور سليم علي الوردي (ليس ابن الدكتور علي الوردي) هو أبرز من تصدى للكتاب المذكور والمنهج التاريخي المتبع فيه وذلك في كتابه البارز “ علم الاجتماع بين الموضوعية والوضعية “، ورأى فيه “ إن المأزق الذي وقع فيه الوردي هو حصيلة منطقية للمنهج الوضعي الذي أتبعه في دراسته لتاريخ العراق الحديث بحيث لم يستطع الكشف عن التناقض الأساسي المحرك للمجتمع العراقي، مما جعله يخفق في إماطة اللثام عن المغزى التاريخي لثورة العشرين وأهدافها “، ويرى سليم الوردي أن رأي الوردي أن ثورة العشرين كانت امتدادا للمعارك التي كان يقوم بها العشائر العراقية ضد الحكومة التركية من حين إلى آخر تخدم السياسة البريطانية التي كانت تروج ذلك، وإن ثورة العشرين كانت ملحمة وطنية عراقية ضد الاستعمار وكافة أشكاله، كما رفض سليم الوردي نظرية الصراع بين الحضارة والبداوة والتي قال إنها مما أكتشفها من الثورة المذكورة وإن الصراع الحقيقي في العراق هو بين قوى التخلف وقوى التقدم المناوئة للاستعمار.
    في عام 1979 منعت السلطات العراقية الدكتور علي الوردي من طبع الجزء السابع من كتابه “ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث “ وقد أصيب الوردي حينها بالإحباط الشديد نتيجة لهذا المنع بسبب اعتزازه الشديد بهذا العمل الموسوعي وقد توقف الوردي حينها عن التأليف وأتجه إلى كتابة المقالات والردود في الصحف والمجلات العراقية مثل صحيفة الثورة ومجلة ألف باء.

ليست هناك تعليقات:

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

الصالون الثقافي : يلا بنا نقرأ

تنبيه

إذا كنت تعتقد أن أي من الكتب المنشورة هنا تنتهك حقوقك الفكرية 


نرجو أن تتواصل معنا  وسنأخذ الأمر بمنتهى الجدية


مرحباً

Subscribe in a reader abaalhasan-read.blogspot.com - estimated value Push 2 Check

مواقيت الصلاة